ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

العقل أن دفع الضرر عن النفس واجب إذا كان المدفوع به دون المدفوع (١) ؛ فإن العقلاء يسارعون إلى الفصد والحجامة (٢) ليدفعوا بهما (٣) مضارّ هي أعظم منها (٤). وسواء كان الضرر مظنونا أو معلوما ؛ فإنه لا فرق عند العقلاء بين أن يخبرهم مخبر ظاهره العدالة بأنّ في الطعام سمّا ، وبين أن يشاهدوه في أنه يجب عليهم اجتنابه في الحالين جميعا ـ وإن كان خبر الواحد يقتضي الظن ، والمشاهدة توجب العلم ـ فثبت بذلك أن العلم بالثواب والعقاب واجب.

فإن قيل : ولم قلتم بأن العلم بهما لا يتم من دون العلم بهذه المعارف؟ ، قلنا : لأنّ العلم بالثواب والعقاب فرع على العلم بالمثيب والمعاقب ، وعلى كونه قادرا على الثواب والعقاب ، وعالما بمقاديرهما وبكيفية إيصالهما إلى مستحقّهما (٥) ، وعلى جميع هذه المعارف (المعبّر عنها بأصول الدين) ؛ فإذا كان العلم بالثواب والعقاب واجبا بما تقدم تحقيقه ـ وهو لا يتم إلا بمعرفة الله تعالى وبسائر هذه المعارف ـ كانت واجبة لوجوبه ؛ لما نعلمه من مقدّمات قضاء الدّين ، وردّ الوديعة ؛ فإنها واجبة لمّا لم يتم الواجب إلّا بها ، وقد شاركتها هذه المعارف في أنه لا يتم الواجب إلا بها ، فيجب أن تشاركها في الوجوب ، لأن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم ، وإلّا عاد

__________________

(١) يريد أن دفع الهلاك يجوز إذا حصل بضرر أقل. أما دفع الهلاك عن النفس بإهلاك نفس أخرى فلا يجوز.

(٢) معالجة قديمة لإخراج الدم عند ما يتبيّغ بصاحبه.

(٣) في (ب) : بها.

(٤) الضمير عائد إلى الفصد والحجامة. والمعنى أن الفصد والحجامة مضرّان ؛ لكنهما دفعا مضرة أكبر ، وهي تبيّغ الدم وبثر الفم.

(٥) في (ب) : إلى مستحقيهما.

٢١

على أصل تلك العلة بالنقض والإبطال.

فإن قيل : ولم قلتم بأنها أول الواجبات سوى التفكر؟. قلنا : لأنا قد دللنا على أن العلم بالثواب والعقاب لطف في واجب ، ومن حق اللطف أن يتقدم على الملطوف فيه ؛ لأنّ الغرض باللطف هو التقرّب من الملطوف فيه ، وقد بيّنا أنّه لا يتمّ من دون هذه المعارف ، وكانت متقدّمة على ما عدا التفكر من الواجبات.

فإن قيل : دلّوا على وجوب التفكر؟. ثمّ دلّوا على أنه أول الأفعال الواجبة التي لا يعرى عن وجوبها مكلّف ليصح ما ذكرتموه؟. قلنا : الذي يدلّ على وجوب التفكر في الأدلة والبراهين الموصلة إلي معرفة ربّ العالمين ، وإلى سائر المعارف المعبّر عنها بأصول الدين ـ أنّه لا طريق للمكلفين إلى العلم بالله تعالى وبهذه المعارف سوى التفكر في الأدلة والبراهين ؛ لأنه تعالى لا يعرفه المكلفون ضرورة (١) مع بقاء التكليف (٢) ؛ إذ لو عرف ضرورة لما اختلف العقلاء فيه (٣) ؛ لأن العقلاء لا يختلفون فيما هذه حاله. ومعلوم أنهم قد اختلفوا فيه ،

__________________

(١) الضرورة : في اللغة الإلجاء ، قال تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وفي العرف : يستعمل فيما يحصل فينا لا من قبلنا ، بشرط أن يكون جنسه داخلا تحت مقدورنا. وخالف في ذلك أصحاب المعارف كالجاحظ وأبي علي الأسواري ، فقالوا : إنه يعرف ضرورة. ينظر الأصول الخمسة ٥٢ ، وشرح الأساس ١ / ٦٢.

(٢) لأن المحتضر وأهل الآخرة يعرفون الله ضرورة ، وخالف في ذلك أبو القاسم البلخي ، وقال : إنه كما يعرف دلالة في الدنيا فكذلك في دار الآخرة ؛ لأن ما يعرف دلالة لا يعرف إلا دلالة ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يعرف إلا ضرورة. ينظر : شرح الأصول الخمسة ٥٢ ، وشرح الأساس ١ / ٦٢.

(٣) ليس نفي من نفى الله سبحانه يدل على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ؛ لأن النافي له لا ينفي إلا بلسانه لا بالاعتقاد ، ولا أعظم في النفي له سبحانه من قول عدوه فرعون لعنه الله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فهذا قوله في الظاهر وهو في الباطن معترف

٢٢

فإنّ منهم من أثبت الصانع ، ومنهم من نفاه ، ومنهم من وحّده ، ومنهم منّ ثنّاه ، وكذلك الكلام في هذه المعارف.

فإن قيل : ومن أين أنّ التّفكّر طريق إلى العلم بهذه المعارف؟ ، قيل : لأنه موصل إليها ، فإنّ من نظر في دليل إثبات الصانع حصل له العلم بالصانع دون ما عدى ذلك من المسائل متى تكاملت له شروط النّظر ، وهي أربعة : أحدها : أن يكون الناظر عاقلا ؛ لأن من لا عقل له لا يمكنه اكتساب شيء من العلوم أصلا. والثاني : أن يكون عالما بالدليل ؛ لأنّ من لم (١) يعلمه لم يمكنه أن يتوصل بنظره إلى العلم بالمدلول عليه. والثالث : أن يكون عالما بوجه دلالة الدليل ، وهو التعلّق بين الدليل والمدلول عليه ، فيكون الدليل بأن يدلّ عليه أولى من أن يدل على غيره ، وأولى من أن لا يدل ؛ لأن من لم يعلم ذلك لم يحصل له العلم بالمدلول عليه. والرابع : أن يكون مجوّزا غير قاطع ؛ لأن من قطع على صحة شيء أو فساده لم يمكنه أن ينظر فيه.

فثبت أن التفكر في الأدلة والبراهين موصل إلى معرفة رب العالمين ، وإلى العلم بسائر المعارف المعبّر عنها بأصول الدين. ولا شبهة في أنّ ما يوصل إلى الشيء فهو طريق له ، فإن ذلك مما هو معلوم ضرورة ؛ فإذا ثبت كونه طريقا إلى ذلك ؛ فطريق الشيء يتقدمه. وهذا معلوم ضرورة.

فثبت أنّ التفكر أوّل الأفعال الواجبة التي لا يعرى من وجوبها مكلف.

__________________

بالله سبحانه ، وعالم أنه خالقه. ويروى أنه أصاب الناس قحط شديد فدخلوا عليه فقالوا : يا ربّنا أمطرنا ؛ فوعدهم بالمطر إلى غدهم ، ثم خرج في ليلته منفردا إلى البرّية ؛ فعفر خديه في التراب وسأل الله سبحانه أن يمطرهم ؛ فأمطرهم الله سبحانه أ. ه من هامش ه. أقول : وفي أمطارهم تلبية لطلب فرعون إغواء لقومه إن صحت الرواية ، أو فتنة وابتلاء. والله أعلم.

(١) في (ب) : من لا يعلمه.

٢٣

واحترزنا بقولنا : أوّل الأفعال ، عن التّروك ، فإن وجوب التّرك قد يقارن وجوب النظر في معرفة الله تعالى ، ألا ترى أن المكلف متى توجّه عليه التكليف وهو في زرع الغير ، فكما أنّه يجب عليه التفكّر فإنه يجب عليه الكفّ عن اغتصاب الزرع ، والخروج منه ، وكذلك فإنه قد يجب عليه الكفّ من الكذب (١) والظلم في حال ما يجب عليه النظر في معرفة الله تعالى. واحترزنا بقولنا : التي لا يعرى عن وجوبها مكلف ـ عن ردّ الوديعة وقضاء الدين وشكر المنعم (٢) فإنهما وإن شاركا النظر في كونهما فعلين واجبين. فإنهما يفارقان النظر من حيث إنّ المكلف يعرى عنهما ، بخلاف النظر الذي هو التفكّر ؛ فلهذا قلنا : بأنه (٣) أول الأفعال الواجبة التي لا يعرى عن وجوبها مكلف. وبذلك يثبت الكلام في وجوب التفكر ، وأنه أول الواجبات على الوجه الذي بيّنّاه.

فصل : فيما يلائم ذلك من السّمع :

قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الآية [الروم : ٨]. وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) الآية [ق : ٦]. ونظائرهما في القرآن كثير.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «تفكّروا في آلاء الله ، ولا تتفكّروا في الله» (٤).

__________________

(١) في كل النسخ : من الكذب ، والأوجه : عن الكذب.

(٢) في (ب) : وشكر النعمة.

(٣) في (ب) : أنه.

(٤) مجمع الزوائد ١ / ٨١. وابن كثير في تفسيره ج ٧ ص ٤٤١. وابن عدي في الضعفاء ٧ / ٩٥. والطبراني في الأوسط ٦ / ٢٥٠ برقم : ٦٣١٩. وفي كشف الخفاء للعجلوني أحاديث حول هذا ١ / ٣١٠ برقم ١٠٠٤ وما بعده.

٢٤

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «تفكّروا في المخلوق ، ولا تتفكّروا في الخالق» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تتفكروا في عظمة ربّكم ، ولكن تفكّروا فيما خلق ، فإنّ فيما خلق متفكّرا ؛ فإنّ خلقا من الملائكة يقال له : إسرافيل. زاوية من زوايا العرش على كاهله ، وقدماه في الأرض السّفلى ، وقد مرق رأسه من السماء السّابعة ، ومن سبع سماوات» (٢) ، وألزم الله تعالى معرفته فقال عز قائلا : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩]. وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «خمس لا يعذر أن يجهلهنّ أحد : أن يعرف الله ولا يشبّه (٣) به شيئا.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦. وتفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٤٢. وكنز العمال ٣ / ١٠٦ برقم : ٥٧٠٥ ، ٥٧٠٨.

(٢) كنز العمال ٣ / ١٠٧ برقم ٥٧١٤. ولفظه : «لا تفكروا في الله ، وتفكروا في خلق الله ؛ فإن ربنا خلق ملكا ، قدماه في الأرض السابعة السفلى ، ورأسه قد جاوز السماء العلياء. ما بين قدميه إلى كعبيه مسيرة ستمائة عام. والخالق أعظم من المخلوق. وأعجب من هذا ما نسمع من علماء الفلك في هذا العصر الذي توفرت فيه المناظير والتلسكوبات الضخمة والسفن الفضائية والوسائل التي قرّبت وكشفت من عظمة الخالق ما يشيب له العقل ؛ فقد سمعنا أن بعض النجوم أو المجرّات تبعد عنّا مسافة مائة مليون سنة ضوئية علما أنّ الضوء يقطع في الثانية ثلاثمائة ألف كيلومتر أو ١٨٦٠٠٠ ألف ميل. والساعة ثلاثة آلاف وستمائة ثانية ؛ فيقطع الضوء في الساعة الواحدة مليارا وثمانين مليون كيلومتر ؛ فكم في اليوم؟ وكم في الشهر؟ وكم في السنة؟ وكم في مائة مليون سنة؟ إنه فوق مستوى تصور العقول. وصدق الله العظيم إذ يقول : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) حقّا إنّه لعظيم لا يقدر أن يسافر في ملكوته الخيال ؛ فجلّ الكبير المتعال.

(٣) في (ب) : لا يشبهه بشيء. وأمالي أبي طالب ص ٣٣٢ : أن تعرف الله ولا تشبهه بشيء.

٢٥

ومن شبّه الله بشيء ، أو زعم أنّ الله يشبه شيئا فهو من المشركين (١)» الخبر بطوله. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل : «هل عرفت ربّك؟ ، فقال : يا رسول الله وكيف أعرفه؟ ، قال : اعرفه ولا تعرّفه بالأعضاء» يعني لا يعتقد أنه جسم ، إلى غير ذلك من الأخبار.

فصل : فإن قيل : فهل يجوز (٢) التقليد في أصول الدين؟ ، قلنا : إن ذلك عندنا لا يجوز. فإن قيل : بيّنوا أوّلا : ما معنى التقليد ، ثم بينوا أنه لا يجوز ، لأنه لا يحسن الكلام في أحكام أمر ولمّا يعرف ذلك الأمر.

قلنا : أما معناه فهو اعتقاد صحة قول الغير من غير اعتماد على حجة ولا بصيرة. والذي يدل على صحة هذا الحدّ أنه يكشف عن معنى المحدود على جهة المطابقة ، ولا يسبق من معنى التقليد سواه ؛ ولهذا يطرد المعنى وينعكس وهذه هي دلائل صحة الحد (٣).

وأما الذي يدل على قبحه فالعقل والسمع : أما العقل فهو أنه ليس مقلّد أولى من مقلّد ، فلم نكن بتقليد أسلافنا في مذاهبنا أولى من تقليد اليهود والنصارى وغيرهم من فرق الكفر لأسلافهم في مذاهبهم ، ولم يكن المقلّد بتقليد المحق أولي من تقليد المبطل ؛ لأن المقلّد لا يفصل بين محقّ ومبطل ، لأنه غير عارف بالحق والباطل ، ولا (٤) يخلو أن يقلّد جميع أهل المذاهب كلها ـ

__________________

(١) في أمالي أبي طالب ص ٣٣٢ : بجهلهن ، وبقية الخبر : «والحبّ في الله والبغض في الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجتناب الظّلم».

(٢) في (ب) : تجوّزون التقليد.

(٣) فنقول : التقليد اعتقاد صحة قول الغير .. إلخ ، ونعكس فنقول : اعتقاد صحة قول الغير .. إلخ ، هو التقليد.

(٤) في (ب) : فلا.

٢٦

وفي ذلك الوقوع في الكفر والضلال ، والاعتقاد المتعارض (١) الأقوال ـ أو لا يقلّد أحدا منهم وهو الذي نقول ، أو يقلد البعض من دون البعض من غير مخصّص فذلك محال ؛ وبذلك يبطل القول بتقليد الزاهد ، فإن في كل فرقة زاهد ، ويبطل القول بتقليد الأكثر أيضا لأنه يجوز أن يصير الأكثر أقلّ والأقلّ أكثر (٢).

وأما السمع : فالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠] وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] وقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا ، كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٦ ، ١٦٧]. وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [لقمان : ٢١] وقوله عزوجل : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ

__________________

(١) في (ب) : لمتعارض.

(٢) هذا يشبه السبر والتقسيم في البحث عن الأصلح ، حيث اختبر أكثر من جهة لينظر هل يصح تقليدها أولا ؛ فيعتمد ما يصح ويلغي ما لا يصح.

٢٧

وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٧ ، ٦٨] «يقرأ بالباء بواحدة من أسفل ، وبثلاث من أعلى» أي كبيرا. إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة : فما أخبرني به والدي وسيدي بدر الدين (١) عماد المحقين شيخ آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمد بن أحمد نوّر الله قبره ، بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله ، والتّدبّر لكتابه ، والتفهّم لسنتي ـ زالت الرواسي ولم يزل. ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلّدهم فيه ، ذهب به الرجال من يمين إلى شمال ، وكان من دين الله على أعظم زوال» (٢). وكفى بذلك باعثا على التفكّر في الأدلة والبراهين ، وزاجرا عن الدخول في زمرة المقلّدين الهالكين. وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلوات الله عليه وآله أنه قال : «لا تكونوا إمّعة (٣) : تقولوا : إن أحسن الناس أحسنّا ، وإن أساءوا أسأنا ، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا» (٤).

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبد الله ابن الإمام المنتصر بالله محمد ابن الإمام القاسم المختار ابن الإمام الناصر لدين الله أحمد ابن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه‌السلام. ولد ٥٢٩ ه‍. وت ٦١٤ ه‍. وهو أصغر من أخيه يحيى شمس الدين وقرأ هو وأخوه على القاضي جعفر جميع العلوم وحدث عنه. وكان ممن يؤهل للإمامة ، وكان هو وأخوه أفضل أهل زمانهما علما وعملا وورعا وزهدا. وروي أن الإمام عبد الله بن حمزة كان يحثه وأخاه على القيام بالإمامة. وقبره بهجرة قطابر من نواحي صعدة. مشهور مزور. ينظر تراجم رجال الأزهار للجنداري ١ / ٣٢. والتحف شرح الزلف ٢٤١.

(٢) رواه أبو طالب في أماليه ص ١٤٨.

(٣) قال في النهاية [١ / ٦٧] في حديث : «اغد عالما ومتعلما ، ولا تكن إمّعة» : الإمّعة بكسر الهمزة وتشديد الميم : الذي لا رأي له فهو يتابع كل أحد على رأيه. والهاء فيه للمبالغة. وقيل الذي يقول لكل أحد : أنا معك.

(٤) أبو طالب ص ٣٩٥. والترمذي ٤ / ٣٢٠ رقم ٢٠٠٧.

٢٨

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : «إيّاك والاستنان بالرجال ، يقول الرجل : أصنع ما يصنع فلان وانتهي عمّا ينتهي عنه فلان.

ومما يختصّ إبطال تقليد الأكثر أن يقال : إنّ الكثرة ليست بدلالة للحق ، ولا القلّة علامة للباطل ؛ لما يشهد له الكتاب والسنة.

أما الكتاب : فلأن الله تعالى قد ذمّ الأكثرين عددا ، فقال عزّ قائلا : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية [الأنعام : ١١٦] وقال تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠]. وقال : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقال تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) [المائدة : ٤٩] وقال : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٦] إلى غير ذلك من الآيات. ومدح الأقلين فقال في كتابه المبين : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) وقال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وقال : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنّة (٢) : فما روي عن الحارث بن حوط ، قال لعلي عليه‌السلام : أترى يا أمير المؤمنين أنّ أهل الشام مع كثرتهم على الباطل؟ ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّه لملبوس عليك ، إن الحق لا يعرف بالرجال ، وإنما الرجال يعرفون بالحقّ ، فاعرف الحقّ تعرف أهله قلّوا أم كثروا ، واعرف الباطل تعرف أهله قلّوا أم كثروا» (٣).

__________________

(١) قبلها قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [ص : ٢٤].

(٢) لم يورد المؤلف حديثا في استدلاله بالسنة وإنما أثرا لعليّ (ع) فلعله تجوّز أو اعتبر كلام الإمام علي في حكم السماع عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) انظر نهج البلاغة ص ٧٤٠. واليعقوبي ٢ / ١١٦ والسؤال فيهما عن أهل الجمل.

٢٩

ومن جهة النّظر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يؤمن به في أوّل الإسلام سوى علي عليه‌السلام من الرجال ، وخديجة من النساء (١). وهم الأقلّون عددا. فلو كانت القلّة دلالة للباطل لكانوا على الباطل ، وكانت قريش لكثرتها (٢) على الحق ، ومعلوم خلاف ذلك. وقال الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) [البقرة : ٢١٣] ؛ فدل ذلك (٣) على ما قلناه ، فثبت أن التقليد لا يجوز.

فصل [ما يجب على المكلف التفكر فيه] : فإن قيل : قد دللتم على إبطال التقليد وعلى وجوب التفكر ففيم يتفكر المكلّف؟. قلنا : يتفكر في العالم وما فيه من عجائب التركيب وبدائع الترتيب ، فيحصل له العلم بالمرتّب والمركّب ، وقد قال تعالى : (أَفَلَمْ

__________________

(١) أجمع أهل السير والتواريخ أن عليّا أسلم بعد خديجة بيوم واحد ، وهي يوم الإثنين ، وعليّ يوم الثلاثاء. ينظر المستدرك ٣ / ١٣٣ وصححه الذهبي. وسيرة ابن هشام ١ / ٢٤٥. وطبقات ابن سعد ٣ / ٢١. والإصابة ٢ / ٥٠١. والترمذي ٥ / ٥٩٨ رقم ٣٧٩٨.

ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٣. وأسد الغابة ٤ / ٨٩. والاستيعاب ٣ / ٢٠٠. والطبري ٢ / ٣٠٩ وما بعدها. وابن الأثير ٢ / ٣٧. والمنتظم ٥ / ٦٧. وتاريخ الخلفاء للذهبي ص ٦٢٤. أما كتب الزيدية والإمامية والمعتزلة فبالإجماع أن الإمام علي أول من أسلم بعد خديجة ؛ لكن خصوم علي لم يرقهم ذلك فالتفّوا على هذه المزيّة ، وقالوا : عليّ أول من أسلم من الصبيان ، وزيد بن حارثة من العبيد ، وأبو بكر من الرجال ، وهكذا قسمت فضيلة السبق.

غير أن هذا الالتواء لا يقوى على معارضة المتواتر ، وهو أنه أول المسلمين على الإطلاق ما عدا خديجة ، وما ذا لو فضل الله عليّا فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وأنا لا أستغرب هذا فلو كان بإمكان بني أمية أن ينكروا أن عليّا من المسلمين مطلقا لما ترددوا ؛ ولكن أنّى لهم ذلك ، فالأكف لا تحجب الشمس. والصديق لا يمانع من تقديم علي ولا ضير عليه في ذلك.

(٢) في (ب) ، (ج) : لكثرتهم.

(٣) أي كون الناس كانوا أمة كافرة مجمعة على الكفر.

٣٠

يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) [ق : ٦] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله».

فإن قيل : ما العالم؟ ، قلنا : العالم واحد العالمين ، وهم أصناف الخلق (١). هذا هو معناه اللّغوي ، ذكره صاحب ديوان الأدب (٢). وقد قيل : بأن العالم هو النوع ممّا يعقل ، وهم الملائكة والإنس والجن. وقيل : بأن أهل كل زمان عالم. وقيل : هو اسم لما حواه الفلك ، ولفظ الواحد منه عالم ، وإذا جمعت ، قلت : العالمين. وهذا الفرق في اللفظ دون المعنى ؛ لأنّ اللفظين ينبئان عن معنى واحد.

وهو في اصطلاح المتكلمين ينطلق على السموات السبع ، والأرضين السبع ، وما فوقهن وما تحتهن ، وما فيهن من الأعراض التي لا تدخل تحت مقدورات العباد. واختلف العلماء في اشتقاقه ، فمنهم من قال : اشتقاقه من العلم ؛ لأنه اسم يقع على ما يعلم. وقيل : لأنه علم ودليل على صانعه. وقيل : من العلامة ؛ لأنه عند النظر يعلم ويفهم ويدلّ على صانعه ، وهو يعمّ من يعقل وما لا يعقل. وإذ فرغنا (٣) من هذا الفصل فلنتكلم في المسائل مسألة مسألة إن شاء الله تعالى. فنقول :

__________________

(١) قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : العالم عالمان كبير هو الفلك بما فيه ، وصغير وهو الإنسان ؛ لأنه على هيئة العالم الكبير ، وفيه كل ما فيه. وإليه أشار القائل :

أتحسب أنك جرم صغي

ر وفيك انطوى العالم الأكبر

ينظر تاج العروس ١٧ / ٤٩٨.

(٢) هو الأديب إسحاق بن إبراهيم بن الحسين الفارابي وهو غير الفيلسوف ، وقد اغترب في اليمن (زبيد) ، وصنف كتابه المذكور ، ووصفه بقوله : هو ميزان اللغة ومعيار الكلام ، وت ٣٥٠ ه‍. ينظر معجم الأدباء ٦ / ٦١. والأعلام ١ / ٢٩٣. وصبح الأعشى ١ / ٥٣٩.

(٣) في (ب) : وإذا قد فرغنا.

٣١

المسألة الأولى :

أنّا نعتقد أنّ لهذا العالم صانعا صنعه ومبتدعا ابتدعه

خلافا للفلاسفة والدّهرية (١) وغيرهم من الكفار الجهلة الأشرار. ونحن نستدل عليه تعالى بفعله ؛ لأن كلّ ما لا يدرك بالحواسّ فالطريق إلى معرفته حكمه (٢) أو فعله ، والحكم معلول العلل ، وهو تعالى ليس بعلة على ما نبينه ، فلم يبق إلا أن يكون الطريق فعله ، فنقول وبالله التوفيق :

الذي يدل على ذلك أن الأجسام كلّها قد اشتركت في كونها أجساما متحيّزة موجودة ، ثم افترقت في صورها ، فكان بعضها جبالا ، وبعضها سهولا وبعضها سماء ، وبعضها أرضا ، وبعضها ماء ، وبعضها هواء ، وبعضها نارا ، وبعضها أشجارا ، إلى غير ذلك مما يطول ذكره من الهيئات ، والصور المختلفات ، من أنواع الحيوانات ، وغيرها من المرئيات ؛ فلا يخلو اختلافها وافتراقها في صورها وهيئاتها أن يثبت لأمر أو لا لأمر. باطل أن يثبت ذلك لا لأمر ؛ لأنه لم يكن الماء بأن يكون ماء والهواء هواء أولى من أن لا يختلف أصلا ، وكذلك سائرها. فلم يبق إلا أن يثبت لأمر ، ثم ذلك الأمر لا يخلو (٣) أن يثبت لذواتها كما تقوله

__________________

(١) الدهرية : هم من أهل الغلو ، نفوا الربوبية ، وجحدوا الخالق العالم المدبر القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه لا بصانع ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان. كذلك ينكرون النبوة والبعث والحساب. انظر موسوعة الفرق والجماعات ص ٢٢٥. والملل والنحل للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى ص ٦٢. أو هم القائلون : بقدم العالم. واختلفوا في المؤثر : فمنهم من نفاه مطلقا ، ومنهم من أثبته علة قديمة.

(٢) ينظر تعريف الحكم في الأساس الكبير ١ / ٢٤٦ ، وسأضرب له مثالا فقط فأقول : إذا لاحظت شيئا محكما فإن الإحكام حكم يدل على أن فاعل ذلك الشيء عالم ، ووجوده يدل على أنه قادر. وهكذا ..

(٣) في (ب) : لا يخلو إمّا.

٣٢

الدهرية ، أولا لذواتها بل لأمر غيرها. باطل أن يثبت لذواتها ؛ ولا لما هي عليه في ذواتها (١) ؛ لأنها مشتركة في ذواتها وما يختصها من الذاتيّات وما يقتضي عنها ، فلم يكن بعضها بأن يكون ماء والآخر نارا أولي من العكس ، وكذلك سائرها ، بل كان يجب أن يكون الماء ماء ونارا وأرضا وسماء وجبالا وأشجارا وهواء إلى غير ذلك من الهيئات والصور ؛ لاشتراكها في الموجب لذلك. ومعلوم خلاف ذلك ، فلم يبق إلا أن يكون اختلافها ثابتا لغيرها ، وذلك الغير لا يخلو أن (٢) يكون مؤثّرا على سبيل الإيجاب وهو العلّة ، أو لا على سبيل الإيجاب ، بل على سبيل الصحة والاختيار وهو الفاعل. ومحال أن يكون اختلافها لعلة أثّرت في ذلك كما يقوله الفلاسفة ، أو طبع أو مادة أو فلك أو هيولى (٣) أو صورة أو عقل أو نفس أو غير ذلك من الموجبات التي يثبتها أهل الجهالات ، لأن ذلك الموجب لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر. ومحال أن يكون واحدا ؛ لأن العلة الواحدة لا يجوز أن تؤثّر في أمور كثيرة ، وإلا وجب أن تكون مماثلة لنفسها إن كانت موجباتها متماثلة ، أو مخالفة لنفسها إن كانت موجباتها مختلفة وذلك محال ؛ لأن المماثلة والمخالفة فرع على الشّبهيّة والغيريّة ، وليس هناك غير شيء واحد ، فلا يجوز أن يكون مماثلا لنفسه

__________________

(١) في (ب) : من ذواتها.

(٢) في (ب) : إما أن.

(٣) الهيولى : لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة ، واصطلاحا الجوهر الذي لا ينقسم ، ويتألف منه الجسم ؛ لأن الجسم يتألف من ستة جواهر : أمام ووراء وفوق وتحت ويمين وشمال. [تاج العروس ١٥ / ٨٢٢]. وقيل : أربعة ، وعند الأشعرية اثنان. وقيل : ما اجتمع فيه : الطول والعرض والعمق ، وإنما يحصل بالثمانية. [مقدمة البحر الزخار ص ١٠٠ ، وإرشاد الجويني ص ٣٩]. والزيدية ترى أن الجوهر غير معقول ولا ثابت وأن العالم ليس إلا جسما أو عرضا [الأساس الكبير ١ / ١٢٢].

٣٣

ولا مخالفا ، فبطل أن يكون الموجب واحدا. ومحال أن يكون أكثر من واحد ؛ لأنه لا يخلو أن تكون متماثلة أو مختلفة. ومحال أن تكون متماثلة ؛ لأن العلل المتماثلة لا يجوز أن توجب أمورا مختلفة ، وإلا لزم ما تقدم من كونها متماثلة مختلفة معا ؛ لاختلاف موجبها. ومحال أن تكون مختلفة ؛ لأنها حينئذ تكون قد شاركت الأجسام فيما لأجله احتاجت إلى علّة أو علل ، وهو الاختلاف ، فكان يجب أن تحتاج إلى علل أخرى مختلفة. ثم الإلزام ثابت في احتياج هذه العلل إلى علل أخرى حتى يتصل الأمر في ذلك بما لا يتناهى وذلك باطل ؛ لأنه قد وقف وجود هذه المختلفات على وجود ما لا يتناهى. وكلّ ما وقف وجوده على وجود ما لا نهاية له استحال وجوده ؛ وفي علمنا بوجود العالم بما فيه دلالة على خلاف ذلك ؛ فإنّ وجوده معلوم ضرورة ، فبان أنه إنما حصل العالم ووجد بفاعل مختار يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وهو الله رب العالمين. فثبت أن لهذا العالم صانعا صنعه ومبتدعا ابتدعه ، تبارك وتعالى عما يقول المبطلون.

فصل فيما يلائم ذلك ويؤكده من السنة :

روي عن أنس بن مالك أن رجلا قال : يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ ، قال : «العلم بالله» (١) ثلاثا ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «التوحيد ثمن الجنة» (٢) وفي بعض الأخبار «ثمر الجنة».

__________________

(١) إتحاف السادة المتقين للزبيدي ١ / ٨٥ ، كما في موسوعة الأطراف ٤ / ١٢٦.

(٢) أخرجه في شمس الأخبار ١ / ٦١. ولفظه : «التوحيد ثمن كل جنة ، والشكر وفاء كل نعمة». وفي أمالي المرشد بالله ١ / ٤٢ ، بلفظ : «التوحيد ثمن الجنة ، والحمد لله وفاء شكر كل نعمة ، وخشية الله مفتاح كل حكمة ، والإخلاص ملاك كل طاعة». ومسند الفردوس ٢ / ٧٤ برقم ٢٤١٥. والدر المنثور ١ / ٣٥.

٣٤

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كفى بالتوحيد عبادة ، وكفى بالجنة ثوابا (١)». وعن ابن عباس أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا نبيّ الله علّمني من غرائب العلم؟ ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما ذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه؟» ، فقال الرجل يا رسول الله : وما رأس العلم؟ ، قال : «معرفة الله حقّ معرفته» (٢). الخبر إلى آخره ، وسيأتي ذكر آخره إن شاء الله تعالى (٣).

المسألة الثانية

ونعتقد أنّه تعالى قادر. وفيها فصلان :

أحدهما في معنى القادر : وهو المختصّ بصفة ، لكونه عليها يصحّ منه الفعل مع سلامة الأحوال. وقلنا : مع سلامة الأحوال احترازا من الموانع الثلاثة وهي : الحبس ، والقيد ، وإحداث ضدّ الفعل (٤).

والثاني في الدليل على أنه تعالى قادر : والذي يدلّ على ذلك أنّ الفعل قد صحّ منه ، والفعل لا يصح إلا من قادر ، وإنما قلنا بأن الفعل قد صح منه [والفعل لا يصح إلا من قادر] (٥) ؛ لأنا قد بيّنّا أنه تعالى قد أوجد العالم على سبيل الصحة والاختيار (٦) ؛ بمعنى أنه كان يمكنه قبل إيجاده أن يوجده وأن

__________________

(١) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ٤٢.

(٢) رواه أبو طالب ص ١٤٣. وشمس الأخبار عن ابن عباس ١ / ٦١ وعزاه إلى السمان في أماليه.

(٣) سيأتي في آخر المسألة الثانية.

(٤) أي إن وجود أحد هذه الموانع تجعل القادر غير قادر ، مثال : ضد الفعل كالسير قدام ووراء في نفس اللحظة.

(٥) ما بين القوسين محذوف في «ب» و «ج» و «د» وأشار في الأصل إلى أنه زائد في الأم.

(٦) الصحيح هو الذي لا تنافر فيه ولا استحالة ، والمراد بالصحة : هي التي تقابل الإمكان كما صرح به ابن حابس في المصباح ، وكما فسرها الأمير رحمه‌الله بقوله : بمعنى .. إلخ.

٣٥

لا يوجده ، وأنّه [أي الله] ليس بمؤثّر على سبيل الإيجاب ، وإلا كان يجب ثبوتها [أي الكائنات] في الأزل ، وذلك محال ، وقد ثبت أنه أوجده وأوقعه ، والوقوع فرع على الصحة. وإنما قلنا : بأن من صحّ منه الفعل فهو قادر ؛ لأنا وجدنا في الشاهد رجلين : أحدهما يصح منه المشي الكثير ونقل الشيء العظيم كالصحيح السليم ، والآخر يتعذر عليه ذلك كالمريض المدنف (١) من غير مانع يمنعه من ذلك ، فدلّ ذلك بأن من صحّ منه الفعل لا بد أن يفارق من تعذر عليه ذلك بمفارقة ، وإلا لم يكن أحدهما بأن (٢) يصح منه الفعل أو يتعذر عليه أولى من الآخر ، وتلك المفارقة هي التي عبّر عنها أهل اللغة بكونه قادرا. فإذا كان الله تعالى قد صح منه ، بل قد وجد ـ والوجود فرع على الصحة ـ وجب أن نصفه بكونه قادرا ؛ لأنّ الدليل يطّرد شاهدا وغائبا.

فصل : فيما يوافق ذلك من جهة الشرع :

قال الله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة ٢٨٤] ، فاقتضى ذلك أنه تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات وأعيانها (٣) ؛ لعموم الخطاب ،

__________________

قال ابن حابس : وليس المراد بالصحة الإمكان الذي هو مقابل الاستحالة ، وإنما المراد بالصحة والاختيار : هي التي تقابل الإيجاب فإنه الصحة الأولى لا تدل على القادرية. اه. والاختيار مقابل العلة والمعلول كالشمس لما كانت علة للضوء فلا يصدر عنها غيره لكن الباري لمّا لم يكن علة للكون بل هو خالق مختار صدر عنه المخلوقات المتنوعة.

(١) الدّنف بفتح الدال والنون المرض الملازم. يقال : مدنف ومدنف «المختار ٢١٢».

(٢) بأن محذوف في (ب) و (ج).

(٣) قال في شرح الأصول الخمسة ١٥٦ : وأما الذي يدل على أنه عزوجل قادر على أجناس المقدورات ، فهو أن أجناس المقدورات لا تخلو ؛ إما أن تدخل تحت مقدورنا أو لا تدخل تحت مقدورنا. فإن لم تدخل تحت مقدورنا وجب أن يختص القديم تعالى بها ، وإلا خرجت عن كونها مقدورة ، وإن دخلت تحت مقدورنا فالله تعالى بأن يكون قادرا عليها أولى ؛ لأن حاله في القدرة على الأجناس إن لم يزد على حالنا لم ينقص عنه.

٣٦

غير أنّ بعض العدلية قد ذهب إلى أن ذلك مخصوص بدليل العقل (١) ، قال : لأنّ دليل العقل قد دلّ على أنّ أفعال العباد منهم لا منه عزوجل ؛ لأن ذلك يؤدي إلى مقدور بين قادرين. وسيأتي بيانه مفصلا فيما بعد إن شاء الله تعالى. فكان دليل العقل في ذلك مخصّصا للآية ، إلى غير ذلك من الآيات (٢).

__________________

(١) وهو النّظّام فقد قال : إن الله لا يستطيع ولا يقدر على فعل القبيح ؛ لأنه لو كان قادرا عليه لصدر عنه. وأقول : والأولى أن يقال : إنّ الله من ناحية القدرة لا يعجزه شيء ، ومن ناحية الحكمة والعدل لا يفعل القبيح كالوالد الشفيق يقدر على ذبح ولده الصغير لكنه لا يفعل ذلك ، والله أعلم. وقال عبّاد بن سليمان الصّيمري والأشعري من الجبرية : لا يقدر على خلاف معلومه. وأقول : هو يقدر على خلاف معلومه لكن الحكمة تمنع ذلك. وقال البلخي : لا يقدر على مثل مقدور عبده ، وأقول : الأولى أنه يقدر على مقدور عبده ؛ إلّا أنّ الفعل لا يصدر عن فاعلين ؛ لأن الفعل إذا صدر عن العبد فهو مخصوص به ؛ لأنهم قرروا بعدم إمكان فعل بين فاعلين ، وحمل الخشبة من مجموعة من الناس ليس فعلا بين فاعلين ؛ لأن كل واحد يحمل حصته. والمستحيلات هي التي ركبها الله في العقول أنها مستحيلة كخلق جسم لا متحرك ولا ساكن أو لا مجتمع ولا مفترق. وقال أبو هاشم ووالده أبو علي : لا يقدر على عين مقدور العبد. ينظر شرح الأصول الخمسة ٣١٢ ، والمعالم الدينية في العقائد الإلهية ٦١ ، والمغني ٦ / ١٢٧ ، وشرح المواقف للجرجاني ٢ / ٩٢ ، والإلهيات ١ / ١٤٦

(٢) وكون أفعال العباد منهم لا يعني أنه سبحانه غير قادر عليها ؛ لأن قدرتهم على أفعالهم إنما هي بالقدرة التي خلقها الله فيهم ، وتركهم أحرارا في فعلهم ليترتب على ذلك الثواب والعقاب ، وهو قادر على خلق الأفعال فيهم إلا أنه متنزه عن ذلك ، إذ لو فعل لكان أولى باللوم على المعاصي من العباد ، فافهم ولا تنخدع بوسوسة المبطلين الذين يهولون بأن لا خالق إلا الله لأنا نقول : هذا صحيح فيما فيه تمجيد وتبجيل لله ، لكن الزنى والكفر خارج عن هذا ، وقوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إنما أتى بعد تعداد الآيات الكونية ، فانظر أول سورة الرعد ، والأنعام ٩٤.

٣٧

ومن السنة : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سأله السائل عن معرفة الله حقّ معرفته ، فقال : «أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه ، وأن تعرفه إلها واحدا عالما قادرا أوّلا آخرا ظاهرا باطنا لا كفؤ له ولا مثل».

المسألة الثالثة

ونعتقد أنه تعالى عالم. وفيها فصلان :

أحدهما في معنى العالم : ومعناه أنه المختصّ بصفة لكونه عليها [أي الصفة] يصحّ منه إيجاد معلومه ، أو ما يجري مجرى معلومه محكما إذا كان مقدورا له ، ولم يكن هناك منع ولا ما يجري مجرى المنع. ونريد بالمعلوم الذوات ، وبما يجري مجرى المعلوم ما عدا الذوات ، ونريد بالمنع ما تقدم ذكره في معنى القادر ، وبما يجري مجراه نحو استحالة الإحكام في الجوهر الفرد (١) وأجناسه [نحو التحيّز].

والفصل الثاني في الدلالة على أنه تعالى عالم :

والذي يدل على ذلك أنّ الفعل المحكم قد صح منه ابتداء ، والفعل المحكم لا يصح ابتداء إلا من عالم.

وإنما قلنا : إنّ الفعل المحكم قد صح منه ابتداء لأنّا قد بيّنا أنّه أوجد العالم ، ولا شك أنّه متقن محكم ، وجميع أجزائه متقنة محكمة ؛ فإنّ فيها من الترتيب

__________________

(١) الجوهر الفرد ليس له حكم فلا يقال هو فوق أو تحت ؛ لأن الجسم يحتاج إلى ست جهات ، والجوهر له جهة واحدة ؛ لأنه أصغر شيء فإذا أضفت له مثله من فوق صار له فوق ثم أضف له من تحت تصير له تحت وفوق ثم أضف يمينا وشمالا ، وهكذا ؛ فالجوهر الفرد ليس له في نفسه جهات حتى يحيط به جواهر يكتمل بها جسما فيكون كل واحد من الجواهر جهة للجوهر الأخر ؛ لأن المراد بالجهات من المواد وليس من الفراغ.

٣٨

والنظام ما يزيد على كلّ صناعة محكمة في الشاهد : من بناء وكتابة.

ومن نظر في الهواء وما فيه من السّعة والرّقّة والصّفاء ، وكونه مكانا للّطيف والكثيف من الأشياء ، فيحمل الأصوات والروائح الطيبة والخبيثة ، ثم تمحى وتزول ويعود نقيّا ، وتخرج فيه الرياح بالسحاب والتراب والدخان والغبار ، ثم تزول منه بقدرة الواحد القهار ـ علم صحة ما ذكرناه ، وكذلك من نظر فيما يشاهد في السماء الدنيا : من ارتفاعها وصفائها واتساعها وبهائها ، وما فيها من النيّرات التي ملأ ضياؤها ما بين الأرضين والسموات : من الشمس والقمر والنجوم المختلفات ، وكفى في الدلالة خلق الشمس والقمر ، وخلق النور والضياء فيهما ، ودورانهما ، ورفعتهما ، وإمساكهما ، وقربهما ، ومنازلهما ، ومشارقهما ، ومغاربهما ، وزيادة القمر ونقصانه وكسوفهما. قال الكلبي (١) : يضيء وجهها لأهل السموات السبع وظهرها لأهل الأرضين السبع (٢).

وقد ذكر بعض الأئمة الهداة من أسباط الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (ع) (٣) : «أنّ مثل هذا العالم كمثل بيت قد أعدّ فيه كلّ ما يحتاج إليه ، ووضع كلّ شيء منه في موضعه ، فالسماء (٤) سقفه ، والأرض فراشه ، والشمس والقمر

__________________

(١) محمد بن السائب ، كان عالما بالتفسير وأنساب العرب وأحاديثهم ، جرح بالتشيع توفي سنة ١٤٦ ه‍. تهذيب التهذيب ج ٩ ص ١٨٠. وأعيان الشيعة ج ٩ ص ٣٤٠.

(٢) هذا تفسير قديم ، والواقع حسب العلم المعاصر أنّ القمر كوكب مظلم وإنما يضيء بسبب انعكاس نور الشمس عليه ، فما وقع عليه شعاع الشمس أضاء ؛ لأنه ليس جسما نورانيا أما الشمس فهي تضيء ، ولكن ليس للأرضين السبع والسموات السبع ؛ لأن الفضاء مكتظ بالمجرات ، وكل مجرة فيها مليارات النجوم لا يقاس البعد الشاسع بينها بالأرقام ، وإنما بألوف السنوات الضوئية ، ولعل الشمس تضيء للمجموعة الشمسية. والله أعلم.

(٣) ذكره في حقائق المعرفة المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام. (خ).

(٤) في (د) والسماء.

٣٩

مثل الشمعتين في البيت ، والنجوم مثل القناديل ، وما أعدّ في الأرض من العيون والفواكه والزرع والمعادن مثل ما يكون في البيت من الآلة والمتاع والذخائر ، والعبد كالمخوّل ذلك البيت وما فيه». هذا آخر كلامه عليه‌السلام. ولا شبهة في كون جميع ذلك محكما.

وكذلك من نظر في خلق الإنسان وفي مبتدئه ومنتهاه ، فأوّله نطفة ، ثم يصير علقة ، ثم مضغة ، ثم يصير عظاما ، ثم تكسى تلك العظام لحما ، ثم يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا ، كما قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨] ، ثم يخرج الولد مع كبره وصغر ما يخرج منه ، فيصير رضيعا ، ثم طفلا ، ثم غلاما ، ثم بالغا ، ثم شابّا ، ثم كهلا ، ثم شيخا ، فيردّ إلى أرذل العمر ، ويتغير شعره وبشره وأعضاؤه وعروقه ، وتسقط أسنانه حتى يصير إلى قريب من حال الطفولية ، بل إلى حال الرضاع فتنبت أسنانه بعد سقوطها (١) ، ويسيل لعابه ، ويختل عقله ، ولا يصبر على الجوع والعطش ، ويبكي إن أصاباه كحال الصغير.

وعند خروجه أوّلا من بطن أمّه يحدث الله له رزقا في ثدي أمه ، لبنا خالصا موافقا للطفل ، يتغذى به حارّا في وقت البرد ، باردا في وقت الحر (٢) ويلقي الله له الرحمة (٣) في قلب أمه وقلب أبيه ، فيصبران لأجلها على القيام

__________________

(١) في (ب) : وتسقط أسنانه بعد ثبوتها. وهو الأظهر ؛ لأن الشيخ الكبير لا تنبت له أسنان ، ولعلّه في الأصل يشير إلى قصة غريبة لأحد المعمّرين وهو نصر بن دهمان الغطفاني جاهلي عاش مائة وتسعين سنة فاسود شعره ، ونبتت أضراسه ، وعاد شابّا ، ولا يعرف في العرب أعجوبة مثله. [ينظر الأعلام للزركلي ٨ / ٢٢].

(٢) أكدّ الأطباء أن حليب الأم يبقى في حالة متوازنة من الحرارة والبرودة ولا يتأثر بالأحوال حرّا وبردا.

(٣) في (ب) : رحمة.

٤٠