ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأي مختلف

وليس يذهب في ذلك إلى مكان. وإذا ثبت ذلك قلنا : إنّ كلّ لفظة تتصرف على وجوه من المعاني (١) ، فليس لأحد أن يقتصر منها دون سائر ما تحتمله إلّا بدليل ، وقد دلّت الأدلة من الكتاب والعقل وإجماع المسلمين على أنّ الله تعالى ليس في مكان فبطل ما ذهبوا إليه. وهكذا الجواب عما يعترضون به في قوله تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) [البقرة : ٧٦] وكذلك قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] وأمثال ذلك من الآيات. ويدل على ذلك من السنة ما روي عن قتادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء عند الدعاء ، لينتهنّ أو لتخطّفنّ أبصارهم» (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عند لسان كلّ قائل (٣)» ، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيما رواه محمد بن يزيد المبرّد (٤) : أنّ رجلا قال : يا أمير المؤمنين أين كان ربّنا قبل خلق السموات والأرض؟ فقال علي عليه‌السلام أين : سؤال عن

__________________

(١) في هامش الأصل ، و (ه) : بعد من المعاني على معنى. وفي (ه) : أو شيء.

(٢) البخاري ١ / ٢٦١ برقم ٧١٧ ، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة ، ومسند أحمد ٤ / ٢٢٥ رقم ١٢١٠٥ ، وسنن أبي داود رقم ٩١٣ ج ١ ص ٥٦١ ، وسنن النسائي ٣ / ٧. رقم ١١٩٣ ، ونص الحديث : ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم ، فاسند قوله : في ذلك ، حتى قال : لينتهن عن ذلك أو لتخطفنّ أبصارهم.

(٣) تاريخ الخطيب للبغدادي : ٩ / ٣٢٩. تمامه : فلينظر عبد ما ذا يقول.

(٤) ولد بالبصرة ١٢٠ ه‍ ، إمام العربية ببغداد في زمانه ، وأحد أئمة الأدب والأخبار ، توفي ٢٨٦ ه‍ ، وله مؤلفات كثيرة منها : الكامل ، والمقتضب وغيرهما. ينظر الأعلام ٧ / ١٤٤ ، ووفيات الأعيان ١ / ٤٨٤.

٨١

مكان ، وكان الله ولا مكان (١)؟. وسمع عليّ عليه‌السلام رجلا يقول : والذي احتجب بسبع سماوات ، فعلاه بالدّرّة ، وقال (٢) : ويحك إنّ الله لا يحتجب بشيء ، فقال الرجل : أكفّر عن يميني؟ ، قال (٣) : «لا ؛ لأنّك حلفت بغير الله».

ومما روي عنه عليه‌السلام أنه قال في بعض خطبه في وصفه لربه عزوجل : «بعد في العلوّ فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدّنوّ فلا شيء أدنا منه» (٤).

ومن كلامه عليه‌السلام في ربه عزوجل : «من وصف الله تعالى فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثناه فقد جزّأه ، ومن جزأه فقد جهله (٥) ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حده فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمّنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا عن مزائلة (٦). ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال» (٧).

وسئل أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام أين كان ربّنا؟ فقال عليه‌السلام : كان الله ولا مكان ، ويكون ولا مكان وهو خالق المكان مستغن عن المكان (٨).

ومما يبطل قولهم : إن الله فوق العرش ، وقول بعضهم : إنه في السماء ـ أن

__________________

(١) المبرد في الكامل ١ / ١٣٠.

(٢) في الأصل : فقال ، وفي (ب) : وقال ، وهو المناسب ولذلك أثبتناه.

(٣) في (ب) : فقال.

(٤) في هامش الأصل : أقرب ، وقال.

(٥) في النهج بعد هذه الفقرة : ومن جهلة فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدة. إلخ.

(٦) في النهج : وغير كل شيء لا بمزايلة.

(٧) النهج ١٧١ بلفظ : سبق في العلو فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه.

(٨) ينظر نهج البلاغة ٨٦ ـ ٨٧.

٨٢

يقال لهم : أين كان الله قبل خلق العرش؟ وأين كان قبل خلق السماء؟ وأين كان قبل خلق الأماكن؟ فإنّا قد دللنا على قدمه تعالى وحدوث الأماكن ، وأين يكون تعالى بعد فناء الأماكن؟ فإنه لا بدّ من فناء كل شيء ، لقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي إلا ذاته ، فأين يكون بعد فناء الأماكن؟ وكلّ ذلك يبطل احتياجه إلى الأماكن ، أو يوجب قدم الأماكن ، وأنّها لا تفنى. وقد دللنا على حدوثها وفنائها ، فلم يبق إلا أنه تعالى غير محتاج إليها ، فبطل بذلك قولهم.

فصل : في إيراد طرف مما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبطال القول بأنه تعالى جسم وطرف مما روي عن الصحابة (رض). عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : صف لنا ربّك ، فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجّبا مما سألوه وانتظارا لأمر الله فيهم ، فقالوا : كنّا نصف من تعظيم ربنا أنّ الله تعالى يضع السموات يوم القيامة على إصبع ، والبحار على إصبع ، وسائر الأشياء على اصبع ، ويده الأخرى فارغة. فأنزل الله تعالى قبل أن يقوموا تكذيبا لهم وردّا عليهم ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الزمر : ٦٧] (١) أي ما

__________________

(١) البخاري رقم ٤٥٣٣ ، ولفظه : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلائق على إصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). الآية. ومسلم رقم ٢٧٨٦ بزيادة : ثم يهزهن. وفي الطبري مج ١٢ ج ٢٤ ص ٣٣ ساق عدة روايات ، وكل ما روي في هذا يؤكد بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضحك تصديقا له. والدر المنثور ٥ / ٦٢٧ ؛ لكن مؤلف الينابيع يرى أن ضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجبا وتكذيبا ؛ لأن الله ليس له إصبع ، قال ابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٣٩٨ : وأما من زاد «وتصديقا له» فليست بشيء ، فإنها من قول الراوي وهي باطلة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدق المحال ، وهذه الأوصاف في حق الله محال. غير أن الأحاديث يمكن تأويل الإصبع فيها بالقوة والقدرة وسهولة سيطرة الله على المخلوقات العظام.

٨٣

عظّموه حق عظمته ، (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] يعني في ملكوته (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] أي في ملكه سبحانه وتعالى عما يقولون ، حيث وصفوا ربهم بالأعضاء والصورة ، والأنامل. قل لهؤلاء الذين سألوك : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هو الصمد الذي يصمد إليه في الحوائج» وهو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يدل عليه قول الشاعر :

علوته بحسام ثم قلت له :

خذها إليك فأنت السّيّد الصّمد (١)

وقال غيره (٢) :

الا بكّر الناعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد (٣)

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّم أن قوما من الأمم الخالية أتوا نبيا لهم ليعنتوه فسألوه عن ربه ما هو ؛ ومن أي شيء هو؟ نور ، (٤) أم جوهر ، أم ذهب ، أم فضة؟ فسكت ، فأرسل الله صاعقة من السماء فأهلكتهم (٥). فذلك قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) [الرعد : ١٣]. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يخرج عنق من النار (٦) له عينان تبصران ، وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق ، وهو يقول : إني

__________________

(١) الطبري مج ١٥ ج ٣٠ ص ٤٤٦ بما يوافق ذلك ، أسباب النزول للواحدي ص ٣٨٠.

(٢) هو سبرة بن عمرو الأسدي. وقد استشهد به ابن عباس كما في تفسير الآية في متشابه القرآن ٢ / ٧٠٦.

(٣) الدر المصون ١١ / ١٥١. ومجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٤٨٣. والماوردي ٦ / ٣٧٠.

(٤) في (ب) أنور.

(٥) أسباب النزول للواحدي ص ٢٢٨ ، ومجمع البيان مج ١٠ ص ٤٨٥ بما يقارب ذلك.

(٦) في (ب) عنق يوم القيامة.

٨٤

وكّلت بكل جبار عنيد ، ومن ادّعى مع الله إلها آخر ، وبالمصورين» (١).

وعن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : اللهم إني أوحّدك ولا أحدّك ، وأعبدك ولا أمثّلك ، وأعرفك ولا أصوّرك ، وأعبدك ولا أكيّفك ، وأشاهدك ولا أشبّهك (٢). وسئل عن التوحيد ما هو؟ فقال عليه‌السلام : استقامة القلب بإثبات (٣) مفارقة التعطيل ، وإنكار التشبيه. وعنه عليه‌السلام أنه قال : اتّقوا أن تمثّلوا الرب بشيء ، لا مثل له ، أو تشبّهوه بشيء من خلقه ، فإنّ لمن فعل ذلك نارا لا تطفأ أبدا. وعن وهب بن منبه (٤) وعكرمة قالا : جاء نجدة الحروري (٥) إلى عبد الله بن العباس رضى الله عنه فقال : يا ابن عباس كيف معرفتك بربك؟ فإنّ من قبلنا اختلفوا علينا فقال : أعرفه بما عرّف به نفسه من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة. لا يعرف بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس ، معروف بغير شبيه ، متدان في بعده بلا نظير ، لا تدرك ديمومته ، ولا يمثّل بخليقته .. إلى آخر كلامه (٦).

__________________

(١) أحمد بن حنبل ٣ / ٢٣٥ برقم ٨٤٣٨ ، ٤ / ٨٠ برقم ١١٣٥٤.

(٢) أخرج في النهج ص ٤٣٩ رقم ١٨٤ : ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إياه عني من شبّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه.

(٣) في (ب) : بإيثار.

(٤) الأنباوي الصنعاني ، ولد بصنعاء سنة ٣٤ ه‍ ، مؤرخ كثير الأخبار ، ولا سيما في الإسرائيليات ، ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء صنعاء ، توفي سنة ١١٤ ه‍ وقيل غير ذلك. وله ذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم ، وقصص الأنبياء ، وقصص الأخيار. ينظر الأعلام ٨ / ١٢٦.

(٥) ابن عامر الحنفي ، ولد سنة ٣٦ ه‍ ، من رءوس الخوارج ، وكان من أصحاب نافع بن الأزرق ثم تركه وبايعه أصحابه ، توفي سنة ٦٩ ه‍ ، وإليه تنسب النجدية. ينظر الأعلام ٨ / ١٠.

(٦) النهج ص ٤٢٦. رقم ١٨٠. بما يوافق كلام ابن عباس.

٨٥

وفي كلام له آخر في قوله تعالى : (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦] قال : يشبّهون الله بخلقه فأشركوا من حيث لا يعلمون (١). وعن ابن مسعود أنه قال : (ما عرف الله من شبّهه بخلقه). والأخبار في هذا الجنس كثير. وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.

فصل فيما يتعلّق به المشبّهة من الآيات التي فيها ذكر الأعضاء من ذلك قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] وما يجانسها من الآيات التي فيها ذكر النّفس. ونحن نذكر أوّلا معاني النفس في اللغة (٢) ، ثم نذكر معنى الآية ، وما تحتمل من المعاني ، ويجوز حملها عليه ، ونبطل أن يكون ما عدا ذلك مرادا بالآية. فنقول : أما النّفس فإنها تقع على معان : منها الدّم ؛ ولذلك سمّيت المرأة نفساء ، ونفست بخروج الدم عنها عقيب الولادة. وثانيها معنى الروح قال الله تعالى : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ١٩٣] أي : أرواحكم. وثالثها الأنفة ، يقال : لفلان نفس ، أي أنفة. ورابعها بمعنى الإرادة والشهوة. يقال : نفسه في كذا ، أي إرادته وشهوته. وخامسها بمعنى العين التي تصيب الإنسان. يقال : أصابت فلانا نفس ، أي عين. وسادسها مقدار الدّبغة يقال : جعلت في هذا الأديم نفسا أو نفسين من الدباغ. وسابعها نفس الإنسان وغيره الذي يكون به الحياة. قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥]. وثامنها أن تكون إخبارا عن ذات الشيء وعينه فيقال : نفس الرأي ، وعين الرأي ، أي ذاته ، ويكون ذلك

__________________

(١) غريب القرآن للإمام زيد بن علي عليه‌السلام ص ١٦٥. والكشاف ٢ / ٥٠٨. والرازي مج ٩ ج ١٨ ص ٢٢٨.

(٢) ينظر في معنى النفس في اللغة : التاج ٩ / ١٤ ، والعين ٧ / ٢٧٠ ، واللسان ٦ / ٢٣٣.

٨٦

تأكيدا وتحقيقا للكلام وذكرا عائدا على ما تقدم. قال الخليل (١) في كتابه : نفس كلّ شيء عينه وذاته (٢). وقال الفراء : النّفس تأتي على وجه الذّكر العائد لما تقدم ؛ لأنك إذا قلت : أهلك زيد نفسه ، وأضر بنفسه ، فإنما هو ذكر عائد على زيد ، وليس النفس بشيء غير زيد ، وإنما أردت الإخبار عن الفاعل والمفعول به بشيء واحد ، وأعدت الكلام وذكرتها بدلا منه. ومثل ذلك قوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩] فأخبر أنّ وبال خداعهم راجع إليهم دون غيرهم ، وذكر أنفسهم ليعلم أن الخادع والمخدوع شيء واحد. قال الفراء : العرب إذا أوقعت فعل شيء على نفسه تكنّي فيه عن الاسم ـ قالوا (٣) في الأفعال التامة غير ما يقولون في الناقصة ، فيقال للرجل : قتلت نفسك وأحسنت إلى نفسك ، ولا تقول قتلتك وأحسنت إليك.

وكذلك قال الله تعالى : (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٦٦] ، وقال : (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١] ، فإذا كان الفعل ناقصا مثل حسبت وظننت ، قال قائلهم : أحسبني خارجا ، وأظنني خارجا ، ومتى أك (٤) خارجا. ولم يقل قائلهم : متى ترى نفسك ، ولا متى تظن نفسك ، وذلك لأنهم

__________________

(١) الخليل بن أحمد الفراهيدي ولد سنة ١٠٠ ه‍ بالبصرة أحد أئمة اللغة والأدب وواضع علم العروض ومات سنة ١٧٠ ه‍ وله كتاب العين في اللغة ومعاني الحروف جملة آلات العرب وكتاب العروض والنقط والشكل ، أنظر الأعلام ٢ / ٣١٤.

(٢) في العين : وكل شيء بعينه نفس.

(٣) في (ب) قال. وفي (ج) ويقولون.

(٤) في (ب) و (ج) تراك. وفي هامش (ب) قاعدة نحوية ص ٥٢ ، جعل المصنف عليه‌السلام أفعال القلوب من الأفعال الناقصة باعتبار اللغة لا باعتبار اصطلاح النحويين ، فلا يشكل عليك.

٨٧

أرادوا الفرق بين الفعل الذي يجوز إلغاؤه ، وبين الفعل الذي لا يجوز إلغاؤه. ألا ترى أنك إذا قلت : أنا أظن خارجا فيبطل الظن ويعمل (١) في الاسم فعله وقد قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦] ولم يقل أن رأى نفسه (٢).

وإذ (٣) قد بينا معاني النفس في اللغة ، فلنذكر معنى الآية فتقول : قد بيّنا ما يحتمله لفظ النفس في اللغة ، ولا خلاف (٤) بين المسلمين أنه لا يصح أن يراد بها في الآية الدم ، ولا العين ، ولا الدبغة ، ولا الإرادة والشهوة ، ولا الروح ، ولا يجوز أن يراد بها الجسد ؛ لأنا قد أبطلنا أن يكون الله تعالى جسما ؛ إذ الأجسام محدثة ، وهو تعالى قديم ، فلا يجوز أن يكون محدثا على ما تقدم بيانه. وإذا بطل جميع ذلك فهي إذن تأكيد وتخصيص ، وذكر عائد على ما تقدم ، نحو ما بيّنا. فيكون المعنى تعلم ما في نفسي أي في ضميري ، ولا أعلم ما في نفسك أي ما في حقيقة علمك من علم الغيب. وقيل : تعلم ما أخفى في نفسي ، ولا أعلم ما تخفى ، وذكر النفس لمزاوجة اللفظ.

وقد فسّر جماعة من الصحابة والتابعين هذه الآية بما يوافق قولنا ؛ فروي عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) [المائدة : ١١٦] قال : تعلم ما في غيبي (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] أي

__________________

(١) في (ج) فتبطل الظن وتعمل. وفي (ه) فيبطل الظن ولا يعمل.

(٢) في بقية النسخ : ولم يقل : رأى.

(٣) في (ب) وإذا.

(٤) في (ب) : فلا خلاف.

٨٨

ولا أعلم ما في غيبك (١). ومثل ذلك روي عن مجاهد ، وفسّره جماعة من الصحابة ، منهم ابن عباس بأن معنى (٢) ذلك تعلم ما في سري ولا أعلم ما في سرك (٣). وهذا القول ليس ببعيد عن الصحة ؛ فإن السر وإن لم يكن يسمّى نفسا ـ فإنما ذهب المفسرون إلى معنى ما في قوله ولا أعلم ما في نفسك ؛ لأن الذي يقع على غير النفس ، والذي في النفس شيئان : أحدهما الأعضاء الباطنة ، والآخر ما يعتقده الإنسان في قلب (٤) وهو السر. فلمّا لم يرد الأعضاء الباطنة علم أن المراد به السّرّ والعرف جرى عليه ، وذلك لأنه لما كثر قولهم أخفى في نفسه شيئا ، وأضمر في نفسه شيئا ، ولا أعلم ما في نفسه ، وكثر استعمالهم له ـ صارت هذه اللفظة عبارة عن السر والغيب لكثرة الاستعمال. وهذا المعنى هو الذي يقتضيه نمط الآية ؛ لأنه [عيسى] لمّا أراد بذلك البراءة مما تقوّل عليه من جعله إلها بيّن أنه لو قال ذلك لعلمه الله ؛ لأنه يعلم سره ، فكيف لو جهر به.

ومما تعلقوا به قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]

__________________

(١) المارودي ٢ / ٨٨. والكشاف ١ / ٦٩٤. والرازي مج ٦ ج ١٢ ص ١٤٣. حيث قال : المسألة الثانية ـ تمسكت المجسمة بهذه الآية ، وقالوا : النفس هو الشخص ، وذلك يقتضي كونه تعالى جسما ، والجواب من وجهين : الأول ـ النفس عبارة عن الذات يقال : نفس الشيء وذاته بمعنى واحد. والثاني ـ أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ، ولكنه ذكر هذه الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة. وهو فصيح. وينظر القرطبي ٦ / ٢٤٢.

(٢) في (ب) أن معنى.

(٣) الدر المصون للحلبي ٤ / ٥١٤.

(٤) في (ب) : في قلبه ، ولعل الهاء ملحقة.

٨٩

قالوا : فأثبت له نفسا فدل ذلك على مشابهته لنا. والجواب : أنا قد أبطلنا فيما تقدم ما ذهبوا إليه من أنه تعالى يشبه الأجسام ، وبيّنا أنه لا مثل له ولا نظير ، ودللنا على ذلك بأدلة العقول ، وأوردنا أدلّة الشرع على جهة التأكيد ؛ لذلك فلا يجوز حمل الآية على ما يخالف جميع ذلك ، ونقول : إنّ قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ذكر عائد (١) على المحذّر ، وهذا كقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) [آل عمران : ٥٠] ، وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] ، واليوم لا يتّقى ، وإنما يتّقى ما يقع فيه ، وذات الله لا تتّقى ، وإنما يتّقى فعل (٢) منه. والعرف قائم يدل على أن المراد به العقاب الذي يفعله المحذّر ، وإن لم تكن العقوبة تسمّى نفسا في اللغة. ومثل ذلك مرويّ عن ابن عباس فإنه قال في قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، قال : عقوبته. وعن الحسن قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، قال : عقابه ونقمته (٣). وأما قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١] ، فمعناه لديني. وقيل : لإرادتي (٤). وقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٥٤] فإنه ذكر عائد على الرب ، وعلى التاء في قوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ).

__________________

(١) المعنى : أن كلمة «نفسه» لا تدل على أن لله تعالى نفسا ، وإنما هي ذكر عائد ، أي ضمير عائد على الله ، فهي تشبه (فَاتَّقُوا اللهَ) ، كأنه قال : «ويحذركم الله الله». وإعراب «ذكر» بالضم خبر إنّ ، وهو مضاف إلى عائد ، وفي بعض النسخ «ذكر» بالتنوين خبر أيضا وعائد بالضم والتنوين صفة لعائد ، والأول أدق.

(٢) في (ج) : بحذف فعل.

(٣) تفسير الرازي مج ٤ ج ٨ ص ١٥. وتفسير الألوسي ٣ / ٢٠٢ عن ابن عباس. ولم يذكر الحسن. والدر المصون ٤ / ١١٣.

(٤) الخازن مع البغوي ٤ / ٢٥٣.

٩٠

وهذا نحو قولهم : اخترت كذا لنفسي ، وفعلته بنفسي (١) ، ليس يخطر ببال أحد أنّ النّفس في مثال ذلك شيء غير القائل ، وإنما أرادوا بذلك التمكن من الإخبار بأنّ الفاعل والمفعول واحد على ما بيّنّاه.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). الآية [الزمر : ٦٧]. قالوا : فدلّ على أنه قابض على الأرض ، وأنّ السموات بيمينه. وذلك يدل على الأعضاء (٢).

والجواب أنا قد دللنا على أنه ليس بجسم ، ولا يجوز عليه الأعضاء ، بأدلة العقل ومحكم القرآن ؛ فأما معنى ذلك فقوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ، أي ما عظّموه حقّ عظمته. وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي يقدر عليها كما يقدر من الشيء في قبضته على ذلك الشيء. وعن ابن عباس قال في قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) ، قال : في ملكه وقدرته. ومثله روي عن مجاهد (٣).

وأما قوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، فقد ذكرنا أنّ الوجوه التي تحتملها اليمين في اللغة وتنطلق عليها خمسة. وفصّلنا ذلك في كتاب الإرشاد ، فلا نطول بذكره هاهنا ، بل نقصد معنى الآية ، فقوله : (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، أي في قدرته يفعل ما يشاء بقوّته ، وذلك لأنّ معناه أن السموات تطوى أي ترفع أعمادها بقدرته التامّة ، وقوّته الخفية ، وكذلك قوله : (لَأَخَذْنا

__________________

(١) في (ب) : لنفسي.

(٢) ينظر في ذلك البخاري كتاب التفسير رقم ٤٥٣٣ ، و ٤٥٣٤.

(٣) ينظر القرطبي ١٥ / ١٨١ ، قال : إن معناها القدرة والإحاطة ، وهو منزه عن الجارحة والأعضاء.

٩١

مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة ٤٥] معناه بجد وصرامة ، قال الشاعر :

إذا ما راية نصبت (١) لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

أي بجدّ وصرامة. ويجوز أن يكون معنى قوله باليمين ، أي بقدرته وقوته ، وهو مروي عن ابن عباس (٢). ومن جملة ما تعلقوا به آيات الوجه نحو قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، ونحو قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] ، وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠].

قالت المشبّهة : وكلّ ذلك يدل على ثبوت وجه الله تعالى (٣) ، فدل ذلك على أنه جسم. والجواب أنّ الدلالة العقلية قد دلت على أنه ليس بجسم ، وكذلك الدلالة الشرعية ؛ فبطل ما ذهبوا إليه. ومما يزيد ذلك صحة أنّ هذه الآيات لا تقتضي جارحة مخصوصة ؛ لأنه متى علّق اللفظ بجارحة مخصوصة فسد معاني هذه الآيات ؛ لأن قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) متى حمل على جارحة مخصوصة فإنه يقتضي أن يهلك سائره ويبقى وجهه ، فيهلك ما سوى الوجه من يد ورجل وغيرهما ، وهذا مما لا يقولون به. ولا خلاف في أنه كفر من قائله. وكذلك قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) وسائر ما تقدم ذكره يقتضي أن يكون مقصد القوم في طاعته إلى وجهه دون سائر أبعاضه ، وأنه لا يقبل عمل عامل إلا أن يبتغي وجهه دون سائره ، وهذا مما

__________________

(١) في (ب) رفعت ، ونصبت. وفي (ج) : رفعت.

(٢) القرطبي ١٨ / ١٧٨. والخازن مع البغوي ٦ / ٢٧٢.

(٣) التوحيد لابن خزيمة ١٠.

٩٢

لا يقول به أحد. وكذلك قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) يوجب أن يكون وجهه حيث يتوجه الإنسان ، ويوجب أن يكون بجميع النواحي في الحالة الواحدة ؛ لتوجّه الناس إليه من كل وجهة ، وهذا مما لا يطلقه مسلم. والإجماع يرده ، والكفر لا يفارق قائله. فإذا تقرر ذلك بطل تعلقهم بالظاهر. على أنّ ذلك يؤدي إلى مناقضة القرآن ، وإيجاب التجسيم ؛ لأنه ينفي الوحدة ، ويوجب التكثير. والعقل يقضي بفساده. وقد بينا في كتاب الإرشاد ما تحتمله لفظة الوجه من المعاني اللغوية. والغرض الاختصار هاهنا. فلنتكلم في معنى لفظة الوجه في هذه الآيات ، فنقول : بأن معنى قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي فان ألّا وجهه أي إلّا هو (١). عن مجاهد. وقيل : دينه ، عن الصادق عليه‌السلام. وقيل : إلا ما أريد به وجهه ، عن أبي العالية (٢). وكذلك قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] أي يبقى هو. كما يقال : هذا وجه الرأي ووجه الصواب ، أي هو الرأي وهو الصواب (٣).

وروي عن ابن عباس في قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] أنه قال : يفنى كل شيء ويبقى الله وحده. ومعنى قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) روي عن مجاهد (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي قبلة الله ، وعن الحسن (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : وجه الله الذي وجهكم إليه. وقيل : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي رضوان الله (٤).

__________________

(١) ينظر الكشاف ٣ / ٤٣٧.

(٢) ينظر في كل ذلك القرطبي ١٣ / ٢١٣. والخازن مع البغوي ٥ / ٣٩. والطبري مج ١١ ج ٢٠ ص ١٥٥. وقال في الكشاف ٣ / ٤٣٧ : إلا إياه ، والوجه يعبّر به عن الذات.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ٧ / ٤٦٥. والكشاف ٤ / ٤٤٦ ، قال : ذاته.

(٤) تفسير القرطبي ١٧ / ١٠٨.

٩٣

ومعنى قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨] ، وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠] ، وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] ، وما أشبه ذلك ، وقوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨] أي يريدون ابتغاء مرضاته وثوابه. وكذلك : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي طلب ثوابه ومرضاته. وقوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ١٩ ـ ٢٠] أي طلب رضى ربه الأعلى. والأعلى هو الأجل عما لا يجوز عليه. وقوله (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) قيل : لله وطلب رضاه ، لا للرياء والسمعة ، ولا لطلب عوض ، وقيل : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لله وأمره وإيجابه.

قوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، أي احبس نفسك مع أصحابك المؤمنين ، ثم وصفهم فقال تعالى : (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) ، قيل : يصلون الصلاة على الدوام. وقيل : يذكرون الله. قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، أي تعظيمه ورضاه ، يريدون بالعبادة رضاه.

ومن ذلك آية الجنب وهي قوله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر ٥٦] ، قالوا : فقد أثبت لنفسه جنبا. والجواب : أن الآية غير محتملة لما ذكروه ؛ لأنه إن أريد بالجنب العضو المعلوم لم يكن للآية فائدة ؛ إذ التفريط في الجنب الذي هو العضو غير معقول. والكلام على هذا الوجه كلام غير مفهوم. وأدلة العقول ومحكم القرآن تمنع من ذلك كما تقدم. فأما معنى

٩٤

الآية فمعنى قوله : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي في أمر الله ، لا يدفع ذلك دافع من عقل ولا من لغة من إجماع. وعليه يدل قول الشاعر :

خليليّ كفّا واذكرا الله في جنبي

فقد نلتما (١) في غير إثم ولا ذنب

ومثله مروي عن علماء التفسير (٢) فإن بعضهم قال : معنى قوله تعالى : (ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) ، قال المراد في (٣) طاعة الله (٤) ، كما يقال : ما نالني في جنب فلان فهو راحة.

وعن ابن عباس أن معناه في ذات الله وأمره وحقه ، وهذا المعنى حسن عندنا (٥). وقد قال : من يوثق بمعرفته من الشعراء وهو ابن دريد الشاعر (٦) ما يلائم ذلك ، حيث قال :

فكلّما لاقيته مغتفر

في جنب ما أسأره شحط (٧) النوى (٨)

__________________

(١) في (ب) و (ه) : قلتما.

(٢) ينظر القرطبي ١٥ / ١٧٦. وجامع البيان مج ١٢ ج ٢٤. ص ٢٤. وأبو السعود ٧ / ٢٦٠. والماوردي ٥ / ١٣٢. والخازن مع البغوي ٥ / ٣٢٠. والكشاف ٤ / ١٣٧. والدر المنثور ٥ / ٦٢٤. والرازي مج ٧ ج ١٤ ص ٧. والدر المصون ٩ / ٤٣٥. والبحر المحيط ٧ / ٤٣٥. وروح المعاني مج ١٣ ج ٢٤ ص ٢٧. كلهم فسر في جنب الله : ذكر الله. أمر الله. طاعة الله ، ونحو ذلك على الاستعارة. وأنشدوا قول سابق البربري من شعراء الحماسة :

أما تتّقين الله في جنب وامق

له كبد حرّى عليك تقطّع

(٣) «في» ساقطة من (ب) ..

(٤) تفسير ابن عباس ص ٣٩٠.

(٥) قال الإمام زيد عليه‌السلام في غريب القرآن ص ٢٧٤ : يوم القيامة. وجنب الله : علي بن أبي طالب ، وموالاة أهل بيته عليهم‌السلام. وقال : في أمر الله.

(٦) هو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزدي ، أبو بكر أديب شاعر نحوي لغوي نسابة ، ت ٣٢١ ه‍ له عدة مؤلفات. ينظر معجم المؤلفين لكحالة ٣ / ١١٨.

(٧) أسأره : أبقاه. وشحط : بعد. شرح مقصورته ص ٤.

(٨) معناه : أن كل ما لاقاه من محبوبه من جفا مغتفر قياسا بما سببه البعد من أذى. مثل قوله :

ذنب الجفى عند ذنب البين مغتفر

فليت من ودّعوا عادوا وإن هجروا

٩٥

وليس هناك عضو يتصوّر. ويقال : هذا ما أصابني في جنب فلان أي في ذاته وحقه ، وهذا ظاهر.

وعن مجاهد قال : (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في أمر الله. وقيل : (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في قربه وجواره وهو الجنة. ومنه : (الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) [النساء : ٣٦] أي بالقرب. وقيل : في طريق الله التي أمر بها (١). وعلى هذا ، الجنب الجانب [أي الجانب] (٢) الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى. وقد بيّنّا ما تحتمله لفظة الجنب في اللغة من الوجوه في كتاب الإرشاد ، وأبطلنا أن يكون المراد شيئا منها سوى ما ذكرناه (٣) هاهنا.

ومن ذلك آية الإذن (٤) نحو قوله تعالى : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [إبراهيم : ١١] وقد دللنا بأدلة العقول على أنه تعالى ليس بذي أعضاء ، وأنه لا يشبه الأشياء وأكدنا ذلك بمحكم الكتاب.

__________________

(١) القرطبي ١٥ / ١٧٦. والطبري مج ١٢ ج ٢٤ ص ٢٤.

(٢) ما بين القوسين زائد في (ب) و (ج) و (د) و (ه) و (ز).

(٣) في (ب) : سوى فيما ذكرناه.

(٤) في (ب) تعليقة جاء فيها : أما آية الإذن فإن كان استدل بها مستدل من المشبّهة فهو دليل على جهله وعدم معرفته باللغة ، لأن الإذن بكسر الهمزة ليس من معانيها الجارحة. ومثله لا يستحق أن يجاب عليه ، والشبهة في هذه الآية ونحوها للمجبرة ، وقد أجاب عليهم أئمتنا عليهم‌السلام : منهم الإمام الناصر الأطروش عليه‌السلام في البساط ص ١٥٤. كتبه المفتقر إلى الله مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي. حيث فسروا الإذن بالإرادة في قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بالإرادة والمشيئة ، وأجاب عليهم العدلية بأن معنى الإذن في الآية العلم وهو من معانيها العربية كما ذكر ذلك الإمام الناصر في البساط ، وقد أشرت إليه في سيرته في شرح الزلف. وأما الجارحة فهي الأذن ـ بضم الهمزة ـ كما ورد في الكتاب العزيز : (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ). والله تعالى الموفق. وفي هامش الأصل : أما آيات الإذن فلا ظاهر لها حتى يتعلق به المخالف لوجهين : لفظي ومعنوي ، أما اللفظي فالإذن بكسر الهمزة لا تطلق على الجارحة وإنما هي بضم الهمزة ، قال الله تعالى : (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ). وأما المعنوي فلا معنى ؛ لأن تراد الجارحة في شيء من الآيات الثلاث لو فرضنا صحة إطلاق اللفظ عليها ، وهو ممنوع. أ. ه

٩٦

وأما معنى الآية ، فمعنى قوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره وعلمه وتدبيره ، وهو شائع في اللغة العربية (١) ، لا ينكر ذلك من له أدنى معرفة بها.

وكذلك قوله تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [إبراهيم : ١] ، أي بأمر ربهم وتوفيقه إياهم ، وهو من له لطف (٢). وكذلك قوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠] ، أي بأمري. وقوله : «فيكون طائرا بإذني» أي بفعلي له (٣) ، وكذلك سائر الآيات التي تجري هذا المجرى.

[اليد في القرآن]

ومن جملة ما تعلقوا به آية اليد وهي قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] ، قالوا : وهذا يدل على أن له جارحتين كالواحد منا (٤).

والجواب : أنا قد دللنا بأدلة العقول على إبطال مذهبهم ، وأكّدنا ذلك بما ذكرناه من محكم القرآن نحو قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وغير ذلك. فإذا ثبت ذلك ؛ فاليد تنصرف [في اللغة] على ثمانية معان (٥)

__________________

(١) ينظر تاج العروس ١٨ / ١١.

(٢) ربما أراد أن التوفيق لمن له لطف من الله. ينظر القرطبي ٩ / ٢٢٢.

(٣) الماوردي ٢ / ٨٠.

(٤) الرازي مج ٦ ج ١٢ ص ٤٥ ، وقال : اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى ؛ فقالت المجسمة : إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد. وقال بذلك ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص ٥٦.

(٥) عبارة اليد تطلق على وجوه : أحدها الجارحة. ثانيها النعمة ، نحو لفلان عندي يد. وثالثها القوة ، نحو أولي الأيدي. رابعها الملك ، نحو الضيعة في يد فلان. خامسها شدة العناية والاختصاص ، نحو لما خلقت بيدي. فذهب الناس في تفسيرها إلى مذاهب : مذهب المجسمة وقد أثبتوا الجارحة لله. مذهب المفوضة وهم بعض السلف حيث قالوا : تحتمل الجارحة وعدمها ؛ فلا نجزم بأيهما ونفوض الأمر لله. مذهب العدلية وهو ينفي التجسيم نفيا قاطعا كما ذكر المؤلف. ينظر تفسير الرازي مج ٦ ج ١٢ ص ٤٤.

٩٧

قد (١) بيناها في كتاب الإرشاد ودللنا على ثبوتها في اللغة (٢). وإذا ثبت ذلك تكلمنا في معنى الآية ؛ لأنه المطلوب دون ما عداه ، فنورد الآية من أولها ، ونذكر معناها الذي ذكره المفسرون فنقول : روي أن الله تعالى كان قد بسط على اليهود ، وأكثر الخصب عليهم ، فلما عصوا النبي عليه‌السلام قبض الله عليهم في الرزق ، فقالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، كما حكى الله في قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] وقيل : اسم القائل فنحاص (٣). ومعنى مغلولة : أي مقبوضة عن العطاء (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي ألزموا البخل ؛ فلهذا لا تجد ألأم منهم ولا أبخل. وقيل : غلّت في نار جهنم ، أي شدّت إلى أعناقهم. قوله تعالى : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) اللعنة من الله الإبعاد من الخير. واللعنة من غيره الدعاء باللعن. قوله (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] أي نعمتاه : نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، وعلى هذا يقول قائل أهل اللغة : عندي لفلان يد ، وشكرت يدك عندي ، معناه النعمة. وتقول لفلان : عندي يد بيضاء (٤). وقال الأعشى (٥) يخاطب ناقته :

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم

تريحي وتلقي من فواضله يدا

وأنشد الفرّاء :

__________________

(١) في بقية النسخ : تنصرف في اللغة على ثمانية معان ، وقد.

(٢) ينظر في الطبرسي ٣ / ٣٧٥.

(٣) ينظر الطبرسي ٣ / ٣٧٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٣ ، والدر المنثور ٢ / ٢٢٥.

(٤) الطبري مج ٤ ج ٦ ص ٤٠٦. والقرطبي ٦ / ١٥٥.

(٥) الأعشى : ميمون بن قيس بن جندل ، يقال : الأعشى الكبير ، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية ، وأحد أصحاب المعلقات ، أدرك الإسلام ولم يسلم ، وتوفي سنة ٧ ه‍. ينظر الأعلام ٧ / ٣٣١.

٩٨

ويدان بيضاوان عند محلّم

قد يصنعا لك بينهم أن تهضما (١)

وتعلقوا بقوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) [يس : ٧١] ومعناه : مما خلقنا ؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن خالق الأنعام هو الله ، سواء أثبتت له يد أو لم تثبت (٢) ، فبطل قولهم. وكذلك (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أي بقوتي. وقيل : بنعمتيّ : نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. وقيل : لما (٣) خلقت أنا ، واليدين (٤) صلة. وكذلك قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات ٤٧] ، أي بقوة عن ابن عباس (٥). واليد في اللغة بمعنى القوة ، يقال : ما لي بكذا يد ، وما لي به يدان ، أي ما لي به قوة. قال الشاعر وهو عروة (٦) :

فقالوا : هداك الله والله ما لنا

بما خضبت (٧) منك الضلوع يدان

__________________

(١) الموجود في شواهد النحو : قد يمنعانك أن تضام وتهضما وهو الأصح. وفي البيت زيادة ونقص. فانظر تاج العروس ٢٠ / ٣٥٣ ، ولسان العرب ١٥ / ٤٢٠. أما يصنعا في الأصل فهو ملحون لحذف النون بدون ناصب ولا جازم. والبيت في عمدة الحفاظ ٤ / ٤٠٧ ، ولفظه :

يديان بيضاوان عند محلم

قد يمنعانك أن تضام وتظهرا

(٢) في (ب) : أثبتّ يدا أو لم تثبت.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) اليدين على الحكاية ، وإلا «واليدان» بالألف مبتدأ.

(٥) ينظر الطبري مج ١٣ ج ٢٧ ص ١١. والقرطبي ١٧ / ٣٦. وتفسير ابن عباس ص ٤٤٢.

(٦) عروة بن حزام بن مهاصر ، أحد بني ضبه ، شاعر إسلامي ، أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى ، لا يعرف له شعر إلا في عفراء ابنة عمه ، توفي في أيام عثمان ، وقيل : أيام معاوية. الأغاني ٢٤ / ٢٣٣ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٢٢ ، والأعلام ٤ / ٢٢٧.

(٧) في هامش (ب) : حملت. وهو كما في الشعر والشعراء لابن قتيبة ٢ / ٦٢٤ ، وفي الأغاني ٢٤ / ٢٨٢ ضمنت منك. وفي بعض النسخ : حضنت.

٩٩

وقال الغنوي (١) :

فإذا رأيت المرء يشعب (٢) أمره

شعب العصا ويلجّ في العصيان

فاعمد لما يعلو فمالك بالذي

لا تستطيع من الأمور يدان

يعني بقوة. والمعنى في ذلك : أنه أمره بأن يتكلف من الأمور ما يطيق.

[العين في القرآن]

ومن جملة ما تعلقوا به آيات العين نحو قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] قالوا : فدل على أن له أعينا ، وذلك يدل على الأعضاء (٣).

والجواب عن ذلك من وجوه ثلاثة : أحدها : أنه لا يصح الاستدلال بالسمع في إثبات التجسيم ، ما لم يعلم كونه عدلا حكيما ، كما تقدم تفصيل ذلك. والثاني : أنا نعارضهم بما تقدم من أدلة العقول وأدلة السمع المحكمة. والثالث : أن نبين معنى هذه الآية وما شابهها من الآيات المتشابهة فنبطل ما ذهبوا إليه ، وقد ذكرنا في كتاب الإرشاد أن لفظة العين تنصرف في اللغة على ثلاثة عشر معنى (٤) ، فلنذكر ما يوافق الآية منها دون ما عداه إذ قد أبطلنا عند تعديدها أن يكون المراد بذكر العين في كتاب الله تعالى أو ذكر الأعين شيئا مما توهّم المخالف. فقوله تعالى : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي

__________________

(١) هو طفيل بن عوف بن كعب الغنوي شاعر جاهلي من قيس غيلان كان شجاعا ت ١٣ قبل الهجرة. الأعلام ٣ / ٢٢٨.

(٢) يشعب : يتفرق.

(٣) ينظر الإبانة للأشعري ص ١٢٠. وابن خزيمة ص ٤٢. وأقاويل الثقات ص ١٤٥ ، يقولون : له عين بلا كيف ، ووجه ويد بلا كيف.

(٤) تطلق العين على : الجارحة ، والإنسان ، والجاسوس ، وجريان الماء ، والجماعة ، والحاضر من كل شيء ، وخيار الشيء ، والدينار ، والذهب ، وذات الشيء ، والربا ، والشمس ، والسحاب. وله معان أخرى كثيرة. ينظر تاج العروس ١٨ / ٢٠٤. والقاموس ص ١٥٧٢.

١٠٠