ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

وكذلك قوله تعالى : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] ، فإنه لا يقتضي أنه لم يكن عالما بذلك ، بل يوجب الإمهال والإنظار ، وقد تضمن ذلك التهديد ، ومعناه لينظر (١) إلى عملكم موجودا فيثيبكم أو يعذبكم على ما يحصل من أعمالكم ؛ لأنه لا يجوز أن يعذبهم على علمه بما سيعلمون ؛ لأنه ليس بعمل لهم قبل فعله (٢).

وكذلك قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، فإن «لعلّ» في هذا الموضع (٣) توضع موضع لام كي ، وذلك شائع في لغة العرب ، فيجب حملها على هذا المعنى (٤).

ومما تعلقوا به قول الله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ، قالوا : فقد أثبت لنفسه القوّة ، وذلك يوجب صحة القول بالصفات (٥).

__________________

(١) في (ب) : لننظر إلى عملكم فنثيبكم ونعذبكم ، وفي (د) : أو نعذبكم.

(٢) ينظر الكشاف ٢ / ٣٣٣.

(٣) في (ب) في مثل هذا الموضع.

(٤) ينظر معاني القرآن للأخفش ٢ / ١٣١ ، والدر المصون ٨ / ٤٣ ، وقال : قوله : لعله «فيه أوجه : أحدها : أن لعل على بابها من الترجي ، وذلك بالنسبة إلى المرسل وهو موسى وهارون عليهما‌السلام ، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، اذهبا مترجيين طامعين ، وهذا معنى قول الزمخشري ، ولا يستقيم أن يرد ذلك في حق الله تعالى ؛ إذ هو عالم بعواقب الأمور. وعن سيبويه : كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى ؛ فهو من الله واجب ، يعني أنه مستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى. والثاني : أن لعل بمعنى كي ، فتفيد العلة. وهذا قول الأخفش ، قال كما تقول : اعمل لعلك تأخذ أجرك ، أي : كي تأخذ. والثالث : أنها استفهامية ، أي : هل يتذكر أو يخشى؟ وهذا قول ساقط ، وذلك أنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى ، كما يستحيل الترجي ؛ فإذا كان لا بد من التأويل ، فجعل اللفظ على مدلوله باقيا أولى من إخراجه عنه».

(٥) ينظر تفسير الفخر الرازي مج ١٤ ج ٢٧ ص ١١٣ حيث قال : احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة لله ، فقالوا : القوة لله تعالى.

٦١

والجواب : أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون له قوة شديدة ، والشدة إنما هي الصلابة ، ولا يجوز وصف القوى والأعراض بالشدة والصلابة على الحقيقة.

وبعد فالقوى إنما تستعمل في الأجسام ذوات الجوارح والمحتملة للأعراض ، فيقال : فلان ذو قوة ، وإنه لذو قوة شديدة إذا كانت جوارحه متينة مكبّدة (١) ، صلبة الأعصاب (٢) ، غير رخوة ، وكل ذلك ما لا يقولون به ، وعلى أن ظاهر الآية يقتضي أن يكونوا يعلمون أنه أشدّ منهم قوة من حيث علموا أنه خلقهم. فالواجب أن ينظروا ، فإن كان خلقه إياهم يقتضي أنّ له قوة ويدل عليه قضي به ، وإن لم يدل عليه ودل على غيره مما يمكن صرف الآية إليه مما هو مجاز وجب رده إليه. ومعنى ذلك أنه تعالى أقوى منهم ، أي أقدر (٣) ، وذلك شائع في اللغة العربية ، فإنّ ذلك يجري مجرى قول القائل : فلان أشدّ من فلان بأسا وقوة ، فلا يخطر ببال أحد من أهل اللغة أن هناك معاني ، بها صار أقوى ؛ لأنهم لا يعرفون المعاني التي أثبتها المتكلمون ، وإنما يقصدون به أنه أقدر منه على الأمور وأقوى ، فأراد الإخبار عن كونه قادرا على حدّ لا يساويه قادر في ذلك ، فيجب حمل كلامه على المعنى اللغوي ؛ لأنه نزل على اللغة العربية ، فقال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥] ، فيجب حمله على ذلك دون ما ذكروه من الأعراض.

__________________

(١) الكبد ـ بفتح الكاف والباء : الاستواء والاستقامة. وفي حديث الخندق : «فعرضت كبدة شديدة» بسكون الباء. وهي القطعة الصلبة من الأرض. [تاج العروس ٥ / ١٢١٨].

(٢) في (ب) مؤكدة صلبة الأعضاء وفي هامش (ب) مبنية مؤكدة. وفي هامشها أيضا : مكينة قال نسخة.

(٣) أنظر الكشاف للزمخشري ٤ / ١٩٣.

٦٢

وبعد : فإن صحة السمع موقوفة على أنه عالم بقبح القبيح ، وغنيّ عن فعله ، وعالم باستغنائه عنه ، لئلا يفعل (١) الكذب والتلبيس والتغرير ، وذلك فرع على أنه عالم بجميع المعلومات ، ولا (٢) يصح ذلك إلا متى كان عالما لذاته ، دون ما قالوه : من أنه عالم بعلم. فصحة العلم إذن مبنية على هذه المسألة (٣) ، وبطلان مذهبهم فيها ، واستدلالهم بالسمع على ذلك هو استدلال على الأمر بما لا يصح إلا بعد بطلانه.

المسألة السابعة

ونعتقد أنه تعالى لا يشبه الأشياء

والذي يدل على ذلك أنه لو أشبهها لوجب أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا ، وذلك لا يجوز.

وإنما قلنا : بأنه كان يجب أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا ؛ لأنّ القسمة في ذلك صحيحة ؛ لترددها بين النفي والإثبات.

وبيان ذلك أن الشيء لا يخلو أن يثبت له صفة الوجود أم لا. إن لم تثبت له صفة الوجود ؛ فهو المعدوم : وهو المعلوم الذي ليس بموجود ، هذا عند القائلين (٤) بأن المعدوم شيء وذات يعلم بانفراده.

__________________

(١) في (ج) لأنه لا يفعل.

(٢) في (ب) فلا.

(٣) في هامش (ب) : على صحة هذه المسألة.

(٤) هو رأي الجمهور من المتكلمين كما ذكر ذلك حميد في الوسيط [خ ٢٢] ، وخالف في ذلك الأشعرية وبعض المعتزلة. ينظر البحر الزخار ١ / ٩٩ ، والمعالم الدينية للإمام يحيى ابن حمزة ٦٥.

٦٣

وإن تثبت له صفة الوجود فلا يخلو أن يكون لوجوده أوّل ، أو لا ، إن لم يكن لوجوده أوّل فهو القديم تعالى ، وإن كان لوجوده أوّل فهو المحدث. ثم هو لا يخلو أن يشغل الحيّز عند وجوده ، أو لا. إن لم يشغل الحيّز فهو العرض. وإن شغل الحيز عند وجوده ، فلا يخلو أن يقبل التّجزّؤ والانقسام ، أو لا. إن لم يقبل التجزؤ والانقسام فهو الجوهر ، وهو المتحيز الذي لا يقبل التجزؤ ، وإن قبل : التجزؤ والانقسام ؛ فلا يخلو أن يقبله في الامتدادات الثلاثة ـ وهي الطول والعرض والعمق ـ أو لا. إن قبله فيها جميعا فهو الجسم ، وهو مشتمل على ثمانية جواهر.

والجسم هو الجواهر المؤتلفة طولا وعرضا وعمقا ، فإن لم يقبله في جميعها فلا يخلو أن يقبله في امتدادين منها أو لا ، بل في امتداد واحد. إن قبله في امتدادين منها فهو الجواهر المؤتلفة طولا وعرضا ، وقد يعبّر عنه بالسطح وبالصفيحة ، وإن قبله في امتداد واحد فهو الجواهر المؤتلفة طولا ، وهو المعبر عنه بالخط. فثبت أنه تعالى لو أشبهها لوجب أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا.

وأما الأصل الثاني : وهو أنه ليس بواحد منها.

أمّا أنه تعالى ليس بجسم فلوجوه ثلاثة : منها أنه لو كان جسما لكان محدثا كما ثبت بالحدوث (١) في سائر الأجسام من السماء والأرض ونحوهما ؛ لأنّ المثل يجوز عليه ما يجوز على مثله ، وقد ثبت أنه تعالى قديم ، لو لا ذلك لاحتاج إلى محدث آخر إلى غير غاية ، وهذا محال.

ومنها أنه لو كان جسما لوجب أن لا يصح منه فعل الأجسام [خلقها] ، كما لا يصح فعل شيء منها من سائر الأجسام ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على أنه ليس بجسم.

__________________

(١) في بقية النسخ الحدوث.

٦٤

ومنها أنه لو كان جسما لكان يجب أن لا ينفكّ عن الهيئة والصورة ، وذلك يحوجه إلى مصوّر ومقدّر ، وقد ثبت قدمه.

وأمّا أنه تعالى ليس بجوهر فنفصّل الكلام فيه ، فنقول : إمّا أنه ليس تعالى بجوهر على الاصطلاح اللّغوي ، وهو أصل الشيء وسنخه (١). يقال : جوهر هذا الثوب جيد ، وجوهر هذا الثوب رديء ؛ أي أصله ، فهذا لا يجوز على الله تعالى ؛ لأن أصل الشيء من جنس ذلك الشيء. والله تعالى ليس بجسم على ما تقدم بيانه.

وأمّا أنه ليس بجوهر على اصطلاح المتكلمين وهو المتحيّز الذي لا يتجزأ ولا يتبعّض. فالذي يدل على أنه تعالى ليس بجوهر على هذا المعنى ، أنّا قد بيّنّا أن الله تعالى قد أوجد العالم وفعله ، وبيّنّا أن الفعل لا يصح إلا من حي قادر ، والجوهر ليس بحي ولا قادر ، ولأنّ الجوهر محدث كائن في الجهات ، فلو كان الله تعالى جوهرا بهذا المعنى لجاز عليه ما يجوز على الجوهر من الأكوان والحالات ، ولما انفك عن الحوادث الجاريات ، وهذا لا يجوز عليه ؛ لأنا قد بيّنّا حدوث ما هذه حاله ، وبينا أنه تعالى قديم ، فلا يجوز أن يكون جوهرا بهذا المعنى. وأمّا أنه ليس بجوهر على اصطلاح الفلسفيين وهو الموجود لا في موضع (٢) فإن هذا المعنى وإن كان ثابتا في الله تعالى فإنّ وصفه به لا يجوز ؛ لأنّ لفظة الجوهر متى أطلقت لم يسبق إلى أفهام الأصوليين إلا ما ذكرناه في اصطلاحهم ، وإلى أفهام اللّغويين ما ذكرنا ثبوته في لغتهم ، وكلاهما لا يجوزان على الله تعالى ؛ فلهذا قلنا : إنه لا يجوز وصفه تعالى بأنه جوهر.

__________________

(١) في (ب) وشبحه.

(٢) في الأصل موضوع ، وكتب بالهامش موضع ليطابق كل النسخ ، ولعل كلمة موضوع سبق قلم ، إذ لا معنى لها ، ولذلك لم نثبتها.

٦٥

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ، لم يجز أن يكون محلّا لشيء من الحوادث أصلا ، خلافا للكرّاميّة (١).

والذي يدل على ذلك وجهان : أحدهما أنه لو كان محلّا لشيء منها لوجب أن يكون متحيّزا ؛ لأنّ الحلول لا يصح إلا في المتحيّزات ، ولو كان متحيّزا لكان محدّثا لما بينا أنّ جميع المتحيزات محدثة. وقد ثبت قدمه تعالى ، فاستحال أن يكون محلّا.

الوجه الثاني : أنه لو كان محلّا لشيء من الحوادث لأدّى إلى أحد باطلين : إمّا أن يكون محدثا ؛ لحدوث الحوادث الحالّة فيه.

الثاني أن تكون الحوادث قديمة ؛ لكون المحل قديما ، وكلا الأمرين محال ، فما أدى إلى المحال وجب أن يكون محالا. فثبت أنه تعالى ليس بمحلّ.

وأما أنه تعال ليس بعرض ، فلأنه إن أريد بذلك ما يفيده لفظ العرض في اللغة ، وهو ما يعرض في الوجود ويقلّ لبثه ، كما قال تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] أي قليل البقاء ، وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدّنيا عرض حاضر ، يأكل منها البرّ والفاجر» (٢) ، أي قليلة البقاء. فهذا لا يجوز على الله تعالى ، لأنه تعالى قديم كما تقدم بيانه.

__________________

(١) ينظر تجريد الاعتقاد ١٨٠ ، والإرشاد للجويني ٦١ ، ٦٣. الكرامية : نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرّام السجستاني الزاهد. كان من عباد المرجئة ت ٢٥٥ ه‍. وهم فرقة جمعوا بين الجبر والتشبيه ، ومنعوا تكليف ما لا يطاق ومقارنة القدرة والمقدور. ينظر جامع الفرق ١٥٩.

(٢) تفسير القرطبي ٥ / ٢١٨ ، والعرض ـ بسكون الراء ـ ما سوى الدنانير والدراهم. فكل عرض عرض وليس كل عرض عرضا. أما العرض ـ بفتح الراء ـ فهو الألوان ونحوها. والهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ١٨٨ بلفظ : «أيها الناس إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر».

٦٦

والقديم واجب الوجود في كل حال ، من حيث إنه موجود لذاته كما تقدم بيانه ، والموجود للذات يجب أن يكون موجودا في جميع الحالات ؛ لأنه لا اختصاص لذاته بحال دون حال.

فإمّا أن يجب وجوده في جميع الأحوال أزلا وأبدا ، فهو الذي نقول. وإما أن لا يجب وجوده في حال من الأحوال فهذا باطل ؛ لأنه يؤدي إلى إبطال كونه قديما ، وقد ثبت قدمه. وإمّا أن يجب وجوده في حال دون حال فهذا لا يجوز ؛ لعدم المخصص لبعض الأحوال دون بعض. فثبت أنه تعالى واجب الوجود في كل حال ، وبذلك يثبت أنه تعالى باق دائم ؛ لأن الباقي هو : الموجود الذي لا يتجدد وجوده الآن ، والدائم هو : الموجود الذي لم يتبع وجوده عدم.

وقد ثبت أنه تعالى لا يجوز تجدّد وجوده ، ولا يجوز عدمه لما ثبت من أنه واجب الوجود في كل حال. وإن أريد بالعرض ما هو المفهوم في اصطلاح المتكلمين ، وهو : المحدث الذي لا يشغل الحيز ، فهذا لا يجوز وصف الله تعالى به ؛ لأنّ الله تعالى قديم ، والعرض محدث ، فلا يجوز أن يكون عرضا بهذا المعنى ، ولأنّ الله تعالى حيّ قادر ، والعرض ليس بحيّ ولا قادر ، ولأنّ العرض يجوز عليه العدم والتّجدّد والبطلان ، والله تعالى قديم واجب الوجود في كل حال ، فلا يجوز عدمه.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى ليس بعرض ، فلا يجوز عليه شيء من خصائص الأعراض نحو التجدد والبطلان. وقد دلّلنا على ذلك. ونحو الحلول في المحالّ خلافا للصوفية الجهّال ؛ فإنهم يقولون : إنه تعالى حالّ في الصّور الحسنة (١). والذي يدل على أنه تعالى غير حالّ في شيء من المحالّ وجهان : أحدهما :

__________________

(١) من الصوفية أهل سنة ، وبعضهم يقول بالحلول والاتحاد ؛ فهم فرقة من المتصوفة المبطلة ، قالوا : الله يحل في الأجسام والصور الجميلة. موسوعة الفرق ص ١٩٣ وص ٢٨٠.

٦٧

أنه لو كان حالّا في الصور الحسنة لم يكن بأن يحل في بعضها أولى من أن يحل في البعض الآخر ، لعدم المخصص ، فيكون حالّا وغير حالّ ؛ لأنّ الشّواهة والحسن مختلفان بحسب اختلاف الشهوة والنّفار. فإن الزنجي يستحسن الزنجية ، والعربي لا يستحسنها. وكذلك التركية والتركي. والهندي ، والحبشي ، وغير ذلك.

الوجه الثاني : أنه تعالى لو كان حالّا في شيء من المحالّ لم يخل أن يكون حالّا على سبيل الوجوب أولا ؛ بل على سبيل الجواز.

والأول باطل ؛ لأنه كان يجب أن يكون حالّا في الأزل ، وفي ذلك قدم المحالّ ، وقد ثبت حدوثها ، إذ لا يعني بالمحال غير المتحيّزات. ولا يجوز أن يكون حالّا على سبيل الجواز ؛ لأنه لا يخلو أن يكون حالّا بالفاعل أو لعلّة ، والأول باطل من حيث إنه تعالى لا فاعل له من حيث إنه قديم. والمفعول محدث.

ولا يجوز أن يكون لعلّة ؛ لأنها لا تخلو أن تكون حالّة أو غير حالّة ، والأول باطل ؛ لأنها تكون قد شاركته فيما لأجله احتاج إلى علة ، وهو كونه حالّا ، فكان يجب أن تحتاج كل علة إلى علّة فيتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال. ولا يجوز أن يكون حالّا لعلّة غير حالّة ؛ لأنها قبل إيجابها الحلول له قد اختصت به غاية الممكن من الاختصاص ، وهو أنها وجدت على حدّ وجوده ، ولكن عند إيجابها له الحلول يبطل اختصاصها به ؛ لأن ما ليس بحالّ لا يختص بما هو في محل ، إلا بأن يكون أحدهما حالّا في الآخر. وإذا بطل اختصاصها به بطل إيجابها له ، فتكون مختصّة به وغير مختصة ، وموجبة له وغير موجبة ، ويكون حالّا وغير حالّ في حالة واحدة ، وذلك محال.

فصل : وقد اعترضت المشبّهة بآيات متشابهة وأخبار واستدلوا بها على التشبيه. والجواب عنها من وجهين :

٦٨

أحدهما : أنه لا يصح الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ؛ لأن صحة السمع موقوفة على العلم بعدله وحكمته. لأنا ما لم نعلم أنه لا يجوز عليه الكذب ولا التلبيس ولا غير ذلك من القبيح لم يصح منا الاستدلال بكلامه سبحانه ، ولا بكلام رسوله عليه‌السلام على حكم من الأحكام ، وذلك لا يصح إلا أن يكون تعالى عالما بقبح القبيح وغنيّا عن فعله ، حتى لا يفعل شيئا منها. ولا يستقر كونه عالما بقبح القبيح حتى يكون عالما لذاته ، فيعلم كلّ المعلومات على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، والمعتقد لكونه جسما يبطل ذلك ؛ لأنّ (١) الجسم يستحيل أن يكون عالما لذاته ، وإلا وجب ذلك في جميع الأجسام. [وكذلك فلو كان جسما لصحت عليه الحاجة كسائر الأجسام] (٢).

الوجه الثاني : أنا نعارضهم من الكتاب والسنة بما ينفي الجسمية ، ويبطل مذهبهم ، فلا يصح تعلّقهم بما يوردونه في ذلك ؛ لأنهم ليسوا بالاستدلال أولى منا ، بل نحن بذلك أولى لموافقة أدلتنا لمحكم القرآن وأدلة العقول. فنقول وبالله التوفيق :

فصل فيما يؤكد ذلك من أدلة السمع

فمن ذلك قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] وقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] وقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥].

ومن السنة : ما روي عن ابن مسعود أنه قال : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أيّ

__________________

(١) في بقية النسخ : لكون.

(٢) ما بين الحاصرتين زائد في (ب) ، (ج) ، (د) ، (ه).

٦٩

الذّنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «خمس لا يعذر بجهلهن أحد : معرفة الله سبحانه لا يشبّه بشيء ، ومن شبّه الله بشيء ، أو زعم أنّ الله يشبه شيئا فهو من المشركين ...» الخبر بطوله. وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وسمع عليّ عليه‌السلام رجلا يقول : والذي احتجب بسبع سماوات ، فعلاه بالدّرّة (٢) ، وقال : «ويحك ، إن الله لا يحتجب بسبع سماوات» ، فقال الرجل : أكفّر عن يميني؟ فقال : «لا. إنك حلفت بغير الله» (٣).

ونتبع ذلك بالآيات المتشابهات ونبيّن فيها ما ذكره علماء أهل التفسير. فمن ذلك قول الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، [طه : ٥] وقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). [الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣] قالت المشبّهة : فدلّ ذلك على أنه كائن على العرش ومستقر عليه (٤). [الرد على المشبهة فى استدلالهم بالمتشابه] وإذا أردنا الكلام عليهم تكلمنا في ثلاثة

__________________

(١) أبو طالب ٣٩٢. والبخاري ٦ / ٢٤٦٠ رقم ٦٣٠٥. مسلم ١ / ٩٠ رقم ٨٦. والنسائي مج ٤ ج ٧ ص ٨٩ رقم ٤٠١٣ ، ٤٠١٤.

(٢) الدّرة ـ بالكسر : التي يضرب بها ، وبالضم : اللؤلؤة. وبالفتح : درّ اللبن. ومنه : «لا تقطعوا درّة أخيكم» مختار الصحاح ص ٢٠٢.

(٣) الغارات ١ / ٦٩ ، وروي عن محمد بن الهادي عليه‌السلام أنه قال : لا كفارة لمثل هذه اليمين. ينظر التحرير لأبي طالب ٢ / ٤٦٨.

(٤) وهو قول أهل الحديث وغيرهم من المشبهة ، ينظر : التوحيد لابن خزيمة ١٠١ ، ٣٠٧ ، وينظر في الرد عليهم كتاب مفاتيح الغيب للرازي مج ٧ / ٢٩ / ١٢٢. وقال الرازي عن ابن خزيمة وكتابه التوحيد : واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك واعترض عليها. ينظر مفاتيح الغيب مج ١٤ / ٢٧ / ١٥٠.

٧٠

مواضع : أحدهما : في بيان معاني العرش في اللغة. والثاني : في بيان معانى الاستواء في اللغة. والثالث : في بيان معنى الآية.

أما الموضع الأول : وهو في ذكر معاني العرش في اللغة (١)

فهي أمور (٢) : أحدها السرير (٣). قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) [غافر : ٧] وقال تعالى : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] يريد بذلك السرير. وذكر المفسرون في سرير بلقيس أنه سرير ضخم حسن ، كان مقدّمه من ذهب ، مرصع بالياقوت الأحمر ، والزمرد الأخضر ، ومؤخّره من فضة ، مكلل بألوان الجواهر. وقيل : كان ثلاثين ذراعا في مثلها ، وارتفاعه من الأرض مثلها (٤). وثانيها : البناء (٥) ، قال الله تعالى : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [الحج : ٤٥]. قال بعض المفسرين : خالية عن أهلها على ما فيها من البناء. وثالثها : كلّ ما يستظل به. يقال : خيّم القوم وعرّشوا. ومنه العرش عرش الكرم [العنب] (٦). قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام : ١٤١]. ومنه يقال للبناء المبني : عريش ، قال تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) ، [الأعراف : ١٣٧]. أي يسقفون من القصور والبيوت وغيرها.

ورابعها : أنه ينطلق اسم العرش على السقف. قال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ

__________________

(١) تاج العروس ٩ / ١٣٧ وما بعدها.

(٢) في (ب) : فهو أمور.

(٣) ينظر الدر المنثور ٥ / ١٩٩. وتفسير الماوردي ٤ / ٢٠٤. ومجمع البيان ٧ / ٣٧٧.

(٤) ينظر الطبرسي ٧ / ٣٧٧.

(٥) الدر المنثور : ٤ / ٦٥٨ ، الفخر الرازي مج ١٢ ج ٢٣ ص ٤٥.

(٦) معاني القرآن للفراء ١ / ٣٥٨.

٧١

قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [الحج : ٤٥] أي على سقوفها. وخامسها : السلطان والملك ، قال زهير (١) :

تداركتما الأحلاف قد ثلّ عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل

وفي كتاب العين (٢) : إذا زال قوام الرجل (٣) قيل : قد ثلّ عرشه. قال الشاعر :

ولو هلكت تركت الناس في وهل (٤) * بعد الجميع وصار العرش أكسارا

أما الموضع الثاني : وهو في بيان معاني الاستواء ،

فله معان ثمانية : أحدها الركوب ، قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [المؤمنون : ٢٨]. ومنها الاستقرار (٥) ، قال تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٥] وهو جبل بالموصل (٦). وثانيها : انتصاب الساق ، قال تعالى : (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) [الفتح : ٢٩]. وثالثها : القصد ، قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩]. قال ابن عباس : يعني قصد إلى خلقها. ورابعها : تمام الشباب وانتهاؤه ، قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤]. وخامسها : الاعتدال. يقال : استوى كذا وكذا ، أي اعتدلا. قال الشاعر :

__________________

(١) ينظر ديوانه ص ٤٢.

(٢) للخليل بن أحمد الفراهيدي ٨ / ٢١٦ مادة ثل. ١ / ٢٤٩ مادة عرش.

(٣) في (ب) : قوام أمر الرجل.

(٤) الضعف والفزع. القاموس ص ١٣٨١.

(٥) الدر المنثور : ٣ / ٦٠٥.

(٦) يوجد بالعراق ينظر الدر المنثور ٣ / ٦٠٦.

٧٢

فاستوى ظالم العشيرة والمظ

لوم في حفظه بدعوى ابتلال

وسادسها : تساوي الأجزاء المؤلّفة. يقال : استوى الحائط والخشبة. وهذا من الاعتدال إذا تأكّدت على وجه مخصوص. وسابعها : ما يكون بمعنى الانتصاب. يقال : استوى فلان جالسا ، واستوى قائما ، أي انتصب. وثامنها : ما يكون بمعنى الاستيلاء. قال الشاعر : قد استوى بشر على العراق (١).

وأما الموضع الثالث : وهو في معنى الآية ؛

فاعلم أنه لا يجوز أن يكون استواء الله تعالى على العرش بمعنى الاستقرار عليه ، وبمعنى أنه كائن فيه ؛ لأن ذلك من خصائص الأجسام والمتحيّزات ، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم ، فلا يجوز عليه شيء من خصائص الجسم والمتحيّز (٢) ، فلا يجوز عليه الكون في الأماكن ، ولا التنقل في الجهات ، ولا النزول ولا الصعود ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون شاغلا لجهة ، ولو كان شاغلا لكان إمّا جسما ، وإمّا جوهرا ، وهو تعالى ليس بجسم ولا جوهر على ما تقدم بيانه. وإذا بطل ذلك فمعنى قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [السجدة : ٤] أي استولى ، من القدرة ، كما قال الشاعر ـ وهو البعيث (٣) ـ في بشر ابن مروان (٤) :

__________________

(١) ينظر الحاكم الجشمي ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥. قال : لا يجوز حمل الاستواء على أنه استقر على العرش ؛ لأن ذلك من صفات الأجسام. ومتشابه القرآن ١ / ٧٣. وشرح الأصول الخمسة ٢٢٦.

(٢) في (ج) : المتحيزات.

(٣) هو خداش بن بشر بن خالد ، خطيب شاعر مجيد ، كان بينه وبين جرير مهاجاة دامت نحو أربعين سنة. ت : ١٣٤ ه‍. الأعلام ٢ / ٣٠٢ ، معجم الأدباء مج ٦ ج ١١ ص ٥٥.

(٤) أخو عبد الملك بن مروان ، ولي لأخيه إمرة العراقين ، وكان يجيز على الشعر بألوف وقد امتدحه الفرزدق والأخطل ، توفي سنة ٧٥ ه‍. ينظر الأعلام ٢ / ٥٥.

٧٣

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

فالحمد للمهيمن الخلاق

وكما قال الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

وهذا هو قول بعض المفسرين. وقال بعضهم : استوى على العرش ، بمعنى قصد إلى العرش فخلقه (١) كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [فصلت : ١١] أي قصد إلى خلقها ، وتكون (٢) على بمعنى إلى ؛ لأنها من حروف الصفات (٣) ، وحروف الصفات تبدّل بعضها عن بعض. ذكره أبو عبيدة (٤). وقال بعضهم : (اسْتَوى) ، بمعنى استولى. والعرش : هو الملك كما تقدم بيانه ، والاحتجاج عليه بقول زهير. وكما قال الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم

وأودوا كما أودت إياد وحمير

المعنى : أنه تعالى لمّا خلق السموات والأرض استولى (٥) على ملكه وخلقه بالقدرة. وقيل : استولى على بناء الأشياء. وقد قدّمنا أن العرش قد (٦) ينطلق على البناء ، وأنشد بعضهم في هذا المعنى :

وقول إلهي في الكتاب قد استوى

على العرش ربّ كان للعرش بانيا

فهذا كقولي للأمير قد استوى

على المدن والأمصار قد صار واليا

__________________

(١) ينظر القرطبي مج ٤ ج ٧ ص ١٤١.

(٢) في (ب) : يكون.

(٣) أي حروف الجر.

(٤) في (ب) : أبو عبيد. فيكون أبا القاسم بن سلام المتوفي سنة ٢٢٤ ه‍ ، أو أبا عبيدة معمر بن المثنى المتوفي ٢٠٩ ه‍. والله أعلم.

(٥) في (ب) : استوى.

(٦) في (ب) بحذف قد.

٧٤

يراد به سلطانه واعتلاؤه

وذلك شيء ليس في القول خافيا

فإن قيل : فما وجه تخصيص العرش بالذكر؟ قلنا : لأنه أعظم خلق الله. قال تعالى : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : ١٢٩]. فإن قيل : فما الفائدة في خلقه؟ قلنا : فيه فوائد : منها أنه سقف الجنة. ومنها أنه قبلة دعاء المؤمنين ، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. ومنها أنه مطاف الملائكة الكرام. قال الله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥] إلى غير ذلك من الفوائد.

واحتجّت المجسمة بأن قالوا : إنا لا نجد في الشاهد فاعلا إلا وهو جسم ، فالقديم إذا كان فاعلا فهو جسم.

والجواب : أنّ ما ذكروه اعتماد منهم على مجرد الوجود ، ومجرّد الوجود لا يدل على حقيقة ولا مجاز ، ولا يتعلق به حكم من الأحكام ؛ ولأنه ليس هناك علّة رابطة بين الشاهد والغائب في هذا الباب ، ولا طريقة جامعة ، فبطل ما ذكروه. وبعد فإنه يلزمهم على قود ما ذكروه أن يكون تعالى مركّبا من لحم ودم ، تجوز عليه الصحة والسقم (١) ، والوجود والعدم ، والموت والحياة ؛ لأنا لا نجد فاعلا في الشاهد إلا كذلك ، وهذا مما لا يقولون به. وبمثل ذلك نبطل (٢) ما يوردونه من الشبه العقلية.

ومما يتعلق به المخالفون واستدلوا به على إجازة المجيء والإتيان على الواحد المنّان قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠]. وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].

__________________

(١) السّقم والسّقم مثل حزن وحزن.

(٢) في (ب) و (ج) : يبطل.

٧٥

فهذا (١) يدل على إجازة المجيء والإتيان عليه تعالى. والجواب أنّ الظاهر لا تعلّق لهم فيه (٢) ؛ لأنه ليس بإيجاب. إنما قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) [البقرة : ٢١٠]. أي هل ينتظرون شيئا سوى ذلك. ثم لو اقتضى ظاهره (٣) ما قالوه للزمهم أن يكون تعالى أصغر من الظّلل ؛ فيكون محدودا ، وأن يكون هو والملائكة في الظلل ، وهم لا يقولون بذلك. ومتى تأوّلوه فقد سوّغوا للخصوم مثله. وبعد فإن القول بذلك يوجب كونه تعالى جسما وجوهرا يجيء ويذهب ويقرب ويبعد ويظهر ويخفى ، وهذه صفة المحدثات ، وقد ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ، فلا يجوز عليه شيء من خصائصهما على نحو ما تقدم. ولا يجوز عليه تعالى الزيادة والنقصان ولا شيء من الأعضاء والآلات ، لأنها من قبيل الأجسام والمتحيّزات ، وهو تعالى ليس بجسم ولا بجوهر على ما تقدم تحقيقه. وقد أكد الشرع ذلك ، فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وذلك معلوم من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة. فبطل ما ذهبوا إليه وتعلقوا به.

وأما معاني هذه الآيات فاعلم أنّ الله تعالى خاطب بلغة العرب ، وهم يخاطبون بالمجاز. وهو عندهم على ضربين ؛ مجاز بالحذف ، ومجاز بالزيادة. فالمجاز بالحذف نحو قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢]. يريد أهل القرية ويريد القافلة ؛ لأن المعلوم ضرورة استحالة النطق على القرية وعلى العير (٤) ، والمجاز بالزيادة نحو قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] أي لأن يعلم ، ولا زائدة (٥) وذلك

__________________

(١) في (ب) : قالوا ، (ج) : فهذا.

(٢) في (ب) : به.

(٣) في (ب) : ظاهرها.

(٤) الدر المصون ٦ / ٥٤٤.

(٥) يقال لها في القرآن : صلة وتوكيد ، تأدّبا مع كلام الله. الدر المصون ١٠ / ٢٥٨.

٧٦

معروف في لغة العرب (١) ، لو لا الميل إلى الاختصار لذكرنا مثاله. وإذا ثبت ذلك فلا بد أن يجري الله في خطابه للعرب على طريقتهم من استعمال المجاز لفصاحته ، وإلا لم يكن مخاطبا بلغتهم ، وكذلك فإنّ من المشهور في لغة العرب أنّ الواحد منهم يقيم نفسه في خطابه مقام غيره في كثير من المواضع مع حذف المعنيّ (٢) ، فكذلك جرى الله في خطابه لهم على طريقتهم ؛ فإنه أقام نفسه مقام غيره في كثير من المواضع وحذف المعنيّ ، نحو قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ... الآية [النحل : ٢٦].

ونحو قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة. ٢١] ، أي عذابه ، وكذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] أي أمر ربك (٣) ، وذلك من المجاز بالحذف والنقصان على ما تقدم ذكره. فإذا كان الحذف جائزا إذا كان هناك مانع عن الجري على الظاهر ، أو يستحيل الجري على الظاهر نحو ما ذكرنا في القرية ، فكذلك لمّا

__________________

(١) والقرآن عربي مبين وهذا موجود في لغة العرب ، والعرب تأتي ب «لا» في كلامها وهي لا تريدها ، وتطرحها وهي تريدها. مثل : (فَلا أُقْسِمُ) ، (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ).

(٢) في الأصل : وحذف المعنى ، وفي هامش (ب) : مع صدق المعنى. ظ.

(٣) هكذا فسرها أحمد بن حنبل ينظر دفع شبه التشبيه ص ١٤١ ، وهو قول الحسن وأبو علي كما في الطبرسي ١٠ / ٣٥٣. وانظر الحاكم الجشمي ص ٢٩٤ ، ومتشابه القرآن للقاضي عبد الجبار ٢ / ٦٨٩ ؛ حيث قال ـ بعد قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) : لا يدل على صحة ما يتعلق المشبهة في أنه تعالى كالواحد منا. في أنه يجيء ويذهب ، ولو كان كذلك لكان محدثا مدبّرا مصوّرا ، والمراد بذلك : وجاء أمر ربك ، أو : متحملو أمر ربك للمحاسبة والفصل. على ما يقال في اللغة عند التنازع في الأمر الذي يرجع فيه إلى بعض الكتب : إذا جاء الشافعي فقد كفانا ، ويريدون بذلك كتابه. وإذا جاء الخليل في العروض انقطع الكلام ، والمراد به كلامه في ذلك. وينظر في ذلك الجامع للقرطبي مج ١٦ / ٣١ / ١٧٤. والفخر الرازي ١٦ / ٣١ / ١٧٤.

٧٧

استحال المجيء والإتيان والانتقال على الله تعالى بدلالة ، يجب أن نقضي بتعليق المجيء والإتيان بغيره تعالى ، وهو أمره وعذابه. وقد فسّر عبد الله بن العباس رحمه‌الله قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) الآية. قال : أراد إتيانه إليهم بوعده ووعيده ، فإنّ الله يكشف لهم من أمره ما كان مستورا عنهم (١).

وروي عن الحسن في قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) قال : عنى به وجاء وعد ربك بالحكم بالثواب والعقاب (٢). ومثله مروي عن الضحاك. وقال الضحاك في قوله تعالى : (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) قال : إذا نزل أهل السموات إلى الأرض يوم القيامة كانوا تسعة صفوف محيطين بالأرض ومن فيها (٣). وكذلك قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] لا يدل على أنه تعالى مشبه للواحد منّا في كونه مشتغلا ؛ فإن قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ورد مورد التهديد كما ، يقول الواحد منا أنا أفرغ لك وإن لم يكن معه شغل ، والمعنى سنقصد إلى جزائكم أيّه الثقلان (٤). الثقلان : الجنّ ، والإنس (٥).

ومما تعلقوا به في أنه تعالى كائن في السماء قول الله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧] (٦).

__________________

(١) وينظر في معناه الطبرسي ٢ / ٦٠. والكشاف ١ / ٢٥٣. ومتشابه القرآن ١ / ١٢٠.

(٢) ينظر الخارن مع البغوي ٦ / ٤٢٦.

(٣) في الدر المنثور عن أبي حاتم عن الضحاك قال : جاء أهل السموات كل سماء صفّا. ٦ / ٥٨٧. والخازن البغوي ٢٦ / ٤٢٦. وجامع البيان ١٥ / ٢٣٥.

(٤) في (ب) : بحذف الثقلان الثانية.

(٥) ينظر الكشاف ٤ / ٤٤٨.

(٦) ينظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ١١٠ ، وكتاب الشريعة لمحمد بن الحسين الآجري ٣٠٣.

٧٨

والجواب أنّ ظاهر الآية لا يقتضي ذلك ؛ لأنه لم يبيّن المقصود بأنّه في السماء ، ومن المخوّف منه ، فسقط قولهم. فيجوز أن يكون عنى به من في السموات سلطانه ، ويجوز أن يكون عنى به الملائكة الذين أهلك الله تعالى من أهلك على أيديهم ، وإنهم نزلوا بعذاب أولئك القرون ، واستأصلوهم (١). فالتعلق به ساقط. فإن قيل : ولم وحّد ذكر الملائكة؟ قلنا : إن لفظة من تقع على الواحد والجمع ، فمتى حملت على اللفظ وحّدت ، ومتى حملت على المعنى جمعت. وقد ورد بكل ذلك الكتاب والشّعر : أما الكتاب فنحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشعر فقول زهير :

ومن يتعظّم بالكبائر يتّضع

ومن يتواضع خشية الله يعظم (٢)

ومن ذلك قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [المجادلة : ٦]. قالوا : وكذلك فقد انعقد الإجماع بين المسلمين في أنه تعالى في كل مكان. والجواب عن ذلك أن المراد به أنّه تعالى محيط بكلّ مكان علما وقدرة ، فكأنّ ذاته في كل مكان. ومتى كانت هذه الآية وما شابهها محتملة لما ذكرناه من التأويل ، ومطابقة في ذلك دلالة العقول ، ومحكم الآيات ، غير خارجة عن اللغة العربية ، والقرآن ـ نزّل عليها ، فيجب أن تحمل على ذلك لتتّفق الأدلة ، وينزّه الصانع عن صفات النقص.

ومن جملة ما تعلقوا به في المكان قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي مج ١٥ ص ٧١ ..

(٢) مجموع المتون ص ٧٩٦. معلقته.

٧٩

مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] قالوا : (١) فهذا يوجب كونه في مكان (٢). والجواب أنه يريد به الرفعة والمنزلة العالية ، كما يقال : فلان عندي بالمنزلة الخطيرة ، ولفلان عندي جاه عريض ، وهو عندي بالمنزل الأعلى والدرجة العالية. ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السجدة : ١٢] ، ولا خلاف بين الأمة أنّ المجرمين لا يكونون عند الله على جهة المكان ، وإنما هو وصف أحوالهم. وكذلك قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [الزخرف : ٨٥] فإنه ليس المراد به (٣) أنّ علم الساعة في مكان ، وإنما أراد أنّه عالم به. وكذلك قوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [النساء : ١٣٤] ليس يريد به إلا أنّه القادر عليه ، المالك له. ويقال : عند الهادي إلى الحق عليه‌السلام في المسألة كذا ، وعند القاسم عليه‌السلام فيها كذا. أي مذهبهما (٤). قال الشاعر (٥) :

__________________

(١) في (ب) فقالوا : هذا.

(٢) قال الحاكم الجشمي في هذه الآية كما في منهجه في التفسير للدكتور عدنان زرزور ص ٢٩٢ : أي موضوع قعود صدق ، قيل : مجلس حق لا لغو فيه ، وهو الجنة. وقيل : وصف المكان بالصدق ؛ لكونه يدوم وغيره يزول. ومعنى (عِنْدَ مَلِيكٍ) : أي في علم الله صائرون إلى ذلك الموضع ، كما قال أبو علي. وقيل : ذلك المقعد مقعد صدق عنده ؛ لما هو عليه من دوام النعم. وقال الحاكم : وقد فسرت المشبهة الكاذبة على الله هذه الآية بتفسير لا يشهد له ظاهرها ولا لهم عليه دليل في العقل والشرع ، فذكروا في قوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) : إنهم يحيون مع الجبار ، وأنه يقعدهم معه على سريره ، ويروون أن أهل الجنة يدخلون عليه كل يوم مرتين يقرءون عليه القرآن ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين .. إلى غير ذلك من الصورة والأعضاء والذهاب والمجيء ، وأنه يحتجب أحيانا ويظهر أحيانا بصورة ملك ، تعالى الله عن ذلك. وقد بينا أنه ليس بجسم وأنه لا يجوز عليه المكان ولا شيء من صفات الأجسام.

(٣) في (ب) بحذف به.

(٤) في (ب) : أي في مذهبهما.

(٥) هو قيس بن الخطيم ، أحد شعراء الجاهلية.

٨٠