ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

وأما الاصطلاحي فهو في عرف المتكلمين ما يدعوا المكلّف إلى فعل ما كلّف فعله ، وترك ما كلّف تركه ، أو إلى أحدهما مع تمكنه في الحالين. والذي يدل على صحته أنه يكشف عن معناه على جهة المطابقة ؛ ولهذا يطّرد المعنى فيه وينعكس. وهو أمارة صحة الحد.

وأما الموضع الثاني : وهو في قسمته

فله قسمتان : قسمة باعتبار فاعله ، فهو باعتبارها على ضربين : أحدهما من فعل الله سبحانه وتعالى. والثاني من فعل غيره. فالذي من فعل الله تعالى : منه ما يكون متقدما على التكليف. ومنه ما يكون مقارنا له. ومنه ما يكون متأخرا عنه. أمّا ما كان متقدما على التكليف ؛ فإنه لا يجب على الله تعالى ؛ لأنه إذا لم يجب عليه التكليف لم يجب عليه ما هو من توابعه. وأما ما كان متأخرا عن التكليف ؛ فإنه متى كان حسنا فإنه تعالى يفعله لا محالة من حيث إن في تركه مفسدة ، وفي الإخلال به ترك إزالة العلة ، وكلّ ذلك قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما تقدم بيانه.

وأما اللطف الذي هو من فعل غير الله سبحانه فهو على ضربين : أحدهما ما يكون من فعل العاقل ، فهذا يجب على العاقل فعله ؛ لانه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس. ودفع الضرر عن النفس واجب إذا كان المدفوع به دون المدفوع ، سواء كان الضرر مظنونا أو معلوما كما تقدم تحقيقه. وإن كان من فعل غير العاقل لم يجب عليه فعله ؛ لانه جار مجرى جلب النفع إلى النفس ، وذلك

__________________

ومثله قول الشاعر :

لو سار ألف مدجج في حاجة

ما نالها إلا الذي يتلطف

وقول آخر :

قد ينال الحليم بالرفق ما لي

س ينال الكمي يوم الجلاد

٢٤١

لا يجب وإنما يحسن. فهذه القسمة الأولى ، وهي قسمة اللطف باعتبار فاعله. وأما قسمته باعتبار جنسه ونوعه فهو ينقسم إلى قسمين : مضارّ ومنافع. فالمضارّ كالأمراض والغلاء. والمنافع كالرّخص والرزق ونحو ذلك ، أما الأمراض فالكلام فيها يقع في ثلاثة مواضع : أحدها أنها (١) من فعل الله تعالى. والثاني أنها حسنة. والثالث في وجه حسنها.

أما الموضع الأول : فإنا نعتقد أنها من فعل الله تعالى

وهذا هو قول المسلمين عن يد. والخلاف في ذلك عن الملاحدة ، والمطرّفية ، والثّنوية ، والمجوس ، والطبائعية. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أنّها محدثة ؛ لأنها من جملة الأعراض. وقد بيّنّا أن الأعراض محدثة. فبطل قول الملاحدة بقدمها. وإذا ثبت حدوثها فلا بدّ لها من محدث لما بينا أنّ كل محدث لا بد له من محدث وفاعل ؛ فبطل قول الطبائعية في إضافتها إلى الطبائع ؛ لأنّ المحدث يجب أن يكون حيا قادرا. ولو لم تكن من فعله تعالى لكانت من فعل القادرين بقدرة ؛ لما بيّنّا أنه لا قادر إلا القادر لذاته وهو الله تعالى ، أو (٢) القادر بقدرة وهو الواحد منا. ويبطل بذلك قول الثنوية. ولا يجوز أن تكون (٣) من فعل القادرين بقدرة ؛ لأنها لو كانت من أفعالهم لكانت توجد بحسب قصودهم ودواعيهم ، وتنتفي بحسب كراهتهم وصوارفهم. ومعلوم حصولها وإن كرهوا حصولها ، وانتفاؤها وإن أرادوا حصولها. فلم يبق إلّا أن تكون (٤) من فعل الله سبحانه.

__________________

(١) في (ب) : أنه.

(٢) في (ب) و (د) : والقادر.

(٣) في (ب). و (ج) : يكون.

(٤) في (ب). و (ج) : يكون.

٢٤٢

وأما الموضع الثاني : وهو أنها حسنة

فهذا هو اعتقادنا وهو (١) اعتقاد جميع المسلمين ، والخلاف في ذلك مع الملاحدة والثنوية والطبائعية والمجوس والمطرّفية ؛ فإنهم ذهبوا إلى أنها قبيحة وإن اختلفوا في وجه قبحها. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون أنّها من جملة أفعال الله تعالى على ما تقدم. وقد دللنا فيما تقدم على أنّ أفعاله كلها حسنة.

وأما الموضع الثالث : وهو في وجه حسنها ؛ فهي على ضربين :

أحدهما الأمراض والآلام الحاصلة مع المؤمنين وغيرهم من المخلوقين غير المكلفين. وما هذه حاله فإنّا نعتقد أنه يحسن ؛ للعوض والاعتبار ؛ لأنها لو خلت عن العوض لكانت ظلما ؛ لأن حقيقة الظلم ثابتة فيها على ما تقدم بيانه. والظلم قبيح على ما تقدم. ولو خلت عن الاعتبار لكانت عبثا ؛ لأنه يحسن من الله تعالى الابتداء بجنس العوض ؛ إذ لا وجه يقتضي قبحه. وهو مقدور لله تعالى فجاز الابتداء به ، وإذا حسن (٢) الابتداء به وخلت الأمراض وسائر الآلام من الاعتبار ـ ثبت كونها عبثا لا فائدة فيها وذلك لا يقع في فعل الحكيم.

فصل في الاعتبار

والاعتبار : هو ما يدعو المكلّف إلى فعل الطاعة وترك المعصية ، أو إلى أحدهما. ويدل على ثبوته قول الله سبحانه : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الم السجدة : ٢١] والرجوع لا يكون إلا في حال الدنيا. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ

__________________

(١) في (ب) : بحذف هو.

(٢) مراده : أن عوض الأمراض يمكن أن يتفضل الله به بدون الابتلاء بالمرض فيبقى المرض عبثا ؛ لأن الله قد جاد بالعوض بدون مقابل ؛ ولذلك قلنا : إن المرض إما للعوض أو للاعتبار.

٢٤٣

الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) ، [الأعراف : ١٣٠]. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمن إذا أصابه السّقم ثم عافاه الله كان كفارة لما مضى من ذنوبه ، وموعظة فيما يستقبل. وإنّ المنافق إذا مرض ثم عوفي منه كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه ، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه»؟ (١).

فثبت أنّ ذلك إنما يفعل للاعتبار. ويدل على ثبوته قول الله سبحانه وتعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ، [التوبة : ١٢٦].

والفتنة وإن كانت مستعملة في عشرة معان (٢) : أحدها الامتحان ، نحو ما ذكرناه ، ومثل قول الله سبحانه : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، [العنكبوت : ١ ، ٢] أي يمتحنون. ومثله قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ، [الأعراف : ١٥٥] أي محنتك. وثانيها الشّرك ، ومنه قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، [البقرة : ١٩٣] أي شرك. ونحو ذلك. وثالثها القتل ، نحو قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، [النساء : ١٠١] ، أي يقتلوكم وقوله تعالى : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) [يونس : ٨٣] ـ أي أن يقتلهم. ورابعها بمعنى الضلال. ومنه قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ* إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) ، [الصافّات : ١٦٢ ، ١٦٣] أي مضلّين ونحو ذلك. وخامسها بمعنى المعذرة.

ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣] معناه معذرتهم (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]. وسادسها

__________________

(١) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٤٢٦. وأبو داود في سننه ٣ / ٤٦٩ رقم ٣٠٨٩.

(٢) ينظر في معانيها عمدة الحفاظ ٣ / ٢٤١.

٢٤٤

بمعنى العذاب ، نحو قوله تعالى : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] أي في الآخرة. ونظيرها قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [النحل : ١١٠] يعني من بعد ما عذّبوا في الدنيا. وسابعها بمعنى الصّدّ ، ومنه قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) ، [المائدة : ٤٩] معناه أن يصدّوك ،. ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) ، [الإسراء : ١١٤] أي ليصدّونك. وثامنها العذاب والتّحريق ، يحكيه قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ، [الذاريات : ١٣] أي يعذّبون ويحرّقون ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، [البروج : ١٠] ، معناه حرّقوهم.

وتاسعها بمعنى الكفر. نحو قوله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [التوبة ٤٩] يعني الكفر ، وقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) ، [النور : ٦٣] يعني كفر. وقوله : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الحديد : ١٤] أي كفرتم وشبّهتم على أنفسكم. وعاشرها بمعنى الإغواء عن الدين ، يحكيه قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] معناه لا يغوينّكم عن الدّين ؛ فإنه لا يجوز أن يكون معنى (١) الفتنة في الآية التي ذكرناها وهي الأولى شيئا من هذه المعاني سوى الامتحانات. فثبت بذلك أنها لا تحسن إلا للعوض ، والاعتبار جميعا. وسنفرد للعوض فصلا يشتمل على مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى.

الضرب الثاني (٢) : هو أمراض (٣) الكفار والفساق. واختلف العلماء في

__________________

(١) في (ب) و (د) معناه : الفتنة.

(٢) في (ب) ، (ج) : والضرب الثاني.

(٣) في (ب) : مرض.

٢٤٥

ذلك على قولين : منهم من منع من كونها عقابا لهم ، وأجراها مجرى أمراض المؤمنين في جميع ما تقدم. وهذا هو قول الشيخ أبي هاشم (١) ومن تابعه. وذهب الشيخ أبو علي الجبّائي (٢) إلى أنه يجوز أن يكون عقوبة لهم.

وهو قول الأئمة الفضلاء : القاسم بن ابراهيم (٣). والهادي إلى الحق يحيى

__________________

(١) عبد السّلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبّائي نسبة إلى جبّى. ولد سنة ٢٧٧ ه‍ معتزلي متكلم ، وإليه تنسب البهشمية ، توفي سنة ٣٢١ ه‍. من آثاره : كتاب الجامع الكبير ، وكتاب المسائل العسكرية ، والنقض على أرسطاليس في الكون والفساد والطبائع والنقض على القائلين بها ، والاجتهاد والإنسان ، والجامع الصغير ، والأبواب الصغير ، والأبواب الكبير. ينظر الفهرست لابن النديم ص ٢٤٧. والخطيب في تاريخه ١١ / ٥٥. ومعجم المؤلفين ٢ / ١٥٠. والذهبي في السير ١٥ / ٦٣. والجنداري في تراجم رجال شرح الأزهار ١ / ٢٢. وتوضيح المشتبه ٢ / ١٤٠.

(٢) محمد بن عبد الوهاب الجبائي ـ والد أبي هاشم ـ ولد سنة ٢٣٥ هو من متكلمي المعتزلة ، وإليه تنسب الطائفة الجبائية توفي سنة ٣٠٣ ه‍. له عناية في الرد على الفلاسفة والملحدة وتقرير العدل والتوحيد ، وله تفسير القرآن مائة جزء ، وشرح على مسند ابن أبي شيبة ، وجملة مصنفات أبي علي مائة ألف ورقة وخمسين ألف ورقة. ينظر طبقات المعتزلة ١٥٦ ، والأعلام للزركلي ٦ / ٢٥٦ ، وتراجم رجال شرح الأزهار للجنداري ١ / ٣٥. وتوضيح المشتبه ٢ / ١٤٠.

(٣) هو الإمام أبي محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، الملقب بالرسي لتمركزه في جبل الرس. وهو من أقمار العترة الرضية ، انتهت إليه الرئاسة في عصره وتميز بالفضل على أبناء دهره ، ولد سنة ١٧٠ ه‍. ودعا إلى الخلافة سنة ١٩٩ ه‍ ، ولبث في دعاء الخلق إلى الله إلى أن توفي في جبل الرس. توفي سنة ٢٤٦ ه‍ ، وفيه يقول الشاعر :

ولو أنه نادى المنادي بمكة

ببطن منى فيمن تضم المواسم

من السيد السباق في كل غاية؟

لقال جميع الناس : لا شك قاسم

إمام من أبناء الأئمة قدمت

له الشرف المعروف والمجد هاشم

أبوه علي ذو الفضائل والنهى

وآباؤه والأمهات الفواطم

بنات رسول الله أكرم نسوة

على الأرض والاباء شمّ خضارم ـ

٢٤٦

ابن الحسين (ع) (١) ، والمرتضى لدين الله أبي القاسم محمد بن الهادى (٢)

__________________

ـ وله عليه‌السلام العلم العجيب ، والتصانيف الرائقة في علم الكلام ، وغيره من الفنون. فمنها كتاب الدليل الكبير. والدليل الصغير ، والعدل والتوحيد الكبير. والرد على ابن المقفع. والرد على النصارى. والمسترشد ، والرد على المجبرة ، وتأويل العرش والكرسي على المشبهة. وكتاب المسألة التي نقلت عنه في محاورة الملحد ، والناسخ والمنسوخ ، والمكنون في الآداب والحكم. ينظر التحف شرح الزلف ص ١٤٥. والشافي ١ / ٢٦٢. والأعلام ٥ / ١٧١. والحدائق الوردية ٢ / ٢.

(١) هو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الرسي عليهم‌السلام ، ولد بالمدينة سنة ٢٤٥ ه‍ بين مولده ووفاة جده القاسم سنة كاملة. وهو الإمام الأعظم طود العترة الأشم ، المشابه للوصي في خلقه وخلقه وشجاعته ونصرته للإسلام وعلمه وبراعته. خرج إلى اليمن مرتين الأولى سنة ٢٨٠ ه‍ حتى بلغ موضعا يقال له الشرفة بالقرب من صنعاء ، وأذعن له الناس فأقام فيهم مدة يسيرة ، ثم إنهم خذلوه ، وانصرف منهم حتى صار إلى الحجاز ، وشمل أهل اليمن من بعده البلاء ووقعت بينهم الفتن وبعد ذلك كتبوا إلى الإمام الهادي عليه‌السلام يسألونه النهوض إليهم ويعلنون بتوبتهم ؛ فخرج للمرة الثانية سنة ٢٨٤ ه‍ واليمن مدين له بخلاصهم من القرامطة وخاض معهم نيف وسبعون وقعة كانت له الانتصارات عليهم ولم يزل مجاهدا حتى توفي سنة ٢٩٨ ه‍ بمدينة صعدة وقبره فيها في جامعه ، مشهور ومزور تفوح منه رائحة عطرة.

ومن آثاره : الأحكام ، والمنتخب ، والفنون ، والمسائل ، ومسائل محمد بن سعيد ، والتوحيد ، والقياس ، والمسترشد ، والرد على أهل الزيغ ، والإرادة والمشيئة ، والرضاع ، والمزارعة ، وأمهات الأولاد ، والعهد ، وتفسير القرآن ستة أجزاء ، ومعاني القرآن تسعة أجزاء ، والفوائد جزءان ، ومسائل الرازي جزءان ، والسنة ، والرد على ابن الحنفية ، وتفسير خطايا الأنبياء ، وأبناء الدنيا ، والولاء ، ومسائل الحسين بن عبد الله الطبري ، ومسائل ابن أسعد ، وجواب مسائل نصارى نجران ، وبوار القرامطة ، وأصول الدين ، والإمامة وإثبات النبوة والوصاية ، ومسائل أبي الحسن ، والرد على الإمامية ، والرد على أهل صنعاء ، والرد على سليمان بن جرير ، والبالغ المدرك في الأصول شرحه الإمام أبو طالب ، والمنزلة بين المنزلتين ، قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة : وقد تركنا قدر ثلاثة عشر كتابا كراهة التطويل ، وهي عندنا معروفة موجودة. ينظر سيرة الهادي لعلي بن محمد العباسي ، والمصابيح لأبي العباس ، والشافي ١ / ٣٠٣ ، والحدائق (خ). والتحف ص ١٦٧ ، والأعلام ٨ / ١٤١ ، ومصادر الفكر العربي في اليمن للحبشي ص ٥٠٦.

(٢) هو الإمام أبو القاسم محمد [المرتضى] بن يحيى [الهادي] ولد سنة ٢٧٨ ه‍. كان عالما ورعا ، أصوليّا مفسّرا فقيها شجاعا دعا إلى الله بعد وفاة أبيه سنة ٢٩٨ ه‍ ، واستمر

٢٤٧

يحيى بن الحسين (ع). وهو قول الملاحمي (١) وهو الصحيح.

واحتج المانعون من كونها عقوبة بأن قالوا : لو كانت عقوبة لما وجب الرضى بها ـ وفي علمنا بأنه يجب الرضى بها ـ دلالة على أنها ليست بعقوبة. والجواب أن ما ذكروه غير مسلّم ؛ فإنّ العقاب متى كان من فعل الله تعالى وجب الرضى به ؛ لأن أفعاله تعالى كلّها عدل وحكمة سواء كانت عقابا أو لا. والفعل الذي وقع فيه النزاع ، إن كان في الغير وجب الرضى به بالإجماع بين المسلمين ، وإن كان في نفس الواحد منا وجب أن يرضى به أيضا. وقياسهم على أهل النار غير صحيح ؛ لأنّ أهل النار مضطرّون غير مختارين فلوا أمكنهم الهرب لفعلوا.

ووجه آخر وهو أنّ أهل النار غير مكلّفين ، بخلاف المعاقب في الدنيا فإنه مكلّف. ومن جملة التكليف أنه يجب عليه الرضى بفعل الله تعالى سواء كان عقابا أو غيره ، وسواء حلّ به أو بغيره. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكيا عن الله تعالى :

__________________

نحو ستة أشهر ثم سلم الولاية لأخيه أحمد الناصر عليهما‌السلام ، وتوفي بصعدة سنة ٣١٠ ه‍ ودفن إلى جنب أبيه وقبره مشهور مزور.

ومن آثاره : كتاب الأصول في التوحيد والعدل ، والإيضاح في الفقه ، والنوازل ، وجواب مسائل المغفلي ، وجواب مسائل مهدي ، والنبوة ، والإرادة ، والمشيئة ، والتوبة ، والرد على الروافض ، وفي فضائل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، والرد على القرامطة ، والشرح والبيان ، والرضاع ، ومسائل القدميين ، ومسائل الحائرين ، وتفسير القرآن ، ومسائل الطبريين ، ومسائل المهدي ، ومسائل ابن الناصر ، ومسائل البيوع ، ومسائل عبد الله بن سليمان ، وجواب علي بن الفضل القرمطي ، وفصل المرتضى ، والنهي. ينظر الحدائق ٢ / ٤١. والتحف ص ١٩٠. والأعلام للزركلي ٧ / ١٣٥. والشافي ١ / ٣١٩.

(١) هو محمود بن محمد بن الملاحمي. تلميذ أبي الحسين البصري صاحب المعتمد في أصول الفقه. وقد تابعهما خلق كثير من العلماء المتأخرين كالإمام يحيى بن حمزة ، وأكثر الإمامية ، والفخر الرازي. واعتمد على رأيه في اللطيف وغيره توفي ٥٣٢ ه‍ وله المعتمد الأكبر. ينظر طبقات المعتزلة للإمام المهدي ص ١١٩. وهامش شرح الأساس ١ / ٢٤٣.

٢٤٨

«من لم يرض بقضائي ، ويصبر على بلائي ، ويشكر على نعمائي ، فليتّخذ ربّا سواي» (١). وهذا يوضّح ما ذكرناه. فهلمّ الدلالة على أنه لا يجب عليه ذلك ؛ بل قد ثبت كون الجزية عقوبة على من فرضت عليه من كفرة العجم ، وهي مع ذلك واجبة عليهم ، ولا خلاف بين المسلمين في وجوب الرضى بالواجب ؛ فسقط بذلك قولهم : إنه لا يجب الرضى بالعقوبة ؛ فإن قيل : ما وجه وجوبها من جهة العقل؟ قلنا : كونها دفعا للضرر. وبيان ذلك أن الكافر مدفوع إلى ضررين : أحدهما القتل. والثاني الجزية ، فيجب عليه دفع أعظم الضررين بأخفّهما. فإن قيل : إذا كان أداؤها واجبا على الذمي كانت عبادة فلا يصح أداؤها منه ـ قلنا : إن الواجب قد يجب ـ وإن لم يكن عبادة ـ كشكر النعمة (٢) وقضاء الدين ورد الوديعة ، فإن جميع ذلك واجب ـ وإن لم يكن عبادة. ولا خلاف أنّ الجزية يجزى أخذها مع الكفر ، فسقط القول بكونها عبادة. واحتجوا بأنه لو كان عقابا لوجب أن يقترن بهذه المضرة الاستخفاف والإهانة ؛ وذلك لا يصح إلا مع الإعلام للمعاقب بذلك ؛ فلمّا لم يعلمه الله تعالى بأنّ ما أنزله به عقاب قطعنا أنه ليس بعقاب.

والجواب ـ أن ذلك لا يصح ؛ لأنّ لقائل أن يقول : ما الذي يدل على أنه لا يجوز انفصال الاستخفاف والإهانة عن المضرة فهما جزاءان مختلفان ، وقد أجزتم ما هو أعظم من ذلك وهو الثواب ؛ فإنه حق مستحقّ على الله تعالى وقد أجزتم انفصال التعظيم والإجلال عن المنفعة ، وقلتم : بأنه يجوز أن يكون تعظيم المؤمن في الدنيا وإجلاله من جملة الثواب ـ وإن تأخرت المنفعة.

وقطع بعض علماء التفسير على أنّ نصر المؤمنين في يوم بدر كان ثوابا

__________________

(١) الطبراني في الأوسط ٧ / ٢٠٣ رقم ٧٢٧٣.

(٢) في (ب) : المنعم.

٢٤٩

لهم. وقد ذكره أيضا أبو على الجبّائي. فإذا جوّزتم هذا في الواجب على الله تعالى فهلّا جوّزتموه في حقه الذي لا يجب عليه فعله ، والذي يقضى العقل بحسن إسقاطه ، والعفو عنه ـ لو لا ما توعّد به من إنفاذه في المجرمين ، وتخليدهم فيه في الآخرة دون الدنيا. واحتجوا بأن ذلك تعريض لاعتقاد الجهل ، وهو قبيح ، فثبت أنه ليس بعقاب.

والجواب : أن ذلك لا يصح ؛ لأنه إنما يكون تعريضا لاعتقاد الجهل ، متى دلّ دليل قطعي على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة. فأما إذا لم يكن هناك دليل قطعي : فالعقل يجوّز أن يكون عقوبة ، ويجوّز أن يكون مصلحة يقع معها الاعتبار ، ويجوّز أن يكون عقوبة لمن هو به ومصلحة لغيره.

وإذا لم يكن هناك دلالة قطعية على المنع من كونه عقوبة ، بل ذلك باق على التجويز العقلي ـ لم يكن المكلّف معرّضا لاعتقاد الجهل. ثم يجوز أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون عقوبة بأن يعلم قطعا أنه مؤمن كما أشار إليه المرتضى لدين الله عليه‌السلام.

وهذا مبني على أن المرء يمكنه أن يعلم ذلك من نفسه ، وهو الأصوب ؛ فإنه يعلم قطعا بالعقل والشرع أن التائب لا عقاب عليه ، ويمكنه أن يعلم قطعا أنه تائب ، نحو من لا يكون عليه تبعات للآدميين أصلا ؛ فإنه متى تاب إلى الله تعالى على الجملة والتفصيل الممكن له ـ علم قطعا أنه تائب ، فيعلم قطعا أنه في تلك الحال مؤمن غير معاقب أصلا. ولا يلزم على هذا أن يقال : فيجب إذا تاب العاصي هذه التوبة أن يزول مرضه لأنا نقول : يجب أن يزول مرضه بلا إشكال إذا لم يكن في إنزاله وجه سوى كونه عقوبة. وأما إذا كان مفعولا لوجهين : أحدهما كونه عقوبة. والثاني كونه مصلحة فإنه لا يستمر إلّا لكونه مصلحة فقط ، ولا يجوز أن يقال : إن نفس ما يستحق به الاستخفاف

٢٥٠

هو عين (١) ما لا يستحق به الاستخفاف ؛ لأنا نقول : إنها آلام متجددة. فالمستمر غير الماضي ؛ ولهذا لو تاب المحدود في أثناء الحد لكان ما قبل التوبة عقابا عند الجميع منا ومنهم. وعليه يدل قوله تعالى في الزانيين : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) النور : ٢ وما بعد التوبة مصلحة للمحدود ، وامتحان عند الجميع أيضا يستحق عليه العوض ، فكذلك ما نحن فيه فقد ورد الشرع بما ذكرناه. كما رواه عبد الله بن المغفل (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه جاءه رجل ووجهه يسيل دما ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لك؟ وما أهلكك؟ فقال : خرجت يا رسول الله من منزلي فإذا أنا بامرأة فأتبعتها بصري فأصابني ما ترى. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله إذا أراد بعبد خيرا عجّل له عقوبة ذنبه في الدنيا ، وإذا أراد به شرا أمسك عليه بذنبه حتى يوافي يوم القيامة كأنه عير» (٣). ووجه الدليل من الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرنا ـ وخبره صدق بأن الله سبحانه قد يعاقب في الدنيا ؛ فاقتضى ذلك ما قلناه : من أنه يجوز العقاب في الدنيا.

ويدل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أذنب ذنبا فعوقب به في الدّنيا فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده» (٤) ، وقولهم : بأن ذلك يحمل على الحدود لا يلزم ؛ لأن ذلك خلاف ما يقتضيه الظاهر ، وهو عمل على التأويل

__________________

(١) في (ب) غير ، والصواب : ما أثبتناه بدليل ما بعده.

(٢) عبد الله بن مغفل هكذا ذكره الذهبي وأيضا الحاكم ، هو صحابي من أهل بيعة الرضوان ، توفي سنة ٦٠ ه‍. ينظر سير أعلام النبلاء ٢ / ٤٨٣.

(٣) أخرجه الحاكم ١ / ٣٤٩ و ٤ / ٣٧٧ عنه. والمعجم الكبير للطبراني ١١ / ٣١٣ برقم ١١٨٤٢ ، عن عكرمة عن ابن عباس. في هامش (ه) ما خلاصته : أن التكفير للذنب يستقيم في الصغائر ، أما الكبائر فلا تسقطها إلا التوبة.

(٤) أحمد بن حنبل ١ / ٢١٣ رقم ٧٧٥. عن علي عليه‌السلام. والحاكم ٤ / ٣٨٨.

٢٥١

على موافقة المذهب فقط ، فثبت ما قلناه والله الهادي.

ويدل على ذلك قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٥٥] يعني بالسّبي والغنيمة للأموال ، فلا تعجبك إذا كان ذلك عاقبته. ذكره المفسرون (١). وكذلك قوله : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [التوبة : ٧٤] ، ففي الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة عذاب النار. وكذلك قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) [التوبة : ١٠١] : إحدى المرّتين في الدنيا ، والثانية في القبر. والعذاب العظيم في نار جهنم.

ويدل على ذلك قول الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] فقوله : ما أصابك من حسنة ، يعني نعم الدنيا والدين ، فيدخل (٢) فيها الطاعات.

وإنما أضافها إلى الله تعالى ـ وإن كانت فعلا للعبد على ما تقدم بيانه ـ فلأنه أمر ببعضها ، وندب إلى بعضها ، وهدى إليها ، ومكّن منها ، وزيّنها ، وحبّبها ، ووعد بالثواب على فعلها ، وأوعد بالعقاب على ترك ما افترض منها. فمن هذا المعنى جاز أن يضاف إليه ، وقوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يريد ما أصابك بسبب معاصيك فمن نفسك ؛ لأن المعاصي فعلك فهي عقاب لك.

وروي أن هذه الآية لمّا نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يصيب رجلا خدش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما

__________________

(١) ينظر الكشاف ٢ / ٢٨٠. وفي مجمع البيان ج ٥ ص ٧٠.

(٢) في (ب) و (ج) : ويدخل.

٢٥٢

يعفو الله أكثر» (١) ، فجرى ذلك مجرى التفسير للآية. وكلّ ذلك يدل على صحة ما قلناه والله الهادي.

ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم : ٤١] ، فإن قيل : وما تلك العقوبة؟ قلنا : كالقحط والغلاء والأمراض ، وما ينالهم من المحن والشدائد ؛ ولأن المتعارف أن الظلم إذا كثر انقطعت البركات وأسبابها ويخلّي الله بين عباده. ومتى قيل : أيكون ذلك عقوبة أو محنة؟ قلنا : كلاهما جائز. وقد قيل : بالعدل ينبت الله الزرع ، ويدرّ الضّرع ، وبالظّلم يكون القحط وضيق الرزق وإمساك المطر.

فصل في العوض والكلام فيه يقع في خمسة مواضع :

أحدها في معناه. والثاني في حكمه في الدوام والانقطاع. والثالث في مقداره. والرابع في أن الله تعالى ينتصف للمظلومين من الظالمين. والخامس في كيفية الانتصاف.

أما الموضع الأول : وهو في معناه فالعوض هو المنافع العظيمة المستحقّة المفعولة على وجه الجزاء عارية عن المدح والتعظيم. قلنا : المنافع العظيمة ، جنس الحد. قلنا : المستحقة ، فصلناه عن التّفضّل. قلنا : المفعولة على وجه الجزاء ، فصلناه عن الألطاف التي يستحقها العباد على الله تعالى. قلنا : عارية عن المدح والتعظيم ، فصلناه عن الثواب. والذي يدل على صحة هذا الحد أنه يكشف عن معنى المحدود ، ولهذا يطرّد المعنى فيه وينعكس وهو أمارة صحة الحد.

وأما الموضع الثاني : وهو في حكمه في الدوام والانقطاع ، فذهب أبو

__________________

(١) شعب الإيمان بلفظ : لا يصيب ابن آدم ٧ / ١٥٣ برقم ٩٨١٥. والدر المنثور ٥ / ٧٠٦.

٢٥٣

هاشم إلى أنه منقطع (١). وهو قول كثير من العدلية ، خلافا للشيخ أبي الهذيل ؛ فإنه ذهب إلى دوام العوض ، وأنه غير منقطع ، وإلى ذلك ذهب أبو علي أولا وهو قول الحسين بن القاسم (٢) بن علي بن محمد بن القاسم الرسي عليه‌السلام. والذي يدل على أنه منقطع أن أروش الجنايات منقطعة بلا خلاف ، وإنما كانت منقطعة ؛ لكونها جبرا لنقص من جهة الجابر يقلّ بقلته ويكثر بكثرته ؛ بدليل أن الحكم يثبت بثبوت ذلك ، وينتفي بانتفائه ، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى. وقد شاركها العوض في هذه العلة ، فإنه جبر لنقص وهو الألم من جهة الجابر يقل بقلته ويكثر بكثرته ، فيجب أن يشاركه في الحكم الذي هو الانقطاع ؛ لأن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم ، وإلا عاد على أصل التعليل بالنقض والإبطال. هذه هي حجة القائلين بانقطاع العوض ، ولم يفصلوا بين أن يكون العوض مستحقّا على الله تعالى أو على غيره ، إلا أنّ لقائل أن يقول : إن هذا الدليل إنّما يصح في العوض المستحق على غير الله تعالى. فأما فيما يستحق على الله تعالى فإنه لا يصح ؛ لأن العلة وهي كونه جبر النقص من جهة الجابر تقل بقلته وتكثر بكثرته ـ غير موجودة في العوض

__________________

(١) ينظر شرح الأصول الخمسة ٤٩٤.

(٢) هو الحسين بن القاسم العياني. ولد سنة ٣٧٦ ، وكان من كبار علماء الآل ومشهورا بالزهد والعبادة. ادعى الإمامة سنة ٣٩٣ ، ولم يزل داعيا إلى الصدق كابتا لأرباب الإجرام ، معليا كعب الإسلام حتى قتل في وادي عرار [بلدة من ناحية ريدة البون شمالي صنعاء على بعد ٤٩ كم]. سنة ٤٠٤ ه‍. له مؤلفات كثيرة قيل إنها بلغت ٧٣ مؤلفا. منها : المعجز ، وتفسير غرائب القرآن ، ومختصر الأحكام ، الإمامة ، والرد على أهل النفاق ، وشواهد الصنع ، ونبأ الحكمة ، والرد على الدعي ، والتوفيق والتسديد. وغيرها. ينظر الحدائق ٢ / ٦٠. والتحف ٢٠٢. ومصادر الفكر للحبشي ص ٥٢٦.

٢٥٤

المستحق على الله تعالى ؛ فإنه لا يقل بقلة (١) الألم ، بل يجب أن يبلغ مبلغا عظيما على ما يأتي بيانه. فإن كانت معهم دلالة تدلّ على انقطاعه غير هذه ـ وإلا وجب بقاؤه على التجويز العقلي : فيجوز أن يكون دائما ، ويجوز أن يكون منقطعا ، دون العوض المستحق على غير الله تعالى ؛ فإنه يجب أن يكون منقطعا للدلالة التي ذكروها. والله الهادي.

وأما الموضع الثالث : وهو في مقدار العوض فالعوض على ضربين : أحدهما المستحق على الله تعالى وهذا يجب أن يكون بالغا مبلغا عظيما وأن يزيد أضعافا مضاعفة ، بحيث لو خيّر المؤلّم بين الألم وبين الترك ؛ لاختار الألم على الترك ؛ لما في مقابلته من العوض الزائد المرغوب فيه ؛ وذلك لأن (٢) الله تعالى آلمه من غير مراضاة (٣) ؛ فيجب أن يبلغ (٤) العوض ذلك المبلغ ، وإلا كان ظلما قبيحا.

وقد وردت السّنة بثبوت العوض ، وأنّ ما يستحق منه على الله تعالى يجب أن يكون بالغا مبلغا عظيما نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يتمنى أهل البلاء في الآخرة لو كان الله تعالى زادهم بلاء لعظم ما أعد لهم في الآخرة». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من وعك ليلة كفّرت عنه ذنوب سنة» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله عزوجل : إني إذا وجّهت إلى عبد من عبادي

__________________

(١) في (ب) بقلته.

(٢) في (ب) وذلك أن الله تعالى.

(٣) في (ب) : مراضاته.

(٤) في (ب) و (د) أن يبلغ ذلك العوض.

(٥) قال في أطراف الحديث ج ٨ ص ٥٩٩ : أخرجه صاحب الأحكام النبوية في الصناعة الطبية للكحال ، طبعة الحلبي بلفظ فيه اختلاف.

٢٥٥

مصيبة في بدنه أو ماله فاستقبل ذلك بصبر جميل ـ استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا ، أو أنشر له ديوانا» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة ، فلا ينشر لهم ديوان ، ولا ينصب لهم ميزان ، يصبّ عليهم الأجر صبّا» (٢) ، ثم قال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمن يشدّد عليه وبكلّ وجع وجعه خطيئة تحطّ عنه ، وحسنة تكتب ، ودرجة ترفع» (٤). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله تعالى : إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا ، فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك اليوم كيوم ولدته أمه من الخطايا ، ويقول الربّ للحفظة : أنا قيّدت عبدي هذا وابتليته ، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر» وهو صحيح (٥). والأخبار في ذلك كثير (٦). فهذا هو الكلام في العوض المستحق على الله تعالى وهو الضرب الأول.

وأما الضرب الثاني : فهو العوض المستحق على غير الله تعالى ؛ فإنه يجب أن يكون موازنا للألم ؛ لأنه لو زاد العوض على الألم لخرج الألم عن كونه

__________________

(١) أخرجه في شمس الأخبار ٢ / ٣١٧ وعزاه إلى الشهاب الشافعي ، وقال المخرج : أخرجه الحكيم عن أنس.

(٢) في الأصل : صبّ والأصح ما أثبتناه من مصادره.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير ٣ / ٩٣ رقم ٢٧٦٥ بلفظ : إنّ في الجنة ... الحديث ، عن الإمام الحسن بن علي (ع). والدر المنثور ٥ / ٦٠٦.

(٤) ذكر ما يقارب ذلك في طبقات ابن سعد والحاكم في المستدرك ١ / ٣٤٦.

(٥) أخرجه في شمس الأخبار ٢ / ٣١٠ ، وعزاه إلى السمان. وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ٩ / ٣٢٢ رقم ١٤٠١٥ ، عن شداد بن أوس.

(٦) في (ب) كثيرة.

٢٥٦

قبيحا ، ولكان (١) حسنا وفي علمنا بقبحه دلالة على أنه لا يزيد عليه ؛ ولأنه جار مجرى أروش الجنايات ، وقيم المتلفات كما تقدم تحقيقه ، فكما أن ذلك لا يكون إلا بمقدارها من غير زيادة ولا نقصان كذلك هذا. فثبت بذلك ما ذكرناه ، وبذلك يثبت الموضع الثالث ، وهو في مقدار العوض.

وأما الموضع الرابع : وهو في أن الله تعالى ينتصف للمظلومين من الظالمين فهذا هو الذي نعتقده. والذي يدل على ذلك : العقل والكتاب والسنة والإجماع. أما العقل فهو أن الله تعالى مكن الظالمين من المظلومين وخلى بينهم مع أن الكل عبيده ، وفي دار مملكته ، وكل ذلك حسن ؛ لأنا قد بيّنّا أن أفعاله كلها حسنة فيجب أن ينتصف للمظلومين من الظالمين وإلا كان التمكين قبيحا ، وهو تعالى لا يفعل القبيح. وأما الكتاب فقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] ، وقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير : ٥] ، ولا فائدة في حشرها إلا توفير أعواضها عليها لأنها ليست من أهل الثواب فتثاب ولا من أهل العقاب فتعاقب. إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله ينتصف للجمّا من ذات القرنين» (٢) ، ويروى : «للجمّا من القرناء». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة

__________________

(١) في (ب) وكان.

(٢) أخرج مسلم ٤ / ١٩٩٧ ، والترمذي ٢٤٢٠ بلفظ : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاه الجلحاء من الشاة القرناء. وأحمد ٣ / ٢٨٩ رقم ٨٧٦٤ بلفظ : إن الله يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى للجماء من القرناء ، وحتى الذرة من الذرة.

٢٥٧

نادى مناد : أنا الملك الديّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار مظلمة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعليه لأحد من أهل الجنة مظلمة» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن العصفور ليأتي يوم القيامة له دويّ تحت العرش ، فيقول : رب سل فلانا بم قتلني» (٢) ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما الإجماع فذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين ، وثبت بذلك الموضع الرابع وهو في (٣) أن الله تعالى ينتصف للمظلومين من الظالمين.

وأما الموضع الخامس : وهو في كيفية الانتصاف فذهبت العدلية إلى أن المقاصّة تكون بالأعواض المستحقة على الآلام وهو الصحيح. وذهبت المجبرة إلى أن المقاصة تكون بالثواب إن كان للظالم ثوابا أعطي المظلوم منه ، وإن لم يكن أخذ من عقاب المظلوم فجعل على الظالم وعوقب به. وقولهم باطل أما ما ذكروه من توفير ثواب الظالم على المظلوم فغير صحيح ؛ لأن الثواب إنما يستحق على فعل ما كلف المكلف فعله ، أو ترك ما كلف تركه ، فلا يجوز أن يوفر ثواب الطاعات على من لم يفعلها ؛ ولقول الله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩].

وأما ما ذكروه من نقل عقاب المظلوم إلى الظالم فغير صحيح أيضا لما بينا أنه تعالى لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ، وما فعله الظالم بالمظلوم من الظلم يجب فيه

__________________

(١) أحمد بن حنبل ٢ / ٤٢٩ رقم ١٦٠٤٢ بما يوافق ذلك.

(٢) أخرجه النسائي ٧ / ٢٣٩ برقم ٤٤٤٦ بلفظ : «من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله عزوجل يوم القيامة يقول : يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة». وابن حبان في صحيحه ٧ / ٥٥٦. والطبراني في الكبير ٧ / ٣١٧ رقم ٧٢٤٥ ، ٧٢٤٦. وأحمد بن حنبل ٧ / ١٢٠ رقم ١٩٤٨٧ ، عن الشريد بن سويد الثقفي. وفي (ب) يا رب.

(٣) في (ب) و (ه) بدون في.

٢٥٨

حقان : أحدهما لله تعالى وهو العقاب ؛ لمكان قبح الظلم ، كما يجب ذلك في كل فعل قبيح. والثاني : للمظلوم وهو العوض ؛ لئلا يبطل حق المظلوم ، ولئلا تقبح التخلية بينه وبين الظالم ، ولقول الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، وقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] ، وقد قدمنا في فصل المجازاة ما يكفي في ذلك ، ولأنه لو نقل عقاب المظلوم عنه لكان قد وقع التخفيف عنه ، وذلك لا يجوز لقوله تعالى : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] ، وقوله تعالى : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [البقرة : ١٦٢]. ولا يجوز أن يجبر الله تعالى ذلك من جهته تفضلا من دون أن يكون من جهة الظالم ؛ لأن للمتفضل أن يتفضل وأن لا يتفضل ، وما يستحقه المظلوم يجب أن يفعل ؛ فلا يجوز أن يقوم أحدهما مقام الأخر ؛ ولأن الله تعالى لو جبر ذلك منه تعالى لكان في ذلك نهاية الإغراء بفعل الظلم ؛ فإنه إذا علم الظالم أن الله تعالى يتفضل بالقضاء عنه وأنه لا يأخذ من أعواضه شيئا دعاه ذلك إلى فعل الظلم والإغراء بالظلم قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح فلم يبق إلا أن الانتصاف إنما هو بأن يوفر على المظلومين من أعواض الظالمين التي استحقوها على ما نزل لهم (١) من الآلام والغموم بقدر ما وصل إلى المظلومين من الظالمين إذ لا يعقل من الانتصاف سوى ذلك.

فصل : في الآجال (٢)

الأجل هو : الوقت المضروب لحدوث أمر في المستقبل. وهو عامّ فيقال : أجل الدّين وأجل الثّمن وأجل الحياة وأجل الموت إلى غير ذلك. وأجل الحياة

__________________

(١) بهم في بقية النسخة.

(٢) ينظر مجموع رسائل الإمام الهادي ٣٠٥ وما بعدها ، والمغني ١١ / ٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٠.

٢٥٩

هو مدّة الحياة ، وأجل الموت هو الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيّ فيه. وهو على ضربين أجل محتوم ، وأجل مخروم (١). فالمحتوم من الله تعالى يفعله كما شاء ومتى شاء وكيفما شاء (٢). قال تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [الواقعة : ٦٠] وقال عزوجل : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥]. والمخروم هو ما كان من فعل العباد ، نحو ما يجب فيه القصاص والدية ، أو الدية ، أو كان قصاصا أو حدّا ، أو نحو ذلك ، فهذا الأجل من فعل العباد. ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى ، والقتل فيه موت. وإنما قلنا : بأن في القتل موتا (٣) ؛ لأن في القتل ثلاثة أشياء : انتقاض البنية بالجرح ، وهو فعل العبد ، وفيه القصاص والدية والكفارة على بعض الوجوه. والثاني خروج الروح وهو النّفس المتفرق في الأعضاء ، المتردّد في مخارق الحي ، وذلك مفوض إلى الملك ، وقد أعطاه الله آلة يتمكن بها من إخراج ذلك من بدن الإنسان. والثالث الموت وهو فعل الله تعالى لا يقدر عليه غيره ، وهو معنى من جملة المعاني كالحياة ، وعليه يدلّ قول الله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وقد بيّنا فيما تقدم أنّ العباد فاعلون لتصرفاتهم ، وأنها ليست بقضاء من الله وقدر بمعنى الخلق ؛ فبطل بذلك قول المجبرة ، واختلف الناس في الأجل المخروم. مثاله : المقتول إذا قتل هل كان يجوز أن يحيى ، ويجوز أن يموت؟ على أقوال ثلاثة : فمنهم من قطع على (٤) أنه لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة. وهذا هو قول

__________________

(١) هو الذي يقتل فيه المقتول ، وسمي خرما ؛ لأن القاتل خرم عمره أي قطعه بما مكنه الله من قدرة ، ولم يمنعه بل خلى بينه وبينه ؛ لمصلحة الابتلاء والتمكين.

(٢) في (ب) و (ج) : وكيف شاء.

(٣) في (ب) : بأن القتل موت.

(٤) في (ب) بحذف على.

٢٦٠