ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

فثبت الأصل الأول وهو أنه ظهر على يديه المعجز عقيب ادّعائه للنبوة ـ وإن كان ثابتا ؛ لأنّه معلوم ضرورة بطريق التواتر ـ إلّا أنّا ذكرناه هكذا على طريقة التّبيين والاستظهار.

وأما الأصل الثاني ـ وهو أنّ كل من جاء بالمعجز عقيب ادعائه للنبوة فهو نبي صادق ؛ فالذي يدل على ذلك أن المعجز تصديق من الله سبحانه لمن ظهر على يديه ؛ لأنه لو قال : الذي يدل على صدقي أنكم لا تحرّكون أيديكم ، أو أن الله تعالى يقلب هذه العصا حيّة ثم فعل الله له ذلك ـ كان (١) ذلك جاريا مجرى أن يقول له : صدقت. دليل ذلك ما نعلمه في الشاهد أن أحدنا لو ادّعى بحضرة السلطان أنه قد ولّاه على الرعية يتصرف كيف شاء ، ثم قال : والذي يدل على صدقي أن السلطان ينزع خاتمه من يده فيجعله في يدي ، أو ينزع تاجه من فوق رأسه فيجعله فوق رأسي ؛ ثم فعل السلطان له ذلك ؛ فإنّ كلّ عاقل يعلم أن ذلك يكون تصديقا له ، وأنه جار مجرى أن يقول له :صدقت فيما ادعيت من الولاية.

فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون من ظهر عليه المعجز صادقا ، وإلا وجب أن يكون كاذبا ؛ لكون القسمة في ذلك دائرة بين النفي والإثبات. ولا يجوز أن يكون كاذبا ؛ لأنّ الله تعالى لو صدّقه وهو كاذب كان ذلك قبيحا ؛ لأن تصديق الكاذب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم بيانه ؛ فثبت بذلك نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجب تصديقه فيما جاء به من شرائع الإسلام.

الوجه الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بالأخبار الكثيرة عن الغيوب الماضية والمستقبلة على سبيل التفصيل ، واستمر ذلك على حدّ لا يمكن البشر الإعلام

__________________

(١) في (ب) و (ج) : لكان.

٣٠١

به إلا بإعلام الله تعالى. وكلّ من جاء بذلك فهو نبيّ صادق. وهذه الدلالة تنبني على أصلين : أحدهما أنه جاء بالأخبار الكثيرة عن الغيوب الماضية والمستقبلة على سبيل التفصيل ، واستمر ذلك على حدّ لا يمكن البشر الاعلام به إلّا بإعلام الله تعالى. والثاني أنّ كل من جاء بذلك فهو نبي صادق.

أما الأصل الأول فذلك ظاهر : أمّا إخباره عن الغيوب الماضية ؛ فنحو إخباره بقصة آدم وحوّاء وأولادهما ، ونوح وقومه ، وأخبار سائر الأنبياء المفصّلة في القرآن ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، ونحو أخبار أهل الكتابين ونشر فضائحهم وأفعالهم.

وأمّا إخباره عن الغيوب المستقبلة ؛ فنحو إخباره بأسرار المنافقين ، وما قد عزموا على فعله في المستقبل ، وإخباره بأن اليهود لا يتمنون الموت في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] وكان الأمر في ذلك على ما أخبر. ونحو إخباره بهزيمة بدر قبل وقتها ، في قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥] ؛ وكان الأمر على (١) ما أخبر. ونحو إخباره بقصة ملك الروم وفارس في قوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ١ ـ ٣]. ونحو قوله للزبير بن العوام : «إنّك تقاتل عليّا وأنت له ظالم» (٢).

__________________

(١) في (ب) : بحذف على.

(٢) أخرجه كنز العمال ١١ / ٣٣٩ رقم ٣١٦٨٩ ورقم ٣١٦٩٠. والبيهقي في الدلائل ٦ / ٤١٤ ، ٤١٥. وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٢٦٨. والطبري ٤ / ٥٠٩. والكامل لابن الأثير ٣ / ١٢٢. وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء) للذهبي ص ٤٨٨ ـ ٤٩٨. والإصابة لابن حجر ١ / ٥٢٧.

٣٠٢

وقد ذكّره ذلك أمير المؤمنين (ع) يوم الجمل فعدل عن القتال. ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار بن ياسر رضي الله عنه : «تقتلك الفئة الباغية» (١). ، فقتله أصحاب معاوية .... يوم صفّين. وكان الأمر كما أخبر. ونحو وعده لأصحابه بكنوز كسرى وقيصر. وقوله لسراقة بن جعشم ـ وقد نظر إلى ذراعيه ـ : «كأني بك وقد لبست سواري كسرى». وكان سراقة أشعر الذراعين دقيقهما ، فلما افتتح المسلمون خزائن كسرى على عهد عمر ، وحمل المال فوضع في المسجد فرأى (٢) عمر منظرا لم ير مثله ، والذهب والياقوت والزبرجد واللؤلؤ يتلألأ ، فقال : أين سراقة بن جعشم ؛ فأتي به ، فقال له عمر : البس السوارين وهما سوارى كسرى ففعل سراقة ، فكان ذلك آية ظاهرة إذ وقع الأمر كما أخبر (٣). ونحو قوله لسلمان الفارسي : «سيوضع على رأسك تاج كسرى» ؛ فكان الأمر على ما أخبر. ونحو قوله لعائشة : «ستنبحك كلاب الحوأب» (٤) ، فكان الأمر كما

__________________

(١) البخاري ج ١ ص ١٧٢ رقم ٤٣٦ وج ٣ ص ١٠٣٥ رقم ٢٦٥٧. ومسلم ج ٤ ص ٢٢٣٦ رقم ٢٩١٦. والمستدرك ج ٣ ص ٣٨٦ وساق جملة روايات. والترمذي ج ٥ ص ٦٢٧ رقم ٣٨٠٠ حسن صحيح غريب. وتأريخ الإسلام عهد الخلفاء ص ٥٧٧ ـ ٥٨٢. وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٢٥٢. والمعجم الكبير للطبراني ج ٤ ص ٨٥ رقم ٣٧٢٠. ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٤١ ـ ٢٤٢ وج ٩ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٧. قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في القواصم والعواصم ٣ / ١٤٤ بعد ذكر الحديث : فإن الحديث متفق على صحته وشهرته في ذلك العصر ، وإنه ما قدح فيه من القدماء أحد. بل قال الذهبي في ترجمة عمار ١ / ٤٢١ : إنه حديث متواتر.

(٢) في (ب) : حمل الماء فوضع في المسجد فنظر.

(٣) أسد الغابة ٢ / ٤١٤. والرياض المستطابة ص ١١. والإصابة لابن حجر ٢ / ١٨ ، ١٩. وإثبات نبوة النبي للمؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ص ١٤٨.

(٤) أخرجه المؤيد بالله في إثبات النبوة ص ١٤٠. والبداية والنهاية ٦ / ٢٣٦ وقد ذكره من طرق كثيرة. والطبري ٤ / ٤٥٧.

٣٠٣

أخبر. ونحو إخباره للصحابة بأن أويسا القرني رحمه‌الله يرد عليهم بعد وفاته وأن به برصا دعا الله له فبرئ كلّه إلا قدر الدرهم. وكان عمر يسأل عنه ويطلبه حتى ظفر به (١). ونحو نعيه لجعفر بن أبي طالب على بعد منه ، وكان الأمر على ما أخبر (٢).

ونحو قوله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «لتخضبنّ هذه من هذه» (٣) ؛ فقتله ابن ملجم لعنه الله ؛ فكان الأمر على ما أخبر. ونحو قوله : «ستقاتل النّاكثين ، والقاسطين ، والمارقين» (٤) ؛ فقاتل الناكثين : الزبير ، وطلحة ، وأصحاب الجمل. وقاتل القاسطين الجائرين معاوية ، وأهل صفّين. وقاتل المارقين عن الدين وهم الخوارج ، فكان الأمر على ما أخبر. ونحو إخباره لأمير المؤمنين عليه‌السلام بأنه يقتل ذا الثدية ، وهو رجل من الخوارج كان له يد مثل حلمة الثدي ، وعليها شعر مثل شعر الهر ، وكان يختم القرآن في ركعتين ، ولم ينفعه ذلك بل كان ممن قال الله تعالى فيه وفي أشباهه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ* عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٢ ـ ٤]. وقتل يوم النّهروان ، وأمرهم علي عليه‌السلام بطلبه وكان آية له ، وعلامة أنه على الحق. وأنّ الخوارج على الباطل فطلبوه فلم يجدوه ، فقال : اطلبوه فو الله ما كذبت ولا كذبت ؛ فأمعنوا في الطلب فوجدوه وأتوا به عليا عليه‌السلام ؛ فكبّر وحمد الله وخرّ الله ساجدا (٥) ومن معه من المسلمين ، وكان الأمر

__________________

(١) أخرجه المؤيد بالله في إثبات النبوة ص ١٤٦. ومسلم ٤ / ١٩٦٨ رقم ٢٥٤٢.

(٢) أسد الغابة ١ / ٥٤٤. والسيرة لابن هشام ج ٤ ص ٢٧. وإثبات نبوة النبي ص ١٤٧.

(٣) الاستيعاب ٣ / ٢١٩. ودلائل النبوة ج ٢ ص ٥٥٢ وفي ذخائر العقبى ص ١١٢.

(٤) رواه أبو طالب في أماليه ص ٦٦. والمستدرك للحاكم ٣ / ١٣٩. وفي ذخائر العقبى ص ١١٠.

(٥) في (ب) ، (ج) : وخرّ ساجدا.

٣٠٤

على ما أخبر (١). إلى غير ذلك مما يطول تعداده ، ويسمج إيراده لظهوره واشتهاره ، وكثرته واستمراره ، ولا شبهة في ذلك وفي كون ذلك مما لا يمكن البشر الإعلام به إلّا بإعلام الله تعالى ؛ فثبت الأصل الأوّل.

وأما الأصل الثاني وهو أنّ كل من جاء بذلك فهو نبي صادق. فالذي يدل على ذلك أنه لو لم يكن عالما لما جاز استمرار ذلك على وتيرة واحدة ، وطريقة مستمرة ، وإنما يجوز ذلك على سبيل الاتفاق والشذوذ والنّدور (٢) ، وذلك ظاهر. ولن يكون عالما بذلك على سبيل الاستمرار إلّا وهو نبي صادق ؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا بوحي من الله تعالى لما ثبت من أنه لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه ، قال تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤].

ولا يجوز أن يظهر الغيب على كاذب ؛ لأن ذلك قبيح لما فيه من التلبيس والتغرير ، وقد بينا (٣) أنه تعالى لا يفعل القبيح ؛ فيجب أن نقضي (٤) أن هذه الأخبار صادرة من قبل الله تعالى ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق بما ادّعاه من النبوة ، وأن الله تعالى إنما أعلم بها رسوله تصديقا لقوله وتأييدا لأمره. وهذان الوجهان

__________________

(١) ذكر ذلك أبو طالب في أماليه ص ٢٩ ـ ٣٤. وأحمد بن حنبل ١ / ٢٣٠ رقم ٨٤٨. وص ٢٩٦ رقم ١١٨٨ ، ١١٨٩. وص ٣١٠ رقم ١٢٥٤. والكامل لابن الأثير ٣ / ١٧٥. والبداية والنهاية ٧ / ٣٢٣. والطبري ٥ / ٨٨.

(٢) في الأصل : والندور ، ثم خدشت الواو الراء ، والأظهر ما هو مثبت.

(٣) في (ب) و (ج) : وقد ثبت.

(٤) غير منقوطة في جميع النّسخ ، فيجوز تقضي بالتاء ، ويقضي بالياء ، ونقضي بالنون ، ويقضى مغير صيغة.

٣٠٥

كافيان في إثبات (١) نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وبذلك يظهر صدقه فيما أخبر به من نبوة الأنبياء (ع) ، وصدقهم جميعا فيما جاءوا به من الشرائع والأحكام وبذلك ثبت الكلام في الموضع الخامس.

وأما الموضع السادس : وهو في ذكر نبذة من الأخبار الدالة على كون نبيّنا أفضل الأنبياء ، وأكرمهم على الله تعالى (٢).

فهذا باب واسع ، غير أنّا نختصر من ذلك ما يكون منبّها على غيره ممّا لم نذكره. روينا بالإسناد الصحيح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ونصرت بالرّعب على مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلّت لي الغنائم ، ولم تحلّ لنبي قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وإنه ليس نبي إلا وقد سأل شفاعته ، وإني ذخرت شفاعتي فجعلتها لمن لا يشرك بالله شيئا (٣).

وأوحى الله إلى موسى : قل لبني إسرائيل لا ينفعكم إيمانكم بالتوراة وموسى ، وبالإنجيل وعيسى حتى تقرّوا بمحمد ، وهو من القبيلة المباركة بني هاشم. وإنه المبعوث في الأمة المرحومة ، وإنه خطيب من وافى القيامة. وشفيع

__________________

(١) «إثبات» ساقطة في (ب).

(٢) قد لا نجد تخريجا لتفصيل فضله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كل نبي على حدة لكنا نكتفي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» [الحاكم ٢ / ٦٠٤] ، وقد علم أنه أفضلهم وإمامهم وخاتمهم صلّى الله عليهم أجمعين. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متّى» يحمل على التواضع وهضم النفس.

(٣) وأبو طالب في أماليه ص ٤٢. والبخاري ١ / ١٢٨ رقم ٣٢٨. ومشكل الآثار ٢ / ٢٦٣. ومسلم ١ / ٣٧٠ رقم ٥٢١. وأحمد بن حنبل واللفظ له ٧ / ١٧٣ رقم ١٩٧٥٦. والدارمي ٢ / ٢٢٤.

٣٠٦

من لم تكن له وسيلة ، وإن دينه خير الأديان ، وشرائعه أسهل الشرائع ، وأتباعه خير أتباع المرسلين ، وإنّ بين كتفيه خاتم النبوة ، وإن شعاره البرّ ، والصدق ، والعدل ، والإنصاف ، ولباسه التقوى ، ودار هجرته طيبة ، وهي يثرب.

ومن جملة ما فضّله الله به أنه قال : قال لي جبريل : يقول الله لك : يا محمد مننت عليك بسبعة أشياء : أولها لم أخلق في السموات والأرضين (١) أكرم عليّ منك. والثاني أنّ مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي كلهم مشتاقون إليك. والثالث لم أعط أمتك مالا كثيرا حتى لا يطول عليهم الحساب. والرابع لم أطول أعمارهم حتى لا تجتمع عليهم الذنوب كثيرا. والخامس لم أعطهم من القوة كما أعطيت من قبلهم حتى لا يدّعوا الربوبية. والسادس أخرجتهم في آخر الزمان حتى لا يكون مقامهم تحت التراب كثيرا. والسابع لا أعاقب أمتك كما عاقبت بني إسرائيل.

ومن جملة فضائله أن يهوديّا جاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أنت أكرم على الله تعالى أم آدم؟ فقال : «أنا وربّ الكعبة» ، فقال اليهودي : كذبت وربّ بيت المقدس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله أعطاني خمسا لم يعط آدم ـ وإن آدم أبي ـ ولكني أعطيت ما لم يعطه ، وأنا أفضل منه ولا فخر ولا عجب». قال اليهودي : وما هذه الخمس؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن آدم لمّا عصى أخرجه الله من الجنة طريدا عطشانا عريانا ، ولو عصى من أمتي أحد لم يمنعه الله من المساجد. والثاني طار عنه الحلي والحلل ولم يسلب من أمتي. والثالث فرّق بينه وبين امرأته ولم يفرق بين أمتي. والرابع أظهر الله خطيئته. والخامس لم يقبل الله توبته حتى بنى البيت المعمور وطاف حوله. وإنّ من أمتي من ذنوبه

__________________

(١) في (ب) و (ج) : والأرض.

٣٠٧

أكثر من زبد البحر وقطر المطر فندم عليها واستغفر (١) غفر الله له». قال اليهودي : صدقت يا محمد ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] (٢).

ومنها أن موسى عليه‌السلام سأل ربه : أنا أفضل أم محمّد؟ فقال تعالى : فضل محمد عليك كفضلك على أمتك.

وقد ذكر العلماء رحمهم‌الله تعالى فضل نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنبياء نبيّ نبيّ.

[فضل النّبيّ عليه وآله وسلّم السّلام على آدم عليه‌السلام]

فمنها فضله على آدم ، وقد ذكرنا ما يدل على ذلك فيما تقدم ، وعلى أنه لا خلاف بين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أفضل من أبيه آدم عليه‌السلام ، ويدل عليه ما رواه ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «فضّلت على آدم بخصلتين : كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه حتى أسلم ، وكان أزواجي عونا لي على الطاعة. وكان شيطان آدم كافرا ، وزوجته معينة له على خطيئته» (٣).

ومن جملة فضائل آدم أن جعله الله قبلة لسجود الملائكة ، وأعطى محمدا

__________________

(١) في (ب) : واستغفر الله.

(٢) ما بي القوسين زائدة من (ب).

(٣) في هامش (ب) : يعنى أن حوّاء لما جاء إبليس إليها وإلى آدم ، وقال : إن هذه الشجرة هي شجرة الخلد وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ، فبادرت حوّاء ، وداخلها الحرص ، وذكرت ذلك لآدم ، ثم طافت حول السنبلة فأخذت واحدة فأكلتها وادّخرت واحدة ، وهو شيء عجيب ، وحملت خمسا إلى آدم فأكلها وهي سنابل أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل. تمت. وكانت مكتوبة ضمن النسخ في الصلب ونبّه أنها حاشية. والحديث المتقدم ضعّفه ابن الجوزي في العلل وقال : لا يصح. ١ / ١٨١ رقم ٢٨٠.

٣٠٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله ؛ فإنه صلّى بالملائكة مرارا. وفضّله الله بأنّ أمر ثلاث مائة وثلاثة عشر رسولا فصلّوا خلفه في بيت المقدس ليلة المعراج (١).

[فضل النّبيّ عليه وآله وسلّم السّلام على إدريس عليه‌السلام]

ومنها فضله على إدريس عليه‌السلام روي عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صعد المنبر فقال : من أنا؟ قلنا : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وخصّ إدريس عليه‌السلام برفعه إلى السماء ، قال تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٧] ، ورفع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوق السموات العلي حتى وصل الحجب فشاهد ما لم يشاهده إدريس ، ثم فضّل محمد برجوعه إلى قومه وإخباره لهم بما شاهد من الآيات بخلاف إدريس فإنه لم يرجع إلى قومه.

[فضل النّبيّ عليه وآله وسلّم السّلام على نوح عليه‌السلام]

ومنها فضله على نوح عليه‌السلام ؛ فإنه الله تعالى خصّ نوحا بجري السفينة على الماء ، وأعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جري الحجر على الماء ، وذلك أعجب كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عكرمة بن أبي جهل إلى الإسلام ؛ فقال : لا ، حتى تريني آية ، وكان بين يديه غدير ، فيه ماء ، حوله حجارة (٢) ، فقال له : ايت ذلك الحجر ، فقل له : إنّ محمدا يدعوك فجاءه ، وقال له : فجرى الحجر على وجه الماء حتى انتصب قائما بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) في سيرة ابن هشام ٢ / ١٠ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجد في بيت المقدس إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم.

(٢) في (ب) : أحجار.

٣٠٩

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على إبراهيم عليه‌السلام]

ومنها فضله على إبراهيم الخليل صلوات الله عليه ؛ فإنّ إبراهيم سخّرت له نار الدنيا وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسخير نار الآخرة ؛ لأن الله تعالى أمرها بأن تكون طوعا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكلمته الشاة المسمومة بخيبر فسخرها الله تعالى له ، وفي ذلك زيادة ، وهي كلامها إياه فإنها قالت إني مسمومة. واتّخذ الله إبراهيم خليلا ، واتخذ محمدا حبيبا. والحبيب أفضل ، إلى غير ذلك من الفضائل.

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على يوسف عليه‌السلام]

ومنها فضله على يوسف عليه‌السلام ؛ فإنه أعطي الملك بعد محن كثيرة ، وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملك الدنيا هنيئا مريئا ؛ فافتتح أصحابه (رض) بلاد الروم وفارس وغيرهما من بلاد العجم ، وملكوا جميع جزائر العرب. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها (١).

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على موسى عليه‌السلام]

ومنها فضله على موسى عليه‌السلام ؛ فإنه أعطي فلق البحر بعصاه ، وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شقّ القمر بإشارته (٢) ، وهو نور السماء ، فكان أبلغ. قال الله سبحانه : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] ، اقتربت الساعة قربت القيامة بخروج خاتم الأنبياء وآخر الأمم. وانشق القمر ، انشق بمكة فلقتين :

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه ٢ / ١٣٠٤ رقم ٣٩٥٢.

(٢) أنظر البخاري ٣ / ١٣٣٠ رقم ٣٤٣٧. ومسلم ٤ / ٢١٥٨ رقم ٢٨٠٠. والنسائي في تفسيره ٢ / ٣٦٥. وجامع البيان للطبري مج ١٣ ج ٢٧ ص ١١. والدر المنثور للسيوطي ٦ / ١٧٥.

٣١٠

فلقة فوق الجبل ، وأخرى أسفل من الجبل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم فاشهد» (١). وأعطي موسى انفجار الماء من الحجر في التّيه ، وأعطي محمد عليه‌السلام انفجار الماء من بين أصابعه ، كما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر فأصابهم عطش فدعا بتور ماء ، وجعل يده في وسطه ، وجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى استقى العسكر ، ورويت الدوابّ ؛ فقيل لجابر : كم كنتم؟ فقال : ألف وستمائة (٢).

وله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق معجزتان من هذا الجنس : إحداهما أنه أطعم أهل الخندق كلهم من تمر قليل لم يملأ كفّيه ، جعله فوق ثوب ، ثم أمر الصارخ فجمعهم فأكلوا منه جماعة بعد آخرين إلى أن رشدوا (٣) وقاموا وإنه ليسقط من أطراف الثوب لكثرته. والثانية أن جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه‌الله تعالى صنع له شويهة وشيئا قليلا من خبز الشعير وأراد أن يفطر عنده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما جاء الليل وانصرفوا من الخندق أعلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبه أن يفطر عنده ، فقال : نعم ، ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله ، فقال جابر : فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون. وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس معه ، فجلس وأخرجناها إليه. قال : فبرّك وسمّى ، ثم أكل وتواردها الناس ، كلما فرغ قوم قاموا ، وجاء ناس حتى

__________________

(١) في البخاري ٤ / ١٨٤٣ رقم ٤٥٨٤.

(٢) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٣٧. والبخاري ٥ / ٢١٣٥ رقم ٥٣١٦ ، ذكر فقيل له : كم كنتم؟ فقال : ألفا وأربعمائة.

(٣) الرشيدية : طعام ، ونسمّي في بلادنا طعام المسافر رشادا. المحقق.

٣١١

صدر أهل الخندق عنها (١). وفي بعض الأخبار أنهم كانوا ثلاثة آلاف نسمة.

وأعطي موسى اليد البيضاء في حال دون حال ، وأعطي محمد نورا كان يضيء عن يمينه. وكلّم الله موسى بطور سيناء ، وكلم الله محمدا في السماء السابعة. وأعطي موسى الغمام ليظلّه ، وأعطى الله ذلك محمدا عليه الصلاة السّلام ، فإن السحاب كان يظلّه. وألقى موسى عصاه فصارت حيّة ، وأعطى محمّدا عليه‌السلام ثعبانين يوم همّ أبو جهل بقتله (٢). وأحيا له الذراع المسمومة يوم خيبر فكلمته (٣). وكذلك كلمه الجذع (٤) ، كما روى جماعة من الصحابة أنه كان يستند إلى جذع في مسجده بالمدينة ويخطب ؛ فلما كثر الناس اتّخذ منبرا ؛ فلما صعد على (٥) المنبر حنّ إليه الجذع حنين الناقة إذا فقدت ولدها ، فدعاه فأقبل يخدّ الأرض ، والناس حوله ينظرون إليه ، فكلّمه ثم أمره بالمعاودة إلى مكانه ، فمرّ حتى صار في مكانه. وروي أنه قال للجذع : إن شئت رددتك على الحائط الذي كنت فيه فتكون كما كنت ، وإن شئت غرستك في الجنة يأكل منك أولياء الله؟ فقال الجذع : بل تغرسني في الجنة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم قد فعلت» (٦).

__________________

(١) روى الحادثة أبو طالب في أماليه ص ٣٣. ومسلم بتصرف ٣ / ١٦١٠ برقم ٢٠٣٩.

(٢) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٢٦.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٣٦٧.

(٤) أبو طالب في أماليه ص ٣٢. والنسائي في سننه ٣ / ١٠٢ برقم ١٣٩٦. والبخاري ٢ / ٧٣٨ برقم ١٩٨٩.

(٥) في (ب) : بحذف على.

(٦) قال البوصيري رحمه‌الله :

ويح قوم جفوا نبيّا بأرض

ألفته ضبابها والظّباء

وسلوه وحنّ جذع إليه

وقلوه ووده الغرباء

٣١٢

وخسف الله بقارون بسبب دعاء موسى عليه‌السلام ، وخسف الله بسراقة بن مالك ، بسبب دعاء محمد فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش مائة ناقة لمن يرده عليهم (١) ، فتبعه سراقة ليأخذ المائة والحظّ عند قريش فلما دنا من رسول الله وأمكنته الفرصة وأيقن بالظّفر ـ دعا عليه رسول الله وهو في قاع صفصف فصاخت به قوائم فرسه وخسف به الأرض ، فنادى : يا محمد ادع ربك يطلق لي فرسي ، فذمّة (٢) الله عليّ أن لا أدلّ عليك أحدا ؛ فدعا له فوثب جواده ، وانتزع قوائمه من الأرض ، وتبعها دخان كالإعصار (٣).

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على داود عليه‌السلام]

ومنها فضله على داود عليه‌السلام فإن داود قتل جالوت بحجر رماه به ، وقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صناديد قريش بكفّ تراب أخذه من الأرض ورماهم به وقال : «شاهت الوجوه» (٤). وليّن الله لداود الحديد. ومسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرع شاة أمّ معبد وهي يابسة ؛ فتحلّبت لبنا على ما ذلك ظاهر (٥).

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على سليمان عليه‌السلام]

ومنها فضله على سليمان بن داود (ع) ؛ فإنه أعطي الريح مركبا وكان غدوّها شهرا ورواحها شهرا ، وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البراق فبلّغه في ساعة واحدة سدرة المنتهى.

__________________

(١) في (ب) : إليهم.

(٢) في (ب) و (ج) : وذمة.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ١٠٢.

(٤) مسلم ٣ / ١٤٠٢ برقم ١٧٧٧. والمراد بقتلهم التسبب في هزيمتهم وعمى أبصارهم حتى استطاع المسلمون قتلهم في بدر وحنين.

(٥) أبو طالب في أماليه ص ٣٠. والقاضي عياض في الشفاء ١ / ٦٤٣. ودلائل النبوة ٦ ص ٨٤.

٣١٣

وكان البراق على ما رواه ابن عباس رحمه‌الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) أنّ وجهها كوجه الإنسان ، وآذانها كآذان الفيلة ، وعرفها كعرف الفرس ، وقوائمها كقوائم البعير ، وذنبها كذنب البقر ، وهي فوق الحمار ودون الفرس ، رأسها من ياقوت أحمر ، وصدرها درة بيضاء ، وعليها رحل من رحال الجنة. وفي رواية أخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إنّ جبريل أخذ ضبعي وأخرجني من الباب ، وعلى الباب ميكائيل وإسرافيل ، معهما البراق وهي البيضاء ، لها جناحان ، ووجهها كوجه الإنسان ، عرفها من اللؤلؤ ، منسوج بالمرجان ، وعقائصها من ياقوت أحمر ، وآذانها من زمرد (٢) أخضر ، وعينها (٣) كالزّهرة والمريخ ، وأظلافها كأظلاف البقر من زمرد أخضر مرصّع بالياقوت ، بطنها كالفضة ، وصدرها كالذهب ، لونها كالبرق يلوح (٤) بين السماء والأرض ، خطوها منتهى بصرها ، ولها زمام من لؤلؤ مكلّل بالجوهر ، مزمومة بسلسلة من ذهب ، عليها راحلة الديباج. وفي الروايتين جميعا أنه قال : فاستصعبت عليّ ، فقال جبريل : مهلا يا براق أما تستحيي؟ فو الله ما ركبك أحد منذ كنت (٥) أكرم على الله من محمد ، فارتعش البراق حتى لصق بالأرض وانصبّ عرقها.

وفي الرواية الأخرى قال : فسمعت حشحشة اللّؤلؤ حين مسح عرقها. وكان الذي يمسك ركابها جبريل ، وزمامها ميكائيل. والذي سوّى عليه ثيابه إسرافيل ؛ فركب عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبلغت به سدرة المنتهى وغيرها (٦).

__________________

(١) في هامش الأصل : دابّة. والأولى حذف أنّ.

(٢) بالذال ، وهو كذلك في مختار الصحاح. وهو الزّبرجد. ص ٢٧٤.

(٣) في (ب) : عيناها ـ ظ.

(٤) في (ب) : تلوح.

(٥) في (ب) : مذ ركبت.

(٦) هكذا رويت ، ولعل أحاديث الفضائل مما يتسامح فيها ، ويتساهل ، والله أعلم.

٣١٤

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على عيسى عليه‌السلام]

ومنها فضله على عيسى عليه‌السلام ؛ فإن عيسى عليه‌السلام كلّم (١) في المهد ، ومحمد عليه‌السلام كلّمه الذئب ، والضب ، والحجر ، والجذع ، وسبّح الحصى في يده ، وغير ذلك.

وروى ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى عيسى : يا عيسى آمن بمحمد ، وأمر من أدركه من قومك أن يؤمنوا به. وأعطي عيسى المائدة ، وأعطى الله محمدا كذلك على ما هو مذكور في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام. وقد كلم عيسى في المهد ، وهكذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءته امرأة بصبي ابن شهرين ؛ فقال الغلام وهو في حجر أمه وهي مكفهرة : السّلام عليك يا رسول الله ، السّلام عليك يا محمد بن عبد الله. قال : وما يدريك أني محمد بن عبد الله ، وأني رسول الله؟ قال : علمنيه ربّ العالمين ، والروح الأمين جبريل ، وهو قائم على رأسك ينظر إليك. فقال : ما اسمك يا غلام؟ قال : سمّوني عبد العزّى ، وأنا به كافر ؛ فسمّني؟ فسماه عبد الله (٢) ، فقال له جبريل : هذا تصديق لك بالنبوة ، ودلالة لكي يؤمن بقية قومك. فقال الصبي : يا رسول الله ادع الله لي يجعلني من خدمك في الجنة ، فقال جبريل : ادع ؛ فدعا ، فقال الغلام : السعيد من آمن بك ، والشقي من كذّبك ، ثم شهق شهقة فمات. فقالت المرأة : قد رأيت ما رأيت فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، ووا أسفي على ما فاتني منك (٣) ، فقال لها : أبشرى ، فو الذي ألهمك الإيمان إني لأنظر إلى حنوطك وكفنك مع الملائكة ، فشهقت شهقة وماتت. فصلّى عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) في (ه) تكلم.

(٢) في (ب) : فسمّاه رسول الله عبد الله.

(٣) «منك» محذوفة في (ب).

٣١٥

ودفنها. وكلّم رسول الله الناقة (١) والحمار والشّجر (٢) وغير ذلك.

وروي عن أم سلمة قالت : أقبل نفر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّموه. فقال الأول : يا محمد زعمت أنك خير من إبراهيم وهو تعالى اتخذه خليلا ؛ فأيّ شيء اتّخذك؟ قال : «اتخذني صفيّا ، والصفيّ أقرب من الخليل. فقال الثاني : زعمت أنك خير من موسى ، وقد كلم الله موسى ، قال : «ويلك كلّم موسى في الأرض ، وأنا كلّمني تحت سرادق عرشه». فقال الثالث : تزعم (٣) أنك خير من عيسى وكان يحيي الموتى ، فأنت متى أحييت؟ قال : فغضب وصفّق بيديه ، وصاح : يا علي (٤) ؛ فإذا علي عليه‌السلام مشتمل بشملة له ، وهو يقول : لبيك لبيك يا رسول الله ، فقال له : من أين؟ قال : كنت في بستان إذ (٥) سمعت صوتك وتصفيقك ، فقال (٦) : ادن مني فو الذي نفس محمد بيده ما ألقى الصوت في مسامعك إلا جبريل ، فدنا علي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ كلّمه بكلمات لم أسمعها ، ثم قال : قم يا حبيبي والبس قميصي هذا ، وانطلق بهم إلى قبر يوسف ابن كعب فأحيه لهم بإذن محيي الموتى (٧) ، قالت أم سلمة فخرجوا أربعة معا ، وأقبلت أنا وهم حتى انتهى بهم إلى بقيع الغرقد ، إلى قبر دارس ، فدنا منه وتكلم بكلمات فتصدّع القبر ، ثم أمره ثانية فتصدع ، ثم أمره ثالثة فتصدع ،

__________________

(١) الشفاء ج ١ ص ٦٠١.

(٢) الشفاء ج ١ ص ٥٧٣.

(٣) في (ب) : زعمت.

(٤) في (ب) : وصاح بأعلى صوته : يا علي.

(٥) في (ب) : إذا.

(٦) في (ب) : قال.

(٧) في (ب) : بإذن الله محيي الموتى.

٣١٦

ثم قال : قم بإذن الله محيي الموتى ؛ فإذا شيخ ينفض التراب عن رأسه ولحيته ، ويقول : يا أرحم الراحمين. ثم التفت إلى القوم كأنه عارف بهم ، ثم قال : ويلكم أكفر بعد إيمان ؛ أنا يوسف بن كعب صاحب أصحاب الأخدود ، أماتني الله منذ ثلاثمائة وستين عاما حتى السّاعة ، ثم هتف بي هاتف ، وقال : قم صدّق سيد ولد آدم محمدا فقد كذّب. فقال بعضهم لبعض : ارجع بنا لا يعلم بنا صبية قريش فيرجمونا بالحجارة ، وناشدوا عليّا إلّا رددته ؛ فتكلم بكلام لا أفهمه ؛ فإذا الرجل قد رجع إلى قبره وسوّي عليه التراب. ورجع ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ ورجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذه المعجزة قد وقع مثلها أيضا : كما روي عن أبي عبد الله (١) قال : حدثني أبي عن جدي أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا مجتمعين ذات يوم فتذاكروا الإدام ، فاجتمعوا على أن الإدام خير من اللحم ؛ فرفع النبي رأسه ، وقال : أما إنه لا عهد لي به من كذا وكذا. فتفرق (٢) القوم. وقام رجل من الأنصار إلى امرأته ، وقال : يا فلانة هذه غنيمة باردة قالت : وما هي؟ فقص عليها القصة. قالت : فدونك شاتك فاذبحها ، وكان لهم عناق (٣) يربونها ، فقام إليها فذبحها وشواها ووضعها في مكتل (٤) ، وقنّعها بقناع. وقال لابنه : انطلق بها إلى رسول الله «ص» وأقم عنده تنظر ما يصنع. قال الغلام : فأتيته بها وهو في منزل أم سلمة ؛ فدخلت وهو مستلق على نطع وإحدى رجليه على الأخرى ، فوضعتها بين يديه ، وأخبرته أن أبي بعث بها إليه

__________________

(١) تعليقة في (ب) : الصادق.

(٢) في (ب) ، (ج) ، وتعليقة في الأصل : فبقي والقوم.

(٣) العناق : بالفتح الأنثى من ولد المعز.

(٤) شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا.

٣١٧

فسر بها ، وقال يا غلام : ادع لي عليّا. وقال : يا بلال ايتني بسفرة فأتاه بها فوضع العناق عليها ، ثم قال : انظر من في المسجد من المسلمين؟ قال : ثمانية عشر نفرا. قال : أدخلهم ؛ فلما دخلوا قال : كلوا ولا تنهشوا لها عظما ، فأكلوا حتى صدروا ثم نهضوا ؛ فقال (١) : يا بلال ائت به فاطمة ، ثم قسم في نسائه قبضة قبضة ؛ فلما فرغ ضرب وركها (٢) ، وقال : قومي بإذن الله ، فنهضت تبادر الباب ، واتّبعها الغلام فسبقته إلى المنزل فدخل الغلام وأبوه يقول : كأنها عناقنا التي ذبحناها ؛ فقالت امرأته : لعلها لبعض الحي ؛ فقال الغلام : والله ما هي لأحد وإنها لعناقكم صنع بها رسول الله كذا ، إلى غير ذلك من الأخبار القاضية بتفضيله (٣).

فصل : في تعيين اعتقادنا في القرآن

نعتقد أنّ هذا القرآن الذي بيننا هو كلام الله ووحيه وتنزيله وأنه حق لا باطل فيه ، وقد خالفنا في ذلك الأشعرية ، والكلابية (٤) ، والمطرفية ؛ فالأشعرية يقولون : إن هذا الذي بيننا ليس بكلام الله ، وإنما هو عبارة عن كلام الله تعالى. وهو قول الكلابية ، وإن خالفوهم في كلام الواحد منا في الشاهد فإنهم فصلوا بين الشاهد والغائب. والمطرفية تقول : ليس هذا بكلام الله ، وإنما كلام الله تعالى صفة قائمة بقلب ملك يقال له : ميخائيل.

__________________

(١) في (ب) : ثمّ قال.

(٢) الورك ما فوق الفخذ.

(٣) روى هذا صاحب مدينة المعاجز ص ٣١٨. وهو كتاب حافل بالعجائب والغرائب.

(٤) أصحاب عبد الله بن محمد بن كلاب القطان ، من متكلمي البصرة ، ينظر في أقوالهم موسوعة الفرق والجماعات الإسلامية ٣٣٠.

٣١٨

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدين ويخبر الناس بأن هذا القرآن المتلوّ المعروف هو كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله ، وأنه حق لا باطل فيه ، وهذا معلوم بالاضطرار لمن عرف الأخبار ، وبحث عن الآثار. وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدين إلا بالحق ، ولا يخبر إلا بالصدق ؛ لأنّ ظهور المعجز على يديه قد أمّننا من وقوع الخطإ فيما يدين به ، وظهور الكذب فيما يخبر به ، وقد قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦].

ومعلوم بالاضطرار أنّ الذي أسمعه رسول الله صلّى عليه وآله المشركين هو هذا المتلو المعروف ، وقال الله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف : ٢٩ ، ٣٠] ، وقال تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) [الجن : ١ ـ ٢]. والمعلوم أنّ المسموع هو هذا القرآن المشار إليه دون غيره ، وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الآية [فصلت : ٤١ ـ ٤٢] ، فثبت بذلك ما قلنا.

٣١٩

فصل : ونعتقد أنه محدث مخلوق غير قديم

ولا مكذوب ، وهذا هو قول العدلية جميعا (١). وقالت الحشوية : إن هذا الذي بيننا هو قديم ، ويقولون : بأنه كلام الله تعالى. والكرّامية تقول : بأنه كلام الله تعالى وإنه محدث ؛ ولكنه غير مخلوق. والمطرفية تقول : إن هذا القرآن الذي ذكرناه ليس بمحدث ولا قديم. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه : أمّا أنه محدث ؛ فالذي يدل عليه أن هذا القرآن المتلوّ في

__________________

(١) حدث في هذه المسألة خلاف مرير ؛ بل صراع دام ، بدأ أيام المأمون العباسي ، فقد حمل المأمون الناس على القول بخلق القرآن ؛ بدليل أن ما سوى الله مخلوق ، وعارضه كثير من المحدثين بزعامة أحمد بن حنبل قائلين بأن القرآن كلام الله قديم ، وجرت مناظرات ، وتشدّد المأمون في هذه المسألة ، واعتبر القول بقدم القرآن خطأ يستحق العقاب ؛ ولذلك فقد حبس أحمد وغيره من القائلين بأن القرآن قديم ، وتعرضوا للتعذيب ، وعزلوا من أعمالهم. ولمّا جاء المتوكل العباسي وقف إلى جانب القائلين بأن القرآن قديم ، واتخذ موقفا أشد عنفا ووحشية ضد المعتزلة ، أدى إلى محوهم من الوجود ، ولو لا مبادرة الزيدية إلى حفظ تراث المعتزلة لمحي هو الآخر ، وهذا موقف يشكر لرجال الزيدية.

روي أن الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام أرسل القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السّلام رضي الله عنه ، وأمره أن يجلب كتب المعتزلة من العراق إلى اليمن ، ونالت استحسان وعناية المدرسة الزيدية. أما رأي الزيدية في مسألة خلق القرآن فهو نفس رأي المعتزلة. وقد آلمني ما تركه مثل هذا الاختلاف من آثار ضارة ، وبالأخص في علم الجرح والتعديل ، حيث حكم بعض المحدثين ـ بالكفر ـ على القائلين بخلق القرآن ، وقيل في المتوقفين : الواقفة الملعونة. وقد كان السلف رحمهم‌الله في غنى عن هذا ، ونحن كذلك ؛ لأن الله يريد منا العمل بالقرآن والاهتداء بهداه والتأدّب بآدابه. ومثل هذا الاختلاف في مثل هذا مثل قوم اجتمعوا على مائدة عليها أشهى الطعام ولذيذ الشراب ، فقال بعضهم : هذا الطعام صنعته عجوز ، وقال بعضهم : بل صغيرة ، وتعصّب لهذا قوم ، ولهذا قوم ، واشتد النزاع حتى اشتبكوا بالسلاح ، فسالت دماؤهم وفضلاتهم على المائدة ، فلا طعاما أكلوا ، ولا دما حقنوا ـ والأغرب من هذا أنهم فرحون بما صنعوا ، مصرّون على تكرار ما عملوا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. أتمنى لو أن الفرق المعاصرة تتفق على أن القرآن الكريم كلام الله وتسكت هنا.

٣٢٠