تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

١٣ : سورة الرعد

مدنية آياتها ثلاث وأربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (المر) رمز بين الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تِلْكَ) هذه هي (آياتُ الْكِتابِ) القرآن (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي القرآن (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) خبر (الذي) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لتركهم التدبر في القرآن.

[٢] (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) جمع عمود (تَرَوْنَها) ترون السماوات مرفوعة بلا عمد ، وهذه الآية لبيان الأدلة على وجود الصانع الموجب للتصديق به (ثُمَّ اسْتَوى) استولى أو توجه بالتدبير (عَلَى الْعَرْشِ) عرش الملك (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما لمنافع العباد (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) لمدة معينة قد سميت (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر الكون حسب الصلاح (يُفَصِّلُ الْآياتِ) ينزلها مشروحة واضحة (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لأن الكون والآيات دالة على قدرة الله فيقدر على البعث الذي فيه لقاء الحساب والجزاء منه تعالى.

[٣] (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها لمنافع الناس (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ثابتات (وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها) في الأرض (زَوْجَيْنِ) ضعفين (اثْنَيْنِ) للتأكيد ، ذكرا وأنثى ، أو كالحلو والحامض والكبير والصغير والمفيد والضار (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبس الليل بظلمته النهار ، وترك العكس للعلم به (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي سبق (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في الكون.

[٤] (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بقاع متلاصقات ولكل قطعة كيفية خاصة كالسبخة والمالحة والطيبة وما أشبه (وَجَنَّاتٌ) بساتين (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ) كالحنطة والخضروات (وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) جمع صنو وهي نخلات أصلها واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) متفرقة الأصول (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الثمر طعما ولونا وشكلا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم.

[٥] (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا رسول الله من تكذيبهم رسالتك (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) فحقيق بأن تعجب أيضا من إنكارهم البعث (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) بأن نحيى للمعاد (أُولئِكَ) المنكرون للبعث هم (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) لأنهم كفروا بقدرة الله على المعاد (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ) (١) (فِي أَعْناقِهِمْ) يوم القيامة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

__________________

(١) الغل : طوق تشد به اليد إلى العنق.

٢٦١

[٦] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يطلبون منك العذاب ، قبل أن يطلبوا الرحمة ، وذلك استهزاء (وَ) الحال إنه (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) عقوبات أمثالهم من المكذبين فلما ذا لا يعتبرون بها (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) لأنفسهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) فكيف لا يطلبون الرحمة ويطلبون العذاب.

[٧] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) مثل ناقة صالح عليه‌السلام وعصا موسى عليه‌السلام (مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) لهم فيكفي أن تأتيهم بما تثبت به نبوتك من المعجزات لا بما يقترح هؤلاء (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قسم خاص من الهادي يزود بقسم خاص من المعجزات التي تلائم عصره.

[٨] (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من الولد والبنت ، الجميل والقبيح ، السعيد والشقي ، إلى غيرها من الأوصاف (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) تنقص (وَما تَزْدادُ) من صغر جثة الجنين وكبرها ، كأن الرحم غاضت ولذا صغر الولد ، أو ازدادت ولذا كبر (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) لا يتجاوزه صغرا ولا كبرا.

[٩] (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) ما كان محسوسا (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) العالي.

[١٠] (سَواءٌ) عند الله وفي علمه (مِنْكُمْ) متعلق بما بعده (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) في نفسه (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أظهره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) مستتر بظلمته (وَسارِبٌ) سالك طريقه ، من سرب إذا برز (بِالنَّهارِ).

[١١] (لَهُ) لكل واحد من أولئك الأربعة (مُعَقِّباتٌ) ملائكة يتعاقبون في حفظه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أمامه (وَمِنْ خَلْفِهِ) ورائه (يَحْفَظُونَهُ) من المهالك حفظا ناشئا (مِنْ أَمْرِ اللهِ) فإن الله يأمر بذلك (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) فإذا غيروا أحوالهم الحسنة إلى السيئة غير الله ما بهم من الرخاء إلى الشدة ، وكذا العكس (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) لأنهم عملوا الآثام (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا يرد ما أراد بهم من سوء كالبلاء (وَما لَهُمْ) لذلك القوم (مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) يلي أمورهم.

[١٢] (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) من الصواعق والأمطار المخربة (وَطَمَعاً) في الأمطار النافعة (وَيُنْشِئُ) يخلق (السَّحابَ الثِّقالَ) بالمطر.

[١٣] (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) فإن للرعد تسبيح لله وتنزيه له ، لأن كل شيء دال على الله سبحانه منزه له (بِحَمْدِهِ) متلبسا بحمده ، إذ كل شيء يدل على صفاته الثبوتية والسلبية (وَ) يسبح (الْمَلائِكَةُ) لله (مِنْ خِيفَتِهِ) من خوف الله (وَيُرْسِلُ) الله (الصَّواعِقَ) جمع صاعقة وهي النار التي تسقط من السحاب (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيهلكه (وَهُمْ) هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات (يُجادِلُونَ فِي اللهِ) يخاصمون في وجوده (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) الكيد ، فإنه تعالى يكيد لأخذ أعدائه ويعالج الأمر بدقة وخفاء.

٢٦٢

[١٤] (لَهُ) لله (دَعْوَةُ الْحَقِ) كلمة الإخلاص ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله (وَالَّذِينَ) الأصنام (يَدْعُونَ) التي يدعوها المشركون (مِنْ دُونِهِ) دون الله (لا يَسْتَجِيبُونَ) تلك الأصنام (لَهُمْ) لدعاتها (بِشَيْءٍ) من مطالبهم (إِلَّا) استجابة كاستجابة باسط (كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) يبسط كفه نحو الماء (لِيَبْلُغَ فاهُ) يطلب بذلك أن يبلغ الماء إلى فيه بانتقاله من مكانه إليه (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) فإن البسط للكف نحو الماء لا يفيد في أخذ الماء ، وهذا تشبيه لبسطهم كفهم نحو الأصنام (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) أصنامهم لحوائجهم (إِلَّا فِي ضَلالٍ) عن الإجابة.

[١٥] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) فإن الأشياء خاضعة لله سواء أرادت كالإنسان المؤمن ، أم لم ترد كالإنسان الكافر فإنه في قبضة الله وخاضع لإرادته (وَ) يسجد (ظِلالُهُمْ) فإن ظل الإنسان خاضع لله تعالى (بِالْغُدُوِّ) صباحا (وَالْآصالِ) أي عصرا جمع أصيل (١) ، وكأنه أريد التشبيه ، فكما أن ظل الإنسان خاضع لمقابل اتجاه الشمس وليس تحت إرادته كذلك ذاته خاضعة لله تعالى في الشؤون الكونية.

[١٦] (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) فإنه الجواب الطبيعي لهذا السؤال (قُلْ) توبيخا لهم :

(أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ) دون الله (أَوْلِياءَ) أصنام ، اتخذتموها وليا لأنفسكم (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فإن الصنم لا ينفع الإنسان ولا يضره (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) فالمشرك كالأعمى والمؤمن كالبصير (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) فالأول شبيه بالشرك والثاني شبيه بالإيمان (أَمْ) بل (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) من الأصنام فهل (خَلَقُوا) الأصنام (كَخَلْقِهِ) كخلق الله (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ) خلق الله وخلق الشركاء (عَلَيْهِمْ) ولذا اتخذوها شركاء حيث أنها فعلت كفعل الله (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا شيء مخلوق للأصنام (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الذي يقهر كل شيء وكل شيء خاضع له.

[١٧] (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (فَسالَتْ) أي جرت (أَوْدِيَةٌ) جمع وادي وهو مسيل الماء (بِقَدَرِها) كل واد أخذ من الماء بقدر سعته (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) الجاري حمل (زَبَداً) هو الأبيض المنتفخ على وجه الماء (رابِياً) طافيا عاليا فوق الماء (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) أي ما يوضع في النار من الفلزات كالذهب والفضة ، ويوقد عليه بإلقاء الحطب فوقه لتزييد اشتعال النار ، يذاب (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) أي طلب الزينة ، كالحلي (أَوْ مَتاعٍ) أي طلب المتاع كصنع الأواني وشبهه (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثل زبد الماء (كَذلِكَ) هكذا (يَضْرِبُ اللهُ) مثل (الْحَقَّ وَالْباطِلَ) فالحق كالماء والفلز ، والباطل كالزبد فوق الماء وفوق الفلز حال السيلان وحال الإذابة ، ولعل التمثيل بهذين لبيان أن الحق حياة كالماء وزينة كالفلز (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) باطلا يرمى به (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء والفلز (فَيَمْكُثُ) يبقى دهرا (فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ليتفكر الناس.

[١٨] (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) أجابوا (لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) الصفة الحسنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من الثروة (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وهذا من باب المثال ، وإلا المراد كلما يتصور من الثروة (لَافْتَدَوْا بِهِ) جعلوه فدية لخلاص أنفسهم ولكن بلا فائدة (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) الحساب السيئ (وَمَأْواهُمْ) محلهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ) جهنم (الْمِهادُ) الفراش.

__________________

(١) وسمي العصر أصيلا ، كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه.

٢٦٣

[١٩] (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما) أي القرآن الذي (أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فيستجيب (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) القلب لا يستبصر فلا يستجيب (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

[٢٠] (الَّذِينَ) صفة (من يعلم) (يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الذي أخذه عليهم بالإيمان (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) كما ينقضه الكفار ، وهذه عبارة أخرى عن الوفاء بالعهد.

[٢١] (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فإن الله أمر بوصل الرسل والمؤمنين والأقرباء (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فلا يخالفوه (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي الحساب السيئ ، والمراد به في الحساب.

[٢٢] (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ) طلب رضى (وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي ذاته (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي في الخفاء وفي العلانية ، أي في كل حال (وَيَدْرَؤُنَ) يدفعون بواسطة الحسنة التي يأتون بها (السَّيِّئَةَ) فإن الحسنات يذهبن السيئات (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) العاقبة الحميدة في الدار الآخرة.

[٢٣] (جَنَّاتُ) بساتين (عَدْنٍ) إقامة (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أولادهم فإن الصالح من الجميع يجتمعون في الجنة فينعمون باجتماعهم (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) أبواب الجنة ، أو أبواب دورهم.

[٢٤] قائلين لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) بسبب صبركم (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

[٢٥] (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ما وثقوه (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي ما أمر بوصله (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالكفر والعصيان (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد من رحمة الله (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الدار السيئة وهي جهنم.

[٢٦] (اللهُ يَبْسُطُ) أي يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يضيق (وَفَرِحُوا) الكفار (بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) بالنسبة إلى الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) قليل فاللازم أن يعمل الإنسان للآخرة.

[٢٧ ـ ٢٨] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) آية نقترحها (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ممن أعرض عن الحق ، إذ المعجزة الكافية قد جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقتراح الآيات ليس إلا عنادا والمعاند يتركه الله حتى يضل (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) إلى نفسه (مَنْ أَنابَ) رجع بالطاعة. (الَّذِينَ) بدل (من أناب) (آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) فإن تذكر الله يوجب طمأنينة القلب للاعتماد عليه سبحانه في السراء والضراء (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

٢٦٤

[٢٩] (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى) الصفة الطيبة (لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) المرجع الحسن.

[٣٠] (كَذلِكَ) هكذا بهذه الآيات والأدلة (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أرسلت الرسل إليهم فليس إرسالك مستغربا (لِتَتْلُوَا) تقرأ (عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) بكثير الرحمة التي أحاطت رحمته بهم (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اتكلت واعتمدت (وَإِلَيْهِ مَتابِ) مرجعي ومرجعكم.

[٣١] (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) أي إن كان هناك في الوجود قرآنا بهذه الصفات لكان هذا القرآن (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أزيلت عن أماكنها لعظمة ذلك القرآن (أَوْ قُطِّعَتْ) تشققت (بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بأن أحيوا بسبب القرآن ، أو تمكن الأحياء من تكليمهم (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) فلو شاء أتى بما اقترحوه من الآيات لكنه أنزل هذا القرآن الذي هو أعظم من ذلك كله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن الكفار المعاندين ، استفهام إنكار ، أي لا بد وأن ييأسوا عن أولئك بعد عنادهم (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) بأن يجبرهم على الهداية ، والمعنى ايئسوا أيها المؤمنون عن هداية المعاندين لأنا أنزلنا لهم قرآنا أعظم من كل شيء فلم يؤمنوا بل أخذوا يقترحون نزول آيات أخر. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من الكفر والمعاصي (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم وتنزل بهم من القحط والمرض وما أشبه (أَوْ تَحُلُ) القارعة (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) فيخافون منها فإن الخوف أيضا عذاب (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) بالغلبة عليهم أو عذابهم (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) الذي وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصر المؤمنين وهلاك الكافرين.

[٣٢] (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزأ هؤلاء بك (فَأَمْلَيْتُ) أمهلت (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك لتكثير عصيانهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أهلكتهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) عقابي لهم وهكذا آخذ المستهزئين بك.

[٣٣] (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) بالعلم والتدبير (عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من خير وشر أي كمن ليس كذلك من أصنامكم (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) استفهام إنكار أي كيف يجعلون شريكا لله (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي سموا تلك الشركاء حتى يتبين أنهم ليسوا شركاء (أَمْ) بل (تُنَبِّئُونَهُ) تخبرون الله (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي بشركاء لا يعلم الله أنهم شركاء له في الأرض (أَمْ) بل تسمونها شركاء (بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) بقول ظاهري فقط لا حقيقة له (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) شركهم. وسمّي مكرا لأنهم احتالوا بجعل الآلهة لأجل معاشهم وسيادتهم (وَصُدُّوا) منعوا ، والمانع لهم الشيطان (عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يتركه لعناده حتى يضل (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديه لأن الهداية خاصة بالله.

[٣٤] (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر والمصائب (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أشد (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ) من عذابه (مِنْ واقٍ) حافظ يحفظهم.

٢٦٥

[٣٥] (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) الذين اتقوا الكفر والمعاصي ، و(مثل) مبتدأ خبره محذوف ، وهو (جنة) (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ أُكُلُها) أي ثمرها (دائِمٌ) لا ينقطع ، وليس مثل ثمار الدنيا لها فصل خاص (وَظِلُّها) دائم فلا يرون فيها شمسا (تِلْكَ) الجنة الموصوفة (عُقْبَى) عاقبة (الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ).

[٣٦] (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ممن أسلم منهم (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَمِنَ الْأَحْزابِ) من أهل الكتاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعداوة (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) ما يخالف شرائعهم وما يخالف تحريفاتهم (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) فلا أكون كأهل الكتاب حيث أشركوا بالله (إِلَيْهِ) إلى توحيده (أَدْعُوا) الناس (وَإِلَيْهِ مَآبِ) مرجع الناس فهو المبدئ المعيد.

[٣٧] (وَكَذلِكَ) هكذا (أَنْزَلْناهُ) أنزلنا القرآن (حُكْماً) للحكم بين الناس (عَرَبِيًّا) بلسان العرب (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ميول أهل الكتاب في عقيدتهم وشريعتهم (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بالإسلام (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) نصير (وَلا واقٍ) يحفظك من العذاب.

[٣٨] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً) نساء (وَذُرِّيَّةً) أولادا وهذا رد لما زعمه بعضهم من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس برسول وإلا لم تكن له زوج وأولاد (وَما كانَ) ما صح (لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) معجزة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فليست الآيات بيده حتى يأتي بما يقترحون عليه وهذا رد لهم في اقتراحهم الآيات (لِكُلِّ أَجَلٍ) وقت (كِتابٌ) شيء مكتوب حسب ما يقتضيه صلاح البشر فصلاحهم في كل زمان حسب الغالب على أهله فعصا موسى عليه‌السلام للسحرة وإحياء عيسى عليه‌السلام الموتى للأطباء وقرآن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للفصحاء.

[٣٩] (يَمْحُوا اللهُ) ينسخ (ما يَشاءُ) ما يستصوب نسخه (وَيُثْبِتُ) ما يشاء مكانه (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ فيه كل شيء ، وهذا رد لقولهم إن كان أحكام التوراة والإنجيل صحيحة فلم نسخت.

[٤٠] (وَإِنْ ما) أصله (إن) الشرطية و(ما) الزائدة (نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب بأن نعذبهم في حياتك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) نميتك قبل أن ترى عذابهم فليس مما يهمك ذلك إذ إنما (عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أن تبلغهم الدين (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) الجزاء بما فعلوا من التبدل والرد.

[٤١] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) نقصد أرض الشرك (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بتوسيع رقعة الإسلام (وَاللهُ يَحْكُمُ) بما يريد (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) فلا أحد يتمكن من رد حكمه (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يسرع في محاسبة الناس ، أو أن حسابه آت قريبا.

[٤٢] (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) دبروا في تكذيب الرسل (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) فإن التدبير كله بيد الله ، حتى أن تدبيرهم إنما هو بترك الله لهم حتى يدبّروا كيدهم (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) العاقبة الحسنة لدار الدنيا والآخرة ، لهم أم للمؤمنين.

٢٦٦

[٤٣] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) لم يرسلك الله (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإن ظهور الآيات على يدي يشهد لي بأن الله أرسلني (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أهل الكتاب الذين لا يعاندون يشهدون بصدقي ، وفي التأويل إن من عنده علم الكتاب هم الأئمة المعصومون عليهم‌السلام.

١٤ : سورة إبراهيم

مكية وآياتها اثنتان وخمسون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الر) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كِتابٌ) أي هذا كتاب (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمة الكفر والعصيان والتفرقة (إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بأمره (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) الغالب في أمره (الْحَمِيدِ) المحمود في أفعاله.

[٢] (اللهِ) بدل من (العزيز) (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ) سخط (لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) يوم القيامة.

[٣] (الَّذِينَ) بدل من (الكافرين) (يَسْتَحِبُّونَ) يختارون (الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ) يمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يريدون أن يكون السبيل أعوج (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق.

[٤] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ) بلغة (قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) بدون احتياج إلى الترجمة (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) يترك من يعاند ليضل (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها.

[٥] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) اليد البيضاء والعصا (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أيام الوقائع التي وقعت على الأمم من خير كنزول المائدة أو شر كعذاب الأمم (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) يصبر على بلاء الله (شَكُورٍ) يشكر نعمائه.

٢٦٧

[٦] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ) زمان أنجاكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ) يذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) العذاب السيئ حيث كان يكلفهم بالأعمال الشاقة (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يبقونهن أحياء للاستخدام (وَفِي ذلِكُمْ) ذلك العذاب و(كم) للخطاب (بَلاءٌ) امتحان (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

[٧] (وَإِذْ تَأَذَّنَ) أعلم (رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أزيد النعمة عليكم (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) كفر عقيدة أو كفر عمل كعدم الشكر (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

[٨] (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن شكركم (حَمِيدٌ) محمود في أفعاله.

[٩] (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا) خبر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأمم المكذبة (قَوْمِ) بدل (الذين) (نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من سائر الأمم (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) فإن الناس لم يحصوا أحوال الأمم لكثرتهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالأدلة الواضحة (فَرَدُّوا) الأمم جعلوا (أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) بأن أخذوا أمام أفواه الرسل حتى لا يتكلموا (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم ، لأنهم لم يكونوا آمنوا بالرسل (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الإيمان (مُرِيبٍ) موجب للتردد.

[١٠] (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ) خالق (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعض ذنوبكم ، فليست دعوته لأن يضركم ، ولعل المراد ببعض الذنوب التي هي حقه سبحانه ، في مقابل مظالم العباد (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقت سماه لكم ولا يعالجكم بالعقاب (قالُوا إِنْ) ما (أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا فضل لكم علينا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) تمنعونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ) حجة على قولكم (مُبِينٍ) واضح.

٢٦٨

[١١] (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ) ما نحن (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في أصل البشرية (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بإرساله رسولا وهذا هو الفارق بيننا وبينكم (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) بحجة فليس ما اقترحتم في وسعنا وإنما يكفينا أن نأتي بالمعجزات الكافية في الاحتجاج (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يكلون إليه تعالى أمورهم.

[١٢] (وَما لَنا) أي عذر لنا في (أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) سبل الخير فعرفناه ومن عرف الله لا بد وأن يتوكل عليه (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أذيتكم فإن من عرف الله وتوكل عليه علم أن للصبر في سبيله عاقبة محمودة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) يعتمد (الْمُتَوَكِّلُونَ) من يريد التوكل.

[١٣] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) بلادنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) طريقتنا ، لأن الكفار كانوا يظنون أن الرسل قبل ادعاء الرسالة كانوا على طريقتهم (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) إلى الرسل (رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ).

[١٤] (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ) أرضهم ، فإنهم أرادوا إخراجكم لكن الله يخرجهم لأجلكم (مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ) الخير الذي يسبغه الله للرسل والمؤمنين (لِمَنْ خافَ مَقامِي) قيامي عليه رقيبا (وَخافَ وَعِيدِ) وعيدي بالعقاب.

[١٥] (وَاسْتَفْتَحُوا) طلب الرسل النصر والفتح على الكفار ، فاستجيب للرسل (وَخابَ) خسر (كُلُّ جَبَّارٍ) (١) (عَنِيدٍ) معاند للحق.

[١٦] (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ماء من القيح يسيل من فروج الزناة.

[١٧] (يَتَجَرَّعُهُ) يشربه جرعة جرعة (وَلا يَكادُ) لا يتمكن الشارب (يُسِيغُهُ) يبلعه بسهولة لو ساخته ونتنه وحرارته (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أسباب الموت (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من أطرافه من شدة العذاب (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) لا يموت حتى يستريح (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) وهو الخلود في النار الذي هو أشد من كل عذاب.

[١٨] (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) رماد الحطب (اشْتَدَّتْ بِهِ) بذلك الرماد (الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) كثير الريح فكما يذر الريح العاصف الرماد كذلك تذهب أعمالهم الحسنة هباء (لا يَقْدِرُونَ) الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) من أعمالهم الحسنة (عَلى شَيْءٍ) ولو يسير منها لأن الكفر يحبط الحسنات (ذلِكَ) الكفر الموجب لذلك (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الحق.

__________________

(١) الجبار : المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا.

٢٦٩

[١٩] (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة التي يحق أن تخلق عليها لا بالباطل واللعب (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) بإعدامكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).

[٢٠] (وَما ذلِكَ) إعدامكم وإيجاد غيركم (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعسر.

[٢١] (وَبَرَزُوا) أي ظهروا في يوم القيامة (لِلَّهِ جَمِيعاً) الكفار ورؤساؤهم (فَقالَ الضُّعَفاءُ) الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تكبروا عن الإيمان : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) تابعين في الكفر (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) دافعون (عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ولو مقدارا قليلا (قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ) إلى طريق الخلاص من العذاب (لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) مفر ومنجى من العقاب وفيه إشارة إلى عدم فائدة الجزع.

[٢٢] (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) بأن دخل السعداء الجنة والأشقياء النار : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) بالبعث والجزاء (وَوَعَدْتُكُمْ) خلاف ذلك بأنه لا بعث فافعلوا ما شئتم (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي وعدا مخالفا للواقع (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) تسلط وقهر فأجبركم على الكفر والعصيان (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) بالوسوسة (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فإن الملامة عليكم حيث أطعتموني بمجرد الوسوسة (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) مغيثكم من العذاب (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) بمنقذ لي من العذاب (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) إني كافر بإشراككم لي مع الله ، حيث أطعتموني (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

[٢٣] (وَأُدْخِلَ) المدخل هم الملائكة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ) بأمر (رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، لأن هناك محل السلامة.

[٢٤] (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) بين مثلا للكلام الحسن (كَلِمَةً طَيِّبَةً) حسنة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض (وَفَرْعُها) رأسها (فِي السَّماءِ) في جهة العلو.

٢٧٠

[٢٥] (تُؤْتِي) تعطي (أُكُلَها) ثمرها (كُلَّ حِينٍ) في وقت الإثمار (بِإِذْنِ) بأمر (رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) يبينها (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون ، فإن الكلام الطيب ثابت في الأرض وينفع الناس كما ينفع ثمر الشجرة.

[٢٦] (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) كالكفر والباطل (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) اقتلعت (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لأن عروقها كانت قريبة من سطح الأرض لا أساس لها (ما لَها مِنْ قَرارٍ) استقرار فهي بلا ثمر ولا أساس لها.

[٢٧] (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) لا تقلب لهم من قول إلى قول (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لهم قول واحد حق (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يدهشهم هول الموقف حتى يبدلوا كلامهم كما أن لا كفار هناك يبدلون كلامهم حيث يقولون (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الذين عاندوا الحق يتركهم وشأنهم حتى يضلوا (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) مما فيه الصلاح من تثبيت المؤمن وترك الظالم.

[٢٨ ـ ٢٩] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) بأن كفروا عوض الشكر (وَأَحَلُّوا) أدخلوا (قَوْمَهُمْ) التابعين لهم (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك. (جَهَنَّمَ) عطف بيان ل (دار البوار) (يَصْلَوْنَها) يدخلونها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) المقر هي.

[٣٠] (وَجَعَلُوا) الكفار (لِلَّهِ أَنْداداً) أمثالا بأن أشركوا به (لِيُضِلُّوا) كانت عاقبة الأنداد الإضلال (عَنْ سَبِيلِهِ) سبيل الله (قُلْ تَمَتَّعُوا) خذوا المتعة والتلذذ بشرككم (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) وهذا تهديد لهم.

[٣١] (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ) فلا يمكن لهم أن يشتروا أنفسهم بالمال من عذاب الله (وَلا خِلالٌ) أي صداقة نافعة.

[٣٢] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً) من الطعام واللباس وغيرهما (لَكُمْ وَسَخَّرَ) ذلل (لَكُمْ) لمنافعكم (الْفُلْكَ) السفينة (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) بمشيئته تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ).

[٣٣] (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) دائمين في العمل (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ) لتسكنوا فيه (وَالنَّهارَ).

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٣.

٢٧١

[٣٤] (وَآتاكُمْ) أعطاكم (مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) من أنواع النعم (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) لا تحصروها لكثرتها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) كثير الظلم لنفسه وغيره (كَفَّارٌ) كثير الكفران ، لا يشكر النعم.

[٣٥] (وَإِذْ) واذكر يا رسول الله (قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) مكة (آمِناً) محل أمن لمن دخلها (وَاجْنُبْنِي) بعّدني (وَبَنِيَ) وبعّد أولادي (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

[٣٦] (رَبِّ إِنَّهُنَ) أي الأصنام (أَضْلَلْنَ) ضل بسببهن (كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي) على ديني (فَإِنَّهُ مِنِّي) من زمرتي (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ) تقدر على هدايته لتغفر له (رَحِيمٌ) حتى بالعصاة.

[٣٧] (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعض أولادي (بِوادٍ) وادي مكة (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) لا زراعة فيه (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) يحرم التعرض له بسوء وله حرمة (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) عند بيتك (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) جمع فؤاد بمعنى القلب (مِنَ النَّاسِ تَهْوِي) تميل (إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فإن النعمة توجب الشكر.

[٣٨] (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي) في أنفسنا (وَما نُعْلِنُ) نظهر (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

[٣٩] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) وأنا كبير آيس عن الأولاد (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) فقد دعوته للولد فاستجاب.

[٤٠] (رَبِّ اجْعَلْنِي) بلطفك (مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) من يقيم الصلاة (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) استجب دعائي.

[٤١] (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) يثبت كأنه قائم.

[٤٢] (وَلا تَحْسَبَنَ) لا تظنن أيها السامع (اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخر حسابهم وعقابهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) فلا تستقر بل تنظر هنا وهناك ذهولا.

٢٧٢

[٤٣] (مُهْطِعِينَ) أي في حال كون الظالمين مسرعين في المشي بلا قصد (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها إلى السماء لخوفهم من نزول العذاب منها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجعون أعينهم إلى أنفسهم كما هو شأن الخائف ينظر هنا وهناك (وَأَفْئِدَتُهُمْ) قلوبهم (هَواءٌ) خالية من الفكر والقصد.

[٤٤] (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) عذاب الهلاك في الدنيا (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا) أمهلنا (إِلى أَجَلٍ) مدة (قَرِيبٍ) قليلة ، فإن أخرتنا (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) إلى الإيمان (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما يقولون ، فيقال لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) في الدنيا ، فقلتم : (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) عن الدنيا إلى الآخرة ، بل نموت ونفنى.

[٤٥] (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من العذاب حين كذبوا ، وهذا كان يقتضي أن تعتبروا بأحوالهم (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) من أحوال الأمم المكذبة فلم ينفعكم كل ذلك.

[٤٦] (وَقَدْ مَكَرُوا) أولئك الأمم (مَكْرَهُمْ) في إبطال أمر الأنبياء عليهم‌السلام (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي جزاء مكرهم ، أو المراد أنه تعالى أبطل مكرهم (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) لأنه كان مكرا عظيما لكن الله أبطله وأتم نوره.

[٤٧] (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ) يخلف (وَعْدِهِ رُسُلَهُ) حيث وعدهم بإظهار دينهم وإبادة خصومهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على ما يريد (ذُو انتِقامٍ).

[٤٨] (يَوْمَ) ظرف للانتقام (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) المعهودة لأنها تسوى بلا جبال ولا اعوجاج (وَالسَّماواتُ) أي تبدل السماوات غير السماوات لأن نظام السماوات ينهدم بتكوير الشمس وتناثر النجوم (وَبَرَزُوا) ظهر الناس خارجين من قبورهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

[٤٩] (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) يقرن ويضم أحدهم إلى الآخر (فِي الْأَصْفادِ) في الأغلال.

[٥٠] (سَرابِيلُهُمْ) قميصهم (مِنْ قَطِرانٍ) دهن أسود منتن لزج تشتعل فيه النار بسرعة (وَتَغْشى) تحيط (وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

[٥١] إنما برزوا (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من خير أو شر (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عن حساب ، أو إن قيام القيامة إنما هو في وقت قريب.

[٥٢] (هذا) القرآن (بَلاغٌ) تبليغ وكفاية (لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) يخافوا بسبب هذا البلاغ (وَلِيَعْلَمُوا) بالنظر والتأمل في البلاغ (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ) يتذكر (أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

٢٧٣

١٥ : سورة الحجر

مكية آياتها تسع وتسعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الر) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تِلْكَ) هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ) الشيء المكتوب (وَقُرْآنٍ) تخصيص بعد تعميم (مُبِينٍ) واضح.

[٢] (رُبَما يَوَدُّ) يحب (الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) وذلك حين يشاهدون العذاب.

[٣] (ذَرْهُمْ) دعهم (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) يتلذذوا بدنياهم (وَيُلْهِهِمُ) يشغلهم (الْأَمَلُ) في البقاء في الدنيا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وبال ذلك.

[٤] (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ) أجل مكتوب (مَعْلُومٌ) كتب لوقت هلاكها.

[٥] (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) لا تسبق أمة أجلها بأن يتأخر أجلها عن الموعد المحدد (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) بأن يتقدم أجلها عن الوقت المحدد.

[٦] (وَقالُوا) الكفار : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) القرآن (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) قالوا ذلك استهزاء.

[٧] (لَوْ ما) لما ذا لا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) ليصدقوك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

[٨] (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) بمقتضى الحكمة لا باقتراح المعاندين (وَما كانُوا إِذاً) إذا نزلنا الملائكة (مُنْظَرِينَ) ممهلين لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون نزول الملائكة عند الموت أو العذاب.

[٩] (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) عن التغيير والنقصان والزيادة.

[١٠] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسلا (فِي شِيَعِ) فرق (الْأَوَّلِينَ) كما أرسلناك في هذه الفرقة.

[١١] (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما استهزأ هؤلاء بك.

[١٢] (كَذلِكَ) هكذا كما أرسلنا الرسل وأرسلناك (نَسْلُكُهُ) ندخل الذكر (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) إذ الله يرسل الرسل لوعظ الناس ، حتى لا تكون لهم حجة.

[١٣] (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالذكر لعنادهم (وَقَدْ خَلَتْ) مضت (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي سنة الله في الأولين أنهم إذا لم يؤمنوا نزل عليهم العذاب ، وهذا تهديد لهم.

[١٤] (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ) أخذوا في الباب (يَعْرُجُونَ) يصعدون ، بأن لمسوا المعجزة.

[١٥] (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ) أي أغشيت فلا تنظر صحيحا (أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما نراه إنما هو كذب ، وذلك لبيان أنهم معاندون.

٢٧٤

[١٦] (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) اثني عشر (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (لِلنَّاظِرِينَ) لمن نظر إلى السماء.

[١٧] (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) مرجوم ، ضرب بالشهاب أو باللعنة ، وحفظها عبارة عن عدم وصول الشياطين إليها.

[١٨] (إِلَّا) لكن (مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) بأن قرب إلى محل محاورة الملائكة فسمع بعض الكلمات منهم (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) شعلة من النار (مُبِينٌ) ظاهر.

[١٩] (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثابتات (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدر بمقدار معين.

[٢٠] (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها) في الأرض (مَعايِشَ) من مطعم ومشرب وسائر أسباب العيش (وَمَنْ) عطف على (لكم) (لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) من الأنعام ، وفيه بيان أن رزقها من الله لا من أصحابها ، كما يزعمون.

[٢١] (وَإِنْ) ما (مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) فله سبحانه القدرة على إيجاد كل شيء (وَما نُنَزِّلُهُ) نوجده (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) تقتضيه الحكمة.

[٢٢] (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) تلقح السحاب ليمطر ، والأشجار لتحمل (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) المطر بعد تلقيح الريح للسحاب (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) تشربون من مائه (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) لستم بحافظيه في المخازن الأرضية كالعيون ، بل كل ذلك بفعل الله تعالى.

[٢٣] (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) يموت الكل ونبقى نحن.

[٢٤] (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) الذين استقدموا ولادة وموتا (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) تأخروا ولادة أو موتا ، أي لا يخفى علينا شيء.

[٢٥] (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) يجمعهم للجزاء (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

[٢٦] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) آدم وحواء عليهما‌السلام (مِنْ صَلْصالٍ) طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر (مِنْ حَمَإٍ) طين متغير أسود (مَسْنُونٍ) مصبوب كما يصب الذهب في القالب.

[٢٧] (وَالْجَانَ) أبا الجن (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) قبل خلق آدم عليه‌السلام (مِنْ نارِ السَّمُومِ) شديد الحرارة.

[٢٨ ـ ٢٩] (وَإِذْ) واذكر يا رسول الله (قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ) عدلت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أعطيته الروح ، والإضافة للتشريف ، أو روح خلقته (فَقَعُوا) من وقع يقع أي اسقطوا (لَهُ ساجِدِينَ).

[٣٠ ـ ٣١] (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) امتنع (أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).

٢٧٥

[٣٢] (قالَ) الله : (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ) لما ذا وأي شيء لك في عدم السجود (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).

[٣٣] (قالَ لَمْ أَكُنْ) ما كنت (لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).

[٣٤] (قالَ) الله : (فَاخْرُجْ مِنْها) من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود ملعون.

[٣٥] (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) البعد عن الرحمة (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) يوم الجزاء ، وبعده تحاسب لتدخل جهنم.

[٣٦] (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أمهلني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يوم القيامة.

[٣٧] (قالَ) الله : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أمهلتك.

[٣٨] (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) لدى الله سبحانه وهو النفخة أو ظهور الإمام المهدي (عج).

[٣٩] (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) بسبب إغوائك لي بأن هيئت سبب ضلالي (لَأُزَيِّنَنَ) المعاصي (لَهُمْ) بني آدم (فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) بدعوتهم إلى الغواية.

[٤٠] (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لطاعتك.

[٤١] (قالَ) الله : (هذا) الإخلاص (صِراطٌ عَلَيَ) رعايته (مُسْتَقِيمٌ) صفة (صراط).

[٤٢] (إِنَّ عِبادِي) المخلصين (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) تسلط بالوسوسة (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) الضالين فإن سلطانك عليهم لأنهم يتبعونك.

[٤٣] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) محل وعد إبليس وأتباعه (أَجْمَعِينَ).

[٤٤] (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الكفار والعصاة (جُزْءٌ) منهم (مَقْسُومٌ) قسم لهم حسب تفاوتهم في الإجرام.

[٤٥] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين اجتنبوا الشرك والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) من ماء وخمر وعسل ولبن.

[٤٦] يقال لهم : (ادْخُلُوها) أي الجنة (بِسَلامٍ) بسلامة من الآفات (آمِنِينَ) من كل مخوف.

[٤٧] (وَنَزَعْنا) أقلعنا (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) حقد وعداوة في حال كونهم (إِخْواناً) كالإخوان في تبادل الحب (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير : الكرسي (مُتَقابِلِينَ) أحدهم في مقابل الآخر.

[٤٨] (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) لا يصيبهم في الجنة تعب (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) بل هم فيها خالدون.

[٤٩] (نَبِّئْ) أخبر يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

[٥٠] (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) المؤلم.

[٥١] (وَنَبِّئْهُمْ) أخبرهم (عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ).

٢٧٦

[٥٢] (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ) إبراهيم عليه‌السلام (إِنَّا مِنْكُمْ) أيها الضيوف الثلاثة (وَجِلُونَ) خائفون لأنهم لم يأكلوا من طعام فظن أنهم يريدون به سوء.

[٥٣] (قالُوا لا تَوْجَلْ) إنا ملائكة (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) ولد (عَلِيمٍ) وهو إسحاق من سارة.

[٥٤] (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) في وقت أصابتني الشيخوخة (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فبما ذا تبشروني والعادة جرت أن لا يولد لمثلي.

[٥٥] (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) لا كذب فيه (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) الآيسين من الولد أو من رحمة الله.

[٥٦] (قالَ وَمَنْ) استفهام إنكار ، أي لا أقنط (يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) الذين لا يعتقدون بالله.

[٥٧] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (فَما خَطْبُكُمْ) أمركم الذي نزلتم من السماء لأجله (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) لأن الله أرسلهم.

[٥٨] (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) هم قوم لوط عليه‌السلام.

[٥٩] (إِلَّا) فلم نرسل العذاب على (آلَ لُوطٍ) لوط عليه‌السلام وآله (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ).

[٦٠] (إِلَّا امْرَأَتَهُ) زوجة لوط عليه‌السلام (قَدَّرْنا) قضينا (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الباقين فيمن يهلك.

[٦١] (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) الملائكة.

[٦٢] (قالَ) لوط عليه‌السلام : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) تنكركم نفسي لخوفي من لحوق أذى القوم بكم.

[٦٣] (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما) بالعذاب الذي (كانُوا) كان قومك (فِيهِ يَمْتَرُونَ) يشكون ، فإن لوط عليه‌السلام كان يخوفهم بالعذاب وهم ينكرون ذلك.

[٦٤] (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) بعذابهم الذي هو واقع قطعا (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك.

[٦٥] (فَأَسْرِ) أخرج ليلا (بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ) بطائفة (مِنَ اللَّيْلِ) بأن مضى قسم من الليل (وَاتَّبِعْ) يا لوط عليه‌السلام (أَدْبارَهُمْ) عقب أهلك حتى تطلع على أنهم يسيرون ولم يبق منهم أحد (وَلا يَلْتَفِتْ) إلى ورائه (مِنْكُمْ أَحَدٌ) لئلا يرى عذاب أهل المدينة (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) إلى المكان الذي تؤمرون بالمضي إليه.

[٦٦] (وَقَضَيْنا) أوحينا (إِلَيْهِ) إلى لوط عليه‌السلام (ذلِكَ الْأَمْرَ) أمر عذاب القوم (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) أي هؤلاء إلى آخرهم ، فإن دابر من الدبر بمعنى الوراء والأخير (مَقْطُوعٌ) مستأصل (مُصْبِحِينَ) حال دخولهم في الصباح.

[٦٧] (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) مدينة لوط عليه‌السلام (يَسْتَبْشِرُونَ) يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط يريدون بهم اللواط.

[٦٨] (قالَ) لوط عليه‌السلام ، قبل أن يعرف أنهم ملائكة : (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي لا تفضحوني بالتعرض لهم.

[٦٩] (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) تخجلوني بسببهم.

[٧٠] (قالُوا) القوم : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ) ننهاك (عَنِ الْعالَمِينَ) عن أن تجير أحدا من الناس.

٢٧٧

[٧١] (قالَ) لوط عليه‌السلام : (هؤُلاءِ بَناتِي) أزوّجكم إياهن (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) تريدون النكاح.

[٧٢] (لَعَمْرُكَ) قسما بحياتك يا لوط عليه‌السلام (إِنَّهُمْ) القوم (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) ضلالهم المسكر لهم المغطي على عقولهم (يَعْمَهُونَ) يتحيرون.

[٧٣] (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) الصوت الهائل (مُشْرِقِينَ) في حال كونهم داخلين في وقت شروق الشمس.

[٧٤] (فَجَعَلْنا عالِيَها) عالي المدينة (سافِلَها) بأن قلبناها (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) طين متحجر.

[٧٥] (إِنَّ فِي ذلِكَ) العذاب (لَآياتٍ) أدلة (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) الذين ينظرون إلى العلائم والأشياء فيعرفون حقائقها.

[٧٦] (وَإِنَّها) قراهم الهالكة (لَبِسَبِيلٍ) في الطريق ، واللام للتأكيد (مُقِيمٍ) ذلك السبيل أي ثابت قائم يمرون عليها الناس بين مكة والشام.

[٧٧] (إِنَّ فِي ذلِكَ) العذاب (لَآيَةً) لعبرة ودلالة (لِلْمُؤْمِنِينَ).

[٧٨] (وَإِنْ) إنه (كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هي الشجر الملتف كانت غيضة بقرب مدين ، فيها قوم شعيب (لَظالِمِينَ) في تكذيب الرسول عليه‌السلام.

[٧٩] (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالإهلاك (وَإِنَّهُما) مدينتي لوط وشعيب (لَبِإِمامٍ) طريق يؤمّه الناس أي يقصده (مُبِينٍ) واضح.

[٨٠] (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ) سكان الحجر وهو واد بين المدينة والشام ، وأصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح عليه‌السلام (الْمُرْسَلِينَ).

[٨١] (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) الناقة وسائر معجزات صالح عليه‌السلام (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لا يعتبرون بها.

[٨٢] (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من خرابها ومن الأعداء واللصوص.

[٨٣] (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صيحة جبرئيل بالعذاب (مُصْبِحِينَ) حال كونهم دخلوا الصباح.

[٨٤] (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ما أفادهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من نحت البيوت وجمع المال.

[٨٥] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) فلا يلائمان الشر والفساد (وَإِنَّ السَّاعَةَ) القيامة (لَآتِيَةٌ) لعذابهم (فَاصْفَحِ) أعرض يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكفار (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) عفوا جميلا فإن الأخلاق الطيبة تقرب الناس إلى المبلغ.

[٨٦] (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) بتدبير خلقه ، ولذا يأمرك بالصفح.

[٨٧] (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) أعطيناك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (سَبْعاً) سبع آيات (مِنَ الْمَثانِي) بيان السبع وهو من الثناء لأن سورة الحمد ثناء لله ، أو المراد ما تثنى تلاوتها في كل صلاة (وَالْقُرْآنَ) عطف الكل على البعض (الْعَظِيمَ).

[٨٨] (لا تَمُدَّنَ) لا تنظر نظر راغب ، وحيث أن شعاع العين يمتد ، نسب المد إلى العين (عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) عائد

إلى (ما) والمراد به كل نعمة (أَزْواجاً) أصنافا (مِنْهُمْ) من الناس الكفار ، أي لا تنظر إلى نعم الناس بنظر الرغبة ، لأن نعم الدنيا لا شيء بالنسبة إلى نعم الآخرة (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يؤمنوا (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) ألن جانبك ، تشبيه بالطير حين يخفض جناحه تواضعا (لِلْمُؤْمِنِينَ).

[٨٩] (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) الواضح أنذرهم من بأس الله.

[٩٠] (كَما) متعلق ب (آتيناك) أي أنزلنا عليك الكتاب كما (أَنْزَلْنا) الكتاب (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) أي أهل الكتاب الذين اقتسموا القرآن إلى حق وهو ما يوافق توراتهم وباطل وهو ما لا يوافق توراتهم.

٢٧٨

[٩١] (الَّذِينَ) بيان للمقتسمين (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) جمع عضة ، أصلها عضوة ، أي أجزاء (١).

[٩٢ ـ ٩٣] (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) والسؤال إنما هو لأجل الجزاء.

[٩٤] (فَاصْدَعْ) أي اجهر يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِما تُؤْمَرُ) من الأوامر (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) لا تبال بهم.

[٩٥] (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين يستهزئون بك فنكفيك شرهم.

[٩٦] (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء عاقبتهم.

[٩٧] (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من أنك شاعر وساحر وكاهن ومجنون.

[٩٨] (فَسَبِّحْ) نزّه متلبسا (بِحَمْدِ رَبِّكَ) فإن الحمد ذكر صفات الكمال ، والتسبيح ذكر صفات الجلال (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).

[٩٩] (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الموت لأنه متيقن ، أي أعبده ما دمت حيا.

١٦ : سورة النحل

مكية آياتها مائة وثمان وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (أَتى) آخذ في الإتيان (أَمْرُ اللهِ) بعذاب الكفار (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإن الكفار كانوا يقولون إن كنت صادقا فأتنا بالعذاب (سُبْحانَهُ) منزه عن الشريك (وَتَعالى) هو أرفع من أن يكون له شريك (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يشرك الكفار به من الأصنام.

[٢] (يُنَزِّلُ) الله (الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) ما يوجب روح الناس ، لأن الناس بدون الإيمان أموات ، كما قال : (إذا دعاكم لما يحييكم) (٢) (مِنْ أَمْرِهِ) بإرادته ، فليس مجبورا فيما يفعل (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ممن يريد أن يتخذه رسولا (أَنْ أَنْذِرُوا) الناس (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) خافوا من مخالفتي.

[٣] (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) لا عبثا (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

[٤] (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) قطرة مني (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) يخاصم الله (مُبِينٌ) واضح.

[٥] (وَالْأَنْعامَ) جمع نعم : الإبل والبقر والغنم (خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ما يستدفئ به من اللباس (وَمَنافِعُ) من ثروة وركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) اللحم وما يتأتى من اللبن.

[٦] (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) حسن منظر وزينة (حِينَ تُرِيحُونَ) تردونها إلى مراحها ومباركها بالليل (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) ترسلونها إلى مرعاها بالغداة.

__________________

(١) عضوت الشيء : فرقته وبعّضته.

(٢) سورة الأنفال : ٢٤.

٢٧٩

[٧] (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) أحمالكم (إِلى) كل (بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) لا تقدرون على بلوغه لبعده (إِلَّا بِشِقِ) بكلفة (الْأَنْفُسِ) وإيقاعها في المشقة (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ) الرأفة فوق الرحمة (رَحِيمٌ).

[٨] (وَالْخَيْلَ) الفرس عطف على الأنعام (وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) لتتزينوا بها (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) خلق من أنواع الحيوانات التي لا تعلمونها ، أو يخلق في المستقبل.

[٩] (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي بيان الطريق المستقيم (وَمِنْها) من السبل ما هو (جائِرٌ) مائل عن القصد (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بأن ألجأكم إلى الإيمان.

[١٠] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) جهة العلو (ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) ما تشربونه (وَمِنْهُ شَجَرٌ) ينبت بواسطة الماء (فِيهِ) في ذلك الشجر (تُسِيمُونَ) ترعون ماشيتكم.

[١١] (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ) بماء السماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) جميع أنواع أشجار الأثمار (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً) على الله سبحانه (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في الآيات.

[١٢] (وَسَخَّرَ) ذلل لمنافعكم (لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) كلها مذللات (بِأَمْرِهِ) تعالى وإرادته ، لا أنه تعالى مجبور فيما يفعل ولا أنها تفعل ما تشاء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم.

[١٣] (وَ) سخر (ما ذَرَأَ) خلق (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) من حيوان ونبات ومعدن (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) بألوان مختلفة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يتذكرون.

[١٤] (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) لحم السمك ، فإن لحومهم كانت غالبا يابسة لأنهم كانوا يصنعونها قديدا (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) كاللؤلؤ والمرجان (تَلْبَسُونَها) للزينة (وَتَرَى الْفُلْكَ) السفينة (مَواخِرَ) جمع ماخرة أي تشق الماء (فِيهِ) في البحر (وَلِتَبْتَغُوا) تطلبوا (مِنْ فَضْلِهِ) تعالى بأن تركبوه للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله لنعمه.

٢٨٠