تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[١٥٠] (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى) من الطور (إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ) في حالة الغضب (أَسِفاً) شديد الغضب والتأسف (قالَ) موسى عليه‌السلام (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي بئست خلافتكم حيث عبدتم العجل (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي وعده الذي وعدنيه من أربعين ليلة ، أي تركتموه غير تام (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) من شدة حميته للدين وإظهارا للتنفر من القوم (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) كأنه يريد أن يخرج هو وأخوه من بين القوم (قالَ) هارون عليه‌السلام (ابْنَ أُمَ) جاء باسم الأم استعطافا (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) أي عدوني ضعيفا ، فلم يسمعوا كلامي في كفّهم عن عبادة العجل (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي قاربوا أن يقتلوني (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) أي لا تعاتبني حتى يشمت الأعداء بي ، ويقولون إنك لست محبوبا لدى موسى ولذا يعاتبك (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تؤاخذني كما تؤاخذ عباد العجل الذين ظلموا أنفسهم بالشرك.

[١٥١] (قالَ رَبِّ اغْفِرْ) استر علينا فإن الإنسان يحتاج إلى ستر الله دائما (لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) بمزيد الإنعام (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

[١٥٢] (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) عبدوه (سَيَنالُهُمْ) يلحقهم (غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بقتل بعضهم بعضا (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) بالإشراك.

[١٥٣] (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) بعد السيئات (وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

[١٥٤] (وَلَمَّا سَكَتَ) سكن (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) من الأرض (وَفِي نُسْخَتِها) أي ما نسخ وكتب فيها (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي يخشون الله.

[١٥٥] (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) أي لوقت تكلم الله مع موسى عليه‌السلام ، وذلك لأنهم طلبوا أن يسمعوا كلام الله تعالى (فَلَمَّا) جاءوا قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله عيانا ف (أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة فماتوا جميعا (قالَ) موسى عليه‌السلام (رَبِّ لَوْ شِئْتَ) لو أردت إهلاكهم (أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) حضورهم الميقات (وَإِيَّايَ) بأن تهلكني معهم أيضا ، وذلك لأنه يتهمني بنو إسرائيل بأنّي قتلتهم (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ) من طلب الرؤية (السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) امتحانك ، والاستفهام للاستعطاف (تُضِلُّ بِها) بالفتنة (مَنْ تَشاءُ) فان الفتنة تكون سببا لإظهار ما في الباطن (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا) الأولى بالتصرف فينا (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ).

١٨١

[١٥٦] (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) حسن المعيشة (وَفِي الْآخِرَةِ) حسن المعيشة (إِنَّا هُدْنا) رجعنا بتوبتنا (إِلَيْكَ قالَ) الله (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ممن استحق العذاب (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فإن الخلق والرزق وما أشبه كلها رحمته (فَسَأَكْتُبُها) أي الرحمة ، بالنسبة إلى الآخرة (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا) بحججنا (يُؤْمِنُونَ).

[١٥٧] (الَّذِينَ) بدل : (الذين يتقون) (يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) إلى الناس (النَّبِيَ) من الله (الْأُمِّيَ) المنسوب إلى مكة أم القرى (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً) اسمه ووصفه (عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) ما يضر دينهم ودنياهم (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) الحمل الثقيل (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأغلال) جمع غل ، وهي الأمور التي قيدتهم من الشرائع والتقاليد ، لأن الإسلام يطلق حريات الناس فلا حمل ثقيل على ظهورهم ، ولا غل في أيديهم وأرجلهم (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) أي عظموه (وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ) القرآن ، وأوّل بأمير المؤمنين علي عليه‌السلام (الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون.

[١٥٨] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) أي كلمات الله كالكتب السابقة (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى الحق وإلى الجنة.

[١٥٩] (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون بين الناس بسبب الحق ، وهم كانوا في عصر موسى عليه‌السلام ، أو بعده ممن آمن بالأنبياء عليهم‌السلام.

١٨٢

[١٦٠] (وَقَطَّعْناهُمُ) فرقنا بني إسرائيل (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) كل قبيلة سبط لانتهاء نسبها إلى أحد أولاد يعقوب عليه‌السلام (أُمَماً) صفة (أسباطا) (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ) طلب منه الماء في التيه (قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) الذي كان معه فضرب (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ) خرجت من الحجر (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل قبيلة (مَشْرَبَهُمْ) المحل الذي يشربون منه (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) السحاب يقيهم الشمس (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ) مادة حلوة (وَالسَّلْوى) قسم من الطير (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا) حيث كفروا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

[١٦١] (وَإِذْ) اذكر يا رسول الله (قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس ، للخلاص من التيه (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي اللهم حطّ ذنوبنا (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) فإذا أردتم أن تدخلوا من باب القرية اسجدوا لله شكرا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابا.

[١٦٢] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بأن قالوا حنطة حمراء خير لنا (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) أنفسهم بالعصيان.

[١٦٣] (وَسْئَلْهُمْ) أي استخبرهم يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبيخا لهم (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) قريبة من البحر وهي إيلة (إِذْ يَعْدُونَ) يتجاوزون حدود الله (فِي السَّبْتِ) يوم السبت ، حيث كان صيد السمك محرما عليهم يوم السبت فاتخذوا حياضا متصلة بالبحر فكانت السمك تدخلها في السبت ولا تتمكن من الرجوع فيصيدونها يوم الأحد (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) أي الأسماك (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) ظاهرة على وجه الماء ، لأنها عرفت أمانها هذا اليوم فكانت تظهر (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) لا يعظمون السبت ، أي سائر الأيام (لا تَأْتِيهِمْ) الأسماك (كَذلِكَ) أي هكذا (نَبْلُوهُمْ) نختبرهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) إذ لو لا فسقهم وإرادة الانتقام منهم لم نحرم عليهم صيد السمك يوم السبت.

١٨٣

[١٦٤] (وَإِذْ قالَتْ) عطف على (إذ يعدون) (أُمَّةٌ) جماعة (مِنْهُمْ) من أهل القرية ، لجماعة كانوا يعظون الصائدين للسمك (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) بإماتتهم (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) دون الإهلاك ، قالوا ما الفائدة في نصيحة هؤلاء؟ (قالُوا) الناصحون (مَعْذِرَةً) لأجل أن يكون لنا عذر (إِلى رَبِّكُمْ) نقول له يا رب قد نصحناهم (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) صيد سمك المحرم.

[١٦٥] (فَلَمَّا نَسُوا) ترك الصائدون (ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي النصح الذي ذكرهم الناصحون به (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهم الناصحون فقط (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) الصائدون والتاركون للنصح (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) شديد (بِما) أي بسبب ما (كانُوا يَفْسُقُونَ).

[١٦٦] (فَلَمَّا عَتَوْا) تكبروا (عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) عن صيد السمك (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) مطرودين فانقلبوا قردة.

[١٦٧] (وَإِذْ تَأَذَّنَ) أي أذن وأعلم (رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَ) ليسلطن (عَلَيْهِمْ) على اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ) أي يؤذيهم (سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) لمن آمن (رَحِيمٌ).

[١٦٨] (وَقَطَّعْناهُمْ) أي فرقناهم (فِي الْأَرْضِ أُمَماً) فرقا (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) الذين آمنوا بالأنبياء المتأخرين (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) غير مؤمنين (وَبَلَوْناهُمْ) اختبرناهم (بِالْحَسَناتِ) بالنعم (وَالسَّيِّئاتِ) النقم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن الكفر والمعاصي ، ليشكروا النعم أو يتضرعوا عند النقم.

[١٦٩] (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد أولئك الأقوام (خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) التوراة (يَأْخُذُونَ عَرَضَ) أي حطام (هذَا الْأَدْنى) يعني الدنيا ، مقابل الآخرة التي هي أبعد (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) أي لا بأس بما نفعله من الحرام فإن الله يغفر لنا (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ) أي مثل هذا العرض الأول (يَأْخُذُوهُ) أيضا ، والمعنى أنهم مصرون على الذنب والعصيان (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي العهد المذكور في الكتاب (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) فكيف يقولون سيغفر لنا وهم مرتكبون للمعاصي (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي قرءوا ما في الكتاب (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) مما يأخذه اليهود من عرض هذا الأدنى (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

[١٧٠] (وَالَّذِينَ) عطف على (للذين) (يُمَسِّكُونَ) يتمسكون (بِالْكِتابِ) التوراة (وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) الذين يصلحون أنفسهم بالطاعة.

١٨٤

[١٧١] (وَ) اذكر (إِذْ نَتَقْنَا) أي قطعنا قطعة من (الْجَبَلَ) ورفعناها (فَوْقَهُمْ) وذلك بقصد إرهابهم (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) هي ما أظل الإنسان (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) ساقط عليهم ، وقلنا لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) من التوراة (بِقُوَّةٍ) بشدة (وَاذْكُرُوا) بالعمل (ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) المعاصي.

[١٧٢] (وَإِذْ) اذكر يا رسول الله زمان (أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أخرج ذرية بني آدم من ظهورهم ، إذ الظهر محل النطفة (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) إذ الفطرة شاهدة على الإنسان (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) استفهام تقرير (قالُوا بَلى شَهِدْنا) فإن فطرة كل إنسان تشهد بالتوحيد (أَنْ تَقُولُوا) وإنما أودع فيهم هذه الفطرة لئلا تقولوا ، أيها البشر (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) أي التوحيد ، وفي الروايات تأويل الآية بعالم الذر (غافِلِينَ).

[١٧٣] (أَوْ تَقُولُوا) عذرا على شرككم (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاتبعناهم تقليدا (أَفَتُهْلِكُنا) يا رب (بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي الآباء الذين أتوا بالباطل.

[١٧٤] (وَكَذلِكَ) كما بينا هذه الآيات (نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من الباطل إلى الحق.

[١٧٥] (وَاتْلُ) اقرأ (عَلَيْهِمْ نَبَأَ) خبر (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) حججنا ، وهو (بلعم) كان عالما وأوتي الاسم الأعظم ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه‌السلام فدعا عليه فانقلب الدعاء على نفس الداعي (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي من الآيات ولم يعمل بعلمه ، كالحيوان الذي ينسلخ من جلده (فَأَتْبَعَهُ) لحقه (الشَّيْطانُ) لأن من ترك جادة الحق لحقه الشيطان لإضلاله (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) الضالين.

[١٧٦] (وَلَوْ شِئْنا) بالإجبار (لَرَفَعْناهُ) إلى منزلة الأخيار (بِها) بسبب الآيات (وَلكِنَّهُ) أي بلعم (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ركن إلى الدنيا (وَاتَّبَعَ هَواهُ) ولم يتبع الشريعة (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) بالطرد والزجر (يَلْهَثْ) يدلع لسانه (أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) فهو في كلا الحالين لاهث بخلاف سائر الحيوانات فإنها تلهث إذا حملت عليها فقط ، فإن بلعما دعا على موسى عليه‌السلام ، وقد كان موسى عليه‌السلام تاركا لبلعم ومع ذلك دعا بلعم عليه (ذلِكَ) المثل (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي انقل لهم أخبار الماضين (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيعتبرون.

[١٧٧] (ساءَ) بئس المثل (مَثَلاً الْقَوْمُ) مثل القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) بتكذيب آيات الله.

[١٧٨] (مَنْ يَهْدِ اللهُ) إلى الإيمان والطاعة (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) حقيقة إذ ليست هداية غيره هداية (وَمَنْ يُضْلِلْ) بتركه حتى يضل (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم.

١٨٥

[١٧٩] (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) خلقنا (لِجَهَنَّمَ) أي تكون عاقبتهم دخول جهنم (كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) لا يفهمون الحق بتلك القلوب (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) آيات الله (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) المواعظ (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفهم والعبرة بالنظر والسمع (بَلْ هُمْ أَضَلُ) لأن الأنعام لا تقدر وهؤلاء يغلقون مشاعرهم مع قدرتهم (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عن الآيات.

[١٨٠] (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الأسماء الحسنة ، فلا سوء في أسمائه وصفاته (فَادْعُوهُ بِها) أي بتلك الأسماء ، فقولوا يا رحمان يا غفار ، وهكذا (وَذَرُوا) اتركوا (الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) أي يميلون عن الحق (فِي أَسْمائِهِ) فيسمون أسمائه على أصنامهم (سَيُجْزَوْنَ) في الآخرة (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإلحاد والعصيان.

[١٨١] (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) أي جملة من الخلق (أُمَّةٌ) جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) يحكمون بالعدل بين الناس.

[١٨٢] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نقربهم إلى الهلاك درجة درجة (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) حيث إن تواتر النعم عليهم استدراج لأنها تشغلهم عن الحق.

[١٨٣] (وَأُمْلِي لَهُمْ) أمهلهم (إِنَّ كَيْدِي) أي بطشي واستدراجي ، وسمّي كيدا ، لان ظاهره نعمة وباطنه نقمة (مَتِينٌ) قوي محكم.

[١٨٤] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) جنون (إِنْ هُوَ) ما هو (إِلَّا نَذِيرٌ) منذر عن عذاب الله (مُبِينٌ) واضح.

[١٨٥] (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر اعتبار (فِي مَلَكُوتِ) الملك العظيم الدال على وجود الله (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) بيان (ما) والمراد به أصناف الخلق (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أفلم ينظروا احتمال اقتراب أجلهم فيبادروا إلى الإيمان (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي بعد القرآن مع وضوح دلالته ، والاستفهام للتوبيخ (يُؤْمِنُونَ).

[١٨٦] (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بتركه حتى يضل (فَلا هادِيَ لَهُ) يجبره على الإيمان (وَيَذَرُهُمْ) يتركهم (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) العمه عمى القلب.

[١٨٧] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي القيامة (أَيَّانَ) متى (مُرْساها) إرسائها أي إثباتها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) لا يعلم وقتها أحد (لا يُجَلِّيها) لا يظهرها (لِوَقْتِها) في وقتها (إِلَّا هُوَ) فعنده علمها وبيده إقامتها (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عظمت على أهل السماء والأرض لخوفهم منها (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) فجأة فيكون هولها أعظم (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌ) مستقص في السؤال (عَنْها) فتعلم وقتها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) فالله وحده يعلم وقتها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن علمها خاص بالله تعالى.

١٨٦

[١٨٨] (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) بان يملكني إياه بالإعطاء والإلهام (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ما غاب عن الحواس ، أي إذا كنت أعلمه بدون تعليم الله لي (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي طلبت لنفسي خيرا كثيرا (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) لأني كنت أتجنب مواقع السوء (إِنْ أَنَا) ما أنا (إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون بالإنذار والبشارة.

[١٨٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) آدم عليه‌السلام لأنه أول الخلق (وَجَعَلَ مِنْها) من جنس تلك النفس (زَوْجَها) حواء (لِيَسْكُنَ) الرجل (إِلَيْها) إلى زوجه سكون الزوج إلى زوجته (فَلَمَّا تَغَشَّاها) جامعها (حَمَلَتْ) المرأة (حَمْلاً خَفِيفاً) لأن النطفة خفيفة (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت المرأة بالحمل لأنه خفيف فتجيء وتذهب كالسابق (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) المرأة بكبر الحمل (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) الزوجان (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) ولدا صالحا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على هذه النعمة.

[١٩٠] (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ) لله (شُرَكاءَ) بأن أشركوا بالله (فِيما آتاهُما) الله ، فسموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إنه أعلى من أن يكون له شريك.

[١٩١] (أَيُشْرِكُونَ) مع الله (ما) صنما (لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ) تلك الأصنام (يُخْلَقُونَ) فإن الصنم ينحته الإنسان والاستفهام للإنكار.

[١٩٢] (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) الأصنام (لَهُمْ) لعبدتها (نَصْراً) فإن الصنم لا ينصر أحدا (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) إذ لا يتمكن الصنم من دفع الأذى عن نفسه.

[١٩٣] (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي تدعوا المشركين ، أيها المسلمون (إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ساكتون فإنهم معاندون.

[١٩٤] (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بأن تجعلوهم آلهة (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) فإن كل شيء في الكون عبد ومملوك لله (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنهم آلهة.

[١٩٥] (أَلَهُمْ) استفهام إنكار ، والضمير للأصنام (أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ) يأخذون ويعملون (بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي لا حواس لهم فأنتم أفضل منهم ، فكيف جعلتموهم شركاء لله (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الآلهة المزعومة (ثُمَّ كِيدُونِ) أي امكروا أنتم وآلهتكم للخلاص مني (فَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تمهلوني ، وهذا تحدّ لهم وبيان أن الله حافظ لي.

١٨٧

[١٩٦] (إِنَّ وَلِيِّيَ) الذي يتولى أموري (اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) القرآن (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) من عباده.

[١٩٧] (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فالصنم لا ينصر عبّاده ولا نفسه.

[١٩٨] (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي المشركين (إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) سماع انتفاع (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) إذ لا يعتبرون بالنظر فحالهم حال الأعمى.

[١٩٩] (خُذِ الْعَفْوَ) اعف عن الناس ، أو خذ عفو أموال الناس (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) المعروف المستحسن عقلا وشرعا (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) قابل سفههم بالحلم.

[٢٠٠] (وَإِمَّا) (إن) شرطية و(ما) زائدة (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي يوسوسك الشيطان بوسوسة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) التجأ إليه من شر الشيطان (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

[٢٠١] (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) اجتنبوا المعاصي (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) أي خاطر يأتي إلى ذهنهم (مِنَ) قبل (الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) الله سبحانه (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) للرشد فلا يتبعون الشيطان.

[٢٠٢] (وَ) أما (إِخْوانُهُمْ) أي إخوان الشياطين ، وهم الكفار والعصاة ، إذا مسهم طائف (يَمُدُّونَهُمْ) أي يمدون الشياطين باتباع تلك الوسوسة (فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي لا يرجعون عن الغي بل يستمرون في اتباع وسوسة الشيطان.

[٢٠٣] (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) يا رسول الله (بِآيَةٍ) بمعجزة اقترحها الكفار (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي لما ذا لم تختر هذه المعجزة المقترحة بأن تأتي بها (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ) فلا آتي بالمعجزة من عندي وإنما آتي بما يوحي الله إليّ (مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ) دلائل تبصر القلوب ، فتكفي دليلا ، وأية حاجة إلى المعجزة التي تقترحونها (مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

[٢٠٤] (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) الاستماع بسكوت (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

[٢٠٥] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) في قلبك (تَضَرُّعاً) بضراعة وخشوع (وَخِيفَةً) خائفا من عذاب الله (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي فوق السر وأقل من الجهر الرفيع (بِالْغُدُوِّ) صباحا (وَالْآصالِ) جمع أصيل بمعنى العصر (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر ربك.

[٢٠٦] (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم الملائكة أي بالقرب الشرفي منه تعالى (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزهونه عما لا يليق به (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) خضوعا وتذللا.

١٨٨

٨ : سورة الأنفال

مدنية آياتها خمس وسبعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ) حكم (الْأَنْفالِ) وهي ما أخذ عن دار الحرب بغير قتال ، وما أشبهه (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ولمن قام مقامه من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام (فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تجعلوا الأنفال في سبيل آخر (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي الحالة التي بينكم فلا تفسدوها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضي الصلاح.

[٢] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) خافت لمجرد ذكره سبحانه ، لأن عظمته ملأت نفوسهم (وَإِذا تُلِيَتْ) قرأت (عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) فإن الملكة تتقوى بالتكرار (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون أمورهم إليه تعالى.

[٣ ـ ٤] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) إيمانا حقا (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة (وَمَغْفِرَةٌ) غفران لما بدر منهم من السيئات (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) مع الكرامة والتعظيم.

[٥] (كَما) أي جعل الله الأنفال لك ، وان كرهوا كما (أَخْرَجَكَ) الله يا رسول الله (رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) من المدينة لأجل الجهاد (بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) يكرهون الحرب لمشقته.

[٦] (يُجادِلُونَكَ) أي المسلمون الذين خافوا من القتال (فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أنه حق لما ظهر لهم من صحة قولك وصدقك (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) فإنهم كرهوا أن يحاربوا في غزوة بدر كراهة مثل كراهة سياقهم إلى الموت (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) في حالة أنهم يرون الموت بعينهم.

[٧] (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) وعدا حسنا (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) إما العير الآتي من الشام ليغنموه أو النفير إلى الحرب مع قريش (أَنَّها) أي إحداهما (لَكُمْ) إما تغنمون أو تنتصرون (وَتَوَدُّونَ) تحبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) الأبهة والعظمة ، وغير ذات الشوكة هو العير (تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) يثبته (بِكَلِماتِهِ) السابقة التي وعدكم من نصرة الإسلام (وَ) يريد الله أن (يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي يستأصلهم ويهزمهم عن آخرهم.

[٨] (لِيُحِقَ) الله (الْحَقَ) بسبب المحاربة (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) إحقاق الحق.

١٨٩

[٩] (إِذْ) متعلق ب (يحق) أي ذلك حال استجرتم بالله في غزوة بدر (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ) أجاب الله (لَكُمْ) قائلا (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) بعض ردف بعض أتوا لنصرتكم.

[١٠] (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي إمداد الملائكة (إِلَّا بُشْرى) بشارة لكم بالنصر (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) أي بالنصر (قُلُوبُكُمْ) فإن الإنسان إذا عرف أن له مددا اطمئن قلبه (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من العدد والعدد والملائكة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

[١١] (إِذْ) بدل من (إذ يعدكم) (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) يغلبكم النوم (أَمَنَةً مِنْهُ) أمنا من الله ، إذ الآمن يقدر على النوم أما الخائف فلا تغمض له عين (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) المطر ، فقد جنبوا في الليلة ولم يكن لهم ماء للشرب والغسل ، وكان محلهم رمليا رخوا يحتاج إلى الماء ليقوى ، فأنزل الله المطر (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي بالماء من لوث الجنابة (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) إما المراد به الجنابة ، أو وسوسته حيث وسوس إليهم أنهم على باطل ، وإلّا فلما ذا الجنابة وعدم الماء (وَلِيَرْبِطَ) ليشد الله (عَلى قُلُوبِكُمْ) بأن تعلموا أنه يلطف بكم (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) في الأرض الرملية ، إذ الماء يلبد الأرض.

[١٢] (إِذْ) متعلق ب (يثبت) (يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) بالنصر (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) قووا قلوبهم وبشروهم بالنصر (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الخوف من المؤمنين (فَاضْرِبُوا) الكفّار (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي الرؤوس (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أصابع اليد والرجل فإنه يورث الوجع الشديد وشلّ قوى الخصم.

[١٣] (ذلِكَ) العذاب إنما نزل بهم (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (شَاقُّوا) خالفوا (اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدنيا والآخرة.

[١٤] (ذلِكُمْ) العقاب أيها الكفار (فَذُوقُوهُ) في الدنيا (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) في الآخرة.

[١٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) متدانين لقتالكم (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) فلا تنهزموا.

[١٦] (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) وقت الزحف (دُبُرَهُ) بأن أعطاهم خلفه للفرار (إِلَّا مُتَحَرِّفاً) يريد التوجه إلى ناحية أخرى (لِقِتالٍ) لا انه يريد الفرار (أَوْ مُتَحَيِّزاً) منحازا قاصدا (إِلى فِئَةٍ) جماعة ليتقوى بهم حال الحرب (فَقَدْ باءَ) رجع حال فراره (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) يصحبه غضب الله عليه (وَمَأْواهُ) محله (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لأنه مصير سيئ.

١٩٠

[١٧] (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) في بدر ، بقوتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بنصرته لكم (وَما رَمَيْتَ) فإن الرمي صورة كان لك (إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أما الحقيقة فالله كان هو الرامي لإبادتهم ، فعل ذلك ليقهر المشركين (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ) أي يمتحنهم (مِنْهُ بَلاءً) امتحانا (حَسَناً) فائدته لهم (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لاستغاثتكم (عَلِيمٌ) بكيفية نصرتكم عليهم.

[١٨] الأمر (ذلِكُمْ) الذي ذكرنا (وَأَنَ) عطف على (ذلكم) (اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي مكرهم.

[١٩] (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) تطلبوا الفتح والنصرة (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) في بدر ، وهذا خطاب للمؤمنين ، ثم صار التفات الكلام إلى الكفار بقوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) إلى حرب المسلمين (نَعُدْ) إلى نصرهم (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) جماعتكم (شَيْئاً) فإن الله ينصر دينه (وَلَوْ كَثُرَتْ) فئتكم أيها الكفار (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

[٢٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي لا تعرضوا عن أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) كلامه.

[٢١] (وَلا تَكُونُوا) كالكفار الذين (قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لا يعملون بما سمعوا.

[٢٢] (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) ما يدبّ على الأرض (عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) أي الذي لا يسمع سماع فهم ولا يتمكن أن يتكلم (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الحق ، والمراد بشر الدواب الكفار ، لأنهم أسوأ حيث أبطلوا فوائد سمعهم ولسانهم فلا يسمعون الحق ولا يقولون الحق.

[٢٣] (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) بأن أفهمهم الحق لطفا بهم (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) حال عنادهم (لَتَوَلَّوْا) أعرضوا عن الحق جسما (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قلبا.

[٢٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا) أجيبوا (لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) فإن في الإسلام الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ) الإنسان (وَقَلْبِهِ) حتى أنه يريد قلبه شيئا فلا تطيعه جوارحه ، وهذا دليل على شدة سلطة الله تعالى على الإنسان فهو مطلع بمكنونات قلوبكم (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ) تعالى (تُحْشَرُونَ) تجمعون في الآخرة.

[٢٥] (وَاتَّقُوا) خافوا (فِتْنَةً) عذابا (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فإن العذاب إذا جاء يشمل الظالم كفاعل المنكر وغيره كالساكت عن النهي عن المنكر (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فلا تعرضوا أنفسكم لعقابه.

١٩١

[٢٦] (وَاذْكُرُوا) تذكروا (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) حال ما قبل الهجرة (مُسْتَضْعَفُونَ) لقريش (فِي الْأَرْضِ) أرض مكة (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) يأخذوكم بسرعة لأجل التعذيب كما فعلوا ببلال وغيره (فَآواكُمْ) جعل لكم مأوى في المدينة (وَأَيَّدَكُمْ) قواكم (بِنَصْرِهِ) على الكفار (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بعد أن كنتم في حالة الفقر في مكة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

[٢٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بعدم الإتيان بشيء من الدين ، إذ الدين أمانة الله والرسول (وَ) لا (تَخُونُوا أَماناتِكُمْ) فيما بينكم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قبح الخيانة.

[٢٨] (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) امتحان فهل تطيعون الله فيهما أم لا (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) إذا وفيتم بالأمانة.

[٢٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) أي تخافوه فتعملون بأوامره (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) ما تفرقون به بين الحق والباطل ، إذ الملكة إنما تحصل بالتقوى (وَيُكَفِّرْ) يمحي (عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يستر عليكم والستر غير المحو (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

[٣٠] (وَإِذْ) اذكر يا رسول الله زمان (يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يحتالون في مكة لأجل إيذائك (لِيُثْبِتُوكَ) بالوثاق و

الأغلال والحبس (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) يعالج الأمر لأجل إنقاذك (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أعلمهم بالتدبير وعلاج الأمور.

[٣١] (وَإِذا تُتْلى) تقرأ (عَلَيْهِمْ) على الكفار (آياتُنا) آيات القرآن (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) بآذاننا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) فليس القرآن معجزا (إِنْ هذا) ما هذا القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي قصصهم الخرافية.

[٣٢] (وَإِذْ) اذكر يا رسول الله (قالُوا) الكفار (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) القرآن ، واوّل بقصة الغدير حيث نصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام خليفة وإماما من بعده (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) كما أمطرت على قوم لوط (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم.

[٣٣] (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) فرحمة بك لا يعذب قومك ولو كانوا كفارا (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإن بعض كفار مكة كانوا يعتقدون بالله ويستغفرونه ، أو المراد وجود بعض المؤمنين المستغفرين فيهم.

١٩٢

[٣٤] (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) بيان لاستحقاقهم العذاب (وَهُمْ يَصُدُّونَ) يمنعون المؤمنين (عَنِ) زيارة (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي متولي شؤون المسجد حتى يحق لهم منع الناس عنه (إِنْ) ما (أَوْلِياؤُهُ) المسجد (إِلَّا الْمُتَّقُونَ) لا المشركون (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن لا ولاية لهم.

[٣٥] (وَما كانَ صَلاتُهُمْ) أي ما كان يسميه الكفارة صلاة (عِنْدَ الْبَيْتِ) الحرام (إِلَّا مُكاءً) صفيرا (وَتَصْدِيَةً) تصفيقا (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أي السيف يوم بدر ، أو عذاب الآخرة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم.

[٣٦] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا) يمنعوا (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دين الله (فَسَيُنْفِقُونَها) في المستقبل لأجل محاربة المسلمين (ثُمَّ تَكُونُ) الأموال (عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أسباب حسرة لأنهم لا يغلبون المسلمين ويعاقبون في الآخرة (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) في الحرب (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يسلموا (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) يجمعون هنالك في العذاب.

[٣٧] وإنما يمتحن الله الناس بتلك الامتحانات المتقدمة (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ) المشرك والعاصي (مِنَ الطَّيِّبِ) المؤمن المطيع (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) بجمعهم (فَيَرْكُمَهُ) يجمعه كالركام (جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم.

[٣٨] (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) عن الكفر (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من الكفر والعصيان لأن الإسلام يجب ما قبله (وَإِنْ يَعُودُوا) على كفرهم بأن يستمروا عليه ، أو إلى حرب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي دأب الله بالتدمير لمن استمر على الكفر والعصيان.

[٣٩] (وَقاتِلُوهُمْ) أيها المسلمون (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي لا يوجد في البلاد شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ) الطريقة (كُلُّهُ لِلَّهِ) بأن تضمحل الأديان الباطلة (فَإِنِ انْتَهَوْا) من الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيهم على أعمالهم.

[٤٠] (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) يتولى شؤونكم فلا تخشوهم أيها المسلمون (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الذي ينصركم على أعدائكم.

١٩٣

[٤١] (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من الفوائد سواء أخذتموه من الكفار ، أم غير ذلك كأرباح الاكتساب (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) يصرف في ما أمر الله به (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) أقرباء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم الإمام عليه‌السلام والسادة (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع في طريقه ، وهذه الطوائف من السادة (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أي أعطوا الخمس إن تؤمنون بالله (وَ) ب (ما أَنْزَلْنا) من الفتح والآيات (عَلى عَبْدِنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَوْمَ الْفُرْقانِ) الذي ميّز الله فيه الحق من الباطل وهو يوم بدر (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) تلاقى الكفار والمسلمون (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه نصركم.

[٤٢] (إِذْ) بدل من (يوم الفرقان) (أَنْتُمْ) أيها المسلمون (بِالْعُدْوَةِ) هي بمعنى شفير الوادي (الدُّنْيا) أي القريبة من المدينة (وَهُمْ) الكفار (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) جانبه الأبعد من المدينة (وَالرَّكْبُ) وهو العير (١) الذي جاء من الشام إلى المدينة وندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه لغزوه (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعني ساحل البحر (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم والكفار للقتال (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) لعلكم لا تخرجون لما تشاهدون من ضعفكم وقوتهم (وَلكِنْ) الله جمعكم بلا ميعاد (لِيَقْضِيَ اللهُ) أي ينفذ (أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي كائنا لا محالة وهو نصركم (لِيَهْلِكَ) بدل من (ليقضي) (مَنْ هَلَكَ) بالكفر (عَنْ بَيِّنَةٍ) بعد إقامة الحجة عليه بما رأى في بدر من الآيات (وَيَحْيى) بالإيمان (مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).

[٤٣] (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكفار في منامه جماعة قليلة فأخبر أصحابه (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) بان رآهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا فأخبر أصحابه بكثرتهم (لَفَشِلْتُمْ) خوفا منهم (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أمر القتال هل تقدمون أم لا (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) سلمكم من الفشل والتنازع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما في القلوب.

[٤٤] (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) أي إن الله أراكم الكفار عند الاصطفاف (إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) حتى ظن المسلمون أنهم بين سبعين ومائة (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ورأى الكفار المسلمين قليلا أيضا وذلك حتى تتجرّأ كل طائفة في قتال الأخرى (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فإن اختيار كل أمر بيد الله تعالى.

[٤٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أي جماعة كافرة (فَاثْبُتُوا) لقتالهم (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تظفرون.

__________________

(١) العير : القافلة ، وقيل الإبل التي تحمل الميرة ، العير : كل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال ، لسان العرب : ج ٤ ص ٦٢٤.

١٩٤

[٤٦] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) دولتكم ، شبهت بالريح لأن لكل واحد منهما نفوذا وحركة واسعة (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

[٤٧] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) بلادهم ، وهم كفار قريش (بَطَراً) فخرا (وَرِئاءَ النَّاسِ) أي رياء ليثني الناس عليهم بالشجاعة (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دينه (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) إحاطة علم وقدرة فيجازيهم بما عملوا.

[٤٨] (وَإِذْ) اذكر يا رسول الله (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من الكفر ومحاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لا أحد يغلبكم أيها الكفار (وَإِنِّي جارٌ) ناصر (لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ) تلاقت (الْفِئَتانِ) المسلمون والكفار (نَكَصَ) رجع الشيطان (عَلى عَقِبَيْهِ) عقبي رجله كما يفعله المتقهقر ، فإن الشيطان تصور بصورة سراقة وأخذ اللواء وغش الكفار بكلامه ثم لما رأى الملائكة ألقى العلم وشرد (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) أيها الكفار (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) من الملائكة النازلين لنصرة المسلمين (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يعذبني على أيدي الملائكة (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

[٤٩] (إِذْ) اذكر يا رسول الله (يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك في الإسلام (غَرَّ) خدع (هؤُلاءِ) المسلمين (دِينُهُمْ) فإن دينهم أوجب أن يخرجوا إلى الكفار مع قلة المسلمين (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغلب (حَكِيمٌ) أي يفعل حسب المصلحة.

[٥٠] (وَلَوْ تَرى) أيها الرائي (إِذْ يَتَوَفَّى) يقبض أرواح (الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) في بدر (يَضْرِبُونَ) أي في حال كون الملائكة يضربون (وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَ) يقولون لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي المحرق.

[٥١] (ذلِكَ) العذاب بسبب ما (قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من الكفر والعصيان (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) بذي ظلم (لِلْعَبِيدِ).

[٥٢] (كَدَأْبِ) أي دأب وعادة هؤلاء الكفار مثل دأب (آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من سائر الأمم الكافرة (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) كما أخذ كفار مكة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ).

١٩٥

[٥٣] (ذلِكَ) التعذيب للكفار بسبب أن (اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً) مبدلا (نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) بالنقمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي ما بهم من حال إلى حال أسوأكما بدل الكفار حالهم السيئ إلى حال أسوأ هو محاربة الإسلام (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

[٥٤] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بعد عملهم بالمعاصي (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌ) من الأمم المكذّبة (كانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم حيث عصوا وعادوا الأنبياء عليهم‌السلام.

[٥٥] (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) أي الأسوأ من كل دابّة (عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) خبر (إن) وهم شرّ من الدواب لأنهم عطلوا عقولهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

[٥٦] (الَّذِينَ) بدل من (الذين) (عاهَدْتَ مِنْهُمْ) معاهدة عدم الاعتداء وهم بني قريظة عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكررا ثم نقضوا (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) نقض العهد.

[٥٧] (فَإِمَّا) (إن) الشرطية و(ما) الزائدة (تَثْقَفَنَّهُمْ) تدركنهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) أي نكّل بسبب معاقبتهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) من الكفرة فإن معاقبة المجرم توجب عبرة سائر الناس حتى لا يجرموا (لَعَلَّهُمْ) أي لعل من خلفهم (يَذَّكَّرُونَ) يتّعظون.

[٥٨] (فَإِمَّا) وإن (تَخافَنَ) يا رسول الله (مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) بأن ظهرت علاماتها بعد المعاهدة (فَانْبِذْ) اطرح عهدهم (إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) مستوى أنت وهم ، فكما نقضوا عهدك أعلمهم أن لا عهد بينك وبينهم حتى لا يتهموك بالخيانة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) فلا تفعل ما يوهم الخيانة.

[٥٩] (وَلا يَحْسَبَنَ) ولا يظنّ (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي أنهم فاتوا الله فلا يتمكن من إدراكهم ، كمن يسبق في الركض من يريد أخذه ، ف (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) الله بل يقدر على أخذهم مهما تصوروا أنهم خرجوا عن قبضة الله.

[٦٠] (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) لحرب الكفار (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) قوة العلم والسلاح وغيرها (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي ما يربط لأجل الجهاد (تُرْهِبُونَ بِهِ) تخوفون بالخيل (عَدُوَّ اللهِ) كفار مكة (وَ) ترهبون (عَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ) سائر الكفار (مِنْ دُونِهِمْ) أي دون كفار مكة عداوة لكم (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لا تعرفون سائر الكفار بأعيانهم (اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَ) أي يرد جزاؤه (إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بنقص أجركم.

[٦١] (وَإِنْ جَنَحُوا) مال الكفار (لِلسَّلْمِ) للصلح (فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

١٩٦

[٦٢] (وَإِنْ يُرِيدُوا) أي الكفار (أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالسلم ، لأجل تجميع قواهم (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) هو يكفيك شرّهم (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ) قوّاك (بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ).

[٦٣] (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مع أنهم كانوا قبل الإسلام من ألد الأعداء (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته البالغة (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

[٦٤] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) يكفيك (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بيان (من) ، أي لا تهتم بمن لا يساعدك في الحرب.

[٦٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ) رغب (الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ) بسبب أن الكفار (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون أنهم يحاربون الله والله ينتصر عليهم ، أو لا يفقهون ثواب الآخرة فليست عزيمتهم شديدة.

[٦٦] (الْآنَ) وبعد أن كثر المسلمون ولم يكن بضائرهم كالمسلمين الأولين (خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) فلم يوجب الجهاد إذ كان المسلمون عشر الكفار (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) ضعف إيمان (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) في الحرب ، وقد وصلت حالة المسلمين في بعض الحروب إذ حارب ستون منهم ستين ألف من الكفار.

[٦٧] (ما كانَ) لا يحل (لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) بأن ينهي الحرب بسرعة ليأخذ الكفار أسرى لأجل الاسترقاق وأخذ البدل منهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي يبالغ في قتل المشركين وذلك لتقليلهم حتى لا تستمر المؤامرات والحروب ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) (تُرِيدُونَ) أيها المسلمون (عَرَضَ الدُّنْيا) مال الدنيا الذي هو بمعرض الزوال (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فإن في ذلك قوة المسلمين وتوسيع نطاق الآخرة بين الناس (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

[٦٨] (لَوْ لا كِتابٌ) حكم (مِنَ اللهِ سَبَقَ) بأن لا يعذب الناس إلا بعد بيان الحكم (لَمَسَّكُمْ) أي أصابكم أيها المسلمون (فِيما أَخَذْتُمْ) من الفداء (عَذابٌ عَظِيمٌ) لأن ذلك سبب عدم شوكة الإسلام.

[٦٩] (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) من الفداء وسائر الغنائم (حَلالاً) شرعا (طَيِّباً) تميل إليه النفس (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) وهذا أقرب إلى التهديد للمشركين.

١٩٧

[٧٠] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الذين أسرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) بأن تؤمنوا (يُؤْتِكُمْ) يعطكم (خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٧١] (وَإِنْ يُرِيدُوا) الأسرى (خِيانَتَكَ) بأن يخونوك ثانيا فلا يهمنّك إذ قد (خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بأن كفروا وجاءوا لحربك في بدر (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي تمكن من القضاء عليهم يوم بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

[٧٢] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا) أهل المدينة الذين أعطوا السكنى للمهاجرين (وَنَصَرُوا) المسلمين (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يتولى بعضهم بعضا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لأنهم لم يهاجروا فلستم أنتم أولياؤهم (حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) أي طلب المؤمنون غير المهاجرين نصرتكم لهم على الكفار (فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) أي يجب عليكم أن تنصروهم (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي معاهدة عدم القتال فلا تنصروا المسلمين غير المهاجرين إذا وقع بينهم وبين المعاهدين مناوشات (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

[٧٣] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي إن لا يتولى بعضكم بعضا أيها المؤمنون (تَكُنْ فِتْنَةٌ) محنة لأن المسلمين إذا لم يشد بعضهم بعضا تقع الفتن والفساد لغلبة المفسدين على الأرض (فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ).

[٧٤] (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أهل مكة (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا) من أهل المدينة (وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم حققوا جميع أوامر الله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) مع الكرامة.

[٧٥] (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي بعد فتح مكة (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) أيها المسلمون (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) من جملتكم في كل الأحكام (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي الأقرباء (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) حكم الله ، والأولوية في كل شيء من الإرث وغيره (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

١٩٨

٩ : سورة التوبة

مدنية آياتها مائة وتسع وعشرون

[١ ـ ٢] (بَراءَةٌ) أي انقطاع عصمة وأمن (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلا عهد بعد الآن بينكم وبينهم (١) (فَسِيحُوا) أي سيروا أيها المشركون (فِي الْأَرْضِ) في أمن وسلام (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فقط ، وبعده لا عهد ولا أمان (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تتمكنون من تعجيزه حتى لا يقدر على أخذكم (وَ) اعلموا (أَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) مذلهم في الدارين.

[٣] (وَأَذانٌ) إعلام (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) فإن الإعلام صار في هذا اليوم على لسان الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وهذا مقابل العمرة التي تسمى بالحج الأصغر (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فليسوا بعد هذا تحت الحماية والمعاهدة (وَرَسُولِهِ) بريء منهم (فَإِنْ تُبْتُمْ) أيها المشركون من الشرك (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الإيمان (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تتمكنون من تعجيزه (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم.

[٤] (إِلَّا) استثناء من (براءة) (الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) من شروط العهد (شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا) لم يعاونوا الكفار (عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) المقررة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين لا ينقضون العهد.

[٥] (فَإِذَا انْسَلَخَ) خرج كما ينسلخ المذبوح عن جلده (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، أو المراد الأشهر الأربعة مدة الأمان (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ) بالأسر (وَاحْصُرُوهُمْ) في أماكنهم بالحبس عن التحرك (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي بكل طريق لأجل المحاربة معهم (فَإِنْ تابُوا) عن الكفر والعصيان (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) دعوهم ولا تعرّضوا لهم لأنهم أسلموا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٦] (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين أمرت بقتالهم (اسْتَجارَكَ) طلب منك الأمان (فَأَجِرْهُ) آمنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويتدبره لعله يؤمن (ثُمَّ أَبْلِغْهُ) أوصله (مَأْمَنَهُ) موضع أمنه إن لم يسلم (ذلِكَ) الأمن له حتى يسمع كلام الله (بِأَنَّهُمْ) بسبب انهم (قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة الإيمان فلعلهم يقبلون إذا سمعوا كلام الله.

__________________

(١) وذلك لنقض المشركين العهود.

١٩٩

[٧] (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) مع أنهم ينوون الغدر من حين العهد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فإن بني ضمرة دخلوا عهد قريش يوم الحديبية ثم إن قريش نقضوا عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن بني ضمرة لم ينقضوا العهد فأمر الله المسلمين بإبقائهم على عهدهم (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) فما دام استقام المعاهدون (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على الوفاء (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين لا ينقضون العهد.

[٨] (كَيْفَ) يكون لهم عهد (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يغلبوا عليكم (لا يَرْقُبُوا) لا يراعوا (فِيكُمْ إِلًّا) حلفا (وَلا ذِمَّةً) عهدا (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) يظهرون لكم الموالاة بمجرد اللفظ (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) ما يقولونه ، لأن قلوبهم منطوية على الغدر (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله متمردون عن الوفاء.

[٩] (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) فباعوا القرآن والدّين ، واشتروا بدله الهوى والشهوة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي منعوا الناس عن دين الله (إِنَّهُمْ ساءَ) بئس (ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

[١٠] (لا يَرْقُبُونَ) لا يراعون أي المشركون (فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا) حلفا (وَلا ذِمَّةً) عهدا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) المجاوزون للحد.

[١١] (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) عاملوهم معاملة الأخ (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) نشرحها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأن العالم هو الذي يستفيد من الآيات.

[١٢] (وَإِنْ نَكَثُوا) نقضوا (أَيْمانَهُمْ) جمع يمين أي القسم (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا) قدحوا وعابوا (فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) لأنهم نقضوا العهد ، وإنما قال (أئمة) لأنهم الناقضون وسائر الكفار تبع لهم (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) إذ نقضوا اليمين فلا حرمة ليمينكم وعهدكم معهم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) عن النقض والطعن.

[١٣] (أَلا تُقاتِلُونَ) تحريض على القتال (قَوْماً نَكَثُوا) نقضوا (أَيْمانَهُمْ) وهم أهل مكة (وَهَمُّوا) عزموا (بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) حيث تشاوروا في دار الندوة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) بالمحاربة (أَوَّلَ مَرَّةٍ) فأنتم مدافعون (أَتَخْشَوْنَهُمْ) في قتالهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) في إطاعة أمره بقتالهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

٢٠٠