ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

بذلك بطلان مذهبهم على التفصيل ، وهو المطلب الأول.

وأما المطلب الثاني : وهو في الدلالة على صحة ما ذهب إليه المسلمون ، وإبطال مذاهب المخالفين على العموم فإذا أردنا ذلك تكلمنا في موضعين : أحدهما في الدلالة على أنه لا ثاني له يشاركه في القدم. والثاني في الدلالة على أنه لا ثاني له يشاركه في الإلهية.

أما الموضع الأول : وهو في الدّلالة على أنه لا ثاني له يشاركه في القدم فالذي يدل على ذلك أنّه لا طريق إلى إثباته ، وكل ما لا طريق إلى إثباته فهو باطل. وتحقيق ذلك أنّ هذه الدلالة مبنية على أصلين :

أحدهما أنه لا طريق إلى إثبات قديم ثان فما زاد عليه. والثاني أنّ كلّ ما لا طريق إلى إثباته فهو باطل.

أما الأصل الأول : وهو أنه لا طريق إلى إثبات قديم ثان فما زاد عليه ؛ فالذي يدل عليه أنه لو كان هناك قديم ثان فما زاد عليه ؛ لما دلّ عليه إلّا الفعل لمجرده (١) ، ومعلوم أنه ليس هناك فعلان يتميّز أحدهما عن الآخر ، فيقال :

بأنهما يدلان على فاعلين قديمين ، فلو جاز أن يقال : بأن العالم بما فيه دليل على قديمين ـ لجاز أن يقال : بأنه يدل على ما لا نهاية له من القدماء وذلك محال. وبعد فإنّ دلالة إثبات الصانع على النّسق الذي ذكره المتكلمون لا يدلّ إلا على واحد ؛ لأنّهم قالوا : بأن العالم محدث ودلّوا على ذلك بما لا نطوّل بذكره ، ثم قالوا : وكلّ محدث يحتاج إلى محدث ودلوا على ذلك بطريقة التّقسيم : وهي أنّه إذا كان العالم موجودا على سبيل الجواز فلا بدّ من أمر يؤثّر فيه ، وأنّ ذلك الأمر لا يخلو أن يكون مؤثّرا على سبيل الإيجاب وهو العلّة ، أو

__________________

(١) في (ب) : بمجرده.

١٤١

لا على سبيل الإيجاب بل على سبيل الصّحّة والاختيار. ثم أبطلوا العلل كلّها من المعدومة والموجودة ، ومن القديمة والمحدثة ، فبقي أنه فاعل ، فلو جاز مع ذلك أن يقال : بأنهم فاعلون قدماء مع كون الدّلالة قد دلّت على هذا الوجه لجوّزنا في كلّ دليل أن يكون إنما دلّ على مدلولات كثيرة ، وذلك ينفي العلوم الضرورية بتعلق (١) الفعل بفاعله ؛ لأنه يجوز (٢) أن يقال بأنه يدلّ (٣) عليه وعلى تأثير غيره معه فيجوز في أفعال غيرنا أن تكون الحركة الواحدة منها تدل على فاعلين كثير (٤) ، مع أنها إنّما دلت على أنه لا بدّ من مؤثّر فيها فحسب ، وهذا يزيل التّفرقة بين ما هو من فعلنا وبين ما هو من فعل غيرنا فينا ، مع أنّ حصول التّفرقة في ذلك ضروريّ ؛ فثبت أنّ العالم إنما يدل على إثبات قديم واحد لا ثاني له ، وصح أنه لا طريق إلى إثبات قديم ثان فما زاد عليه.

وأما الأصل الثاني : وهو أن كل ما لا طريق إلى إثباته فهو باطل ؛ فلأنّ ذلك يؤدّي إلى فتح باب الجهالات ، وما أدى إلى ذلك وجب نفيه ، وإنّما قلنا : إنه يؤدي إلى فتح باب الجهالات ، لأنا متى جوّزنا ثبوت ما لا يصحّ أن يعلم بنفسه ولا بطريق ـ أدّى ذلك إلى إبطال العلوم الضرورية والاستدلالية. أما الضرورية فأن (٥) يجوّز العقلاء أن يكون بحضرتهم مياه عظيمة ، ونيران متأجّجة ، وبحار زاخرة ، مع أنهم لا يعلمونها ؛ لتجويزهم أن يكون هناك مانع من مشاهدة ذلك سوى الموانع المعقولة ، ولا طريق لهم إلى العلم بها ـ فيكون

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : لتعلق.

(٢) في (ب) : لأنه لا يجوز بأن. وفي (د) : لا يجوز أن بأنه دل.

(٣) في (ب) و (ج) : دلّ.

(٤) في (ب) و (د) : كثيرين. والأولى كثير ، مثل (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

(٥) في (ب) : إن شرطية جوابها «فيكون» ، وكان المفترض أن يجزم ، والأصح أن.

١٤٢

تصرّفهم كتصرّف الضّرير والمعتوه. وأما الاستدلالية فبأن يجوّزوا أنّ ما دلّ الدليل على نفيه فهو ثابت بدليل آخر لا يعلمونه ولا طريق لهم إلى العلم به ، ومتى جوّزوا ذلك لم يصح منهم أن يعلموا إثبات علّة لمعلول ، ولا ضدّ لمضادّ ولا فعل لفاعل ، إلى غير ذلك من الجهالات ، وإنما قلنا : بأن كلما أدى إلى ذلك وجب نفيه ؛ لأنه متى لم يجز في العلوم الضرورية والاستدلالية أن تكون جهالات محضة ـ لم يجز إثبات ما دلّ على ذلك ووجب نفيه ؛ فثبت بذلك الموضع الأول وهو في الدلالة على أنه تعالى لا ثاني له في القدم.

وأما الموضع الثاني : وهو في الدلالة على أنه تعالى لا ثاني له يشاركه في الإلهية ؛ فالذي يدل على أنّه لا ثاني له يشاركه في القدم يدلّ أيضا على أنّه لا ثاني له في الإلهية ، ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون قادرا على جميع أجناس المقدورات ، عالما بجميع المعلومات ، غنيا عن كل شيء من المقبّحات والمحسّنات ، وذلك لا يجوز. وإنما قلنا : بأنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون قادرا عالما غنيّا على الحد الذي ذكرناه ؛ لأن الإله من تحقّ له العبادة ، ولا تحقّ له العبادة إلا بأن يكون على هذه الأوصاف ، وإنما قلنا : بأنّ الإله من تحقّ له العبادة ، بدليل أنّه لا يجوز أن يثبت ذلك بأحد اللفظين وينفى بالآخر ، فلا يصح أن يقال : هو إله ولا تحقّ له العبادة ، أو تحقّ له العبادة وليس بإله ، بل يعدّ من قال ذلك مناقضا ، وعلى هذا لمّا اعتقد الكفّار من أهل اللغة أنّ الأصنام تحقّ لها العبادة وصفوها بأنّها آلهة ، واعتقادهم هذا وإن كان فاسدا فإنه لا يمنع من صحّة التّسمية ؛ لأنهم أهل اللغة ، وقد وضعوا هذا الاسم لما تحقّ له العبادة. فوضعهم الاسم صحيح (١) ، ولا عبرة باعتقادهم ؛

__________________

(١) ينظر مختار الصحاح ص ٢٣. ولسان العرب ١٣ / ٤٦٧. والتاج ١٩ / ٧.

١٤٣

لأنّ الغرض أن تؤخذ عنهم الألفاظ دون المعاني والاعتقادات ؛ لأنّ ذلك لا يخصّهم ، بل يتبع العقول والحجج ، ولا يصح قول من قال : إنّ الإله هو من يستحقّ العبادة ؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون إلها في الأزل ، وذلك محال ؛ فثبت أن الإله من تحقّ له العبادة ، وإنما قلنا : إنّه لا تحقّ له العبادة إلا بأن يكون على هذه الأوصاف ؛ لأن العبادة هي غاية التذلّل والخضوع والتعظيم للمعبود ، فيجب أن لا تستحقّ إلا على أصول النعم وأجلّها ؛ لأن التعظيم يتزايد بحسب تزايد أسبابه ؛ ولهذا لا يحسن منّا أن نعظم الأبناء على حد تعظيم الآباء ، ولا الآباء على حد تعظيم العلماء ، ولا العلماء على حد تعظيم الأئمة ، ولا الأئمة على حد تعظيم الأنبياء ، فإذا كان التعظيم يتزايد بحسب تزايد أسبابه ، وثبت أن العبادة غاية التذلّل والخضوع للمعبود ـ ثبت أنها لا تستحقّ إلّا على أصول النعم وأجلّها ، وهو إيجاد المعدوم ، وجعله حيّا ، وخلق حياته (١) ، وخلق شهوته ، وتمكينه من المشتهى (٢) ، وإكمال عقله الذي يميّز به بين الحسن والقبيح ، وذلك لا يصحّ إلا ممن كان قادرا على جميع أجناس المقدورات عالما بجميع المعلومات ، ولا تكون نعما إلا متى قصد بها وجه الإحسان ، ولا نعلم أنه قصد بها وجه الإحسان إلا متى علمنا كونه عدلا ، ولا نعلم كونه عدلا إلا متى علمنا كونه غنيا ، فثبت ما قلناه من أنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون عالما بجميع المعلومات ، قادرا على جميع أجناس المقدورات ، غنيا عن كل شيء وإنما قلنا بأن ذلك لا يجوز لوجهين :

أحدهما : أن ذلك يؤدّي إلى مقدور بين قادرين ؛ لأنّا لا نعني بمقدور بين

__________________

(١) المراد الحياة المدركة المتحركة.

(٢) في (ب) ، و (ج) : المشتهيات.

١٤٤

قادرين إلا أنه يصح من كلّ واحد منهما (١) إيجاد ما يصح من الآخر إيجاده ، ولا شك أنّهما على القول بإثباتهما جميعا قد اشتركا في أنّ كل واحد منهما قادر لذاته ، فلا اختصاص لذاته بمقدور دون مقدور على ما تقدم تفصيله ، فثبت أنه يؤدى إلى مقدور بين قادرين ، وإنما قلنا بأن مقدورا بين قادرين محال ؛ لما قدمنا ذكره والدلالة عليه أوّلا.

الوجه الثاني : أن ذلك يؤدى إلى القول بوجوب صحة التمانع بينهما ، ولا يجوز أن يصح بينهما التمانع ، وإنما قلنا : بأنه يؤدي إلى وجوب صحة التمانع ؛ لأنّ كل قادرين يصحّ بينهما التمانع والاختلاف ؛ لأنا لا نعنى بصحة التمانع إلا أنه يصحّ من كل واحد منهما إيجاد ضدّ ما يصحّ من الآخر إيجاده ، وقد ثبت أنّ كل واحد من القادرين يتعلق كونه قادرا بالضّدّين كالحركة والسكون ونحو ذلك ، على ما نبيّنه إن شاء الله تعالى في فصل الاستطاعة ، فوجب أن يصحّ من كل واحد من القادرين إيجاد كل واحد من الضّدّين بدلا عن صاحبه ؛ لاشتراكهما في الصفات التي قدمنا ذكرها ، وإلا بطل كونه قادرا عليه ، ولم ينفصل حاله عن حال العاجز ، بل هذه القضية ألزم في القديمين والإلهين ، إذ كلّ واحد منهما قادر على جميع أجناس المقدورات ، ومن كل جنس ، في كل وقت ، على ما لا نهاية له ، فيجب أن يصحّ من كل واحد منهما إحداث ضدّ ما يصحّ من الآخر إحداثه ؛ لأنّ المتضادات داخلة في جميع أجناس المقدورات ، ولسنا نعنى بإمكان التمانع بينهما إلا ذلك. وإنما قلنا : بأنه لا يجوز أن يصحّ بينهما التمانع ؛ لأنّا لو قدّرنا وقوع هذا الممكن وهو أن أحدهما أراد تحريك جسم في حال ما يريد الآخر تسكينه لم يخل الحال من أمور ثلاثة :

__________________

(١) في (ب) : من كل قادر منهما.

١٤٥

إمّا أن يوجد ما أراده جميعا فيكون محتركا ساكنا في حالة واحدة ، وذلك محال. وإمّا أن لا يوجد مرادهما جميعا فذلك لا يجوز ؛ لأنه يؤدي إلى عجزهما جميعا وخروجهما عن كونهما قديمين في حالة واحدة وذلك محال. وإما أن يوجد مراد أحدهما دون الآخر فهذا باطل ؛ لأنهما على هذا القول قد اشتركا في صفات الذّات فلا مخصّص بذلك لأحدهما دون الآخر. وقد أدى إلى هذه المحالات القول بصحة التّمانع ، وأدّى إلى القول بصحة التمانع القول بالقديم الثاني والإله الثاني ، أو بأكثر من ذلك ؛ فيجب أن يكون محالا ، فلم يبق إلا أنه تعالى واحد لا ثاني له في القدم ولا في الإلهية.

وأما الموضع الرابع : وهو فيما يؤكد ذلك من أدلة السمع ؛ فعلى ذلك أدلة ـ منها : أن المعلوم ضرورة من دين نبينا محمد الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين أنّ الإله واحد لا ثاني له ، ولا قديم غيره. بل هو المعلوم من دين جميع الأنبياء المرسلين (١) ضرورة ، فلا يجوز القول بخلافه. ومنها : ما نبّه الله تعالى عليه من دليل التّمانع ، وهو قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] تنبيه على الممانعة والمغالبة التي ذكرناها وبيّنّا وجهها ، وكذلك قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ؛ فإنه تنبيه على ما ذكرنا من التمانع. ومنها : قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) ، وقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إلى أخر السورة ، وقول الله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ،

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : والمرسلين.

١٤٦

وقوله تعالى : (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [الأنبياء : ١٠٨].

فثبت أنه تعالى واحد لا ثاني له يشاركه في القدم ولا في الإلهية ، وبطل ما ذكره المخالفون ، فثبت بجميع ما تقدم أنه تعالى لا يخرج عن صفة من الصفات بل يجب اختصاصه دائما بالنفي منها والإثبات ؛ لما ثبت بما تقدّم من أنّه لا فاعل له يجعله على هذه الصفات ، ولا علّة تؤثّر فيه في حالة من الحالات ، فكانت واجبة لله تعالى ، واستغنى بقدمه عن كل مؤثّر من فاعل وعلة ، ولزم ثبوتها في جميع الأحوال ؛ لأنه لا مخصّص يخصّص ثبوتها في حال دون حال ؛ فلزم ثبوتها في جميع الأحوال ، وقد قال تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩] ، وقال تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٢٠].

وخرجت أيها المسترشد باعتقاد ما تقدّم عن اعتقادات الباطنية ، والمشبّهة ، والكرّامية ، والأشعرية ، والهشامية (١) ، والضرارية ، وسائر الصفاتية ، وزايلت المجوس ، والثّنوية ، والنصارى : النسطورية (٢) ، واليعقوبية (٣) ، والملكية (٤) ، وبتمام الكلام في هذه المسائل كملت مسائل التوحيد ، فلنتكلم في مسائل العدل وما يتفرع عليها فنقول وبالله التوفيق :

__________________

(١) أصحاب هشام بن الحكم المتوفي ٢٧٩ ه‍ ، من متكلمي الشيعة الإمامية ، وجرت بينه وبين أبي الهذيل مناظرات في علم الكلام.

(٢) أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمن المأمون ، وتصرف في الإنجيل بحكم رأيه. الملل والنحل ٢ / ٦٤ بهامش ابن حزم.

(٣) اليعقوبية : نسبة إلى يعقوب ، وهي فرقة من النصارى قالوا بالأقاليم الثلاثة إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحما ودما ، فصار الإله والمسيح ، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. الملل والنحل للشهرستاني ٢ / ١٦ بهامش ابن حزم.

(٤) الملكائية : أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم ، واستولى عليها ومعظم الروم ملكائية. ينظر الملل والنحل ٢ / ٦٢ بهامش ابن حزم.

١٤٧

فصل :

نعتقد أن الله عدل حكيم.

والكلام في ذلك يقع في ستّة فصول :

أحدها : في معنى العدل. والثاني : في تعيين الأفعال وقسمتها وحصرها. والثالث : أنّ في الأفعال ما لو فعله الله تعالى لكان قبيحا. والرابع : أنّه تعالى قادر على فعل القبيح. والخامس : أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب ، وأفعاله كلها حسنة. والسادس : فيما يلائم ذلك من الأدلة الشرعية.

أما الفصل الأول : وهو في معنى العدل

فهو في أصل اللغة : مصدر من عدل يعدل عدلا ، وهو إنصاف الغير بفعل ما يجب له أو يستحقّ ، وترك ما لا يستحقّ عليه ، مع القدرة على ذلك.

وهو في عرف اللغة : المكثر من فعل العدل ، يقال : فلان عدل إذا أكثر من فعل العدل ، قال زهير :

متى يشتجر قوم يقل سرواتهم

هم بيننا فهم رضى وهم عدل (١)

وهو في عرف الشّرعيين : المستمرّ على فعل الواجبات ، والكافّ عن المقبّحات والمباحات المسخّفات (٢) ، صحيح الاعتقاد ، والمراد بذلك كلّه في ظاهر الحال ؛ لأنا لم نتعبّد بباطنه. واشترطنا صحة الاعتقاد في الظاهر ؛ لأنّ

__________________

(١) ديوانه ص ٤٠. والمعنى : إذا اختلف قوم في أمر رضوا بحكم هؤلاء لما عرف من عدلهم.

(٢) في (ب) و (ج) : المستخفّات ، وما في الأصل أظهر.

١٤٨

العدالة هي صحة الاعتقاد ، والعمل بمقتضاه (١).

وهو في اصطلاح المتكلمين : الذي لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وأفعاله كلّها حسنة.

وأما الفصل الثاني :

وهو في تعيين الأفعال الداخلة في أبواب العدل ومعانيها ، وقسمتها ، وحصرها.

أمّا تعيينها فهي القبيح والحسن. والحسن يشتمل على : الواجب والمندوب والمكروه والمباح.

وأما معانيها فالقبيح : هو ما ليس للقادر عليه ، المتمكّن من الاحتراز منه أن يفعله. والحسن : هو ما للقادر عليه أن يفعله. والواجب : هو ما ليس للقادر عليه الاخلال به على بعض الوجوه. والمندوب : هو ما عرّف فاعله أو دلّ على أنه يستحقّ بفعله المدح. والمكروه : هو ما عرف فاعله أو دلّ على أنه يترجّح تركه على فعله ، وهذا يخص الشرعيات دون العقليات ؛ فإنه لا مكروه في العقل إلا القبيح دون الحسن. وأما المباح : فهو الذي لا يترجّح تركه على فعله ، ولا فعله على تركه.

وأما قسمتها وحصرها فالفعل لا يخلو أن يكون للقادر عليه المتمكّن من الاحتراز منه أن يفعله أم لا ، إن لم يكن فهو القبيح. وهو على ضربين : عقلي وشرعي ؛ فالعقلي كالظّلم وكفر النعمة ونحو ذلك. والشرعي كالربا والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك. وإن كان للمتمكّن من الاحتراز منه أن يفعله فهو الحسن. ثم لا يخلو أن يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذّمّ أو لا ؛

__________________

(١) ينظر حول ذلك كتابنا عدالة الرواة والشهود ص ٢٠ وما بعدها.

١٤٩

فإن كان للإخلال به مدخل في استحقاق الذّمّ فهو الواجب ، وله ثلاث قسم باعتبار أحكامه :

القسمة الأولى : أنه ينقسم إلى مطلق كالحج ، وإلى مقيّد بوقت. وهو على ضربين : أحدهما يتّسع للفعل ولا يزيد عليه ، وذلك كاليوم في الصوم. والثاني يتّسع للفعل ولغيره ، وهو على ضربين : موسّع كالصلاة في أوّل وقتها ، ومضيّق كالصلاة في آخر وقتها.

القسمة الثانية : ينقسم إلى معيّن كالواجبات على الأعيان نحو الصلوات الخمس وما أشبهها ، وإلى غير معيّن كالواجبات على الكفاية نحو صلاة الجنازة وما أشبهها.

القسمة الثالثة : أنه ينقسم إلى ما لا بدل له ، وإلى ما له بدل ؛ فالذي لا بدل له نحو معرفة الله وما أشبهها. والذي له بدل ضربان : أحدهما له بدل مرتّب ، وهذا كالتيمم في كونه بدلا عن الوضوء. والثاني له بدل غير مرتّب وهو الواجبات المخيّرات ، وهو على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون التخيير بين أمور متضادّة ، وهذا كالأمر بالصلاة في بقاع المسجد ؛ فإنها متضادّة لتغاير الجهات. والثاني : أن يكون التخيير بين أمور مختلفة ، نحو التخيير بين الكفارات الثلاث ونحو ذلك. والثالث : أن يكون التخيير بين أمور متماثلة ، نحو الأمر بإخراج جزء معيّن من المال ، نحو العشر أو نصف العشر في الزكاة ؛ فإنه مخيّر بين إخراج أي الأقسام العشرة شاء ونحو ذلك ، وإن لم يكن للإخلال به مدخل في استحقاق الذم فلا يخلو أن يستحق (١) بفعله المدح أم لا ، إن استحق بفعله المدح فهو كالتفضل (٢)

__________________

(١) يجوز البناء للفاعل والمفعول.

(٢) في (ب) : فهو التفضل.

١٥٠

والإحسان في العقل ، وهو المندوب شرعا ، وقد يسمى سنّة إذا أكثر من فعله النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإن لم يداوم عليه ولا أكثر من فعله سمّي تطوعا. وإن لم يستحقّ بفعله المدح فلا يخلو أن يترجّح تركه على فعله أم لا ؛ فإن ترجّح تركه على فعله فهو المكروه شرعا نحو الأكل بالشّمال ، وقد ذكرنا أنه لا مثال له في العقل ، وإن لم يترجّح تركه على فعله على الإطلاق فهو المباح. فمثال الواجب من فعل الله تعالى التمكين واللّطف. ومثال المندوب العفو والتفضّل والإنعام. ومثال ما هو من جنس المباح العقاب والذمّ.

وأما الفصل الثالث :

وهو أن في الأفعال ما لو فعله الله تعالى لكان قبيحا (١)

فالذي يدل على ذلك أن الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها ، فمن أيّ فاعل وجدت على بعض تلك الوجوه وجب كونها قبيحة ، وإنما قلنا بأن الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها ؛ لأن القبح ثابت في الأفعال خلافا للفلاسفة الضّلال ومن وافقهم من متأخري الأشعرية الجهّال ؛ فإنهم يذهبون إلى نفي الحسن والقبح عن الأفعال (٢) ، ويقولون : إنّ ما يستنكر من ذلك من باب المشهورات والمقبولات والمتخيّلات ، ممّا (٣) يؤيّدها نفور النفس والإلف والعادة. وذهبت الجبرية القدريّة إلى أن الأفعال تقبح منّا لكوننا منهيين ، أو مملوكين ، أو مربوبين ، أو محدثين. وإذا أردنا ذلك (٤) تكلمنا في موضعين : أحدهما في الدلالة على إثبات القبح في الأفعال ؛ والذي يدل على ذلك أن العقلاء يعلمون بعقولهم

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : قبحا.

(٢) ينظر الإرشاد للجويني ص ٢٢٨. ورسالة إلى أهل الثغر ص ٢٤٦.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) في (ب) : وإذا أردنا إبطال ذلك.

١٥١

التفرقة بين المحسن وبين المسيء ؛ فإن التفرقة بين من اصطفى الأموال وسفك الدماء ، وبين من أرشد الضّال ، وأطعم الجائع ، وهدى إلى السبيل ، وأمّن الطريق ، وتفضّل على المحتاجين بالأموال ـ معلومة ضرورة ، يشترك (١) في معرفة ذلك العقلاء كلّهم من أقرّ بالصّانع واعترف بالشرائع ، ومن لم يقرّ بشيء من ذلك بل جحده كالملاحدة فإنها تعرف ذلك ، وهي معرفة ظاهرة مع اشتراك الفعلين والفاعلين في اللذة والألم ، وكون الفاعلين مشتركين في كونهما منهيّين ، ومملوكين ، ومربوبين ، ومحدثين ، فلم يبق إلا أن تكون (٢) التفرقة الحاصلة بين الفعلين هي غير ذلك ، وهي الحسن والقبح. وكما يعلمون ذلك باضطرار ، فإنهم يعلمون التفرقة بين من قطع يده لا لغرض ، وبين من قطعها من خوف أن تسري إليها الجراحة فتؤدي إلى هلاكه ، ويفرّقون بين الفعلين فرقا ظاهرا حاصلا بفطرة العقل ، ويعلمون أنه ممدوح على قطع يده لغرض ، وغير ممدوح بل مذموم على قطعها لغير غرض ، مع اشتراك الفعلين في نفور النّفس والإلف والعادة وسائر الوجوه التي ذكرناها ، وليس ذلك إلا لعلمهم بالقبح في أحدهما دون الآخر ، وهذا أمر لا يمكن دفعه ولا يردّه إلا مكابر لعقله أو من هو معتوه لا عقل له ، فبطل بذلك قول الفلاسفة والأشعرية والقدرية.

والموضع الثاني (٣) ـ في الدلالة على أن القبيح يقبح لوجوه يقع عليها. فالذي (٤) يدل على ذلك أن العقلاء يعلمون باضطرار أن الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها من كونها ظلما أو كذبا أو تكليفا لما لا يطاق ، أو تكليفا لما لا

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : ويشترك.

(٢) في (ب) : يكون.

(٣) في (ب) و (ج) : وأما الموضع الثاني. وفي (ب) بزيادة وهو في الدلالة.

(٤) في (ب) ، (ج) : والذي.

١٥٢

يعلم ؛ ولهذا فإنّ الواحد منا متى علم وقوع الفعل على بعض هذه الوجوه علم كونه قبيحا ، وإن فقد كلّ أمر يشار إليه مما سوى ذلك ، بدليل أنّ الحكم يثبت بثبوت ذلك ، وينتفي بانتفائه ، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى ، فثبت ما ذكرناه من أنّ الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها. وإنما قلنا : بأن أيّ فاعل وجدت منه على أحد (١) تلك الوجوه وجب كونها قبيحة ؛ لأنّ وجه القبح مع القبح جار مجرى العلة مع المعلول ؛ فكما لا يجوز ثبوت العلّة بدون معلولها ، كذلك لا يجوز ثبوت القبح مع انتفاء القبح.

وأما الفصل الرابع :

وهو أنه تعالى قادر على فعل القبيح

فالذي يدلّ على ذلك أنه قادر على جميع أجناس المقدورات على ما تقدم. والقبائح من جملة المقدورات ؛ ولهذا فإنه يصح منا إيجادها. فلو لم تكن من جملة المقدورات لما صحّ منا إيجادها.

وأما الفصل الخامس :

وهو أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وأفعاله كلّها حسنة

فنحن نتكلم في كل واحد منها ليصحّ قولنا : إنّه تعالى عدل حكيم. أمّا أنّه تعالى لا يفعل القبيح فلأنه تعالى عالم بقبح القبيح ، وغنيّ عن فعله ، وعالم باستغنائه عنه ، وكلّ من كان كذلك فإنه لا يفعله. وإنما قلنا : بأنه تعالى عالم بقبح القبيح ، فلما بيّنا بأنّه (٢) تعالى عالم بجميع المعلومات. والقبائح من جملة المعلومات ؛ فيجب أن يعلمها.

__________________

(١) في (ب) : حد.

(٢) في (ب) : أنّه.

١٥٣

وأمّا أنه تعالى غنيّ عن فعلها فلما بينّا أنه تعالى غني ، وأن الحاجة لا تجوز عليه في حال من الأحوال ، وقلنا : إنّه تعالى عالم باستغنائه عنه ، لما بينا أنه تعالى عالم بجميع أجناس (١) المعلومات. وأجلّ المعلومات (٢) ذاته تعالى ، فيجب أن يعلمها على ما هي عليه من صفات الكمال. ومن جملة صفات الكمال كونه غنيا عن القبائح ، فيجب أن يعلم ذاته كذلك. وإنما قلنا : بأن كلّ من كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح ؛ لأنّ علمه بقبحه يصرفه عن فعله من جهة الحكمة ، وعلمه باستغنائه عنه يقتضي أنه لا داعي له إليه من جهة الحاجة. وكلّ من خلص صارفه عن الفعل ، وفقد داعيه إليه فإنه لا يفعله ؛ فثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح.

وأما أنه تعالى لا يخلّ بما يجب عليه من (٣) الحكمة ، فينبغي أن نبين أولا ذلك الواجب ، ثم نتكلم في أنه تعالى لا يخل به. أمّا الذي يجب عليه تعالى فستّة أمور : وهي التمكين للمكلفين ، والبيان للمخاطبين ، واللطف للمتعبّدين ، وقبول توبة التائبين ، والثواب للمطيعين ، والعوض للمؤلمين.

والذي يدل على وجوبها على الله تعالى يدخل في اثناء المسائل فلا نطوّل بذكره هاهنا. والذي يدل على أنه تعالى لا يخل بشيء من هذه الأمور أنه تعالى عالم بقبح الإخلال ، وعالم باستغنائه عن الإخلال بها ، على نحو ما تقدم ، وكلّ من كانت هذه حاله فإنه لا يخل بشيء منها على ما تقدّم تحقيقه ، حيث بيّنا أنه تعالى لا يفعل القبيح.

وأمّا أن أفعاله كلّها حسنة فلأنه تعالى عالم بما يفعله من الأفعال ، فلا

__________________

(١) في (ب) و (ج) و (د) : بحذف أجناس.

(٢) في (ب) و (ج) : وأحد المعلومان.

(٣) في (ب) و (ج) : في.

١٥٤

يخلو أن يكون قبيحا أو حسنا. باطل أن يكون قبيحا لما بيّنّا أنه تعالى لا يفعل القبيح ولم يبق (١) إلا أن يكون حسنا ؛ فثبت أنّ أفعاله كلّها حسنة.

وأما الفصل السادس :

وهو فيما يلائم ذلك من الأدلة الشرعية ؛ فيدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع :

أما الكتاب : فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤] ، وقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت : ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩] ، وقوله تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [هود : ١١٧] ، وقوله تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) .. الآية ، [النساء : ٤٠] ، ونظائرها في القرآن كثير.

وأما السنة : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله عزوجل : إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّما ، فلا تظالموا يا عبادي» (٢).

__________________

(١) في (ب) و (ج) : فلم يبق.

(٢) أمالي أبي طالب ٣٩٧. وسنن البيهقي ٦ / ٦٣. وأحمد رقم ٢١٤٧٧ بالمعنى.

١٥٥

وروي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «سبق العلم ، وجفّ القلم ، وتمّ القضاء بتحقيق الكتاب ، وتصديق الرّسل ، والسّعادة من الله لمن آمن به ، والشقاء لمن كذّب وكفر. وبالولاية من الله للمؤمنين ، والبراءة منه للمشركين ، وبالتوبة لهم إن تابوا وآمنوا كما أمرهم الله» (١) إلى غير ذلك من السنة. والمعلوم ضرورة ، من دين نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الله تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب وأنّ أفعاله كلّها حسنة.

وأما الإجماع : بين المسلمين فذلك ظاهر لا يدفعه إلا مكابر.

فصل : ونعتقد أنّا فاعلون لتصرفاتنا

والكلام في ذلك يقع في خمسة مواضع : أحدها : في حقائق هذه الأمور التي تضمّنها الكلام بيننا وبين المخالفين ، وهي الفعل والفاعل والكسب والمباشر والمتولّد. والثاني : في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثالث : في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون. والرابع : فيما يلائم ذلك ويدل عليه من جهة السمع. والخامس : فيما يستدل به المخالفون من الآيات المتشابهة ، وبيان معانيها التي تجوز فيها.

أما الموضع الأول : وهو في حقائق الأمور التي ذكرناها. فالفعل : هو ما وجد من جهة من كان قادرا عليه. وقولنا : كان ؛ لئلا يبطل بالمسبّب الذي يوجد بعد خروج فاعله عن كونه قادرا. والفاعل : هو الذي وجد من جهته بعض ما كان قادرا عليه. وقلنا : «بعض» ؛ لأنّ الفاعل يكون فاعلا وإن لم توجد منه جميع مقدوراته. وقلنا : كان ، احترازا عما تقدم في الفعل.

وأما الكسب : فالمعقول منه عند أهل اللغة هو إحداث الفعل لطلب نفع

__________________

(١) أخرجه أحمد بن عيسى في الأمالي ٣ / ٣٣٠.

١٥٦

يعود إلى الفاعل ، أو لدفع ضرر عنه ، وعلى هذا لا يجوز تسمية القديم تعالى مكتسبا لاستحالة المنافع والمضارّ عليه كما تقدم في فصل غنيّ أنّه لا يجوز عليه المنفعة والمضرة. وأما المباشر (١) : فهو الفعل الذي يوجد بالقدرة في محلها ابتداء. وأمّا المتولّد : فهو الفعل الذي وجد بحسب فعل آخر على جهة الإيجاب.

وأما الموضع الثاني : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف. فذهب المسلمون إلى أنّ العبد فاعل لتصرفاته دون الله تعالى ، وهذا هو مذهب جميع النبيين وصحابتهم أجمعين. والخلاف في ذلك مع القدرية. فذهبت الجهمية منهم (٢) إلى أنها من الله تعالى مبتدأة كانت أو متولّدة. وذهبت الأشعرية إلى أنّها من الله تعالى ، والعباد مكتسبون لها (٣). وذهب ضرار ابن عمرو (٤) إلى القول بالكسب ، إلا أنه يقول : إنّ العباد مكتسبون للمبتدإ منها دون المتولد. وذهبت المطرّفيّة (٥) إلى أن العباد فاعلون لكل ما لا يتعدى من أفعالهم ، ويطلقون على ما هذه حاله أنه فعل العبد ،

__________________

(١) المباشر مثل رمي الحجر. والمتولد ما تولد منه الفعل ، وهو الأثر الذي يحدثه الحجر.

(٢) الجهمية : هم أصحاب جهم بن صفوان قالوا : بأن الإنسان وعمله من فعل الله كشجرة في مهب الريح وقلم في يد كاتب وهم المجبرة الخلّص. ينظر الملل والنحل للشهرستاني ٢ / ٨٦. ورسائل العدل والتوحيد ص ٣٤٨. والقضاء والقدر للرازي ص ٣١. وعدالة الرواة والشهود للمحقق ص ١٧٢.

(٣) ينظر القضاء والقدر ص ٣٢.

(٤) ضرار بن عمرو : وإليه تنسب الضرارية ، كان ظهوره في أيام واصل بن عطاء ، وله كتاب اسمه التحريش.

(٥) «المطرّفيّة» هم أصحاب مطرّف بن شهاب ، فارقوا الزيدية بمقالات في أصول الدين ، مثل قولهم : إن كثيرا من أفعال الله ليس بحكمة ولا صواب ونحوها. كفّرهم كثير من الزيدية بها. وقد انقرضت هذه الفرقة بسيف الإمام المنصور عبد الله بن حمزة عليه‌السلام عام ٦١١ ه‍. ينظر ١ / ١٣٨ من الأساس الكبير للسيد أحمد الشرفي.

١٥٧

ويقولون : إنّ كلّ ما يتعدى من أفعالهم إلى غيرهم وهي (١) المتولّدات والمسبّبات فإن الله فاعلها ، وهو الذي يسمونه انفعالا. ومن الظاهر الجلي أنّهم يقولون : بأن فعل العبد لا يعدوه ولا يوجد في غيره.

وأما الموضع الثالث :

وهو في الدليل على صحّة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالفون.

فاعلم أنّ كون العبد فاعلا لتصرفاته أمر معلوم بالاضطرار ، لا يقدح في ثبوته الإنكار ؛ فمنكره كمنكر كون دجلة في الأنهار ، ونافيه كنا في ظلمة الليل وضياء النهار. وما هذه حاله لا يحتاج فيه إلى نصب دلالة ؛ لأن الدّلالة تؤدى إلى علم استدلاليّ ، وهو مما يجوز انتفاؤه (٢) عن النّفس بالشك والشّبهة. والضروريّ لا يجوز انتفاؤه (٣) عن النفس بشك ولا شبهة. وقد ألهم الله تعالى البهائم ضربا من الإلهام يميّزون (٤) به بين الفاعلين للأفعال ؛ فإن فاعلين لو أحسن أحدهما إلى بعض الكلاب بالطعام ونحوه. والفاعل الآخر لا يطعمه الطعام ، ويرميه بالحجارة ونحو ذلك من الإساءات لميّز الكلب بين المحسن والمسيء في ذلك ، ولفرّق بينهما. يبيّن ذلك ويوضحه أنّ الكلب يأنس بمن يطعمه الطعام ، وإذا رآه أتى إليه ، وتبصبص بذنبه ، بخلاف من يسيء إليه ، فإنه لا يأنس إليه (٥) ، بل يهرّ عليه إذا رآه ، فإن (٦) قدر عليه هرشه ، وإن لم يقدر عليه شرد منه.

__________________

(١) في (ب) : وهو.

(٢) في (ب) : ابتعاده.

(٣) في (ب) : ابتعاده.

(٤) في (ب) : تميز.

(٥) في (ب) ، و (ج) : لا يأنس به.

(٦) في (ب) : وإن.

١٥٨

فالعجب من هؤلاء الجهّال كيف نفوا الضروريات ، واعتمدوا على التخيّلات والوهميّات. ثمّ يقال لهم على جهة التنبيه : إنّ هذه الأفعال التي نقول بأنها أفعالنا يتعلق بها المدح ، والذمّ ، والتهديد ، والنّهي ، والأمر ، والردع ، والزجر ، والوعد ، والوعيد ، على ما ذلك معلوم ضرورة. فكل (١) ما هذه حاله فهو فعلنا بدليل أنها لو لم تكن فعلنا لجرت مجرى أفعال الله فينا ، نحو ألواننا وصورنا ، فكما أنه لا يتعلّق بها شيء من هذه الأمور ، كذلك كان يجب في أفعالنا ؛ ولأنها تحصل بحسب قصودنا ودواعينا وقدرنا وعلومنا وإرادتنا وأسبابنا ، وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال ، وارتفاع الموانع ، إما محقّقا نحو فعل العالم بفعله ، وإمّا مقدّرا نحو فعل الساهي والنائم ، فلو لا أنها أفعالنا لما حصلت بحسب ذلك ، كما لا تحصل بحسبه أفعال غيرنا فينا ، نحو ما تقدم ذكره من الألوان والصّور والشّواهة والحسن والقصر والطّول.

واعلم أن مذاهب هؤلاء الجهال القدريّة الضّلال يؤدي إلى زوال الفائدة ببعثة الأنبياء ، وإرسال الرّسل الأصفياء ، وإلى زوال التفرقة بين الأعداء والأولياء ، بل يسدّون على أنفسهم باب معرفة الله تعالى لأنهم لا يقولون بالفاعل المختار في الشّاهد ، ولا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا فعله (٢) ، فلا طريق إذن. وكفى بذلك جهالة وغواية وضلالة.

وأما الكسب فهو غير معقول في نفسه فنحتجّ على فساده ، بل يكفي

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : وكل.

(٢) على قول من يقول : لا طريق إلى معرفة الله إلا بالقياس على الشاهد ؛ أي أنه لا بد لكل فعل من فاعل ، بل صرح أبو هاشم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا القياس على الشاهد.

١٥٩

في فساده في نفسه كونه غير معقول (١).

وأما الموضع الرابع : وهو فيما يلائم ذلك من أدلة الشرع :

فالذي يدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب ـ فقول الله سبحانه : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء : ١٤٩ ـ ١٥٠] وقول الله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء : ١٢٨ ـ ١٣٠] إلى غير ذلك من الآيات التي أضاف فيها إلى العباد أفعالهم فقال : تفعلون ، وتكسبون ، وتخلقون إفكا.

ونظائر ذلك كثير في كتاب الله تعالى.

وأما السنة ـ فكثير نحو ما روينا عن أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لو أنّ جميع أمّة محمد اشتركوا في دم رجل مؤمن لكان حقّا على الله أن

__________________

(١) حتى عند الأشعرية أنفسهم فقد خبطوا في حقيقته. وقد أنشد المقبلي في الأرواح النوافخ ص ٢٨٣ هذه الأبيات :

إنّ سين الكسب ذال

كذبوا من غير نيّة

هكذا قالوا ، وعندي

غير ذا للأشعرية

جحدوا عقلا وشرعا

وافتروه عن رويّة

صدقوني أو فقولوا :

ليست الشمس مضيّة

من يناضلني؟ أناضل

بالطروس الأحوذيّة

أو يباهلني؟ أباهل

بالسّمات الأحمديّة

فعلام اللوم؟ قل لي

ليس في الدين دنيّة

داهن القوم لعمري

ندموا عند المنيّة

غير سخط الله سهل

إنّما تلك الرزيّة

وعلى الله توكل

ت فلا أخشى البليّة

١٦٠