تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[٢٩] (فَلَمَّا قَضى) أتم (مُوسَى الْأَجَلَ) المدة وهي أبعد الأجلين (وَسارَ بِأَهْلِهِ) سافر مع زوجته قاصدا أرض مصر (آنَسَ) أبصر (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) جبل الطور (ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) اصبروا (إِنِّي آنَسْتُ) أبصرت (ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) عن الطريق حيث كان ضلّ الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ) قطعة حيث كان الهواء باردا (مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون بها.

[٣٠] (فَلَمَّا أَتاها) جاء موسى عليه‌السلام إلى النار (نُودِيَ) موسى عليه‌السلام والمنادي كان الله (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) الجانب اليمين من الوادي (فِي الْبُقْعَةِ) المكان (الْمُبارَكَةِ) لأن الله باركها بإنزال الوحي فيها (مِنَ الشَّجَرَةِ) متعلق ب (نودي) (أَنْ يا مُوسى إِنِّي) المتكلم (أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

[٣١] (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا) ألقاها (رَآها تَهْتَزُّ) تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) حية (وَلَّى) أدبر موسى عليه‌السلام (مُدْبِراً) منهزما خوفا من الحية (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من كل خوف.

[٣٢] (اسْلُكْ) أدخل (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) شق القميص مما يلي العنق (تَخْرُجْ) يدك (بَيْضاءَ) ذات بياض كشعاع الشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) لا يشبه بياض البرص (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) أي اجمع يدك على نفسك (مِنَ الرَّهْبِ) من أجل التقوّي من الخوف المسيطر عليك لدى رؤية الحية ، فان ذلك يقوي الأعصاب فلا يظهر الارتعاش على البدن (فَذانِكَ) اليد والعصا (بُرْهانانِ) حجتان (مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أشراف قومه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين من طاعة الله.

[٣٣] (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) يقتلوني بها.

[٣٤] (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي) اجعله رسولا (رِدْءاً) وزيرا ومعينا (يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) يكذبوني ، فإذا كنا اثنين كنا أقدر على المواجهة.

[٣٥] (قالَ) الله : (سَنَشُدُّ) نقوي (عَضُدَكَ) كناية عن تقوية النفس (بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) عليه على الكفار (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) بسوء ، اذهبا (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) عليهم.

٤٠١

[٣٦] (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا) الذي جاء به من الآيات (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) يفتريه وينسبه إلى الله (وَما سَمِعْنا بِهذا) بادعاء النبوة أو بالسحر المفترى كائنا (فِي) زمن (آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

[٣٧] (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) فيعلم أني على حق وأنتم على باطل (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ) محمودة في (الدَّارِ) الدنيا (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) لا يفوز (الظَّالِمُونَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي.

[٣٨] (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) يا جماعة الإشراف (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فأنا إلهكم الوحيد (فَأَوْقِدْ) أشعل النار (لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) لاتخاذ الآجر المطبوخ (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) قصرا عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) لأني أريد أن أصعد القصر فأرى هل هناك إله في السماء يدعي موسى عليه‌السلام وجوده (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) في ادعاء إله آخر.

[٣٩] (وَاسْتَكْبَرَ) تكبر (هُوَ) فرعون (وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بدون استحقاق (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) في يوم القيامة حتى نجازيهم بجزاء أعمالهم.

[٤٠] (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم (فِي الْيَمِ) في البحر (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فليحذر الظالمون في كل زمان.

[٤١] (وَجَعَلْناهُمْ) فرعون وجنوده بتركهم حتى ضلوا ، إذ عاندوا الحق (أَئِمَّةً) رؤساء (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) دعوا أتباعهم إلى ما عاقبته النار (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم.

[٤٢] (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) طردا عن الخير ولعنة الناس (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ممن قبحوا وشوّه خلقتهم.

[٤٣] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) الأمم (الْأُولى) كأقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم‌السلام (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي في حال كون آيات التوراة أنوارا يستبصرون بها (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما يلزم عليهم من العقيدة والشريعة.

٤٠٢

[٤٤] (وَما كُنْتَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) من الجبل الذي كلم الله فيه موسى عليه‌السلام (إِذْ) زمان (قَضَيْنا) أوحينا (إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أمر الرسالة والشريعة (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الحاضرين للوحي إليه.

[٤٥] (وَلكِنَّا) أوحينا إليك خبر موسى عليه‌السلام لتذكير الناس إذ (أَنْشَأْنا) أوجدنا (قُرُوناً) أمما بعد موسى عليه‌السلام (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) مما سبب نسيانهم العبر ، فإن الإنسان إذا طال عمره اغتر أكثر فأكثر فلم يبال بالدين والأحكام فأرسلناك لتذكرهم ما نسوه (وَما كُنْتَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) مدينة شعيب (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) التي وقعت في مدين (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك فنتلو عليك قصة موسى عليه‌السلام وقصة شعيب عليه‌السلام وغيرهما. وهذا إعجاز يجب أن يرضخوا له.

[٤٦] (وَما كُنْتَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى عليه‌السلام بالتورية ، والأول يراد به عند نبوته عند ما ذهب إلى مصر ، والثاني عند ما خرج من مصر (وَلكِنْ) علمناك (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً) قريش وسائر القبائل (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لأنهم لم يكونوا على شريعة بل طالت الفترة بين المسيح عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقارب خمسة قرون (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

[٤٧] (وَلَوْ لا) أن لهم العذر في عدم الإيمان لم نرسلك إليهم ، فإرسالك لأجل قطع عذرهم فلا يقولوا إذا عذبناهم : لما ذا تعذبنا يا رب بدون إرسال الرسول (أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) عقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعاصي (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لو لا هذا القول منهم حال عقابهم لم نرسلك لأنا نعلم عنادهم.

[٤٨] (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن (مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا) هلا (أُوتِيَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن أعطاه الله (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من اليد والعصا وغيرهما (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) فإن في جنس البشر الإشكال والمعاندة (قالُوا سِحْرانِ) ساحران (تَظاهَرا) تعاونا ، أي موسى وأخوه عليه‌السلام (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) من آياتك يا موسى (كافِرُونَ) فإنه لو لا العناد والكفر لكفى القرآن دليلا ، ومع العناد لا تنفع آيات كالعصا واليد.

[٤٩] (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى) أكثر هداية وإرشادا (مِنْهُما) من التوراة والقرآن حتى (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن القرآن افتراء ، كما قال معاصرو موسى عليه‌السلام بأن التوراة كلام موسى لا كلام الله.

[٥٠] (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) لم يجيبوك بإتيان كتاب هو أهدى من الكتابين (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) إذ لو كانوا يتبعون حجة لأتوك بها (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) استفهام إنكاري ، أي لا أحد أضل منه في حال كونه (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) فلا هداية له من قبل الله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر عنادا.

٤٠٣

[٥١] (وَلَقَدْ وَصَّلْنا) أتبعنا البعض ببعض (لَهُمُ الْقَوْلَ) أي القرآن أنزلناه تباعا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فإن التدريج قد يوجب ذهاب العناد.

[٥٢] (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) قبل القرآن (هُمْ بِهِ) بالقرآن (يُؤْمِنُونَ) أي الذين ليسوا بمعاندين ، فإنهم أدرى من الجهال بالحقائق.

[٥٣] (وَإِذا يُتْلى) القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ) أي القرآن (الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) لما رأينا ذكره في الكتب السابقة.

[٥٤] (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرة لإيمانهم بكتابهم ومرة لإيمانهم بالقرآن (بِما صَبَرُوا) بسبب صبرهم على الحق (وَيَدْرَؤُنَ) يدفعون (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) فإن الحسنات تذهب السيئات (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

[٥٥] (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) القول القبيح أو الذي لا فائدة فيه (أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا) فإنا نعمل بهذا ونجازي عليه (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) اللغوية (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) كونوا في سلامة ، وهذا سلام الوداع (لا نَبْتَغِي) لا نطلب مخالطة (الْجاهِلِينَ) الذين هم أنتم.

[٥٦] (إِنَّكَ لا تَهْدِي) لا تصل إلى المطلوب (مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فإن مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإرشاد أما الإيصال إلى المطلوب فإنما يكون بلطف الله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فيجازيهم على هدايتهم.

[٥٧] (وَقالُوا) أي الكفار : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نُتَخَطَّفْ) نؤخذ بسرعة (مِنْ أَرْضِنا) لأن العرب تحاربنا وتخرجنا من بلادنا انتقاما ، قاله بعض الجاهلين (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) هو حرم مكة المكرمة ، فإن العرب لا تحارب من فيه ، والاستفهام لبيان كذب القائل (يُجْبى) يجلب (إِلَيْهِ) إلى الحرم (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من مختلف حاجات الإنسان (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) عندنا لهم ، هذا وهم كفرة فكيف نعاملهم إذا أسلموا وزادوا على أمن الحرم أمن الإسلام (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما أنعمنا عليهم.

[٥٨] (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) استعملتها في البطر والطغيان (١) ، فقد كانوا مثلكم في الدعة والرزق فلما بطروا أهلكناهم (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) خربة (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) للمارة عند العبور أو بعض البيوت (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) إذ لم نخلف لهم ورثة يرثون تلك البيوت.

[٥٩] (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) في القرية الكبيرة التي تلك القرى تكون حولها (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) فإذا كفروا بالآيات أهلكناها (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) لأنفسهم بالكفر والعصيان.

__________________

(١) مؤنث مجازي.

٤٠٤

[٦٠] (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من أسباب الدنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) تتمتعون بها (وَزِينَتُها) تتزينون بها في الدنيا (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب على الأعمال الصالحة (خَيْرٌ) لأنه أحسن وأكثر (وَأَبْقى) أدوم لخلود الجنة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فلما ذا تقدمون الدنيا على الآخرة.

[٦١] (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) بالجنة (فَهُوَ لاقِيهِ) يلقى ذلك الوعد (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الذي هو فان ومشوب بالآلام (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) يحضر للحساب والعقاب ، والاستفهام لبيان عدم استواء الشخصين.

[٦٢] (وَ) اذكر (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) يناديهم الله في يوم القيامة (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) الأصنام التي جعلتموها شركاء لي (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تحسبون أنها شركائي.

[٦٣] (قالَ الَّذِينَ حَقَ) ثبت (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بالعذاب ، لأنه سبحانه قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) والمراد بهم رؤساء الكفار : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي هؤلاء أتباعنا الذين أغويناهم (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) نحن بأنفسنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) أي نحن براء من هؤلاء الاتباع ونعلن براءتنا منهم إليك (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي لم تكن عبادة هؤلاء الأتباع لنا ولأجلنا بل عبدوا باختيارهم فإثمهم يقع على أنفسهم.

[٦٤] (وَقِيلَ) من قبل الله تعالى للمشركين : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) الأصنام لينجوكم من عذاب الله (فَدَعَوْهُمْ) فدعى المشركون الأصنام (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا) تلك الأصنام (لَهُمْ) للمشركين (وَرَأَوُا الْعَذابَ) المهيأ لهم (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) في الدنيا لما رأوا العذاب.

[٦٥] (وَ) اذكر (يَوْمَ) القيامة حيث (يُنادِيهِمْ) ينادي الله الكفار (فَيَقُولُ) لهم : (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين عليهم‌السلام.

[٦٦] (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) الأخبار ، صارت كأنها عمياء لا تهتدي إليهم ، حتى يتمكنوا من الجواب (يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا لشدة دهشتهم ، فلا يتمكنون من الجواب هم بأنفسهم ولا يتمكنون من السؤال عن غيرهم حتى يحصلوا على الجواب.

[٦٧] (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى) لعله (أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الفائزين ، ولفظة (عسى) في هذه المقامات ترج من التائب.

[٦٨] (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) ما يشاء (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أن يختاروا فكيف اختاروا الأصنام آلهة (سُبْحانَ اللهِ) أنزهه تنزيها (وَتَعالى) ترفّع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن الأصنام التي يشركونها بالله.

[٦٩] (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُ) تخفي (صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) فيجازيهم على كل ذلك.

[٧٠] (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) الدنيا (وَالْآخِرَةِ) لأن كل النعم منه (وَلَهُ الْحُكْمُ) بين الناس إذ ليس لأحد أن يحكم سواه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إلى جزائه رجوع الكل.

٤٠٥

[٧١] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) سماع تدبر.

[٧٢] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكان الشمس فوق الأرض (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) للاستراحة (أَفَلا تُبْصِرُونَ) هذه الآيات.

[٧٣] (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا) تطلبوا (مِنْ فَضْلِهِ) في النهار (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه تعالى.

[٧٤] (وَ) اذكر (يَوْمَ) القيامة إذ (يُنادِيهِمْ) الله (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) الأصنام (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

[٧٥] (وَنَزَعْنا) أخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) نبيهم أو إمامهم أو من قام مقامهما ، الشهيد عليهم بما عملوا من الكفر والمعاصي (فَقُلْنا) للأمم : (هاتُوا) ائتوا (بُرْهانَكُمْ) دليلكم على صحة شرككم في الدنيا (فَعَلِمُوا) حينذاك علما وجدانيا (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) في الألوهية (وَضَلَ) غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي الأصنام التي جعلوها إلهة كذبا وافتراء.

[٧٦] (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي من بني إسرائيل (فَبَغى) استطال وتكبر (عَلَيْهِمْ) على القوم (وَآتَيْناهُ) أعطيناه (مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) جمع مفتح بمعنى المفتاح (لَتَنُوأُ) تثقل (بِالْعُصْبَةِ) بالجماعة (أُولِي الْقُوَّةِ) أصحاب القوة لكثرة المفاتيح فما ظنك بمقدار الكنوز (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) بهذه الأموال بطرا ورئاء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) بالبطر.

[٧٧] (وَابْتَغِ) اطلب (فِيما آتاكَ) أعطاك (اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تنفق في سبيل الله (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) فإن هذا الذي جاءك من الدنيا إن لم تصرفه في أمر الآخرة فقد نسيت نصيبك ، ومعناه اطلب كلّا من الآخرة والدنيا بهذه الأموال (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) بأن أعطاك هذه الأموال (وَلا تَبْغِ) لا تطلب (الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) يكرههم بسوء أعمالهم.

٤٠٦

[٧٨] (قالَ) قارون تكبرا وانصرافا عن الحق : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فليس لله فضل عليّ وإنما علمي بكيفية جمع الأموال هو الذي ساق هذا المال إليّ (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) الأمم الكافرة (مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ) من قارون (قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال والاستفهام للإنكار والتخويف ، أي كيف ينكر صنع الله وقد علم حالة الأمم الطاغية (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) لأن الله يعلم أعمالهم فيجازيهم عليها ، وفي هذا زيادة تهديد وإنما السؤال الذي يقع بالنسبة إلى المجرمين إنما هو لتذكيرهم وفضحهم أمام الناس.

[٧٩] (فَخَرَجَ) قارون بطرا وكبرياء (عَلى قَوْمِهِ) بني إسرائيل (فِي زِينَتِهِ) تزين بأنواع الجواهر والحلي وخرج يريهم ماله وثروته (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) من المال والثروة (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ) نصيب من الدنيا (عَظِيمٍ) كبير.

[٨٠] (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أعطوا العلم بأحوال الآخرة وثوابها : (وَيْلَكُمْ) هلاكا لكم ، وهي كلمة زجر (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة (خَيْرٌ) من أموال قارون (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها) أي لا يعطي الله مثوبة الآخرة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) الذين صبروا على أوامر الله تعالى.

[٨١] (فَخَسَفْنا بِهِ) بقارون (وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) بأن ابتلعت الأرض قارون وداره التي فيها خزائنه (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أعوان وجماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) بأسه (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) بأن يقدر هو على دفع العذاب عن نفسه.

[٨٢] (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) منزلة قارون في المال والجاه (بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ) وي كلمة تعجب كأن الله أي كأن بسط الرزق وتقتيره ليسا لكرامة الإنسان على الله أو إهانته بل لمصالح خاصة حسب مشيئته تعالى (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) عبيده (وَيَقْدِرُ) يضيق لمن يشاء (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) حيث لم يعطنا مثله (لَخَسَفَ) الله الأرض (بِنا) لأن المال يولد فينا ما أولده في قارون (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ) لا يفوز بخير الدارين (الْكافِرُونَ) بنعم الله ، والإتيان بلفظ كأن تواضع منهم ، إذ الجزم في الأمر دليل على أن المتكلم يرى نفسه عالما.

[٨٣] (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها) خبر (تلك) (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا) غلبة استعلاء (فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) وظلما (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الكفر والمعاصي.

[٨٤] (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) العقيدة والعمل الحسن (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) من جهة الذات والقدر والوصف (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بدون زيادة.

٤٠٧

[٨٥] (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ) أوجب (عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) تلاوته وتبليغه والعمل به (لَرادُّكَ) ليردك ويرجعك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِلى مَعادٍ) محل العود أي الآخرة ، أو مكة وذلك حين رجع إليها يوم الفتح بعد أن أخرج منها (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) أنفذ علما (مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) واضح ، والمراد أن الله يعلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بما يهدي الناس وأنتم الكفار في ضلال وسيجازي الطرفين كلّا حسب عمله.

[٨٦] (وَما كُنْتَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تَرْجُوا أَنْ يُلْقى) ينزل (إِلَيْكَ الْكِتابُ) القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فرحمته تعالى هي التي سببت إنزال الكتاب ولولاها لم يكن رجاء (فَلا تَكُونَنَ) حيث تفضل الله عليك بالكتاب (ظَهِيراً) معينا (لِلْكافِرِينَ).

[٨٧] (وَلا يَصُدُّنَّكَ) لا يمنعك هؤلاء الكفار (عَنْ) اتباع وتبليغ (آياتِ اللهِ) القرآن (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ) الناس (إِلى رَبِّكَ) بالتوحيد له والطاعة لأمره (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

[٨٨] (وَلا تَدْعُ) لا تعبد (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) يهلك ويموت (إِلَّا وَجْهَهُ) ذاته ، وما هو هالك لا يكون إلها (لَهُ الْحُكْمُ) فإن الحكم على الناس وبين الناس لله وحده (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إلى حكمه وجزائه في الآخرة.

٢٩ : سورة العنكبوت

مكية آياتها تسع وستون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الم) رمز بين الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢] (أَحَسِبَ) هل ظن (النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) هم وشأنهم بدون امتحان لهم ليظهر مدى إيمانهم ، بمجرد (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ) ظنوا أن (هُمْ لا يُفْتَنُونَ) لا يمتحنون ، كلا ليس الأمر كذلك.

[٣] (وَ) الحال (لَقَدْ فَتَنَّا) امتحنا (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) أي يتعلق علمه السابق بهم في حال الامتحان (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) بأن رسبوا في الامتحان.

[٤] (أَمْ) بل (حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الكفر والمعاصي (أَنْ يَسْبِقُونا) فنعجز عن عذابهم ، كما يسبق الشارد من يريد أخذه فلا يقدر عليه (ساءَ) بئس الحكم (ما يَحْكُمُونَ) حكمهم.

[٥] (مَنْ كانَ يَرْجُوا) يأمل (لِقاءَ اللهِ) الوصول إلى ثوابه (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) الوقت الذي وقته الله لإعطاء الثواب (لَآتٍ) ليأتي لا محالة (وَهُوَ السَّمِيعُ) للأقوال (الْعَلِيمُ) بالأحوال.

[٦] (وَمَنْ جاهَدَ) تعب في اتباع أوامر الله (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لأن ثواب الجهاد يرجع إلى نفس المجاهد (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن جهاد المجاهد و (عَنِ الْعالَمِينَ).

٤٠٨

[٧] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَ) لنبطلن (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) فإن الحسنات تذهب السيئات (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ) جزاء العمل ، مثلا أحسن جزاء البنّاء دينار وأوسطه نصفه وأقله ربعه فنعطيه دينارا كاملا (الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

[٨] (وَوَصَّيْنَا) أي أمرنا (الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) بأن يحسن إليهما عملا حسنا (وَإِنْ جاهَداكَ) أي أصر الوالدان عليك أيها الإنسان (لِتُشْرِكَ بِي ما) أي لتجعل شريكي صنما (لَيْسَ لَكَ بِهِ) بذلك الصنم (عِلْمٌ) حيث تعلم أنه ليس شريكا لله ، فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك الشرك (إِلَيَ) إلى جزائي (مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم جميعا (فَأُنَبِّئُكُمْ) أخبركم ، لأجل الجزاء (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير أو شر.

[٩] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي) جملة (الصَّالِحِينَ) الذين لهم الجنة.

[١٠] (وَمِنَ النَّاسِ) وهم المنافقون (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) بأن أصابه أذى في سبيل الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي أذاهم (كَعَذابِ اللهِ) فكما إن خوف العذاب صرفه إلى الإيمان فإن أذى الناس يصرفه إلى الكفر حتى يستريح من أذاهم ، فيرى أنه لا داعي لاستعجال الأذى في سبيل دفع عذاب في المستقبل (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ) فتح وغنيمة (مِنْ رَبِّكَ) للمسلمين (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الدين فأشركونا في الغنيمة (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من الإخلاص والنفاق ، فيجازي كلّا حسب ما في صدره.

[١١] (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم (وَلَيَعْلَمَنَ) الله (الْمُنافِقِينَ) فيجزي كل فريق بما يستحق.

[١٢] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) في الكفر (وَلْنَحْمِلْ) أي نحن نحمل يوم القيامة (خَطاياكُمْ) فلا تعاقبون عليها (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) لأن خطيئة كل إنسان على نفسه (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم (نحمل خطاياكم).

[١٣] (وَلَيَحْمِلُنَ) الكفار (أَثْقالَهُمْ) ذنوبهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) وهي الذنوب التي اقترفوها بسبب إضلال الناس (وَلَيُسْئَلُنَ) هؤلاء الكفار (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الأكاذيب التي ضلوا بها سائر الناس ، يسألون عنها لأجل الجزاء.

[١٤] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ) مكث (فِيهِمْ) يدعوهم إلى الإيمان (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فلم يجيبوه (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أغرقهم الماء الكثير (وَهُمْ ظالِمُونَ) لأنفسهم بالكفر والعصيان.

٤٠٩

[١٥] (فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا عليه‌السلام (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) الذين ركبوا معه من المؤمنين (وَجَعَلْناها) أي قصة نوح عليه‌السلام (آيَةً) علامة مبصرة (لِلْعالَمِينَ) ليعلموا مصير الكفار.

[١٦] (وَ) اذكر (إِبْراهِيمَ إِذْ) زمان (قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) اجتنبوا الكفر والمعاصي (ذلِكُمْ) أي الاتقاء و(كم) للخطاب (خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم فيه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لعلمتم أن ذلك خير لكم.

[١٧] (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أصناما (وَتَخْلُقُونَ) بنحت الأصنام (إِفْكاً) كذبا ، إذ ليست هذه آلهة (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) فان الأصنام لا ترزق الناس (فَابْتَغُوا) اطلبوا (عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) إذ هو الرازق (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إلى جزائه رجوعكم في الآخرة.

[١٨] (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) تكذبوني (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) الرسل فلم يضر الرسل تكذيبهم (وَما) يجب (عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) التبليغ (الْمُبِينُ) الظاهر ، أما إيمان الناس وعدم إيمانهم فليس الرسول مكلفا به.

[١٩] (أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الذين ينكرون البعث (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) ينشئه ويخلقه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أحياء بعد الموت كما بدأه (إِنَّ ذلِكَ) أي الإعادة (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل.

[٢٠] (قُلْ سِيرُوا) سافروا أيها الكفار (فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) الله (الْخَلْقَ) فإن المسافر يرى من عجائب خلق الله ما يأخذ بقلبه إلى الإيمان (ثُمَّ اللهُ) هكذا ، كما بدأ (يُنْشِئُ) يخلق (النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي الحياة بعد الموت (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) الإنشاء والإعادة (قَدِيرٌ).

[٢١] (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استحق العقاب (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) ممن هو أهل الرحم (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي ترجعون لأجل الحساب.

[٢٢] (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) الله (فِي الْأَرْضِ) بأن تهربوا ، فلا يتمكن من أخذكم وعقابكم (وَلا فِي السَّماءِ) بأن تصعدون في أطباق السماء للفرار منه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يلي أموركم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم.

[٢٣] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) أي جحدوا البعث الذي فيه لقاء ثواب الله وعقابه (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي لا بد لهم أن ييأسوا من رحمة الله لأنهم كفروا به (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

٤١٠

[٢٤] (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) قوم إبراهيم عليه‌السلام (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) حين قذفوه فيها بجعل النار بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنجاء (لَآياتٍ) أدلة على وجود الله ونصرة أوليائه وخذلان أعدائه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون بالآيات.

[٢٥] (وَقالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ) عبدتم (مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله (أَوْثاناً) أصناما (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) أي لتوادوا وتحابوا بينكم لأن الأصنام هي رابطة اجتماعكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فان هذه المودة خاصة بهذه الحياة (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فيكون بينكم التعادي والتلاعن (وَمَأْواكُمُ) محلكم ومصيركم (النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونكم من عذاب الله.

[٢٦] (فَآمَنَ لَهُ) لإبراهيم عليه‌السلام (لُوطٌ) وكان من أقربائه (وَقالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني ربي ، فذهب من العراق إلى الشام (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) في ما يفعل.

[٢٧] (وَوَهَبْنا لَهُ) أعطينا إبراهيم عليه‌السلام (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ) ذرية إبراهيم عليه‌السلام (النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) بأن أنزلنا الكتب السماوية على أولاده كموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَآتَيْناهُ) أعطيناه (أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) بالذكر الحسن (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فيدخل الجنة.

[٢٨] (وَ) اذكر (لُوطاً) النبي عليه‌السلام (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) تفعلون اللواط (ما سَبَقَكُمْ بِها) بهذه الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) فإنكم أول من ابتدعها.

[٢٩] (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) تفعلون بهم ، والاستفهام للإنكار (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) فإن المارة كانوا لا يمرون بقربهم حيث علموا بفعلهم السيئ مع المارة (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) محل اجتماعكم (الْمُنْكَرَ) فكانوا يلوطون ويتضارطون ويفعلون سائر المنكرات في مجالسهم بلا حياء (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) الذي تعدنا به على أعمالنا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أن الله يعذبنا على هذه الأعمال.

[٣٠] (قالَ) لوط عليه‌السلام عند ذلك : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بإنزال العذاب لإفنائهم.

٤١١

[٣١] (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا) الملائكة (إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) يبشرونه بإسحاق عليه‌السلام (قالُوا) أي الملائكة لإبراهيم عليه‌السلام : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية لوط عليه‌السلام (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم بالكفر والعصيان.

[٣٢] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (إِنَّ فِيها لُوطاً) فكيف تهلكونها (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) بالذين في القرية (لَنُنَجِّيَنَّهُ) أي لوطا عليه‌السلام (وَ) ننجي (أَهْلَهُ) المؤمنين (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في القرية حتى تهلك لأنها كانت كافرة.

[٣٣] (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا) الملائكة ، من عند إبراهيم عليه‌السلام (لُوطاً) إلى لوط عليه‌السلام (سِيءَ) لوط عليه‌السلام (بِهِمْ) بالملائكة ، أي ساءه مجيئهم لما رأى فيهم من الجمال فخاف عليهم من قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) ضاق صدره عن مجيء هؤلاء الضيوف ، والذرع كناية عن الطاقة (وَقالُوا) أي الملائكة للوط عليه‌السلام : (لا تَخَفْ) من قومك علينا (وَلا تَحْزَنْ) إنا ملائكة من الله لأجل إهلاك القوم (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) في العذاب.

[٣٤] (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم.

[٣٥] (وَلَقَدْ تَرَكْنا) أبقينا (مِنْها) من القرية بعد تدميرها (آيَةً) علامة المنازل الخربة المقلوبة (بَيِّنَةً) واضحة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم.

[٣٦] (وَإِلى مَدْيَنَ) أرسلنا إلى قوم مدين (أَخاهُمْ) في القبيلة (شُعَيْباً) ولا يخفى أن تكرار هذه القصص للتركيز في الأذهان ، ولأن العرب كانوا يعرفون بعضها إجمالا ، لأن هؤلاء الأمم سكنوا في الجزيرة وحواليها ، ولأن أهل الكتاب كانوا يصدقون بها ، وقد جاءت القصة في كل مرة بمزايا لم تذكر في مرة أخرى ، ولأن التكرار أدعى إلى التحدي إذ يظهر عجز العرب عن الإتيان بمثلها أكثر فأكثر ، إلى غير ذلك (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي افعلوا ما ترجون بسببه ثواب الآخرة (وَلا تَعْثَوْا) لا تسعوا (فِي الْأَرْضِ) في حال كونكم (مُفْسِدِينَ) فيها.

[٣٧] (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ميتين ساقطين على وجوههم.

[٣٨] (وَ) اذكر (عاداً) قوم هود عليه‌السلام (وَثَمُودَ) قوم صالح عليه‌السلام (وَقَدْ تَبَيَّنَ) ظهر (لَكُمْ) أيها الكفار ، (مِنْ مَساكِنِهِمْ) التي تمرون عليها في أسفاركم أنهم أهلكوا وعذبوا لما تشاهدون من آثار ديارهم الخربة (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) بأن رأوها حسنة (فَصَدَّهُمْ) منعهم الشيطان (عَنِ السَّبِيلِ) طريق الحق (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) متمكنين من النظر لكنهم لم ينظروا فأهلكوا.

٤١٢

[٣٩] (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) بالأدلة الواضحة (فَاسْتَكْبَرُوا) تكبروا عن قبول الحق والعمل الصالح (فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) لم يفوتونا بل أخذناهم.

[٤٠] (فَكُلًّا) من المذكورين (أَخَذْنا) عاقبناه (بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا فيها حصباء وهي الحجارة ، وهم قوم لوط عليه‌السلام (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) صيحة جبرئيل عليه‌السلام فأهلكهم وهم ثمود ومدين (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح عليه‌السلام وفرعون (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) حيث عذبهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والعصيان حتى استحقوا العقاب.

[٤١] (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله (أَوْلِياءَ) آلهة (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) فالمشركون كالعنكبوت حال كونها (اتَّخَذَتْ بَيْتاً) صنعت بيتا ضعيفا موهونا (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) أضعفها (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لعلموا أن بناءهم كبناء العنكبوت ، فكما إن بيت العنكبوت إنما هو لأجل الرزق فقط ولا ينفعها في حر ولا برد ولا بقاء له ، كذلك دين المشركين لا مستقبل له ولا ينفعهم.

[٤٢] (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما) الأصنام التي (يَدْعُونَ) أي المشركون إياها (مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) بيان (ما) (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) ومن حكمته لا يعاجلهم بالعقوبة.

[٤٣] (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) هذه الأمثال ونظائرها (نَضْرِبُها) نذكرها (لِلنَّاسِ) تقريبا إلى أفهاههم (وَما يَعْقِلُها) لا يفهم فائدتها (إِلَّا الْعالِمُونَ) الذين يريدون التعلم.

[٤٤] (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) لم يقصد بهما عبثا وباطلا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الخلق (لَآيَةً) دليلا على وجود الله وقدرته (لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنهم المنتفعون بالآيات.

[٤٥] (اتْلُ) اقرأ يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) القرآن (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أدها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى) لأنها سبب للانتهاء (عَنِ الْفَحْشاءِ) الفعال القبيحة المتعدية في الفحش والإثم (وَالْمُنْكَرِ) سائر الآثام (وَلَذِكْرُ اللهِ) بأن تكونوا في ذكره (أَكْبَرُ) من الصلاة ، لأن الذكر يقود إلى كل خير (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ما تعملون فيجازيكم عليه.

٤١٣

[٤٦] (وَلا تُجادِلُوا) لا تحاجّوا أيها المسلمون (أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (إِلَّا بِالَّتِي) بالصفة التي (هِيَ أَحْسَنُ) كمقابلة الشدة باللين والغضب بالحلم (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بأن أكثروا في العناد فلا بأس بمقابلتهم بالمثل كبحا لجماحهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) كالتوراة والإنجيل (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ) لله تعالى (مُسْلِمُونَ) منقادون.

[٤٧] (وَكَذلِكَ) أي هكذا (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن مصدقا للكتب السابقة (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أعطيناهم (الْكِتابَ) جنس الكتاب السماوي ، ممن ليس بمعاند (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بما أنزل إليك (وَمِنْ هؤُلاءِ) المشركين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بكتابك أيضا (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) ينكرها مع وضوحها (إِلَّا الْكافِرُونَ) المعاندون في كفرهم.

[٤٨] (وَما كُنْتَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تَتْلُوا) تقرأ (مِنْ قَبْلِهِ) قبل القرآن (مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ) أي لا تكتب شيئا (بِيَمِينِكَ) بيدك (إِذاً) أي لو كنت تقرأ وتكتب (لَارْتابَ) لشك في رسالتك (الْمُبْطِلُونَ) الذين شأنهم الإبطال لكل ما لا يريدونه ، أما الذين يتبعون الحق فلا فرق عندهم إذا رأوا المعجزة أن يكون الآتي بها قارئا وكاتبا أم لا ، فليس القرآن إذا مجموعا من الكتب السابقة أخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها.

[٤٩] (بَلْ هُوَ) القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ) أدلة واضحات (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) حفظها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوحي (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) ينكرها (إِلَّا الظَّالِمُونَ) أنفسهم بترك النظر.

[٥٠] (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) كعصا موسى عليه‌السلام وما أشبه من الخوارق (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) فإذا رأى المصلحة في إنزالها أنزلها (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) منذر لكم عن عذاب الله (مُبِينٌ) ظاهر ، وقد أتيت بما يثبت أني نبي وكفى.

[٥١] (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) آية دالة على صدقه (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) إنزالنا الكتاب (يُتْلى عَلَيْهِمْ) دائما فهو آية لا تزول بخلاف سائر الآيات التي نزلت على الأنبياء السابقين (إِنَّ فِي ذلِكَ) الكتاب المعجز المستمر (لَرَحْمَةً وَذِكْرى) تذكيرا (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون بالقرآن.

[٥٢] (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) شاهدا لصدقي ، إذ لو لا أني صادق لم يجر الله المعجزة على يدي (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه حالي ، فإذا كنت كاذبا لعلم بذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) الأصنام (وَكَفَرُوا بِاللهِ) لم يوحدوه (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.

٤١٤

[٥٣] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) أي الكفار (بِالْعَذابِ) يقولون إن كنت نبيا فأنزل علينا العذاب (وَلَوْ لا أَجَلٌ) وقت (مُسَمًّى) قد سمي لهلاكهم (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلا (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) العذاب (بَغْتَةً) فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.

[٥٤] (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) سيحيط بهم فلما ذا تعجيلهم.

[٥٥] (يَوْمَ) ظرف لقوله (لمحيطة) (يَغْشاهُمُ) يحيط بهم (الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) من جميع الجوانب (وَيَقُولُ) الله لهم (ذُوقُوا ما) جزاء ما (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أعمالكم.

[٥٦] (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فإذا لم تقدروا على إقامة الدين في وطنكم فسافروا (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ولا تشركوا ، وإذا لم تتمكنوا في بلدكم فهاجروا إلى بلد آخر.

[٥٧] (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تنال الموت لا محالة (ثُمَّ إِلَيْنا) إلى جزائنا (تُرْجَعُونَ) في الآخرة.

[٥٨] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ننزلهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) عاليا تشرف على الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت تلك الغرف (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) باقين أبدا (نِعْمَ) تلك الغرف (أَجْرُ الْعامِلِينَ) لأجل الله تعالى.

[٥٩] (الَّذِينَ) صفة (العاملين) (صَبَرُوا) على ما أمرهم الله به (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أمورهم.

[٦٠] (وَكَأَيِّنْ) كم (مِنْ دَابَّةٍ) حيوان (لا تَحْمِلُ) لا تتمكن من إعداد (رِزْقَهَا) لضعفها (اللهُ يَرْزُقُها) بدون إعداد (وَإِيَّاكُمْ) فالقوي والضعيف سواء في إرزاق الله تعالى له (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بأحوالكم.

[٦١] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي المشركين (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ) ذلل (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فإنهم كانوا يعترفون بالله (فَأَنَّى) إلى أين (يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن توحيده بعد أن اعترفوا بأن كل شيء منه تعالى.

[٦٢] (اللهُ يَبْسُطُ) يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) يضيق (لَهُ) لمن يشاء (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيرزقهم حسب المصلحة.

[٦٣] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) المطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) باليباب (لَيَقُولُنَّ اللهُ) فكيف يجعلون الأصنام شركاء له سبحانه (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على أن اعترفوا بالحق (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لا يستعملون عقولهم ولذا يشركون.

٤١٥

[٦٤] (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) كما يلهو ويلعب الصبيان بالدمى ، وينتهي بعد قليل (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) الحياة الحقيقية (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لعلموا ذلك.

[٦٥] (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) السفينة (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) وحده بلا شريك (لَهُ الدِّينَ) فهم كمن أخلص دينه وطريقته لله ، في دعائه (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) يرجعون إلى شركهم.

[٦٦] (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي يشركون ليكونوا كافرين بسبب شركهم نعمة النجاة (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بسبب عبادة الأصنام بدنياهم ورئاستهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة شركهم.

[٦٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء الكفار (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) وهو مكة المكرمة يؤمن أهلها من تعدي الناس عليهم ، فهل أصنامهم فعلت ذلك (وَيُتَخَطَّفُ) يؤخذ بسرعة (النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) بالتغادر قتلا ونهبا أفبعد هذه النعم بالباطل التي هي الأصنام (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) حيث إن شركهم كفران للنعمة ، فإن الله أنعم عليهم فيشركون الأصنام معه.

[٦٨] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن زعم أن له شريكا (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن (لَمَّا جاءَهُ) الحق (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) محل إقامة (لِلْكافِرِينَ) وهذا تهديد لهم بأن محلهم النار.

[٦٩] (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) لأجلنا جاهدوا الكفار والنفس (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) طرق الخير ، فانه كلما تقدم الإنسان إلى ناحية انفتح الطريق أمامه أكثر فأكثر (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والعون.

٣٠ : سورة الروم

مكية آياتها ستون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الم) رمز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٢] (غُلِبَتِ الرُّومُ) النصارى ، غلبهم المجوس الفرس في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاغتم المسلمون ، لأن دين المسيح عليه‌السلام كان أقرب إلى دين الإسلام ، فسلاهم الله تعالى ، بأن الروم سيغلبون على الفرس بعد سنوات.

[٣] (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أدنى أرض العرب قرب الشام (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) مغلوبيتهم (سَيَغْلِبُونَ) الفرس.

[٤] (فِي بِضْعِ سِنِينَ) هو ما بين الثلاث والعشر ، وقد كان كما أخبر الله تعالى (لِلَّهِ الْأَمْرُ) فإن التقدير منه (مِنْ قَبْلُ) قبل أن يغلب الفرس (وَمِنْ بَعْدُ) أن غلبوا فكل شيء بإذن الله (وَيَوْمَئِذٍ) يوم أن يغلب الروم على الفرس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

[٥] (بِنَصْرِ اللهِ) لأنه نصر المسيحيين الذين هم أقرب إلى المسلمين (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) حسب مشيئته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب (الرَّحِيمُ) بعباده ، فينصرهم حسب المصلحة.

٤١٦

[٦] (وَعْدَ اللهِ) نصرة الروم (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) لامتناع القبيح عليه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الله لا يخلف وعده.

[٧] (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) أي ما يشاهدونه (مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ولذا لا يعملون لها.

[٨] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أفلم يحدثوا الكفر في أنفسهم (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إذ لو لم تكن آخرة كان خلق الحياة عبثا (وَأَجَلٍ) أمد (مُسَمًّى) قد سمي فلا تبقى بعده حياة (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بملاقاة جزائه (لَكافِرُونَ).

[٩] (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) يسافروا (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود ، حتى يروا آثارهم الخربة الدالة على عذابهم (كانُوا) أولئك (أَشَدَّ مِنْهُمْ) من هؤلاء الكفار (قُوَّةً) جسمية ومالية (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) قلبوها للزراعة واستخراج المعادن (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) هؤلاء (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات ، لكنهم كذبوا (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) حيث عذبهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر والمعاصي ولذا أخذهم الله بالعذاب.

[١٠] (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) كبشرى ، أي عملوا العمل السيئ (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها) بآيات الله (يَسْتَهْزِؤُنَ) فإن العصيان يجر إلى الكفر.

[١١] (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئهم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يبعثهم (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إلى جزائه.

[١٢] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة (يُبْلِسُ) أي يتحيرون ، فلا يجدون جوابا (الْمُجْرِمُونَ) الذي أجرموا بالكفر والعصيان.

[١٣] (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) الأصنام التي أشركوها بالله (شُفَعاءُ) ليدفعوا عنهم العذاب (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ) الأصنام التي جعلوها شركاء لله (كافِرِينَ) يكفرون بها حين يشاهدون بطلانها.

[١٤] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) المؤمنون والكافرون.

[١٥] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) جنة (يُحْبَرُونَ) يسرون سرورا يظهر على وجوههم.

٤١٧

[١٦] (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) بأن أنكروا البعث (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) يحضرون هناك.

[١٧] (فَسُبْحانَ اللهِ) أنزهه تنزيها عن الشريك (حِينَ تُمْسُونَ) تدخلون المساء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) تدخلون الصباح.

[١٨] (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه المستحق الوحيد في المكانين (وَعَشِيًّا) ليلا (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) تدخلون في وقت الظهر ، أي في الأوقات كلها.

[١٩] (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالبيضة من الدجاجة والفرخ من البيضة (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) بيبس النبات (وَكَذلِكَ) كما أحيى الأرض (تُخْرَجُونَ) أحياء من قبوركم.

[٢٠] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) منتشرين في الأرض.

[٢١] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم (أَزْواجاً) زوجاتكم (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) لتألفوها (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) يحب بعضكم بعضا (وَرَحْمَةً) يرحم بعضكم بعضا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالات على وجود الله ولطفه (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإنهم المنتفعون بالآيات.

[٢٢] (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) بأن كان لكل جماعة لغة ، أو لهجة خاصة (وَأَلْوانِكُمْ) من اللون الخاص بكل جماعة وبكل فرد (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) فان العالم هو المنتفع بالآيات.

[٢٣] (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ) نومكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ) طلبكم (مِنْ فَضْلِهِ) رزقه ، ففي كل من الليل والنهار ، ينام الإنسان ويكتسب (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبر وتعقل.

[٢٤] (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) من الصاعقة والسيل وما أشبه (وَطَمَعاً) في المطر وتحسين الهواء (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) باليبات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم.

٤١٨

[٢٥] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي قيامهما بأمر الله وإرادته (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً) لإحيائكم وإخراجكم (مِنْ) بطن (الْأَرْضُ) أي قبوركم (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) فإحياؤكم بعد الموت آية من آياته.

[٢٦] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) خاضعون منقادون.

[٢٧] (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت إحياء (وَهُوَ) أي البدء والإعادة (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) تعالى مما تتصورون (وَلَهُ الْمَثَلُ) الوصف (الْأَعْلى) من كل وصف ، لأنه لا مساوي له حتى يشاركه في علو المثل (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا في السماء ولا في الأرض من يشبهه في المثل (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب (الْحَكِيمُ) في أفعاله.

[٢٨] (ضَرَبَ) الله (لَكُمْ) أيها المشركون (مَثَلاً) منتزعا (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) لبطلان عبادتكم للأصنام (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من عبيدكم الذين اشتريتموهم بما كسبت أيديكم من المال (مِنْ شُرَكاءَ) بأن يكون العبد شريكا لكم ، والحال أنه ملك لكم (فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال والسيادة فتكونوا هم وأنتم فيه في الرزق (سَواءٌ) متساوين (تَخافُونَهُمْ) أي تخافون تلك العبيد (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض ، وحيث يجيب المشركون على هذا السؤال بالنفي ، فاللازم عليهم أن لا يجعلوا عبيد الله شركاء له ، إذ العبد لا يساوي السيد (كَذلِكَ) هكذا (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نشرحها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم.

[٢٩] (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالشرك (أَهْواءَهُمْ) بدون حجة ودليل في حال كونهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) جاهلين (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي لا هادي لهم بعد إضلال الله لهم ، وذلك حيث تركهم حتى ضلوا بعد أن عاندوا الحق (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون العذاب عنهم.

[٣٠] (فَأَقِمْ) قوّم (وَجْهَكَ) ذاتك (لِلدِّينِ) باتباعه ، حال كونه (حَنِيفاً) مائلا عن الباطل إلى الحق ، فاتبع (فِطْرَتَ اللهِ) خلقته (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) على تلك الكيفية ، فان الإنسان يجد من أعماق نفسه الاعتقاد بوجود إله للكون عالم قدير (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فإن كل إنسان يجد من نفسه ذلك بدون تبديل ، حتى أن المشرك أيضا لا يقدر أن يبدل خلقته وفطرته (ذلِكَ) الذي قلنا بإقامة وجهك أمامه (الدِّينُ الْقَيِّمُ) الطريقة المستقيمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استقامته لعدم تدبرهم في حال كونكم أيها المسلمون :

[٣١] (مُنِيبِينَ) راجعين (إِلَيْهِ) بالتوبة ، كأن العاصي ذهب عن طريق الحق ، فإذا تاب رجع إليه (وَاتَّقُوهُ) خافوا منه فلا تفعلوا ما لا يرتضيه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يجعلون لله شريكا.

[٣٢] (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بأن اتبع كل فرقة وطريقة (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) من الطريق والدين (فَرِحُونَ) بظن أن ما عندهم الحق.

٤١٩

[٣٣] (وَإِذا مَسَ) أصاب (النَّاسَ ضُرٌّ) شدة (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه وحده فلا يرجعون إلى الأصنام (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) بأن خلصهم الله من الشدة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) جماعة منهم وهم من اعتادوا عبادة الأصنام (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) يجعلون له شريكا.

[٣٤] (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) فإن الشرك كفران لنعمة النجاة (فَتَمَتَّعُوا) تلذذوا بالحياة ، وهذا أمر تهديدي (فَسَوْفَ) عند الموت (تَعْلَمُونَ) العاقبة السيئة لتمتعكم.

[٣٥] (أَمْ) أن شركهم ليس عن علم ، بل لأنّا (أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) حجة على الشرك (فَهُوَ) فذلك السلطان (يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) بأن يقول بصحة شركهم.

[٣٦] (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) كنعمة وخلاص من شدة (فَرِحُوا بِها) بسببها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب أعمالهم السيئة (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) من الرحمة.

[٣٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ) يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يضيق على من يشاء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلالات ، إذ لو لم يكن الإله يجب أن يكون الأكثر سعيا أحسن رزقا ، والحال أنه ليس كذلك دائما (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون بالآيات.

[٣٨] (فَآتِ) أعط (ذَا الْقُرْبى) أقرباءك (حَقَّهُ) إذ تجب صلة الرحم (وَالْمِسْكِينَ) الفقير (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المنقطع في سفره (ذلِكَ) إعطاء حقوق هؤلاء (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ذاته (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون.

[٣٩] (وَما آتَيْتُمْ) أعطيتم (مِنْ رِباً) وهذا نهي عن إعطاء الربا (لِيَرْبُوَا) اللام للعاقبة (فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) إذ يمحقه ولا يزيد المال بالربا (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ذاته ، بأن أعطيتم طلب رضاه (فَأُولئِكَ) المؤدون للزكاة (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) الذين يزيدون أموالهم.

[٤٠] (اللهُ) هو (الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للحساب (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) التي عبدتموها شركاء لله (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ) الذي ذكرنا من الخلق والرزق والإماتة والإحياء (مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها عن الشريك (وَتَعالى) ترفع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يجعلونه شريكا لله.

[٤١] (ظَهَرَ الْفَسادُ) كالغرق والحرق والقحط والحروب والزلازل (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسبب الأعمال السيئة التي جاء بها الناس ، وإنما أظهرها الله (لِيُذِيقَهُمْ) جزاء (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) من السيئات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن أعمالهم السيئة.

٤٢٠