تبيين القرآن

آية الله السيد محمد الشيرازي

تبيين القرآن

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٢

[١٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الملازمون لها.

[١١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَ) عزم وقصد (قَوْمٌ) هم أهل مكة قبل فتحها (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالقتل والأذية (فَكَفَ) أي منع الله (أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) بان لم يمكنهم أن يؤذوكم وذلك بالصلح يوم الحديبية (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) يكل (الْمُؤْمِنُونَ) أمورهم إليه سبحانه.

[١٢] (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي عهدهم الأكيد (وَبَعَثْنا) أي سلّط وأمّر عليهم (مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) كفيلا لكل سبط نقيب (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) يا بني إسرائيل بالنصرة لكم (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي نصرتموهم ووقّرتموهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي أنفقتم في سبيله إنفاقا بدون منّ ولا أذى ولا رياء (لَأُكَفِّرَنَ) أمحونّ (عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي معاصيكم (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت أشجارها وأبنيتها (الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق السوي الموصل إلى السعادة في الدارين.

[١٣] (فَبِما) أي بسبب (نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) بأن لم يعملوا به (لَعَنَّاهُمْ) طردناهم عن رحمتنا (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) القسوة خلاف اللين ، أي لا يدخل فيها الخير ، فإن من يعاند ويستمر في عناده يقسو قلبه (يُحَرِّفُونَ) أي يبدل هؤلاء اليهود (الْكَلِمَ) كلمات الله (عَنْ مَواضِعِهِ) بوضع شيء مكان شيء آخر (وَنَسُوا حَظًّا) أي قسما من التوراة (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) مما أنزله الله تعالى تذكيرا لهم فكتابهم أصبح ناقصا ومحرّفا (وَلا تَزالُ) يا رسول الله (تَطَّلِعُ) وتعلم (عَلى) نفس (خائِنَةٍ مِنْهُمْ) من أهل الكتاب (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) حيث لا يخونون (فَاعْفُ عَنْهُمْ) ما داموا على عهدك (وَاصْفَحْ) أعرض فإن شأن الكبار الإعراض (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

١٢١

[١٤] (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) عهدهم الأكيد (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) من كتابهم الإنجيل ، تركوه حتى صار منسيا (فَأَغْرَيْنا) ألزمنا ، بسبب تحريفهم ونسيانهم (بَيْنَهُمُ) بين اليهود والنصارى (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وذلك سنة الله ، فإن من لا يعمل بأحكامه لا بد وأن يجزي جزاء عمله السيئ (وَسَوْفَ) في الآخرة (يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) يخبرهم (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) من الكفر والمعاصي فيجازيهم عليها.

[١٥] (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبين الأحكام التي حرفوها أو نسوها (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما ارتكبتم فلا يؤاخذكم عليه وذلك استدراج من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهدايتهم (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَكِتابٌ) القرآن (مُبِينٌ) واضح.

[١٦] (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي بسبب هذا النور والكتاب (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) بأن كان في سبيل تتبع رضا الله (سُبُلَ السَّلامِ) مفعول (يهدي) أي الطرق الموجبة للسلامة في الدنيا والآخرة (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) مختلف ظلمات الحياة والآخرة (إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) بلطفه (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا انحراف فيه ولا اعوجاج.

[١٧] (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهم النصارى ، حيث جعلوا المسيح عليه‌السلام أحد الآلهة الثلاثة (قُلْ) يا رسول الله (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي من يمنع من قدرته وإرادته (إِنْ أَرادَ) الله (أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فلما كان المسيح وأمه عليهما‌السلام ومن في الأرض مقهورين قابلين للفناء فليس المسيح إلها (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فهو مالك للمسيح عليه‌السلام (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فيقدر على خلق المسيح عليه‌السلام من أنثى فقط (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على خلق الإنسان بدون أب.

١٢٢

[١٨] (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) جمع حبيب ، أي يحبنا الله تعالى (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فإنهم كانوا معترفين بأنهم يعذّبون في الآخرة ، ومن المعلوم الابن الحبيب لا يعذبه الأب (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) من جملة من خلقه الله تعالى (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي مصير البشر فيجازيهم حسب أعمالهم.

[١٩] (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ) الدين (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي في حين فتور وانقطاع من الإرسال ، لان مدة مديدة قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرسل رسول إلى البشر (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي لئلا تقولوا احتجاجا على الله انه لم يأتكم نبي مرشد يبشّر وينذر (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على إرسال الرسول.

[٢٠] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) فشرّفكم ببعث الأنبياء فيكم (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) فالملك منكم ولستم تحت سلطة الغير (وَآتاكُمْ) أعطاكم (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) عالمي زمانكم ، من التوراة والمعاجز والسيادة.

[٢١] (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) بيت المقدس ، أو غيرها مما طهرها الله ببعث الأنبياء فيها ، وكان قول موسى عليه‌السلام لهم بعد خروجهم عن مصر (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) دخولها (وَلا تَرْتَدُّوا) لا ترجعوا (عَلى أَدْبارِكُمْ) كفارا ، أو منهزمين أمام عمالقة الأرض المقدسة (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) من ثواب الدارين.

[٢٢] (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها) في الأرض المقدسة (قَوْماً جَبَّارِينَ) جمع جبّار وهو المكره للناس والمراد بهم : قوما أقوياء لا نقدر عليهم (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) لن ندخل الأرض المقدسة (حَتَّى يَخْرُجُوا) أي الجبارون (مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) أما الآن فلا نتمكن من مقاومتهم.

[٢٣] (قالَ رَجُلانِ) كالب ويوشع (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) الله (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بأن وفقهما للإيمان ولاتباع أوامر موسى عليه‌السلام (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ) أي على الجبارين (الْبابَ) باب القرية (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) لأن الغلبة عادة لمن أغار (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) أي كلوا أمركم إليه ، فإنه ناصر أولياءه على أعدائه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

١٢٣

[٢٤] (قالُوا) أي اليهود (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) أي ما دام الجبارون في الأرض المقدسة (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) فإذا رجعت ظافرا دخلناها.

[٢٥] (قالَ) موسى عليه‌السلام (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) فأنا أملك التصرف في هذين فقط ، أما القوم فلا يطيعوني (فَافْرُقْ) افصل يا رب (بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي اليهود.

[٢٦] (قالَ) الله (فَإِنَّها) أي الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) دخولها (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ) أي يتحيرون (فِي الْأَرْضِ) بلا مأوى ولا بلد يجمعهم (فَلا تَأْسَ) لا تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي على تيههم ، والتيه إما كان إعجازا ، أو بمعنى أنهم بقوا بلا مأوى في هذه المدة ولذا بقوا في الصحراء كالبدو.

[٢٧] (وَاتْلُ) أي اقرأ يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) أي على اليهود (نَبَأَ) أي خبر (ابْنَيْ آدَمَ) قابيل وهابيل ، فإن حال اليهود في الفساد كحال قابيل (بِالْحَقِ) أي النبأ الصدق الذي ليس بكذب (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) لله تعالى ، والقربان ما يهدى إلى الله تعالى (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) هابيل حيث قدم خير غنمه فجاءت نار فاحترقت وهو علامة القبول (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) قابيل إذ قرب أردى زرعه (قالَ) قابيل (لَأَقْتُلَنَّكَ) يا هابيل ، حسدا عليه (قالَ) هابيل (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي إني لا ذنب لي في عدم قبول قربانك ، وإنما لم يقبل منك لأنك لست بأهل للتقوى.

[٢٨] (لَئِنْ بَسَطْتَ) أي مددت يا قابيل (إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ولذا لا أقصد قتلك ، ولعل في شريعة آدم عليه‌السلام لم يجز الدفاع عن النفس إذا أراد المجرم القتل أو لم يجب ذلك.

[٢٩] (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ) ترجع يا قابيل (بِإِثْمِي) أي إثم قتلي (وَإِثْمِكَ) الذي كان لك قبل أن تقتلني (فَتَكُونَ) بهذه الآثام (مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) الملازمين لها (وَذلِكَ) العقاب (جَزاءُ الظَّالِمِينَ).

[٣٠] (فَطَوَّعَتْ) أي سهّلت (لَهُ) لقابيل (نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) هابيل (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) خسر دنياه وآخرته.

[٣١] (فَبَعَثَ) أي أرسل (اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أي يحفر ، كمن يبحث عن شيء ، وذلك إن قابيل لم يدر كيف يصنع بجثة أخيه (لِيُرِيَهُ) أي يري الغراب قابيل (كَيْفَ يُوارِي) يستر (سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي جسد هابيل ، وعبّر بالسوءة لان الميت يتعفّن بالبقاء (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ) قابيل (مِنَ النَّادِمِينَ) عن قتل أخيه.

١٢٤

[٣٢] (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي من ابتداء قتل قابيل ، فإن هذا الحكم شرع من ذلك الوقت (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) فإن هذا الحكم ثبت لليهود أيضا (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) بدون أن كان المقتول قتل إنسانا حتى يكون القتل قصاصا (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي بدون أن يكون القتل لفساد المقتول في الأرض (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لأن القتل جريمة ، سواء تعلقت بالواحد أو الكثير كالماء قطرته مثل بحره في انه ماء ، وهذا لبيان تعظيم هذه الجريمة (وَمَنْ أَحْياها) بالنسل أو الهداية أو الخلاص من الموت (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ، وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ) أي بني إسرائيل (رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) الأدلة الواضحات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) الحكم ومجيء الرسل (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) يقتلون ويكفرون.

[٣٣] (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) بمحاربة أوليائه كما يقال حارب زيد الملك إذا حارب جنوده (وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي يفسدون في الأرض ، ومنهم قطّاع الطرق (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) شنقا (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) اليد اليمنى والرجل اليسرى (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) التي هم فيها ، بأن ينفوا من بلدهم إلى بلد آخر (ذلِكَ) الحكم (لَهُمْ) لهؤلاء المحاربين المفسدين (خِزْيٌ) عقاب وفضيحة (فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

[٣٤] (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) إذ الحدود تدرأ بالتوبة إذا تاب المجرم قبل القدرة عليه (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٣٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا) أي اطلبوا (إِلَيْهِ) إلى الله (الْوَسِيلَةَ) ما تصلون به إلى ثوابه (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تظفرون بنعيم الأبد.

[٣٦] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثروة (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) بأن كان لهم ضعف ما في الأرض (لِيَفْتَدُوا بِهِ) ليجعلوه فدية (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) إذ هناك لا تفيد الفدية (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

١٢٥

[٣٧] (يُرِيدُونَ) الذين كفروا (أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم.

[٣٨] (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أصابع اليد اليمنى ويترك الإبهام (جَزاءً بِما كَسَبا) من الإثم (نَكالاً) في حال كون القطع عقابا (مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

[٣٩] (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) بالسرقة (وَأَصْلَحَ) حاله بان لم يفعل المحرم (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يقبل توبته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٤٠] (أَلَمْ تَعْلَمْ) استفهام لتقرير ملكه سبحانه (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) كما عذب السارق (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) كما غفر له بعد التوبة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

[٤١] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) في إظهار الكفر إذا وجدوا فرصة (مِنَ الَّذِينَ) بيان ل (الذين) وهم المنافقون (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) أي بلسانهم (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي من اليهود ، قوم (سَمَّاعُونَ) أي يسمعون ويقبلون (لِلْكَذِبِ) الذي يقولونه في باب القتل (سَمَّاعُونَ) لعله عطف بيان ل (سماعون) الأول (لِقَوْمٍ آخَرِينَ) أي لا يسمعون الكلام من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل من الآخرين (لَمْ يَأْتُوكَ) يا رسول الله ، وهذا صفة ل (قوم) أي ان هؤلاء اليهود يقبلون الكذب في باب القتل الذي اعتادوا عليه من جماعتهم الذين لم يأتوا إليك (يُحَرِّفُونَ) أولئك القوم الآخرون (الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي بعد أن وضع الله تلك الكلم مواضعها ، والمراد تحريف أحكام التوراة (يَقُولُونَ) أي المنافقون (إِنْ أُوتِيتُمْ) أي أعطيتم (هذا) الحكم المحرّف (فَخُذُوهُ) واقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) لم تعطوا هذا الحكم بل أفتاكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَاحْذَرُوا) وامتنعوا من قبوله ، وقد وردت الآية في المنافق (عبد الله بن أبي) حيث وقع حادث قتل بين طائفتين من اليهود هم بنو قريظة وبني النضير وكان حكم القتل بين الطائفتين مخالفا لحكم القتل في التوراة فقالوا لابن أبي : قل لمحمد أن يحكم بما هو المعتاد بيننا لا يحكم بالتوراة إن تحاكمنا إليه ، فقال ابن أبي : ابعثوا رجلا يسمع كلامي وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن حكم لكم بما تريدون فاقبلوا كلامه ، وإلا فلا ، وقيل : ان الآية نزلت في قصة الزنا حيث أراد اليهود جلد الزاني المحصن ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفتى برجمه ، وابن أبي وافق اليهود في الحكم (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) بأن يضل ويفتتن عن الدين ، وإرادة الله عبارة عن تركه ، بعد عناده ليضل ، كابن أبي واليهود (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لا تقدر أنت يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدفع عنه فتنة الله (أُولئِكَ) المنافق واليهود (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) عن أدناس الكفر والانحراف ، لأنهم اختاروا هذا السبيل بعد تمام الحجة (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) فضيحة وينفر المسلمون عنهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

١٢٦

[٤٢] (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) تأكيد لما سبق (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) الرشوة وسائر المحرمات ، و(أكالون) صيغة مبالغة أي كثير والأكل (فَإِنْ جاؤُكَ) للتحاكم في جزاء القاتل (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) وقل لهم إني لا أحكم بينكم (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) في دينك أو دنياك (وَإِنْ حَكَمْتَ) أي أردت الحكم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

[٤٣] (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) يا رسول الله ، هؤلاء اليهود ، استفهام تعجب ولبيان أنهم لا يريدون حكم الله المنزل في التوراة (وَ) الحال أن (عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) يعرضون عن حكمك (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الحكم (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم التوراة.

[٤٤] (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) إلى الحق (وَنُورٌ) يجلو المشكلات ، وهذا لا ينافي تحريفه من بعد (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) لله (لِلَّذِينَ هادُوا) أي بين اليهود (وَ) يحكم بالتوراة (الرَّبَّانِيُّونَ) المنسوبون إلى الرب (وَالْأَحْبارُ) علماؤهم (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أي بسبب الذي كلفهم الله حفظه (مِنْ كِتابِ اللهِ) أي التوراة (وَكانُوا عَلَيْهِ) أي على كونه من عند الله (شُهَداءَ) يشهدون بأنه حق (فَلا تَخْشَوُا) أيها الحكام (النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) فلا تبدلوا حكمي (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) بان لا تحكموا بحكمي لأجل رشوة أو عرض دنيوي (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) سواء سكت عن الحكم عمدا أو حكم بغير ما أنزل (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) كفرا عمليا.

[٤٥] (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) أي في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي يقتص ويقتل الإنسان في مقابل قتله الإنسان (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي الجراحات متقاصة بعضها في مقابل بعض (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي بالقصاص بأن عفي عنه فلم يقتص (فَهُوَ) فالتصدق (كَفَّارَةٌ لَهُ) أي للمصدق يكفّر الله به ذنوبه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ظلموا أنفسهم بتعريضها لعقاب الله.

١٢٧

[٤٦] (وَقَفَّيْنا) أي اتبعنا (عَلى آثارِهِمْ) أي في أعقاب الأنبياء عليهم‌السلام (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أرسلناه عقبهم ، في حال كونه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله (مِنَ التَّوْراةِ) بيان (ما) (وَآتَيْناهُ) أعطيناه (الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً) الإنجيل (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً) تأكيد (وَمَوْعِظَةً) وعظ وإرشاد (لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم هم الذين يستفيدون من الموعظة.

[٤٧] (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) النصارى (بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) من الأحكام التي من جملتها نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله.

[٤٨] (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن (بِالْحَقِ) إنزالا بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) جنس الكتب السماوية (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي رقيبا على سائر الكتب يحفظها عن التغيير ببيان مواضع التحريف (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي بين الناس أو بين أهل الكتاب (بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) بأن تحكم حسب آرائهم ، فتعرض (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء السابقين عليهم‌السلام (شِرْعَةً) شريعة دينية (وَمِنْهاجاً) أي سبيلا واضحا (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) بأن ينزل للجميع دينا واحدا حتى لا يقع خلاف ، لكن ذلك خلاف الصلاح إذ لكل أمة ما يلائمها من الأحكام (وَلكِنْ) خالفت بين الأحكام (لِيَبْلُوَكُمْ) أي يمتحنكم (فِي ما آتاكُمْ) أعطاكم من الشرائع المختلفة لأنه يظهر بذلك من يقبل الشريعة اللاحقة ومن لا يقبل (فَاسْتَبِقُوا) أي بادروا (الْخَيْراتِ) فلا يفوتكم التمسك بالشريعة الجديدة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ليجازيكم على أعمالكم.

[٤٩] (وَأَنِ احْكُمْ) عطف على (الكتاب) (بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) أي يضلوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) بأن تخالفه وتتبع ما يشتهون (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن حكمك (فَاعْلَمْ) يا رسول الله (أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ) يعاقبهم (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فإن توليهم عن الحق يوجب انحرافا في أمورهم الدنيوية ، وذلك عقاب بنفسه من الله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله فلا تأسف لانحراف هؤلاء.

[٥٠] (أَفَحُكْمَ) استفهام توبيخ (الْجاهِلِيَّةِ) أي الملة الجاهلية (يَبْغُونَ) يطلبون حيث إنهم أرادوا أن يحكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في باب القتل حسب أحكام الجاهلية ، كما تقدم (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بالآخرة ، فإنهم العارفون بأن حكم الله أحسن الأحكام ، والاستفهام للإنكار ، أي لا أحسن من حكم الله.

١٢٨

[٥١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) توالونهم وتعتمدون عليهم (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فإنهما يوالي بعضهم بعضا لاتحادهما في الباطل ضد الإسلام في مقابل مضادة بعضهم لبعض بين أنفسهم كما قال تعالى (فأغرينا بينهم العداوة) (١) (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) يواليهم (مِنْكُمْ) أيها المسلمون (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فإن المرء يحشر مع من أحب (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بموالاتهم للكافرين ، فلا يلطف بهم ألطافه الخفية.

[٥٢] (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق من المسلمين (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي يتسرعون في موالاة الكافرين (يَقُولُونَ) في سبب موالاتهم (نَخْشى) نخاف (أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) من دوائر الدهر فتكون الدولة للكفّار ، ولذا نصادقهم حتى نأمن شرّهم عند ذلك (فَعَسَى اللهُ) رجاء من الإنسان وبيان احتمال من الله (أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) بالنصر لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أعدائه (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) بإقصاء اليهود عن أطراف المدينة (فَيُصْبِحُوا) أي المنافقون (عَلى ما أَسَرُّوا) أخفوا (فِي أَنْفُسِهِمْ) من الشك والنفاق (نادِمِينَ) لأن أصدقاءهم قد فاتهم والمسلمون لا يصادقونهم.

[٥٣] (وَ) حين ذاك (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ) المنافقون ، والاستفهام للتعجب (الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي بالأيمان المغلّظة (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) فكيف يحلف المنافقون انهم مع المسلمين والحال انهم يصادقون الكافرين (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بطلت ، إذ غلب المسلمون وانقطعت صداقاتهم مع الكافرين (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) في الدنيا والآخرة.

[٥٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) فلن يضر الله (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ) الله (وَيُحِبُّونَهُ) أي وهم يحبون الله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي يعطفون على المؤمنين ، كالذليل (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أشداء مترفعين على الكفار (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ) ملامة (لائِمٍ) من يلومهم في الحق ، بل يمضون إلى هدفهم الإسلامي ولو لامهم الناس (ذلِكَ) الاتصاف بهذه الأوصاف (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ) يعطيه (مَنْ يَشاءُ) ممن سلك طريق الرشد (وَاللهُ واسِعٌ) كثير الفضل (عَلِيمٌ).

[٥٥] (إِنَّما) لما نهى عن موالاة الكافرين بيّن من هو المولى للمؤمنين الذي له الولاية والأولية عليهم (وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ) صفة ل (الذين آمنوا) (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي الصدقة (وَهُمْ راكِعُونَ) في حال الركوع ، وقد نزلت هذه الآية في علي أمير المؤمنين عليه‌السلام.

[٥٦] (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي يتخذهم أولياء له (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) أي المربوطين بالله ، ولا يقولون (نخشى أن تصيبنا دائرة) (هُمُ الْغالِبُونَ).

[٥٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً) يستهزئون به (وَلَعِباً) ملعبة ، فإنه ليس بزعمهم دين (مِنَ الَّذِينَ) بيان ل (الذين اتخذوا) (أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ) لا تتخذوا (الْكُفَّارَ) المشركين (أَوْلِياءَ) فتصادقونهم (وَاتَّقُوا اللهَ) في مناهيه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) سورة المائدة : ١٤.

١٢٩

[٥٨] (وَإِذا نادَيْتُمْ) دعوتم (إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها) أي الصلاة (هُزُواً) استهزاء فإذا أذّن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم (وَلَعِباً ذلِكَ) الهزء بالصلاة (بِأَنَّهُمْ) بسبب أن الكفار (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

[٥٩] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ) وتكرهون (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) من الكتب السماوية (وَ) آمنا ب (أَنَّ أَكْثَرَكُمْ) لا كلكم ، فإن بعضهم آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فاسِقُونَ) أي أن إيماننا بالله تعالى وحده ، واعتقادنا بخروجكم عن طاعة الله ، هما عاملا نقمتكم علينا ، فهل من سبب غيرها؟.

[٦٠] (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) بأسوأ من ذلك الذي تنقمون منا ، أي ما هو أزيد في نقمتكم (مَثُوبَةً) أي جزاء (عِنْدَ اللهِ مَنْ) بدل من (شرّ) أي أنبئكم بمن (لَعَنَهُ اللهُ) وأبعده عن رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) وهم اليهود مسخهم الله (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي جعل منهم عبّاد العجل ، وإنما نسب إلى الله تعالى ، لأنه تركهم وشأنهم فضلوا (أُولئِكَ) الملعونون (شَرٌّ مَكاناً) أي مكانهم أسوأ ، وهذا يدل على حالتهم السيئة ، أي أن مكانهم أسوأ من مكان سائر العصاة ، فأنتم إذا استهزأتم منا ، فدنياكم نقمة وقردة وخنازير ، وآخرتكم سقر ونار (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي وسط الطريق ، فهم أبعد من سائر البعيدين.

[٦١] (وَإِذا جاؤُكُمْ) منافقو اليهود (قالُوا آمَنَّا) يريدون أن يأمنوا جانبكم (وَقَدْ دَخَلُوا) إلى مجلسكم (بِالْكُفْرِ) أي متلبسين بالكفر (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) إذا خرجوا من عندك خرجوا كما دخلوا متلبسين بالكفر أيضا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) يخفون من الكفر.

[٦٢] (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من اليهود (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) يتهافتون على المعاصي (وَالْعُدْوانِ) التعدي والظلم (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) الرشوة وسائر المحرمات (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

[٦٣] (لَوْ لا) أي لما ذا لا (يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) المنسوبون إلى الرب (وَالْأَحْبارُ) العلماء (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) في عدم نهيهم.

[٦٤] (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) مقبوضة عن العطاء فإنهم كانوا يزعمون أن الله لا يتصرف في الكون (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم بان تغلّ أيديهم بالأغلال (وَلُعِنُوا) أبعدوا من رحمة الله دعاء عليهم (بِما قالُوا) أي بسبب هذا القول (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) يعمل في الكون (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) تأكيد للبسط ، وبسط اليد كناية عن تصرفه تعالى في الكون (وَلَيَزِيدَنَ) فعل ، من الزيادة (كَثِيراً مِنْهُمْ) مفعول (يزيدن) (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فاعل (يزيدنّ) ، أي أن القرآن يزيدهم (مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً) إذ يشتد حسدهم فيطغون أكثر من قبل (وَكُفْراً) وزيادة الكفر عبارة عن اشتداده (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) بين طوائف اليهود (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) يبغض بعضهم بعضا (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا) أشعل هؤلاء اليهود (ناراً لِلْحَرْبِ) لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَطْفَأَهَا اللهُ) بغلبة المسلمين عليهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي للفساد (وَاللهُ لا يُحِبُ) أي يكره (الْمُفْسِدِينَ).

١٣٠

[٦٥] (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاتَّقَوْا) باجتناب المعاصي (لَكَفَّرْنا) أي محونا (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) السابقة (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) التي ينعم بها الإنسان.

[٦٦] (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا) بالعمل (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) القرآن ، بأن عملوا بالكتب الثلاثة (لَأَكَلُوا) أي لوسع الله عليهم (مِنْ فَوْقِهِمْ) مما ينزل من الأمطار ، وما تثمره الأشجار (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) الزراعات ، فإن العمل بالدين يوجب تقدم الحضارة والزراعة والانتفاع بمياه الأمطار بسبب التخزين والصرف ، بالإضافة إلى العناية الغيبية (مِنْهُمْ أُمَّةٌ) جماعة (مُقْتَصِدَةٌ) الاقتصاد الاستواء في العمل ، والمراد بهم الذين أسلموا (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ) أي قبح (ما يَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي.

[٦٧] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) أوصل إلى الناس (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) بالنسبة إلى نصب عليّ عليه‌السلام خليفة من بعدك ، وقد نزلت الآية عند منصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) لم تبلّغ (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) كأنك لم تؤدّ شيئا من رسالة الله ، أو المراد لم تؤدّ الرسالة التي كلّفت وهي الرسالة الكاملة (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) يحفظك (مِنَ النَّاسِ) فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاف من أذى المنافقين له إذا نصب عليّا عليه‌السلام (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) لا يلطف بهم الألطاف الخاصة (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الذين لا يقبلون رسالتك في هذا الأمر كما هو الشأن من لا يقبل سائر رسالاته.

[٦٨] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي على دين يعتد به (حَتَّى تُقِيمُوا) بالعمل (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي القرآن (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فاعل (يزيدن) أي يزيد القرآن الكفار (مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) لأن حسدهم يوجب طغيانهم وشدة كفرهم (فَلا تَأْسَ) أي لا تحزن يا رسول الله (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

[٦٩] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) اليهود (وَالصَّابِئُونَ) دين خاص يزعم أهله انهم يتبعون يحيى عليه‌السلام ، ورفعه بالقطع ، للإلفات (وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ) منهم إيمانا صحيحا (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ليس خوفهم وحزنهم بالنسبة إلى خوف الكفار وحزنهم ، يسمى خوفا وحزنا.

[٧٠] (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عهدهم الأكيد (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) كثيرين (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) بأحكام تخالف أهواءهم وشهواتهم (فَرِيقاً) جواب (كلما) أي جماعة من الرسل كذبهم اليهود ، كالمسيح عليه‌السلام (كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) كيحيى وزكريا عليه‌السلام.

١٣١

[٧١] (وَحَسِبُوا) أي زعم هؤلاء اليهود (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي لا يصيبهم بلاء وعذاب بسبب أعمالهم (فَعَمُوا) عن الحق فلم يروه (وَصَمُّوا) عن سماع الحق ، ولذا ارتكبوا ما ارتكبوا والمعنى : حسبوا ، فعموا وصمّوا ، فارتكبوا ما ارتكبوا (ثُمَ) تابوا عن أعمالهم السابقة ف (تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قبل توبتهم ، ومن المعلوم أن المراد قبول توبة من لم يكن قتل الأنبياء عليهم‌السلام وما أشبه (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) من اليهود إذ خالفوا أحكام الله ثانيا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم بها.

[٧٢] (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ) هم النصارى (قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فإن اعتقادهم بالتثليث معناه اعتقادهم بان المسيح هو الله ، أو هم جماعة اعتقدوا بألوهية المسيح فقط (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ) ولا تعبدوني ، هو (رَبِّي) فأنا عبد له (وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فلا يدخلها (وَمَأْواهُ) محله (النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالشرك (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرهم من عذاب الله.

[٧٣] (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي ثالث آلهة هم ثلاثة : الله والمسيح ومريم (وَ) الحال انه (ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) يرجعوا ويتوبوا (عَمَّا يَقُولُونَ) من التثليث (لَيَمَسَّنَ) أي يصيبهم (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) وإنما لم يقل : ليمسنهم ، تنبيها على أن العذاب على من دام على الكفر (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

[٧٤] (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) بأن ينتهوا عن تلك العقائد الباطلة (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) يطلبون غفرانه (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

[٧٥] (مَا) أي ليس (الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) وليس بإله (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فحاله حالهم (وَأُمُّهُ) مريم (صِدِّيقَةٌ) صدقت بالله ورسله ، كسائر الصدّيقات ، وليست بإلهة (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ومن أكل الطعام ليس إلها (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) الأدلة الدالة على عدم ألوهيتهما (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي يصرفون عن اتباع الحق.

[٧٦] (قُلْ) يا رسول الله لمن يعبد المسيح عليه‌السلام وغيره (أَتَعْبُدُونَ) استفهام إنكار (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فإن الضرر والنفع بيد الله (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فيجازيكم بجزاء كفركم وشرككم.

١٣٢

[٧٧] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا) لا تجاوزوا الحق (فِي دِينِكُمْ) غلوا (غَيْرَ الْحَقِ) هذا تأكيد (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) من قدماء النصارى (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من النصارى الذين شايعوهم (وَضَلُّوا) عن مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم ضلوا قبلا وأضلوا وضلوا بعدا (عَنْ سَواءِ) أي وسط (السَّبِيلِ).

[٧٨] (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ) لعنهم داود عليه‌السلام حين اعتدوا في السبت فمسخوا قردة (وَ) لسان (عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) حين كفروا بعد نزول المائدة فمسخوا خنازير (ذلِكَ) اللعن (بِما عَصَوْا) أي بسبب عصيان اليهود (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي بسبب اعتدائهم وتعديهم.

[٧٩] (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) لم يكن ينهى بعضهم بعضا عن المنكرات (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) في عدم تناهيهم عن المنكر.

[٨٠] (تَرى) يا رسول الله (كَثِيراً مِنْهُمْ) من أهل الكتاب (يَتَوَلَّوْنَ) يوالون ويصادقون (الَّذِينَ كَفَرُوا) الكفار ، ضدا للمسلمين (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ) إلى الآخرة من العقاب (لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بسبب كفرهم وعصيانهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) فهم في عذاب وسخط ، وعلم الإنسان بأن الملك يسخطه إيلام نفسي له.

[٨١] (وَلَوْ كانُوا) أهل الكتاب (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) القرآن (مَا اتَّخَذُوهُمْ) أي لم يتخذ اليهود الكفار (أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن أوامر الله ، أما القليل منهم فقد آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٨٢] (لَتَجِدَنَ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) فأشد أعداء المسلمين اليهود والمشركون (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) وحبّا (لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) لكن لا مطلق النصارى بل المتصفون بالأوصاف الآتية (ذلِكَ) الحب منهم (بِأَنَّ مِنْهُمْ) أي بسبب أن منهم (قِسِّيسِينَ) علماء (وَرُهْباناً) زهادا (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن اتباع الحق إذا عرفوه.

١٣٣

[٨٣] (وَإِذا سَمِعُوا) هؤلاء النصارى (ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ) تملأ (مِنَ الدَّمْعِ) لرقة قلوبهم (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي بسبب معرفتهم أن القرآن حق من عند الله (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بالحق (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الذين شهدوا حقية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قيل : إن الآية نزلت في النجاشي وأصحابه حين آمنوا لما سمعوا القرآن الذي تلاه جعفر عليه‌السلام.

[٨٤] (وَما لَنا) أي أيّ شيء يكون لنا؟ وهذا استفهام إنكار (لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) بيان (ما) (وَ) الحال إنا (نَطْمَعُ) ونرجو (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) في الجنة.

[٨٥] (فَأَثابَهُمُ) أي جازاهم (اللهُ بِما قالُوا) أي بسبب ما اعترفوا من التوحيد (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا عقيدة وعملا.

[٨٦] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الملازمون لها.

[٨٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) فقد همّ قوم من الأصحاب أن يحرموا على أنفسهم الطيبات تزهدا وشوقا إلى الآخرة (وَلا تَعْتَدُوا) عن الطيب إلى الخبيث ، أو لا تجاوزوا حدود الله بجعل الحلال حراما (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين للحدود.

[٨٨] (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ) أي بالله (مُؤْمِنُونَ).

[٨٩] (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) الكلام بدون قصد الجد (فِي أَيْمانِكُمْ) جمع يمين كمن يحلف عن عادة لا عن قصد (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ) أي حلفتم عن قصد (الْأَيْمانَ) جمع يمين (فَكَفَّارَتُهُ) فيما إذا حلف وخالف (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي إطعامهم طعاما وسطا لكل مسكين مدّ من الطعام (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) إكساؤهم بثوبين كبردين (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) عتق عبد (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) هذه الثلاثة (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ) المذكورات (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وخالفتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فلا تحنثوا (كَذلِكَ) كما بين أمر الكفارة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هدايته لكم إلى شريعة الإسلام.

١٣٤

[٩٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) جميع أنواع القمار (وَالْأَنْصابُ) الأصنام (وَالْأَزْلامُ) سهام القمار (رِجْسٌ) مستقذر قذارة معنوية (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي العمل الذي به يأمر الشيطان (فَاجْتَنِبُوهُ) أي اجتنبوا كل واحد من المذكورات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون.

[٩١] (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ) أيها الناس (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) البغض والغضب (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) لما يحصل فيهما من الشرور (وَيَصُدَّكُمْ) يمنعكم (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) فإن الخمّار والمقامر لا يلتفتان بحالهما إلى الله (وَعَنِ الصَّلاةِ) إذ لا يتمكنان حالهما من الصلاة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أي هل تنتهون عنها ، وهذا استفهام طلب.

[٩٢] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) عن المخالفة (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن أحكام الله (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التبليغ الواضح فمخالفتكم تضركم ، ولا تضر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٩٣] (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) حرج (فِيما طَعِمُوا) أي فيما أكلوا من الميسر وشربوا من الخمر سابقا (إِذا مَا) في المستقبل (اتَّقَوْا) المحرمات (وَآمَنُوا) ثبتوا على إيمانهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استمروا في عمل الصالحات (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) تأكيد لما سبق (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) في أعمالهم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قيل : الاتقاء الأول اتقاء الشرب بعد التحريم ، والثاني هو الدوام على ذلك ، والثالث اتقاء جميع المعاصي ، أو الاتقاء ماضيا وحالا ومستقبلا.

[٩٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) يمتحنكم (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي ببعض الحيوانات التي تصطاد ، فإنها تأتي إليكم في حال الإحرام بحيث (تَنالُهُ) وتتمكن أن يصطادها (أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) بأن تأخذوها باليد والرمح ، وإنما يبلوكم بها (لِيَعْلَمَ) ليميّز (اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي في حال كون الله غائبا عن حواسه ، فإن اصطادها تبين انه لا يخاف الله (فَمَنِ اعْتَدى) بأن صاد في الإحرام (بَعْدَ ذلِكَ) النهي (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

[٩٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي في حال الإحرام (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) لا نسيانا أو خطاء فعليه جزاء وكفارة (مِثْلُ ما قَتَلَ) أي أن يكفر بحيوان مماثل لما قتله (مِنَ النَّعَمِ) الإبل والبقر والغنم (يَحْكُمُ بِهِ) أي بكون النعم مثل ما قتل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) رجلان عادلان من المسلمين ، ويهدي الجزاء (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) بأن يبلغ الحرم فيذبح هناك (أَوْ كَفَّارَةٌ) عطف على (مثل) أي يكفر كفارة هي (طَعامُ مَساكِينَ) بأن يجعل قيمة الهدي في الطعام (أَوْ عَدْلُ) مثل (ذلِكَ) الطعام (صِياماً) بأن يصوم بدل إطعام كل مسكين يوما (لِيَذُوقَ) متعلق ب (جزاء) (وَبالَ) جزاء (أَمْرِهِ) بقتل الصيد (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد في زمن الجاهلية (وَمَنْ عادَ) إلى القتل بعد النهي (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) بعقابه في الآخرة ، وقد ورد أن على القتل الأول كفارة ولكن القتل الثاني لا كفارة عليه إنما عقابه في الآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغلب (ذُو انْتِقامٍ).

١٣٥

[٩٦] (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) في حال الإحرام (وَطَعامُهُ) فحلال لكم أن تصيدوه وتأكلوه ، والمراد ما له فلس (مَتاعاً لَكُمْ) أي في حال كون الصيد لتمتعكم وأكلكم (وَلِلسَّيَّارَةِ) أي مسافريكم يتزودونه في الطريق (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) في حال الإحرام (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تجمعون في يوم القيامة.

[٩٧] (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان ل (الكعبة) (قِياماً لِلنَّاسِ) ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم (وَ) جعل الله (الشَّهْرَ الْحَرامَ) لاستراحتكم عن الحروب (وَ) جعل (الْهَدْيَ) ذبائح مكة (وَ) جعل (الْقَلائِدَ) ما يقلد عند الإحرام من الأنعام علامة كونه للإحرام (ذلِكَ) الجعل لهذه الأمور (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فإن ما في تلك الأحكام من المصالح والحكم تدل على علم الله الواسع.

[٩٨ ـ ٩٩] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ان يبلغكم ، وقد فعل ، فلا عذر لكم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) تظهرون (وَما تَكْتُمُونَ) تخفون من الأعمال والنوايا فيجازيكم عليه

[١٠٠] (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) فإنه لا تتساوى الأعمال والأطعمة الخبيثة والطيبة (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أيها السامع (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن المعيار الجودة لا الكثرة ، وهذا تحريض على تحرّي الجودة (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أصحاب العقول ، فلا تقتربوا الخبيث (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون.

[١٠١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) فقد كانوا يكثرون السؤال مما يوجب حزنهم ، مثلا يسألون عن مكان أجدادهم الكفرة ، فإن الجواب : بأنهم في النار ، يحزنهم (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) تظهر لكم تلك الأشياء (تَسُؤْكُمْ) أي تغمّكم (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) في زمان الوحي ، وحين كون جبرئيل عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجيب عن الله على كل سؤال (تُبْدَ لَكُمْ) أي تظهر لكم تلك الأشياء المسيئة (عَفَا اللهُ عَنْها) فلا يؤاخذكم عن عدم علمها (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

[١٠٢] (قَدْ سَأَلَها) أي سأل عن هذه الأشياء (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) كأهل الكتاب (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها) بتلك الأشياء (كافِرِينَ) حيث لم يقبلوها عن الرسل.

[١٠٣] (ما جَعَلَ اللهُ) ردّ لبدع أهل الجاهلية (مِنْ بَحِيرَةٍ) بحروا أي شقوا أذن الناقة فحرموها (وَلا سائِبَةٍ) كانوا يسيبون الناقة أي يتركونها ، فيحرمونها (وَلا وَصِيلَةٍ) إذا ولدت الذكر والأنثى لا يذبحون الذكر (وَلا حامٍ) إذا ولدت عشرة أبطن لا يذبحوها على تفصيل في خرافاتهم ، فكل هذه الأنواع محللة وليست محرمة فإن الله لم يجعل تحريمها (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فإنهم كانوا يقولون هذه التشريعات من الله (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الحرام عن الحلال.

١٣٦

[١٠٤] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء الجاهليين (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) ليحكم بينكم (قالُوا حَسْبُنا) كفانا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) نقلّد مذهب آباءنا (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) همزة استفهام دخلت على واو الحال ، أي هل يقلدون الآباء ولو كان الآباء (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الطريق المنجح.

[١٠٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ألزموا صلاحها واحفظوها (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) أي ضلال من ضل (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ، إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فلا يتحمل أحد وزر واحد (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم ليجازيكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

[١٠٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) أي الشهادة التي شرعت فيما بينكم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بأن قرب موته (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من (حضر أحدكم الموت) (اثْنانِ) خبر (شهادة) أي عليكم أن يشهد اثنان (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) عادلان من المسلمين (أَوْ) شخصان (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) غير المسلمين ، لكن إنما تصح شهادتهما (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) كنتم في السفر (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) بأن قاربكم الموت في ذلك الحال ولم تجدوا مسلمين (تَحْبِسُونَهُما) أي تقفونهما أيها الورثة لأداء الشهادة (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) وذلك لاجتماع الناس الموجب لرعب قلوب الكافرين من الكذب في الشهادة على الوصية التي تحملاها (فَيُقْسِمانِ) أي الشاهدان الذميان (بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي شككتم أيها الورثة في شهادتهما ، فإن استحلافهما إنما هو مع الشك في صدق شهادتهما ، ويقولان في حلفهما (لا نَشْتَرِي بِهِ) أي بإزاء اسم الله تعالى (ثَمَناً) بأن نحلف كذبا بثمن الدنيا (وَلَوْ كانَ) المحلف له ، الذي تجرأ الحلف ربحا له (ذا قُرْبى) قريبا منّا (وَلا نَكْتُمُ) لا نخفي (شَهادَةَ اللهِ) أي الشهادة التي نقيمها لله تعالى (إِنَّا إِذاً) إن كتمنا الشهادة (لَمِنَ الْآثِمِينَ) العاصين.

[١٠٧] (فَإِنْ عُثِرَ) أي اطلع الورثة (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) بأن علم الورثة كذبهما في شهادتهما فشخصان آخران من الورثة (يَقُومانِ مَقامَهُما) في الحلف (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أي الآخران هما من الورثة الذين استحق شيء بالحلف عليهم ، بأن توجه ضرر الحلف عليهم ، وهما (الْأَوْلَيانِ) أي الأولى بالميت ، والمراد الورثة (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) نفران من الورثة (لَشَهادَتُنا أَحَقُ) أصدق (مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) ما تجاوزنا الحق في شهادتنا (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إذا اعتدينا ، فإن مسلما مع نصرانيين كانا في السفر فمرض وكتب في صحيفته ما معه وسلمها ومتاعه إلى النصرانيين فسرقا إناء فضة كانت في المتاع ولما جاءا إلى المدينة شكّت الورثة في الإناء فحلف النصرانيان بأنهما لم يجداها ، ثم وجد الورثة إناء الفضة فحلفا بالموضوع وأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وردها إلى الورثة.

[١٠٨] (ذلِكَ) الحكم بالحلف بعد الصلاة (أَدْنى) أقرب في (أَنْ يَأْتُوا) الشهود الكافرون (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) حقيقتها (أَوْ يَخافُوا) الشهود الكفار (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) أي يرد الشرع الأيمان إلى أولياء الميت (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أيمان الشهود الكفار (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تحلفوا كذبا (وَاسْمَعُوا) أحكامه أي اعملوا بها (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الذين بنوا حياتهم على الفسق فلا يلطف بهم.

١٣٧

[١٠٩] (يَوْمَ) اذكر يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) أجابكم الناس بالقبول أو الرد (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) علما كاملا بإجابة الناس ورفضهم (١) (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تعمل كل ما غاب عن حواسنا.

[١١٠] واذكر يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ) قويتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بروح طاهرة (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) حيث لا يتكلم في هذا العمر صبي ، وذلك إعجاز منه (وَكَهْلاً) في حال كونك كبيرا تكلمهم بالإعجاز والنبوة (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) جنس الكتب السماوية (وَالْحِكْمَةَ) الشريعة (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ) تصنع (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) أي تفعل ذلك بإذن الله ، ولعله إشارة إلى عدم جواز صنع المجسمة بغير إذن الله (٢) (فَتَنْفُخُ فِيها) الروح (فَتَكُونُ طَيْراً) حيّا (بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ) تشفي (الْأَكْمَهَ) الأعمى (وَالْأَبْرَصَ) الذي لا علاج له (بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم بأن تحييهم (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ) أي منعت أن يصلوا إليك بسوء (بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالأدلة الواضحة (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) وهم اليهود الذين لم يأمنوا بالمسيح عليه‌السلام (إِنْ هذا) أي : ما هذا الذي أتيت بالإعجاز (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي واضح.

[١١١] (وَ) اذكر (إِذْ أَوْحَيْتُ) على لسان رسلي (إِلَى الْحَوارِيِّينَ) خواص أصحاب عيسى عليه‌السلام ، قال لهم زكريا ويحيى عليه‌السلام (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) عيسى عليه‌السلام (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ).

[١١٢] واذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) أي هل تتعلق إرادته (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) مأكلا (مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ) فلا تسألوا سؤالا لا فائدة فيه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

[١١٣] (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) من المائدة (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بأن نلمس الإعجاز لمسا فتطمئن القلوب برسالتك (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في ادعاء النبوة (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) نشهد عند الناس بإعجازك.

__________________

(١) أو لا علم لنا بالنسبة إلى علمه عزوجل.

(٢) كما لو كانت للعبادة.

١٣٨

[١١٤] (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَ) يا الله (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ) المائدة يوم نزولها (لَنا عِيداً) إذ العيد إنما هو يوم وقوع حدث مفرح (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) للمعاصرين والأجيال الآتية (وَآيَةً) عطف على (عيد) (مِنْكَ) أي معجزة من قبلك (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

[١١٥] (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها) أي منزل المائدة (عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) إنزالها (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم لأنه جحد بعد مشاهدة المعجزة التي طلبها ، فإن جماعة من بني إسرائيل انضموا إلى الحواريين عند سؤال المائدة فأنزلها الله تعالى وأكلوا منها ثم كفر جماعة من بني إسرائيل فمسخوا.

[١١٦] (وَإِذْ) اذكر زمان (قالَ اللهُ) بمعنى يقول ، والمراد يوم القيامة (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ) استفهام بقصد إعلام المسيحيين بطلان تأليههم للمسيح (قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ) المسيح (سُبْحانَكَ) أنزّهك تنزيها عن الشريك (ما يَكُونُ لِي) أي لا يجوز لي (أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أن أقول قولا لا يحق (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) فكيف يخفى عليك قولي (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) جاء لفظ (النفس) للمشاكلة (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تعلم ما غاب عن الحواس.

[١١٧] (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) بأن أقول لهم وهو (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) رقيبا أمنعهم عن الانحراف في العقيدة (ما دُمْتُ فِيهِمْ) في الأرض (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي رفعتني ، وهو أخذ الشيء وافيا روحه وجسده (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) المراقب لأعمالهم فأنت تعلم ذلك (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مراقب حاضر.

[١١٨] (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الأحقاء بالعذاب لأنهم عبدوا غيرك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا تغلب (الْحَكِيمُ) تعمل كل شيء حسب المصلحة ، ولعل الله سبحانه يمتحن قسما من القاصرين من الكفار في يوم القيامة ليغفر لهم إذا نجحوا في الامتحان ، كما أشار إلى ذلك بعض الأحاديث.

[١١٩ ـ ١٢٠] (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فالصادق في عبادته وعمله يجزى بالثواب (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ) دائمين (فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ورضاه يوجب سرورهم النفسي (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنه أعطاهم ما يرضيهم (ذلِكَ) الفوز بالجنة (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

١٣٩

٦ : سورة الأنعام

مكية وآياتها مائة وخمس وستون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ) فلم تكن حتى ظلمة قبل الخلق (وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون بربهم الأوثان ، فيقولون إنها عدل ومساو لله في الألوهية.

[٢] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) آدم وحواء ، أو أن أصل كل إنسان التراب ، فيتحول عشبا ، ثم أكلا ، ثم منيا ، ثم إنسانا (ثُمَّ قَضى) أي قدر وحكم (أَجَلاً) وقتا محدودا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) سمي في الملكوت (عِنْدَهُ) فإنه يعلم انتهاء مدة كل إنسان ، أو كل البشر ، أو يوم القيامة (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي تشكون في الإله الذي بيده الخلق والمعاد.

[٣] (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) فلا إله غيره (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من خير وشر.

[٤] (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) الدلائل التي تدل على الله (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) غير ملتفتين.

[٥] (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) الرسول (لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ) في الآخرة (يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أخباره والمراد جزاؤهم من العذاب.

[٦] (أَلَمْ يَرَوْا) يعلموا (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أهل كل عصر كذّبوا الرسل (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بأن جعلناهم أغنياء وملوكا وذوي حضارة (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) فإن أهل مكة لم يكونوا بتلك المنزلة (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ) أي ماء المطر (مِدْراراً) غزيرا (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) تحت قصورهم وأشجارهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب ذنوبهم (وَأَنْشَأْنا) خلقنا (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً) جماعة (آخَرِينَ).

[٧] (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كِتاباً) كتابة (فِي قِرْطاسٍ) صحيفة (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) فإن اللمس أنفى للشك من الرؤية (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر.

[٨] (وَقالُوا لَوْ لا) أي لما ذا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي يكون مع النبي ملك يكلّمنا حتى نصدقه (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لحق هلاكهم إذا لم يؤمنوا (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ، فقد تعلقت مشيئة الله تعالى بانفصال الآخرة عن الدنيا فإذا ظهرت الآخرة مات الإنسان.

١٤٠