تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[١٥] (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) لئلا تميل الأرض بكم ، فلو لا الجبال لمالت الأرض واضطربت (وَ) جعل في الأرض (أَنْهاراً وَسُبُلاً) طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم ، أو إلى توحيده تعالى فإن الأثر يدل على المؤثر.

[١٦] (وَ) جعل (عَلاماتٍ) لكل أمر علامة (وَبِالنَّجْمِ) جنس النجم (هُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الطرق والى بعض الكائنات.

[١٧] (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) هذه الأشياء وهو الله (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) وهي الأصنام (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فكيف تشركون الأصنام بالله تعالى.

[١٨] (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) لا تتمكنوا من إحصائها وعدّها (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فلا يقطع نعمه لعدم شكركم له.

[١٩] (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) من نية وعمل تأتون به سرا (وَما تُعْلِنُونَ) تظهرون.

[٢٠] (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فإن الأصنام مخلوقة لله.

[٢١] هم (أَمْواتٌ) لا حياة لها (غَيْرُ أَحْياءٍ) تأكيد (وَما يَشْعُرُونَ) لا تفهم الأصنام (أَيَّانَ) وقت (يُبْعَثُونَ) بعثهم ، بخلاف الله فإنه يخلق وهو حي ويشعر وقت بعث الناس.

[٢٢] (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وذلك لازم عدم إيمانهم بالإله الواحد (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) للحق (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يتكبرون عن قبول الحق.

[٢٣] (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فيجازيهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).

[٢٤] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي الأكاذيب التي كان الأولون يقولونها.

[٢٥] (لِيَحْمِلُوا) أي كانت عاقبة تكذيبهم حمل معاصيهم ومعاصي من ضل بسببهم (أَوْزارَهُمْ) ذنوبهم (كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ) بعض (أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فإن الضلال والإضلال جهل (أَلا ساءَ) بئس (ما يَزِرُونَ) يحملون من الذنوب ، أي بئس الحمل حملهم.

[٢٦] (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أمم سائر الرسل قبل أمتك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد مكروا لإطفاء نور الرسل (فَأَتَى اللهُ) جاء أمر الله إلى (بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أساسه (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) كناية عن إهلاكهم كمن يسقط عليه سقف بيته (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) لا يتوقعون.

٢٨١

[٢٧] (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) يفضحهم (وَيَقُولُ) الله لهم : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) أي الأصنام التي جعلتموها شركاء لي (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ) تعاندون المسلمين (فِيهِمْ) في شأنهم (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أعطوا العلم وهم الأنبياء والأولياء والملائكة عليهم‌السلام : (إِنَّ الْخِزْيَ) الذلة في هذا (الْيَوْمَ) يوم القيامة (وَالسُّوءَ) العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ).

[٢٨] (الَّذِينَ) بدل (الكافرين) (تَتَوَفَّاهُمُ) تميتهم (الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في حال كونهم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) استسلموا وانقادوا للملائكة ، قائلين كذبا (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) كفر وعصيان (بَلى) كنتم تعملون (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

[٢٩] (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) كل صنف من الباب المعد له (خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى) محل (الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين تكبروا عن الحق.

[٣٠] (وَقِيلَ) قالت الملائكة (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصي : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا) : أنزل (خَيْراً) ولعل هذا السؤال والجواب لأجل زيادة سرورهم (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) بالإيمان والعمل الصالح (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) كرامة وسعادة (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لهم (وَلَنِعْمَ) الآخرة هي (دارُ الْمُتَّقِينَ).

[٣١] (جَنَّاتُ) بدل (دار) (عَدْنٍ) إقامة أي هي دار إقامة (يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ما يريدون (كَذلِكَ) هكذا (يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) الذين يجتنبون الكفر والآثام.

[٣٢] (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) تميتهم (الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) طاهرين عن الكفر والعصيان (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلامة لكم من كل آفة وعاهة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأعمالكم الصالحة.

[٣٣] (هَلْ يَنْظُرُونَ) استفهام إنكار ، أي ما ذا ينتظر الكفار ، في عدم إيمانهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالهلاك والعذاب (كَذلِكَ) هكذا (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كذبوا رسلهم فأهلكوا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاكهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والمعاصي فاستحقوا العقاب.

[٣٤] (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ) عقاب أعمالهم السيئة (ما عَمِلُوا وَحاقَ) أحاط (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإنهم كانوا يستهزءون بالعذاب.

٢٨٢

[٣٥] (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) جعلوا لله شريكا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من الأصنام (نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ) دون أمر الله (مِنْ شَيْءٍ) كالبحيرة والسائبة (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فعلوا الكفر والقبائح (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ) التبليغ (الْمُبِينُ) الواضح ، والاستفهام للإنكار ولبيان أن الرسل فعلوا ما هو تكليفهم ، وإنما عصى الناس بعد إتمام الحجة.

[٣٦] (وَلَقَدْ بَعَثْنا) أرسلنا (فِي كُلِّ أُمَّةٍ) جماعة (رَسُولاً) فيقول لهم : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) عبادة الأصنام (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) بأن لطف بهم اللطف الخفي لما سلكوا الطريق (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ) ثبتت (عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) لأنه لم يقبل الهداية (فَسِيرُوا) سافروا أيها الكفار (فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من الأمم فإنكم ترون ديارهم الخربة وتسمعون أخبارهم ممن يسكنون حوالي بلادهم.

[٣٧] (إِنْ تَحْرِصْ) يا رسول الله (عَلى هُداهُمْ) هداية هؤلاء المعاندين (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي ايأس منهم لأنهم عاندوا فتركهم الله حتى ضلوا (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفع العذاب عنهم.

[٣٨] (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) جمع يمين بمعنى القسم أي أقسامهم المؤكدة (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) فليس هناك حياة بعد الموت (بَلى) يبعثهم ، وعد ذلك (وَعْداً عَلَيْهِ) إنجازه (حَقًّا) فإنه لا يخلف الميعاد (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنهم يبعثون.

[٣٩] وإنما يبعثهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي) الحق الذي (يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) فإن الآخرة محكمة كبرى يتبين فيها المحق من المبطل (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في نفيهم للبعث فيجازيهم ، وليس البعث صعبا على الله.

[٤٠] (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) أردنا وجود ذلك الشيء (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإذا أردنا البعث نقول له : كن ، فيكون.

[٤١] (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) في سبيل الله (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بأذى كفار مكة لهم (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ننزلهم (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) منزلا حسنا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) مما نعطيهم في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لعلموا ذلك.

[٤٢] (الَّذِينَ) بدل من (الذين هاجروا) (صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

٢٨٣

[٤٣] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فهم من جنس البشر خلافا لما كان يزعمه قريش أن الرسول لا يكون إلا من الملائكة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل الكتب السابقة (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك حتى يعلموكم ، وقد ورد تأويل الآية بالأئمة الطاهرين عليهم‌السلام.

[٤٤] (بِالْبَيِّناتِ) متعلق ب (أرسلنا) أي بالأدلة الواضحة (وَالزُّبُرِ) الكتب المنزلة (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) القرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) من الشرائع والعلوم (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيه فيرجعوا إلى الحق.

[٤٥] (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم‌السلام (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) بأن تبلعهم الأرض كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) لا يظنون مجيء العذاب منه كما فعل الله بقوم لوط وصالح وشعيب وغيرهم.

[٤٦] (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) في أسفارهم (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) لا يتمكنون من تعجيز الله تعالى سواء كانوا في حضر أو سفر.

[٤٧] (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أي في حال خوفهم بأن كانوا يتوقعون البلاء ، في قبال قوله تعالى : (لا يشعرون) (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث لا يعاجلكم بالعقوبة.

[٤٨] (أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار آثار قدرة الله فيؤمنوا (إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) له ظل كالشجر والإنسان والجبل (يَتَفَيَّؤُا) يتمايل (ظِلالُهُ) حين تقع الشمس عليه (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) جمع شمال ، حال كون الشمس في طرفي المشرق والمغرب (سُجَّداً) خاضعة تلك الأظلة (لِلَّهِ) وهذا لبيان تشبيه واقع الأشياء في كونها بيد الله بالظلال المرئية للإنسان صباحا ومساء (وَهُمْ داخِرُونَ) أذلاء.

[٤٩] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) يخضع (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) تدب وتتحرك (وَ) يسجد (الْمَلائِكَةُ) أيضا (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا يتكبرون عن السجدة.

[٥٠] (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي والله فوقهم بالمنزلة والرتبة (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ما يأمرهم الله سبحانه.

[٥١] (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) كما اتخذت الثنوية (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ) فمني لا من غيري (فَارْهَبُونِ) خافوا.

[٥٢] (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ) الطاعة (واصِباً) دائما فليس بعض الطاعة له وبعض الطاعة لغيره (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) تخافون من غيره ، والحال أن غيره لا يضر.

[٥٣] (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) أصابتكم شدة (فَإِلَيْهِ) إلى الله (تَجْئَرُونَ) تتضرعون لكشف ذلك الضر.

[٥٤] (ثُمَّ إِذا كَشَفَ) الله (الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) وهم الكفار (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) يجعلون له شريكا.

٢٨٤

[٥٥] (لِيَكْفُرُوا) إنما أشركوا كفرانا للنعمة ، واللام للعاقبة (بِما آتَيْناهُمْ) أعطيناهم من النعم (فَتَمَتَّعُوا) أمر للتهديد ، أي تلذذوا بالنعم أيها الكفار (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) سوء عاقبتكم.

[٥٦] (وَيَجْعَلُونَ) المشركون (لِما لا يَعْلَمُونَ) لا علم لها ، وهي الأصنام (نَصِيباً) قسما (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) زرعهم وأنعامهم (تَاللهِ) والله (لَتُسْئَلُنَ) أيها المشركون (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من أن الأصنام آلهة.

[٥٧] (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) كانوا يقولون الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها (وَ) يجعلون (لَهُمْ) لأنفسهم (ما يَشْتَهُونَ) من البنين.

[٥٨] (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أخبر بولادة بنت له (ظَلَ) صار (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) يعلوه سواد من شدة الحزن (وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلئ غيظا.

[٥٩] (يَتَوارى) يستخفي (مِنَ الْقَوْمِ) الناس خجلا (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) كأن البنت شيء سيئ ، ويتفكر (أَيُمْسِكُهُ) هل يحفظ المولود ، أي البنت (عَلى هُونٍ) على هوان وذلة (أَمْ يَدُسُّهُ) يخفيه ويقبره حيا (فِي التُّرابِ أَلا) فلينتبه السامع (ساءَ) بئس (ما يَحْكُمُونَ) حكمهم هذا.

[٦٠] (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) الصفة السيئة لأنهم يوصفون بالظلم والكفر والشرك (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الصفات الحسنة كالسلطة والقدرة والعلم (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

[٦١] (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) بسبب ظلمهم أنفسهم وغيرهم (ما تَرَكَ عَلَيْها) على الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) فإن ظلم الظالمين يوجب عذابا إذا جاء عمّ الكل (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخر الله عقابهم (إِلى أَجَلٍ) وقت (مُسَمًّى) سماه الله سبحانه لهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) هلكوا في الوقت المحدد بدون تقدم أو تأخر (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

[٦٢] (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) من البنات (وَ) مع ذلك (تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) وهو (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) الصفة الحسنة أي الجنة والقرب عنده سبحانه (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) نار جهنم (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) مقدمون إلى النار.

[٦٣] (تَاللهِ) والله إن حال هؤلاء الكفار حال الكفار السابقين (لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) كما زين لهؤلاء أعمالهم (فَهُوَ) فالشيطان (وَلِيُّهُمُ) متولي أمرهم (الْيَوْمَ) في الدنيا ، كالفرق الباطلة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم في القيامة.

[٦٤] (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من التوحيد وأحوال المعاد وسائر ما اختلف فيه أهل الكتاب وغيرهم (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم هم المنتفعون بالهداية وتنزل عليهم الرحمة.

٢٨٥

[٦٥] (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالة على التوحيد والبعث (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع اعتبار.

[٦٦] (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) اعتبارا فإن نعم الله موجبة للاعتبار (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) بطن كل واحد منها (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) المأكولات المنهضمة بعض الانهضام (وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً) سهل المرور في حلقهم (لِلشَّارِبِينَ).

[٦٧] (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) من كل واحد واحد (سَكَراً) مادة حلوة ، أو المسكر وفيه إشعار بالتحريم لوصف قسيمها بالحسن (وَرِزْقاً حَسَناً) سائر أقسام العصير (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم.

[٦٨] (وَأَوْحى) ألهم (رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) تأوين إليها لإنتاج العسل (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يرفعون من كرم العنب.

[٦٩] (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) التي تشتهينها (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) طرقه جائية وذاهبة لأجل إنتاج العسل (ذُلُلاً) حال من السبل جمع ذلول ، في حال كون تلك السبل مذللة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) العسل (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أحمر وأصفر وأسود وأبيض (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في صنع الله تعالى.

[٧٠] (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) يميتكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ) يعاد (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أردأه وهو الهرم (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ) بعد أن كان عالما (شَيْئاً) فيصير كالطفل ينسى معلوماته ، أي ليبلغ إلى هذه الحالة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).

[٧١] (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) فرزق بعضكم أفضل من رزق بعض (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي) بمعطي (رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) على مماليكهم (فَهُمْ) السادة والموالي (فِيهِ سَواءٌ) في الرزق ، والمعنى ما هم بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين ممالكيهم حتى يتساووا فكيف يجعلون عبيد الله شركاء مع الله في الألوهية (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ينكرون ، لأن معنى جعل الشركاء أن بعض النعم ليست من الله وإنما من الشركاء.

[٧٢] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) جنسكم (أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) أولاد الأولاد (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الأرزاق الطيبة (أَفَبِالْباطِلِ) من الأصنام (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث ينسبون بعض نعمه إلى الأصنام.

٢٨٦

[٧٣] (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ) المطر (وَالْأَرْضِ) النبات (شَيْئاً) فإن شيئا من الرزق لا يرتبط بالأصنام (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) شيئا.

[٧٤] (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) لا تجعلوا له أشباها في الألوهية (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) فساد قولكم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

[٧٥] (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لبطلان ما تجعلونه شريكا لله (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) عاجز عن التصرف لأنه مربوط بإذن المولى (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ) يتصرف فيه (يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) المالك والمملوك ، وهكذا لا يتساوى الله والأصنام التي هي مخلوقاته (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا يستحق غيره من الأصنام الحمد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره.

[٧٦] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من نطق وتدبير ، والأخرس أصم أيضا (وَهُوَ كَلٌ) ثقل (عَلى مَوْلاهُ) ولي أمره لأن له أتعابا ولا فائدة له عادة (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) يرسله المولى (لا يَأْتِ) الأبكم (بِخَيْرٍ) بكفاية مهم (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) الأبكم (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) لأنه ناطق فاهم (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب طريق ، والله سبحانه إله حق والأصنام كالأبكم.

[٧٧] (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يختص به علم ما غاب عن الخلق فيهما (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أمره تعالى في إقامة القيامة (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) كرد الطرف في السرعة (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر أن يحيي الخلائق في سرعة خاطفة.

[٧٨] (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) في حال كونكم جهالا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد بمعنى القلب (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه تعالى.

[٧٩] (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ) مذللات للطيران بأجنحتها (فِي جَوِّ السَّماءِ) وسطها (ما يُمْسِكُهُنَ) يحفظهن عن السقوط (إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالة على قدرة الله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون بهذه الآيات.

٢٨٧

[٨٠] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) موضعا تسكنون فيه مما يتخذ من الحجر والمدر وما أشبه (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) القبة من جلد الحيوانات وأصوافها (تَسْتَخِفُّونَها) تجدونها خفيفة (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) سفركم لا يثقل حمله عليكم (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) لا يثقل نصبه (وَمِنْ أَصْوافِها) للضأن (وَأَوْبارِها) للإبل (وَأَشْعارِها) للمعز (أَثاثاً) فراشا وأكسية (وَمَتاعاً) تتمتعون به (إِلى حِينٍ) موتكم أو حين تبلى.

[٨١] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من الجبال والبناء والشجر (ظِلالاً) تتقون بسببه حر الشمس (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) جمع كن ، وهو الموضع الذي يستتر به الإنسان كالكهوف والغيران (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) جمع سربال بمعنى القميص (تَقِيكُمُ) تحفظكم (الْحَرَّ) والبرد (وَسَرابِيلَ) دروعا (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي الحرب (كَذلِكَ) هكذا (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) تفكرون في نعمه فتسلمون له.

[٨٢] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواضح ، ولا يضركم توليهم.

[٨٣] (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بالإشراك (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) عنادا.

[٨٤] (وَيَوْمَ) اذكر يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة (نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام ليشهد على الأمة بما فعلت (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار ، وهذا أحد مواقف القيامة (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب رضاهم.

[٨٥] (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشركوا عنادا (الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ) العذاب (عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يمهلون.

[٨٦] (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) الأصنام التي أشركوها بالله (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا) نعبدهم (مِنْ دُونِكَ) فحملهم يا رب بعض عذابنا لأنهم سبب شركنا (فَأَلْقَوْا) الأصنام (إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) أي قالت الأصنام لعبّادها : (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) فلا تقصير لنا في عبادتكم إيانا.

[٨٧] (وَأَلْقَوْا) المشركون (إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الاستسلام لأمره (وَضَلَ) اختفى وبطل (عَنْهُمْ) عن المشركين فلم ينفعهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي الأصنام التي كذبوا في كونها شركاء لله.

٢٨٨

[٨٨] (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) منعوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) عذابا لكفرهم وعذابا لصدهم عن سبيل الله (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) لفسادهم.

[٨٩] (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) نبيهم أو إمامهم (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلّم (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) قومك (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن (تِبْياناً) بيانا واضحا (لِكُلِّ شَيْءٍ) ما يحتاج إليه الإنسان في سبيل الهداية (وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى) بالسعادة في الدارين (لِلْمُسْلِمِينَ).

[٩٠] (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) هو زيادة على العدل كأن تحسن إلى إنسان لا يطلب منك شيئا (وَإِيتاءِ) إعطاء (ذِي الْقُرْبى) الأقارب (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) القبيح المتزايد قبحه (وَالْمُنْكَرِ) ما أنكره العقل والشرع (وَالْبَغْيِ) الظلم (يَعِظُكُمْ) الله بالأمر والنهي (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تتعظون.

[٩١] (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) كل عهد عاهده الإنسان مما أوجب الله الوفاء به (إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) جمع يمين بمعنى القسم (بَعْدَ تَوْكِيدِها) توثيقها بذكر اسم الله تعالى (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) فيما عاهدتم أو حلفتم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فيجازيكم عليه.

[٩٢] (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي) كالمرأة التي (نَقَضَتْ غَزْلَها) ما غزلته (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) فتل محكم له (أَنْكاثاً) مفعول ثان ل (نقضت) جمع نكث وهو ما ينكث فتله ، فقد كانت ريطة بنت عمرو القرشية خرقاء تغزل وتنكث (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) جمع يمين (دَخَلاً) غدرا ومكرا ، وهو ما يدخل في الشيء للفساد أي تحلفون للفساد (بَيْنَكُمْ أَنْ) لئلا (تَكُونَ أُمَّةٌ) جماعة (هِيَ أَرْبى) أكثر (مِنْ أُمَّةٍ) أخرى فقد كانوا إذا رأوا في أعادي حلفائهم شوكة نقضوا عهد الحلفاء وحالفوا أعاديهم حتى لا يكون الأعادي أكثر عددا من حلفائهم فنهوا عن ذلك (إِنَّما يَبْلُوكُمُ) يختبركم (اللهُ بِهِ) بالوفاء هل تفون أم لا (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيجازيكم على ذلك : المحق بالثواب والمبطل بالعقاب.

[٩٣] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بأن جعل الكل مهتدين (وَلكِنْ يُضِلُ) يتركه حتى يضل لأنه عاند الحق (مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي) بالألطاف الخفية (مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه.

٢٨٩

[٩٤] (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) لأجل الفساد ، كما تقدم (بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ) من نقض اليمين (بَعْدَ ثُبُوتِها) ثبوت القدم واستقرارها فإن الناقض يزل عن الحق (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) العذاب (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) منعتم عن طريق الله وهو الوفاء (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة.

[٩٥] (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) بأن تنقضوا العهد لأجل متاع الدنيا الزائلة (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) من الثواب على الوفاء (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لعلمتم أن ما عند الله خير.

[٩٦] (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) يفنى (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على مشاق التكليف (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أحسن الأجر.

[٩٧] (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إذ لا اعتداد بأعمال الكافر (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) فإن المؤمن الصالح مرتاح الضمير راض بعيشه (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) في الآخرة (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

[٩٨] (فَإِذا قَرَأْتَ) أردت قراءة (الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) اطلب الإجارة (بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

[٩٩] (إِنَّهُ) الشيطان (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) تسلط (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يعتمدون.

[١٠٠] (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يطيعون الشيطان (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) بسبب الشيطان (مُشْرِكُونَ) يجعلون شريكا لله.

[١٠١] (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً) بالنسخ (مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) ما هو مصلحة البشر (قالُوا) الكفار : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) تنسب إلى الله النسخ وليس من عنده (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فوائد النسخ.

[١٠٢] (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) جبرئيل ، فإنه روح طاهرة (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) على إيمانهم لأنهم إذا تدبروا ما في الناسخ من الصلاح رسخ الإيمان في قلوبهم (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).

٢٩٠

[١٠٣] (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ) يعلم القرآن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بَشَرٌ) سلمان الفارسي ، أو غيره فكان الكفار يقولون إن القرآن من تعليم ذلك الرجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِسانُ) لغة (الَّذِي يُلْحِدُونَ) يميلون (إِلَيْهِ) أي يقولون إنه يعلّم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَعْجَمِيٌ) غير بين (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) واضح فكيف سلمان الفارسي يعلّم لغة العرب.

[١٠٤] (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) عنادا (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) بألطافه الخاصة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

[١٠٥] (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) يخترع الكذب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أشد الكاذبين كذبا.

[١٠٦] (مَنْ) مبتدأ خبره : (فعليهم) (كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على قول كلمة الكفر (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ) ثابت (بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) فتح صدره للكفر وطابت نفسه به (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا والآخرة.

[١٠٧] (ذلِكَ) العذاب (بِأَنَّهُمُ) بسبب أنهم (اسْتَحَبُّوا) رجحوا حب (الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَ) وبسبب أن (اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) يخذلهم إذا عاندوا فلهم العذاب بهذا السبب.

[١٠٨] (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ) تركهم وشأنهم حتى صارت قلوبهم لا تفهم الحق (عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ) لا يسمع الحق سماعا مفيدا (وَأَبْصارِهِمْ) فهم لا ينظرون إلى الحق نظر اعتبار (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة.

[١٠٩] (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا أنفسهم وكل شيء.

[١١٠] (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) عذبوا ، أو تلفظوا بالكفر ، أو كانوا كفارا بغير عناد كأن الشيطان فتنهم (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) الهجرة والجهاد والصبر (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

٢٩١

[١١١] (يَوْمَ) اذكر يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ذاتها لأجل الخلاص (وَتُوَفَّى) تعطى كاملا (كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) جزاء أعمالها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص من أجر المحسن ولا يزاد في عقاب المسيء.

[١١٢] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لكل أمة أنعم الله عليها بالنعم فأبطرتهم النعمة فكفروا (قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) لا خوف ولا اضطراب لها (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) واسعا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من النواحي المختلفة (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) لم تؤد شكرها (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) فشمل جسدهم الجوع والخوف (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) بسبب كفرانهم.

[١١٣] (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) من أنفسهم لا من الملائكة ، ولا من أمة أخرى (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) حال ظلمهم لأنفسهم.

[١١٤] (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً) شرعا (طَيِّباً) لا خبث فيه (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

[١١٥] (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) الضمير عائد إلى (ما) والمراد ما سمي اسم الأصنام عليه عند الذبح ، والإهلال رفع الصوت عند الذبح (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل هذه الأشياء (غَيْرَ باغٍ) لم يبغ أي لم يطلب ذلك (وَلا عادٍ) لم يتعد في أكله مقدار الضرورة ، وإنما حصر المحرم ب (إنما) بالنسبة إلى ما حرموه من السائبة والبحيرة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[١١٦] (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) أي ما تقوله ألسنتكم كذبا (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) فلا تقولوا لما أحللتموه بأنفسكم كالميتة هذا حلال ولما حرمتموه بأنفسكم كالسائبة هذا حرام (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بأن تضيفوا على أصل التحريم والتحليل ، الافتراء على الله (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) لا يفوزون بالثواب.

[١١٧] لهم (مَتاعٌ) تمتع في الدنيا (قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ) في الآخرة (أَلِيمٌ) مؤلم.

[١١٨] (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) اليهود (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) في سورة الأنعام في آية (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) (١) (وَما ظَلَمْناهُمْ) في تحريم تلك المحرمات عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والعصيان فالتحريم كان جزاء أعمالهم.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٦.

٢٩٢

[١١٩] (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) المعصية (بِجَهالَةٍ) جاهلين بالله وعقابه ، فإن كل عاص جاهل (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) عملهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) بعد التوبة والإصلاح (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

[١٢٠] (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) لأنه كان مؤمنا فهو أمة كاملة في مقابل سائر البشر الذين كانوا أمة كافرة (قانِتاً) مطيعا (لِلَّهِ حَنِيفاً) مائلا عن الشرك إلى الإيمان (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما زعم أهل الكتاب وقريش أنه عليه‌السلام كان مشركا.

[١٢١] (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) لنعم الله تعالى (اجْتَباهُ) اختاره الله للنبوة (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو صراط الدين.

[١٢٢] (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الرسالة والسعادة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين يدخلون الجنة.

[١٢٣] (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) طريقته في التوحيد والالتزام بالدين (حَنِيفاً) مائلا عن الباطل (وَما كانَ) إبراهيم عليه‌السلام (مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

[١٢٤] (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) وجب تعظيمه (عَلَى) اليهود (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) فاصطاد بعض فيه ولم يصطد الآخر ، ولم يكن إبراهيم عليه‌السلام منهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بإثابة المحق وعقاب المبطل.

[١٢٥] (ادْعُ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) بأن تضع الدعوة في موضعها (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) المواعظ المقبولة ترهيبا وترغيبا (وَجادِلْهُمْ) ناظرهم (بِالَّتِي) بالطريقة التي (هِيَ أَحْسَنُ) باللين والرفق (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فلا يهمك عدم اهتدائهم وإنما عليك البلاغ والدعوة.

[١٢٦] (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) أردتم عقاب المسيء (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) بأن تعاقبوه بقدر ما عاقبكم وآذاكم لا أكثر (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) فلم تعاقبوا ، في موقع حسن الصبر (لَهُوَ) الصبر (خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) لما فيه من الأجر والثواب.

[١٢٧] (وَاصْبِرْ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغ الرسالة (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) بتوفيق الله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) في إعراضهم (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) لا يضيق صدرك (مِمَّا يَمْكُرُونَ) مكرهم ضدك.

[١٢٨] (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصي ، فإنه تعالى معهم بالنصرة والثواب (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أحسنوا زيادة على التقوى.

٢٩٣

١٧ : سورة الإسراء

مكية آياتها مائة وإحدى عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (سُبْحانَ) أنزهه تنزيها (الَّذِي أَسْرى) أذهب (بِعَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مكة (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) بيت المقدس في الأردن (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) فحوله مبارك بكثرة الأنبياء وبكثرة الأشجار والثمار (لِنُرِيَهُ) علة للإسراء والضمير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ آياتِنا) الأدلة التي يشاهدها في السماء وفي الأرض في مسيره السريع (إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الْبَصِيرُ) لأفعاله.

[٢] (وَآتَيْنا) أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (وَجَعَلْناهُ هُدىً) هداية (لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا) بيان كونه هدى (تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) ربّا تكلون إليه أموركم.

[٣] يا (ذُرِّيَّةَ) أولاد (مَنْ حَمَلْنا) في السفينة (مَعَ نُوحٍ) فإنكم ذريّة أولئك الذين فضلنا عليهم بنجاتهم من الغرق (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) كثير الشكر.

[٤] (وَقَضَيْنا) أوحينا وأخبرنا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أولهما بقتل شعيا النبي عليه‌السلام وثانيهما بقتل زكريا ويحيى عليه‌السلام (وَلَتَعْلُنَ) تستكبرون (عُلُوًّا كَبِيراً) بالجرأة على الله في انتهاك محرماته.

[٥] (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) عقاب (أُولاهُما) أولى المرتين (بَعَثْنا) أرسلنا (عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) بخت نصر وجالوت (أُولِي) أصحاب (بَأْسٍ) بطش (شَدِيدٍ فَجاسُوا) طاف أولئك العباد (خِلالَ الدِّيارِ) أواسط بلاد اليهود للقتل والنهب (وَكانَ) وعد عقابهم (وَعْداً مَفْعُولاً) لا بدّ وأن يفعل.

[٦] (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ) يا بني إسرائيل (الْكَرَّةَ) الدولة (عَلَيْهِمْ) أي على أولئك الذين بطشوا بكم (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) عددا من السابق.

[٧] (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأن جزاء الإحسان يعود إلى نفس الإنسان (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) فوبال الإساءة يعود إلى أنفسكم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وعد عقوبة المرة الثانية (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي بعثنا عبادا لنا لأجل أن يسيئوا إليكم فيجعلوا وجوهكم بادية آثار المساءة فيها (وَلِيَدْخُلُوا) أولئك المبعوثين (الْمَسْجِدَ) بيت المقدس (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) للفساد ، في عقوبة المرة الأولى (وَلِيُتَبِّرُوا) ليهلكوا (ما عَلَوْا) ما غلبوا عليه (تَتْبِيراً) هلاكا.

٢٩٤

[٨] (عَسى) لعل (رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد المرة الثانية إن تبتم (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الفساد (عُدْنا) إلى عقوبتكم (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) سجنا ومحبسا.

[٩] (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي) للطريقة التي (هِيَ أَقْوَمُ) أشد الطرق استقامة (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) عظيما.

[١٠] (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا) هيّأنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما.

[١١] (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) يدعو عند غضبه بالشر على نفسه وأهله (دُعاءَهُ) مثل دعائه (بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يسارع إلى ما يخطر بباله ولا ينظر إلى عاقبة دعائه.

[١٢] (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) تدلان على الله (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي الآية التي هي الليل فمحونا نورها بالظلام (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) مضيئة (لِتَبْتَغُوا) لتطلبوا في النهار (فَضْلاً) رزقا ومعاشا بالتجارة (مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا) باختلافهما (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) لتعلموا الحساب للأوقات (وَكُلَّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الإنسان في أمور دينه ودنياه (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) شرحناه شرحا وافيا.

[١٣] (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) عمله ، فإنّه كالطائر يصعد إلى فوق (فِي عُنُقِهِ) كالطوق الملازم للإنسان (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) صحيفة عمله (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) مفتوحا أمامه.

[١٤] ويقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) فأنت تحاسب نفسك من كتابك الذي تقرأه.

[١٥] (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ففائدة هدايته لنفسه (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ضرره يعود إلى نفسه (وَلا تَزِرُ) لا تحمل نفس (وازِرَةٌ) حاملة للعصيان (وِزْرَ أُخْرى) نفس أخرى ، فذنب كل إنسان على نفسه (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فنلزمهم الحجة.

[١٦] (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) لأنهم خالفوا الأوامر العقليّة بالفساد والظلم ، لم نهلكهم قبل إتمام الحجّة ببعث الرسول ، بل (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أصحاب النعمة فيها ، أمرناهم بأوامرنا (فَفَسَقُوا فِيها) خالفوا أوامرنا في تلك القرية ، كما يقال أمرته فعصاني وإنما خص المترفين بالذكر ، لترتيب العصيان عليهم فإنهم رؤوس العصاة (فَحَقَ) ثبت (عَلَيْهَا) على تلك القرية (الْقَوْلُ) لعقابها بعد مخالفتها أوامر الله (فَدَمَّرْناها) أهلكناها (تَدْمِيراً) إهلاكا.

[١٧] (وَكَمْ) للتكثير (أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) الأمم (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) كفى ربك عالما مبصرا لذنوب الناس فيجازيهم عليها.

٢٩٥

[١٨] (مَنْ كانَ يُرِيدُ) بعمله الدنيا (الْعاجِلَةَ) فيعمل لها فقط (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) في الدنيا (ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) إعطائه منها (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها) يدخلها (مَذْمُوماً) ملوما (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله.

[١٩] (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) السعي اللائق بالآخرة بإتيان الأعمال الصالحة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إذ العمل الصالح لا ينفع بدون الإيمان (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) يشكره الله بإعطائهم الثواب.

[٢٠] (كُلًّا) كل واحد ممن يريد الآخرة ويريد الدنيا (نُمِدُّ) نعطيه (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ممنوعا ، بل يشمل المؤمن والكافر.

[٢١] (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الذكاء والرزق والجمال وغيرها (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ) أعظم (دَرَجاتٍ) فدرجة بعضهم فوق بعض (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) وهذا تشويق لتكثير العمل لأجل الآخرة.

[٢٢] (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ) فتصير (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) لا ناصر لك.

[٢٣] (وَقَضى) أمر (رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ) تحسنوا (إِحْساناً إِمَّا) أصله (إن) الشرطية و(ما) الزائدة (يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) الشيخوخة (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) فلا تتضجّر منهما ولا تقل لهما هذه الكلمة الجافية (وَلا تَنْهَرْهُما) لا تطردهما ولا تزجرهما بإغلاظ وصياح (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) جميلا رقيقا.

[٢٤] (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) أي تواضع لهما كما يخفض ولد الطائر جناحه ذلة وتواضعا لأبويه (مِنَ الرَّحْمَةِ) والعطف عليهما ، فلا يكون الخفض لأجل الطمع وما أشبه (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي كما أنّهما رحماني صغيرا حيث ربياني في حال كوني صغيرا.

[٢٥] (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من برّ وعقوق (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) بإطاعة أوامر الله (فَإِنَّهُ) تعالى (كانَ لِلْأَوَّابِينَ) التوابين (غَفُوراً) يغفر ذنوبهم.

[٢٦] (وَآتِ) أعط (ذَا الْقُرْبى) الأقرباء (حَقَّهُ) المقرر في الشريعة من صلة الرحم والإحسان (وَ) آت (الْمِسْكِينَ) الفقير (وَابْنَ السَّبِيلِ) المنقطع في سفره (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) بالإنفاق في غير ما أحله الله.

[٢٧] (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) كالأخ لهم في كون كل واحد منهما يعصي الله تعالى (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) شديد الكفر فلا ينبغي لأحد أن يتخذه أخا.

٢٩٦

[٢٨] (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي تعرض عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل فيما إذا لم تجد ما تعطيهم (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) بأن تنظر رحمة الله إليك تعطيهم منها (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ليّنا حتى تجلب قلوبهم.

[٢٩] (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) بأن لا تعطي شيئا كمن جعل يده في قيد مربوطة بعنقه (وَلا تَبْسُطْها) بأن تعطي كل ما عندك كاليد المبسوطة التي لا يبقى فيها شيء (كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ) فتصير (مَلُوماً) يلومك الله والناس ، بالإسراف (مَحْسُوراً) عاجزا ، محبوسا لا تقدر على قضاء حوائجك.

[٣٠] (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يضيق لمن يشاء (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فلا تخف الفقر حتى لا تعطي شيئا ، ولا تسرف اعتمادا على أن الله يرزقك.

[٣١] (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فإنهم كانوا يقتلون أولادهم من خشية الفقر ، ويقولون : من يرزقهم؟ (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) إثما عظيما.

[٣٢] (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) نهي عن قربه مبالغة في النهي عنه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) كثير الفحش والتعدي عن الحق ، والفحش كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس الطريق طريق الزنا.

[٣٣] (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي حرمها الله وجعلها محترمة (إِلَّا بِالْحَقِ) كالقتل قصاصا أو ما أشبه (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) بغير حق (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) تسلطا على القاتل بأن يقتله أو يأخذ الدية منه (فَلا يُسْرِفْ) الولي (فِي الْقَتْلِ) بأن يجاوز الحد بالمثلة أو قتل غير القاتل ، ممّن يسمّى مؤامرا ، أو نحو ذلك (إِنَّهُ) أي الولي (كانَ مَنْصُوراً) من الله بإعطائه حق القصاص.

[٣٤] (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي) بالصفة التي (هِيَ أَحْسَنُ) لحفظه وتثميره (حَتَّى يَبْلُغَ) اليتيم (أَشُدَّهُ) بأن يصير بالغا ورشيدا (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) بالمعاهدات التي بينكم وبين غيركم (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) يسأل عنه يوم القيامة هل وفي به أم لا.

[٣٥] (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أتموه (إِذا كِلْتُمْ) أعطيتم بالكيل (وَزِنُوا) أمر من وزن (بِالْقِسْطاسِ) الميزان (الْمُسْتَقِيمِ) المستوي (ذلِكَ) الوزن بالميزان المستقيم (خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) مآلا.

[٣٦] (وَلا تَقْفُ) لا تتبع (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) في العقائد والأعمال (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) القلب (كُلُّ أُولئِكَ) الأعضاء (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) يسأل عنها في القيامة ، فإذا عمل حسب العلم أعفي ، وإلّا عوقب.

[٣٧] (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) ذا مرح واختيال (إِنَّكَ) بوضع رجلك على الأرض وضع المتكبرين (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لا تتمكن من أن تشق الأرض (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) حين تتطاول عند المشي خيلاء ، فما فائدة مشيك بكبرياء.

[٣٨] (كُلُّ ذلِكَ) الذي تقدم النهي عنه (كانَ سَيِّئُهُ) السوء المنهي عنه من أفراده (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) الله يكرهه.

٢٩٧

[٣٩] (ذلِكَ) المذكور من الأوامر والنواهي (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنَ الْحِكْمَةِ) معرفة وضع الأشياء مواضعها (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بأن تشرك (فَتُلْقى) فتطرح إذا أشركت (فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) يلومك الله والناس (مَدْحُوراً) مطرودا.

[٤٠] (أَفَأَصْفاكُمْ) خصّكم ، يا من تقولون بأن الملائكة بنات الله ، بأن أعطاكم البنين (رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) والاستفهام للإنكار (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) بنسبة الأولاد إليه تعالى.

[٤١] (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كررنا الدلائل والعبر (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) ليعتبروا (وَما يَزِيدُهُمْ) القرآن (إِلَّا نُفُوراً) عن الحق.

[٤٢] (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) يقول الكفّار (إِذاً) حينذاك (لَابْتَغَوْا) طلبوا تلك الآلهة (إِلى ذِي الْعَرْشِ) وهو الله (سَبِيلاً) طلبوا طريقا لمغالبته كما يفعل الملوك بعضهم ببعض.

[٤٣] (سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها (وَتَعالى) ارتفع (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) فهو في غاية العلو والارتفاع عن كلامهم.

[٤٤] (تُسَبِّحُ لَهُ) تنزهه عن الشرك (السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) لأن كل شيء يدل على توحيده (وَإِنْ) ما (مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ينزهه عن النقص حامدا له لكماله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ) لا تفهمون (تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) فلا يعاجلكم بالعقوبة (غَفُوراً) لمن تاب منكم.

[٤٥] (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) ساترا لكم عنهم فلا يتمكنون من إيذائك.

[٤٦] (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) قلوب الكفّار (أَكِنَّةً) أغطية (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يفهموا القرآن ، لأنّهم لما تركوا الحق تركهم الله تعالى حتى صار قلبهم كأنه في غطاء فلا يفهم الحق (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) حملا ثقيلا فلا يسمعوا الحق سماعا نافعا (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) بدون ذكر آلهتهم (وَلَّوْا) أعرضوا (عَلى أَدْبارِهِمْ) أي مدبرين (نُفُوراً) جمع نافر أي في حال كونهم نافرين.

[٤٧] (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما) بالنحو الذي (يَسْتَمِعُونَ بِهِ) بذلك النحو القرآن ، فإنه سماع مستهزئ (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) حين تقرأ القرآن وترشد (وَإِذْ) أي وفي زمان (هُمْ نَجْوى) كونهم متناجين بعضهم مع بعض (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) في تناجيهم (إِنْ) ما (تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) قد سحر فذهب السحر بعقله ، فهو مجنون.

[٤٨] (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) شبّهوك بالمسحور والساحر والشاعر والكاهن والمجنون (فَضَلُّوا) عن الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) لتكذيبك إلا الكذب والبهتان.

[٤٩] (وَقالُوا) إنكارا للبعث : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) ترابا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) في يوم القيامة (خَلْقاً جَدِيداً) أحياء جدد.

٢٩٨

[٥٠] (قُلْ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوابا لهم : (كُونُوا) بعد الموت شيئا لا يمكن أن يرجع بشرا في نظركم (حِجارَةً) في القوة (أَوْ حَدِيداً) في الشدة.

[٥١] (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) خلقا أشد من الحجارة والحديد (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) إذا صرنا كذلك (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ) أي خلقكم فإن من يقدر على البدء يقدر على المعاد (أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ) يحركون ارتفاعا وانخفاضا (إِلَيْكَ) نحوك ، تعجبا واستهزاء (رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) في أي وقت البعث (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) فإن كل آت قريب.

[٥٢] (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) الله للإحياء (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) تجيبونه حامدين له (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ) ما مكثتم في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) لأن الماضي قليل في نظر الإنسان.

[٥٣] (وَقُلْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِعِبادِي) المؤمنين (يَقُولُوا) للكفّار الكلمة (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من سائر الكلمات في مقام البحث والإثبات (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ) يفسد (بَيْنَهُمْ) بين المؤمنين والكافرين لدى الشدة والغلظة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) ظاهر العداوة.

[٥٤] مثلا يقولون لهم (١) : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) بحالكم (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ) على الناس (وَكِيلاً) وإنما أنت مبلغ سواء قبلوا أو لم يقبلوا.

[٥٥] (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بأحوالهم (وَلَقَدْ فَضَّلْنا) بالفضائل النفسية والخارجية (بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا) أعطينا (داوُدَ زَبُوراً) وكما فضلنا الأنبياء عليهم‌السلام بعضهم على بعض كذلك جعلنا مراتب الناس متفاوتة.

[٥٦] (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم آلهة (مِنْ دُونِهِ) دون الله (فَلا يَمْلِكُونَ) لا يستطيعون (كَشْفَ الضُّرِّ) رفع الاضرار كالمرض والفقر (عَنْكُمْ) بإزالتها (وَلا تَحْوِيلاً) منكم إلى غيركم.

[٥٧] (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) يدعونهم آلهة (يَبْتَغُونَ) يطلبون (إِلى رَبِّهِمُ) الله (الْوَسِيلَةَ) أي يريدون القرب من الله ، حيث يعترفون بأنهم ليسوا بآلهة (أَيُّهُمْ) هو (أَقْرَبُ) إليه تعالى ، فالأقرب يطلب القرب فكيف بالقريب والبعيد والأبعد (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) يحذره كل واحد حتى الأنبياء والملائكة والأولياء.

[٥٨] (وَإِنْ) ما (مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) بالموت (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) بالقحط والمرض وما أشبه (كانَ ذلِكَ) الحكم بالإهلاك والتعذيب (فِي الْكِتابِ) اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً) مكتوبا ، ولعل المراد إهلاك الكافرين وتعذيبهم.

__________________

(١) أي يقول عباده المؤمنون للكفار.

٢٩٩

[٥٩] (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) التي اقترحها قريش (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) لما اقترحوها وآتينا بها فأهلكناهم ، ولذا لا نأتي بها الآن حتى لا نهلك المقترحون المعاندون (وَآتَيْنا ثَمُودَ) قوم صالح (النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) دلالة واضحة (فَظَلَمُوا بِها) لما عقروها (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) المعجزات (إِلَّا تَخْوِيفاً) للعباد من عذابنا ليؤمنوا.

[٦٠] (وَإِذْ) واذكر (قُلْنا لَكَ) أوحينا إليك (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) إحاطة علم وقدرة فبلّغهم ولا تخشهم (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) فقد رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) امتحانا لهم فلا تغتم له (وَ) ما جعلنا (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) بني أمية الذين لعناهم (فِي الْقُرْآنِ) إلا فتنة وامتحانا (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ) ذلك (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) عتوّا عظيما ، أي أنهم يخرجون من الامتحان ، بنو أمية وأتباعهم أكثر طغيانا مما إذا كانوا رعية لا يستولون على الحكم.

[٦١] (وَإِذْ) واذكر (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) في حال كونه من الطين.

[٦٢] (قالَ أَرَأَيْتَكَ) أخبرني (هذَا) الطين هو (الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) جعلته أكرم مني (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فلم تمتني يا ربّ (لَأَحْتَنِكَنَ) لأستأصلن بالإغواء (ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) منهم.

[٦٣] (قالَ) الله : (اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) مكملا.

[٦٤] (وَاسْتَفْزِزْ) استخف للحركة ولاتباعك يا إبليس (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) من البشر (بِصَوْتِكَ) بدعوتهم إلى الشر (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) من الجلبة بمعنى الصياح أي أجمع عليهم لأجل إضلالهم (بِخَيْلِكَ) فرسانك (وَرَجِلِكَ) الراجلين من أتباعك ، وهذا كناية عن أن يكيد لهم بجميع أتباعه وأعوانه (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بأن يكسبوا من الحرام (وَالْأَوْلادِ) بأن يزنوا ، والمراد افعل ما شئت بهم (وَعِدْهُمْ) بالمواعيد الباطلة ، مثل أنه يشفع لهم الآلهة الصنمية وما أشبه ذلك (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) باطلا يزينه في أنفسهم.

[٦٥] (إِنَّ عِبادِي) الذين يتبعون الهدى (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) سلطة في إغوائهم (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) يتكلون إليه في إنقاذهم من شر الشيطان.

[٦٦] (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي) يجري (لَكُمُ الْفُلْكَ) السفينة (فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا) تطلبوا (مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

٣٠٠