ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

البغدادية من المعتزلة (١). ومنهم من قطع على أنه لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت لا محالة ، وهذا هو قول الشيخ أبي الهذيل ومن تابعه من المعتزلة ، وهو قول الحشوية (٢). ومنهم من توقف في ذلك فلم يقطع على واحد من الأمرين ، وجوّزهما جميعا ، وهذا هو قول الشيخين أبي علي وأبي هاشم ومن تابعهما من البصريين (٣) ، وهو الظاهر من قول جماهير الزيدية وهو الصحيح. وينبغي أن نورد ما يحتج به كل واحد من الفريقين على صحة ما قطع عليه ، ونتكلم على ذلك ؛ لأن ذلك هو حال المتوقف. وبتمام ذلك يتم غرضنا من أن الصحيح في هذه المسألة هو التوقف : أمّا من قطع على أنه لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة ، فاحتجوا في ذلك بقول الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩] قالوا : فدلّ على أن المقتول قصاصا لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة (٤).

والجواب ـ إن هذا عدول عن الظاهر ؛ لأنه لا خلاف فيه بين العلماء ، وليس فيه ذكر لما يدّعونه ، لا بإثبات ولا بإبطال ؛ لأن الآية دلّت على حياة منكّرة ما ، وإذا سقط تعلقهم بظاهر الآية فهو المطلوب. ويجوز أن تكون تلك الحياة المنكّرة هي أنّ من عزم على قتل الغير ثم علم بثبوت القصاص ، وأنه إذا قتله قتل به لم يقدم على قتله خوفا للقصاص ؛ فيكون في علمه بثبوت القصاص حياة له من حيث صرفه علمه ، وكان لطفا له في ترك القبيح ، ثم

__________________

(١) المغني ١١ / ٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٣.

(٢) المغني ١١ / ٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٣.

(٣) المغني ١١ / ٤.

(٤) في هامش الأصل : ليس احتجاج البغدادية على الوجه الذي ذكره رحمه‌الله. وقد احتج بالآية الإمام القاسم بن محمد رحمه‌الله في الأساس على الوجه الآخر الذي ذكره.

٢٦١

يقال لهم : إنكم إذا رجعتم إلى التأويل فقد خرجتم عن الاستدلال بالظاهر ، وفي ذلك ما نرومه ، ثم لستم بالتأويل للآية على مذهبكم أولى من غيركم ، ويكون المرجع في ذلك إلى دلائل غير الآية هذه. واحتجوا بأنه قد يقتل في الساعة الواحدة ألوف كثيرة ، قالوا : ولم تجر العادة بموت مثلهم في حالة واحدة ، فلو لم نقل بأنهم لو لم يقتلوا لحيوا لا محالة ـ لأدّى ذلك إلى القول بنقض العادة ، وهو أن يموت في الساعة الواحدة (١) ألوف كثيرة. وانتقاض العادة لا يجوز إلا في زمان نبي. الاعتراض على ذلك هو أن يقال لهم : إنه لا يمتنع أن يموت في الساعة الواحدة ألوف كثيرة في جهات متباعدة ، وبلاد قاصية في أطراف الأرضين وغير ذلك ، ولا يكون ذلك نقض عادة. ويجوز أيضا في العدد الكثير والجمّ الغفير أن يموتوا في ساعة واحدة بالغرق والهدم ، ونحو ذلك ولا يكون في ذلك نقض عادة (٢). ثم يقال لهم : إنه يجوز انتقاض العادة في غير زمان الأنبياء (ع) ؛ لأنه لو لم يجز انتقاضها لخرجت عن كونها عادات ، ولحقت بالموجبات (٣) ، وذلك يفسد عليهم أصولا كثيرة. ثم نقول : إنه قد وقع نقض العادات في غير زمان نبيّ ، والوقوع فرع على الصحة على ما نبينه إن شاء الله تعالى [في مسألة النبوة] (٤) فبطل ما ذهبت (٥) إليه البغدادية (٦) من كل وجه.

__________________

(١) في (ب) بحذف الواحدة.

(٢) في هامش (ه) وأيضا فلا مانع من أن يكون أجله عندنا هو ذلك الوقت ولا دليل يمنع من ذلك الدليل ، ولذلك يحسن التأويل المذكور.

(٣) والموجب هو الذي لا يتخلف.

(٤) ما بين المعقوفتين غير موجود في الأصل.

(٥) في (ب) : ذهب.

(٦) هم أصحاب أبي سهل بشر بن المعتمر الهلالي قيل : هو من أهل بغداد كان زاهدا عابدا ، وقيل : دخيل من أهل الكوفة ؛ ولعله كان كوفيا ، انتقل إلى بغداد وهو رئيس

٢٦٢

وأما الشيخ أبو الهذيل (١) والحشوية فهم يتعلقون في ذلك بآيات من كتاب الله تعالى : منها : قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] قالوا : فجعل لكل نفس أجلا لا يصح (٢) أن تموت قبله ولا بعده ، ولا يقتل قبله ولا متأخرا عنه. وجعلوا الأجل كالموجب للموت والقتل. والجواب عن ذلك أن ظاهر الآية يقتضي أنّ عند حصول الأجل لا يصح وقوع التقديم والتأخير فيه ، وذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين. فأمّا قبل حصول الأجل فلم ينف (٣) أن يقع هناك ما يقطع عن بلوغه من قتل ونحوه ، ولم يذكره تعالى لا بإبطال ولا بإثبات وهو موضع النزاع. وإذا كان كذلك سقط تعلّقهم بظاهر الآية. ومنها قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] قالت الحشوية : فبيّن أن القتل يقع بقضائه ، وأنه لا يقع في ذلك تقديم ولا تأخير.

والجواب : عن ذلك أنّ الكتب يأتي على وجوه ، ولم يأت فيها شيء بمعنى القضاء ، لا في القرآن ولا في لغة العرب. وتلك الوجوه : أحدها بمعنى

__________________

معتزلة بغداد. وتسمى أيضا البشرية ، وهو صاحب الأراجيز المعروفة ، وله أربعون ألف بيت في مذهبه. حبسه الرشيد ثم أطلقه. توفي سنة ٢١٠ ه‍. ينظر الشافي ١ / ١٣٧.

وموسوعة الفرق ص ١٠٣. والموسوعة الإسلامية للأمين ٥ / ٧٠.

(١) أبو الهذيل : هو محمد بن الهذيل العبدي ، ولد ١٣٥ ه‍ أو ١٣٤ ه‍. وهو شيخ معتزلة البصرة ، توفى سنة ٢٢٧ ه‍ ، وقيل : غير ذلك ، وله مؤلفات كثيرة منها : مناظرة أبي الهذيل لمجنون أهل الدير ، ميلاس ، اسم مجوسي أسلم على يده. ينظر الأعلام ٧ / ١٣١.

ووفيات الأعيان ١ / ٤٨٠. ومعجم المؤلفين ٣ / ٧٦٠.

(٢) أما الصحة فيصح ؛ لكن المراد بعدم الصحة عدم تخلف ما علمه الله.

(٣) في (ب) : ينتف.

٢٦٣

الفرض والإيجاب. قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] أي فرض عليكم ، وكذلك : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية [المائدة : ٤٥] ، أي فرضنا. وثانيها بمعنى الحكم بالشيء ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [الحج : ٤] أي حكم عليه به. وثالثها : الإخبار كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] أي أخبرنا بذلك. ورابعها بمعنى العلم كقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] أي علم. وعليه يحمل ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : بينا أنا جالس عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أتاه رجل من الأنصار فقال : «يا رسول الله ، إنا نصيب سبيا ونحبّ الأثمان (١) فكيف ترى في العزل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا عليكم ألّا تفعلوا ذلك ، فإنّها ليست نسمة كتب الله عزوجل أن تخرج إلا وهي خارجة» (٢) أي علم. وإذا كان كذلك ؛ لم يخل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) [آل عمران : ١٥٤] ، من أحد هذه الوجوه. ولا يحوز أن يكون بمعنى الفرض والإيجاب ؛ لأن القتل لا يفرض على المقتول ، خصوصا فيمن قتل مظلوما ؛ بل يكون ذلك قبيحا ، ولا يجوز أن يكون بمعنى الحكم ؛ لأن ذلك إنما يكون على سبيل الوجوب. وليس من يقتل من غير استحقاق محكوما عليه بالقتل ؛ بل ذلك يكون ظلما ؛ لعدم الاستحقاق. وإنما يكون معنى قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) بمعنى الخبر والعلم ، ويكون معناه من أخبر الله تعالى أنه يقتل أو علم ذلك من حاله ، فإنه يكون كذلك ،

__________________

(١) المعنى : أنهم لا يريدون أن يحملن من الوطء لئلا ينقص الثمن.

(٢) أخرجه البخاري ٢ / ٧٧٧ رقم ٢١١٦ ، وقد تكرر.

٢٦٤

ولا يلزم أن يكون علمه وخبره قضاء ولا جبرا ، ولا علمه وخبره أيضا يوجبان الأفعال إذ لو كانا يوجبان الأفعال ، فهو تعالى يعلم أفعاله ، فكان يجب أن يفعل ما أخبر به وعلمه من أفعال نفسه ، وذلك محال ؛ لأنه يؤدي إلى أمور كلها باطلة. منها : أنه كان يجب حصول الثواب في دار التكليف وقد علمنا أنه لا يجوز حصوله لما بينه وبين التكليف من التنافي ؛ لأن التكليف يتضمن المشاق كما تقدم بيانه. والثواب ينافي ذلك ولحصول الدلالة على دوام الثواب وحصول الدلالة على انقطاع التكليف بالموت والفناء. ومنها : أنه كان يلزم حصول سائر معلوماته تعالى ولو حصلت لأدى إلى خروجه تعالى عن كونه فاعلا مختارا وذلك محال. ومنها : أنه يعلم أنه يعاقب المجرمين في نار جهنم وأنه يقيم القيامة ، فكان يلزم حصول ذلك في الحال ، وذلك يبطل التكليف ؛ لأنهم يصيرون ملجئين إلى فعل الطاعة ، واجتناب المعصية ، والإلجاء ينافي التكليف كما تقدم ، إلى غير ذلك من الجهالات. والذي يدل على أن العلم لا يؤثر في المعلوم وجوه كثيرة منها : أن العلم بالمعلوم يتبع المعلوم ، ولا يتبع المعلوم العلم ؛ لأن علم زيد بكون بكر في الدار يتبع كونه في الدار في أنه يجب أن يعلم أن كونه في الدار حتى يكون علما ، وكونه في الدار لم يحصل من حيث علم كونه في الدار ، وعلم زيد بكون بكر في الدار لم يوجب كونه ، بل كونه في الدار كالموجب ؛ لكونه عالما به أن يعلمه وعلمه صحيح وهذا واضح. ومنها : أنه كان يجب إذا أخبرنا أو دلّلنا أو علمنا أوصاف القديم تعالى أن نكون قد جعلناه على ما هو عليه بالخبر أو بالدلالة أو بالعلم على أنه يجب أن لا يكون العلم بأن يوجب كون المعلوم بأولى من أن يكون المعلوم موجبا للعلم ؛ لأنه كما يجب أن يكون المعلوم على ما يتناوله العلم ، كذلك العلم إنما يكون علما لوقوع المعلوم على الحد الذي تناوله وهذا ظاهر الفساد.

٢٦٥

ومنها : أنا نعلم المعدومات فكان يجب أن نؤثر فيها ؛ لأجل علمنا بها إلى غير ذلك من الأدلة ، وهي ظاهرة إلا أن القدرية كابروا في ذلك. ومما يتعلقون به قول الله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥] قالوا فأخبر أنه لا يموت أحد إلا بإذنه فاتضح أن موت الجميع بأجل معلوم جعله الله له فلا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه سواء كان قتلا أو لا. والجواب : أنه لا خلاف أن الإنسان يموت بأجله ؛ بمعنى أنه يموت عند الوقت الذي علم الله أنه يموت فيه ، وليس في الآية ما يدل على أنّ أحدا لا يقدر أن يقتله قبل. ولا فيها ذكر ، لذلك لا بإثبات ولا بإبطال ، وهو موضع النزاع ؛ فسقط تعلقهم بظاهر الآية. ثم يقال لهم : إن الإذن في اللغة على ثلاثة وجوه لا غير : أحدها بمعنى الأمر كما قال الله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٩٧] أي بأمره. وثانيها بمعنى الإباحة والإطلاق ، كقوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) [النساء : ٢٥] أي بإطلاقهم. وقوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النور : ٥٨]. وقوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [النور : ٦٢]. وثالثها بمعنى العلم كقول الحارث بن حلّزة (١) :

آذنتنا ببينها أسماء

ربّ ثاو يملّ منه الثّواء

آذنتنا ببينها ثمّ ولّت

ليت شعري متى يكون اللّقاء (٢)

ولا يجوز أن يكون المراد به الأمر ، والإباحة ؛ لأن الموت ليس إلى الإنسان فيكون مأمورا به ، ولا مباحا له ؛ لأنه ليس من فعله فلم يبق إلا أن يريد بقوله :

__________________

(١) هو شاعر جاهلي ، من أهل بادية العراق من آثاره معلقته ، جمع بها كثيرا من أخبار العرب توفي ٥٠ ق. ه. ينظر معجم المؤلفين ١ / ٥١٨. والأعلام للزركلي ٢ / ١٥٤. والأغاني ١١ / ٤٢ ـ ٥١.

(٢) أنظر ديوانه ص ٣٧.

٢٦٦

(إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] ، أي بعلمه. وقد ثبت أن القتل غير الموت. تصديقه قوله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] ؛ فلو كان القتل هو الموت لكان تقدير الكلام أفإن مات أو مات. وهذا خطل من القول لا يجوز أن يتكلّم به الحكيم تعالى ، فبطل ما ذهبوا إليه في ذلك.

ومما يتعلقون به قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢] ، قالوا : فذكر أن للإنسان أجلين ، وأنه يجوز أن يقطع القاتل على المقتول أحدهما (١). والجواب أنّ هذا منهم تجاهل عظيم ؛ لوجهين : أحدهما أن ظاهر الآية يوجب أنه تعالى : قضى أجلا ، وأنّ عنده أجلا مسمّى. ولم يبيّن أنّ كلا الأجلين في الدّنيا ؛ ولا ذكر ذلك بإثبات ولا بإبطال وهو موضع النزاع. والمراد بذلك أنه قضى الآجال في الدّنيا ؛ لأنه لا أحد إلّا وله وقت قد علم الله تعالى أنه يموت فيه. وقوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أراد به يوم القيامة ؛ ولذلك أضافه إلى نفسه ، فقال (عِنْدَهُ).

الوجه الثاني : يقال لهم : وكيف يجوز أو يتصوّر أن يكون للإنسان أجلان في الدنيا ، وليس يبلغ إلّا أحدهما ؛ فإن بلغ الأخير بطل كون الأول أجلا له ، وإن لم يبلغ الأخير بطل كونه أجلا له على أيّ وجه قيل.

وممّا يتعلقون به قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [الأعراف : ٣٤] ، قالوا : وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يتقدّمه ولا أن يتأخر عنه ، وذلك يوجب

__________________

(١) في الأصل : أحدهما بالضم ، والذي يظهر لي أنه مفعول به ليقطع ، والفاعل القاتل ، والله أعلم.

٢٦٧

أنّ القدرة على خلاف المعلوم لا تصح. والجواب أن الأجل هو الوقت المضروب لحدوث أمر في المستقبل على ما تقدم ، وإن كان قد غلب من جهة الاستعمال على أوقات الحياة والموت ؛ فإذا صحّ ذلك فكلّ وقت علم الله تعالى أن العبد يموت فيه أو أخبر بذلك ، أو حكم فيه بالموت ـ فقد جعله أجلا لموته ، ولا يجوز أن يتقدّم موته ذلك الوقت ولا يتأخر عنه ، لا لأنه لا يقدر على خلافه من حيث علم أن ذلك لا يقع ؛ إذ هو تعالى قادر على خلاف ما علمه ؛ فإنه تعالى قادر على أنه (١) يقيم القيامة الآن ، مع علمه بأنه لا يقيمها الآن (٢). والواحد منّا قادر على أن يعاقب عبده مع عفوه عنه وإضرابه عن عقابه ، فلو لم يكن قادرا على عقابه مع عفوه لما حسن مدحه على العفو ، فقد قدر على خلاف ما علمه الله تعالى ؛ فإنه قد علم أنه يعفو مع قدرته على العقاب لعبده وهذا واضح.

ومما يلزم الشيخ أبا الهذيل على (٣) هذه المقالة ـ وهي أن المقتول لو لم يقتل لمات لا محالة. ويلزم أيضا من وافقه فيها من المعتزلة والحشوية أمران : أحدهما سقوط القصاص ؛ إذ المقتول لو لم يقتل لمات لا محالة على قولهم. كما أن القصاص يسقط عمن قتل بأمر الله ، أو بإباحته ، وكذلك الإثم.

والثاني سقوط الضمان فيكون من ذبح مواشي الغير بغير إذن مالكها ، ولا بإباحة الشرع ـ لا يلزمه ضمانها ؛ بل يكون منعما على مالكها بذبحها ؛ لأنه لو لا ذبحه لها لماتت ولما انتفع بها ؛ لكونها ميتة ؛ فكان على هذا القول يجب شكره على المالك على صنيعه إليه. وعلى قول الحشوية أيضا لمثل ما ذكرناه.

__________________

(١) في (ب) : أن.

(٢) في (ب) : مع علمه أنه لا يقع الآن.

(٣) في (ب) : عن

٢٦٨

ولوجه آخر يخصهم دون أبي الهذيل ومن طابقه من المعتزلة ، وهو (١) أن ذبحه لها على قولهم بقضاء من الله تعالى وقدر ، وهما موجبان ؛ فسقط عنه الضمان والإثم والذم ؛ لأن ذلك فعل الله عندهم. وفي علمنا بكون الفاعل لذلك عاصيا وظالما ومستحقّا للذّم ، ومأخوذا بالدية في الانسان الحر ، أو القصاص. وبالقيمة في الأموال ـ دلالة على بطلان مقالتهم جميعا ؛ فسقط قول كلّ واحد من الفريقين بحمد الله ومنّه ، ولم يبق إلا التوقف ، والقضاء بما دل عليه الدليل ، وهو أن المقتول يقتل بأجله ، على معنى أنه يقتل في الوقت الذي علم الله تعالى أنه يقتل فيه ، ولا نقطع (٢) على أنه لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة ، ولا على أنه لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت لا محالة ؛ بل نقول : بأن حياته وموته ممكنان من جهة العقل ، وليس في الشرع ما يدل على القطع على أحد الأمرين ؛ فلذلك وجب التوقف في هذه المسألة.

مسألة : في الأرزاق وفيها خمسة فصول :

أحدها في معنى الرزق وهو ما مكّن (٣) من الانتفاع به ، ولم يكن لأحد منعه من الانتفاع به ولا نهيه عن الانتفاع به ، على بعض الوجوه. وثانيها في تعيين فاعلها وهو الله تعالى لأنها من قبيل الأجسام. وقد بينا فيما تقدم أنه تعالى فاعل الأجسام ولا فاعل لها غيره. وثالثها في حسن اكتسابها ونحن نعتقد أن اكتساب الرزق حسن غير قبيح. والخلاف في ذلك مع الصوفية الضالّة الغوية (٤) ؛ فإنهم ذهبوا أنه لا يحسن اكتسابها. والذي يدل على صحة

__________________

(١) في (ب) : وهو على أنّ.

(٢) في (ب) ، (ج) : ولا يقطع.

(٣) في (ب) : ما أمكن.

(٤) يراد بهم بعض الفرق الصوفية التي لا تلتزم الكتاب والسنة وآداب الزهد.

٢٦٩

ما ذهبنا إليه وإبطال قولهم دليل العقل والكتاب والسنة والإجماع. أما دليل العقل : فهو أن العقلاء يعلمون بعقولهم ضرورة حسن اكتساب المنافع ، كما يعلمون ضرورة حسن دفع المضار. والأمر في ذلك ظاهر. وأما الكتاب ؛ فقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء : ٢٩].

وأما السنة : فما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «التّاجر الصّدوق مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين ، وحسن أولئك رفيقا» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تسعة أعشار الرّزق في التجارة» (٢). ولما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان برهة من دهره تاجرا وكان يسافر للتجارة. وروي أنه باع واشترى حاضرا حتى قال المشركون : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ، فأوحى الله إليه : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠]. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من طلب الدنيا حلالا سعيا على أهله وتعطّفا على جاره ، واستعفافا عن المسألة لقي الله ونور وجهه كالقمر ليلة البدر» (٣). وعن ابن عباس أنه قال : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوم بموضع يقال له : قبا بالمدينة ، فمنهم من يصلي ، ومنهم من يتذاكر العلم ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٣ / ٥١٥ رقم ١٢٠٩. والدارمي ٢ / ٢٤٧.

(٢) أخرجه الهندي في كنز العمال ٤ / ٣٠ برقم ٩٣٤٢ عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي ويحيى بن جابر مرسلا.

(٣) أخرجه المرشد بالله في أماليه ٢ / ١٧٣. وفي الحلية ٨ / ٢٣٥ برقم ١١٩٩٩. بلفظ : «من طلب الدنيا حلالا واستعفافا عن المسألة وسعيا على أهله ، وتعاطفا على جاره بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر. ومن طلبها حلالا مكاثرا لها مفاخرا لقي الله وهو عليه غضبان» وأقول : إن الغضب بسبب التكاثر والتفاخر حتى وإن كان الطلب من حلال. وشعب الإيمان ٧ / ٢٩٨ برقم ١٠٣٧٤ بلفظ مقارب.

٢٧٠

ومنهم من يتدارس القرآن ، فوقف عندهم ساعة ، ثم قال : من أنتم؟ قالوا : يا رسول الله نحن قوم قرأنا القرآن فمررنا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣] ، وتوكّلنا على الله (١) فهو حسبنا ونحن المتوكلون. فقال : يا قوم قوموا وتفرّقوا واكتسبوا وابتغوا من فضل ربكم ؛ فإن الله لم يأمر بهذا. قال الله تعالى في أسفل الآية : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣] ، يعني لكل أمة رزقا وحرفة وكسبا وأنتم المتأكّلون على الناس ، إنما المتوكل على الله الذي يصلّي الخمس في جماعة ، ويبتغي من فضل ربه. قال ابن عباس : فما برح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تفرقوا وصاروا بعد ذلك أصحاب التّجارات (٢). وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بقوم ، فقال : من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكلون. قال : كذبتم بل أنتم المتأكّلون. إنما المتوكل رجل ألقى الحبّ وهو ينتظر الغيث (٣). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة (٤). إلى غير ذلك من الأخبار. وأما الإجماع : فلا خلاف بين المسلمين في أنه يحسن اكتساب الحلال.

ورابعها في حكم الأرزاق ونحن نعتقد أن الحلال يكون رزقا سواء كان في أيدي العصاة أو المطيعين ، وأن الحرام لا يكون رزقا سواء كان في أيدي العصاة أو المطيعين. وهذا هو قول جميع المسلمين (٥).

__________________

(١) في (ب) : وتوكلنا على الله فنحن المتوكلون على الله. وفي (ج) : وتوكلنا على الله ، ونحن المتوكلون.

(٢) أخرجه في فروع الكافي ٥ / ٨٦ بما يوافق هذه الرواية.

(٣) ربيع الأبرار ٤ / ٣٠٢.

(٤) أخرجه في كنز العمال ٤ / ٥ رقم ٩٢٠٣ عن ابن مسعود.

(٥) ينظر رسائل الإمام الهادي عليه‌السلام ٣١٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٧ ، والمغني ١١ / ٣٥.

٢٧١

وذهبت المجبرة إلى أن ما كان في أيدي الناس من حلال أو حرام فإنه يكون رزقا لهم (١). وقولهم بعضه صحيح وبعضه فاسد. فأما الصحيح : فهو أنّ الحلال رزق ؛ ولهذا مدح الله المنفقين من الحلال. فقال (٢) سبحانه : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] وأباح الأكل منه ؛ فقال : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٥٧]. وما شاكل ذلك من الآيات. وأمّا الفاسد من قولهم ، فهو أنّ الحرام رزق فهذا فاسد ؛ لأنه لو كان ما في يد الغاصب رزقا له ، وكذلك السارق ، وقطّاع الطريق من المحاربين والمتغلّبين ـ لما كانوا غاصبين بأخذه ، ولما وجب على الإمام قتل المحاربين الذين ينهبون في طرق المسلمين ، ولما وجب عليه قطع يد السارق متى سرق من حرز ما يسوى عشرة دراهم (قفلة (٣)) ، ولما وجب عليه أن يسترجع من الغاصب ما غصبه على المسلمين ؛ لأنه لو جعله رزقا لهم ثم أمر بإجراء هذه الأحكام عليهم (٤) لكان ذلك قبيحا وهو لا يفعل القبيح كما تقدم بيانه. يبيّن ذلك ويوضّحه أنّ السلطان لو رزق جنده مالا ثم حظر عليهم الانتفاع به وعاقبهم على الانتفاع به لكان ذلك قبيحا.

وكذلك لو ملّكهم مالا ثم منعهم من الانتفاع به لاستقبح العقلاء هذا الصنيع منه. ولأنه لو كان رزقا للغاصب كما أنه رزق للمغصوب منه أو ملك

__________________

(١) قال عبد الملك الجويني في كتابه الإرشاد ص ٣٠٧ : والذي صح عندنا في معنى الرزق ، أن كل ما انتفع به منتفع فهو رزقه ، فلا فرق بين أن يكون متعديا بانتفاعه وبين أن لا يكون متعديا. والفخر الرازي مج ٦ ج ١٢ ص ٧٧.

(٢) في (ب) : قال.

(٣) القفلة : ما له وزن من الدرهم. القاموس ١٣٥٦.

(٤) في (ب) بحذف عليهم.

٢٧٢

ـ للزم إذا ترافعا إلى إمام أو حاكم من حكّام المسلمين أن لا يكون بأن يقضي للغاصب على المغصوب أولى من خلافه ، وأن لا يكون هذا الشيء بأن يجعل ثابتا في يد الغاصب ؛ لأنّه رزقه أولى من أن ينتزع من يده إلى المغصوب منه (١) ؛ لأنه ملكه ، ولا يتأتّى أن يجعل ـ والحال هذه ـ رزقا لهما ؛ لأنّه كان يجب أن يجري مجرى مال بين شريكين ؛ فيكون لكل واحد منهما مثل ما لصاحبه ؛ ولأنه لو جاز أن يجعل رزقا لهما معا لجاز أن يجعل ملكا لهما جميعا ؛ ولأنه لو كان رزقا للغاصب ومن أشبهه لما لزمه عند إتلافه ضمان وغرم ؛ لأن (٢) من أكل من رزق نفسه لا تجب الغرامة عليه. ولم نذكر خلاف المطرّفية في الرزق ، إذ قد أبطلنا في كتاب الرد عليهم ما (٣) ذهبوا إليه في ذلك (٤).

وخامسها في ذكر طرف مما جاء في الكسب الحرام قال الله سبحانه : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة : ٤٢]. وعن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «كسب المغنّية سحت ، وكسب الزّانية سحت ، وكسب المغنّي سحت ، وحقّ على الله أن لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت» (٥). وعن ابن عباس : لا يقبل (٦) الله صلاة امرئ ، في جوفه حرام. وعن النبي

__________________

(١) في (ب) و (ج) : إلى يد المغصوب منه.

(٢) في (ب) : لأنه.

(٣) في (ب) في ما.

(٤) ذهبوا إلى أن ما جازه العاصي وقبضه فهو مغتصب له ؛ لأن الله لم يأذن له في تناول شيء من رزقه. والظاهر أنه لا فرق بين حلال وحرام فالمهم أن يملكه العاصي وردوا عليهم بإجماع الأمة على أن العاصي يملك ما كسبه من الحلال وأنه يحرم اغتصابه إلا بحق. ينظر عدة الأكياس ج ١ ص ٣١٢.

(٥) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٤٠٠. وكنز العمال ١٥ / ٢٢٦ رقم ٤٠٦٨٩.

(٦) في (ب) و (ج) : أنه قال : لا يقبل.

٢٧٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من اكتسب مالا من حرام لم يقبل الله منه صدقة ، ولا عتاقا ، ولا حجّا ، ولا اعتمارا ، وكتب الله له بقدر ذلك أوزارا ، وما بقي منه بعد موته كان زاده إلى النّار» (١). وعن ابن عمر أنه قال : لو أن رجلا كانت له تسعة دراهم من حلال فضمّ إليها درهما من حرام ؛ فاشترى بها ثوبا ، لم يقبل الله منه فيه صلاة. فقيل له : سمعت (٢) هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : سمعته من رسول الله ثلاث مرات (٣). وفي بعض الأخبار أنه قال : صمّت أذناي إن لم أكن سمعته من رسول الله ثلاث مرات إلى غير ذلك من الأخبار ؛ فإنّ باب ذلك واسع وفيما ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره

فصل في الألطاف التي من أفعال العباد

وهي على ضربين : أحدهما يعلمون بعقولهم أنّها ألطاف لهم جارية مجرى دفع الضرر عن النفس ، وهذا كالعلم بالله تعالى وصفاته وعدله وما يتفرع على ذلك من مسائل أصول الدين على ما تقدم بيانه في أول هذا (٤) الكتاب. والضرب الثاني : لا يعلمون بعقولهم كونه لطفا لهم ، بل إنّما يعلمون ذلك من قبل الشرع فيجب أن يعرفوا صدق الأنبياء (ع) حتى يعلموا ما يؤدّونه إليهم من ألطافهم.

__________________

(١) نظام الفوائد (خ). وإتحاف السادة المتقين (٦ : ١٠) ، والمغني عن حمل الأسفار للعراقي (٢ : ٩١) بلفظ مقارب كما في موسوعة أطراف الحديث.

(٢) في (ب) : أسمعت.

(٣) شرح التجريد ١ / ١٣٦ ، مسألة الصلاة في المغصوب. والاعتصام ١ / ٣٥٠ نقلا عنه.

(٤) في (ب) بحذف هذا.

٢٧٤

فصل : في جواز نسخ الشرائع ، ووقوعه

والكلام فيه يقع في موضعين : أحدهما في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثلاني في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالف.

أما الموضع الأول : فذهب أهل الإسلام كافة إلى جواز نسخ الشرائع. والخلاف في ذلك مع اليهود. وذهب قوم ممن يعتزي إلى الإسلام إلى أن النسخ في شريعتنا لا يجوز (١). وقال بجوازه في الشرائع المتقدمة ووقوعه.

وأما الموضع الثاني : وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالف : فالذي يدل على ذلك وجهان : أحدهما أن النسخ في الشرائع قد وقع. والوقوع فرع علي الجواز. وإنما قلنا : بأن النسخ في الشرائع قد وقع ، لما نعلمه أنه كان في شريعة آدم عليه‌السلام جواز تزويج الأخ لأخته التي لم تولد معه. وكان في شريعة يعقوب عليه‌السلام جواز الجمع بين الأختين ، ثم صار ذلك محرما في شريعة موسى عليه‌السلام.

وروي في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه‌السلام عند خروجه من الفلك : إني قد جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم ، كتبات العشب ، ما خلا الدم فلا تأكلوه. وقال الله تعالى في قصة عيسى عليه‌السلام حكاية عن عيسى (٢) : (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) [آل عمران : ٥٠] ، فدل جميع ذلك على وقوع النسخ في الشرائع المتقدمة (٣). فأما في شريعتنا

__________________

(١) وهم غلاة الإمامية والتناسخية كما في معيار العقول ص ٤٢٩. المعتمد عند الإمامية أن نسخ القرآن بالقرآن جائز ونسخ القرآن بالسنة القطعية جائز. ينظر مجمع البيان ج ١ ص ٣٤٢. وأصول الفقه للشيخ محمد آل المظفر ص ٣٢٢.

(٢) في (ب) حكاية عن عيسى محذوفة.

(٣) قال في منهاج الوصول إلى معيار العقول ص ٤٢٩ : والإجماع منعقد على جواز النسخ الذي هو رفع الأحكام بعد ثبوتها ، إلا ما روي عن جماعة شذوا ، وأظن أكثرهم =

٢٧٥

فالمخالف في ذلك دافع للضرورة ، لأنا نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوجه في أول الإسلام إلى بيت المقدس مستقبلا له في صلاته هو ومن قد آمن به ، وأمرهم الله تعالى بذلك ثم نسخه بقوله تعالى : (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة : ١٤٤]. ونحو نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول في قوله : (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر) [المجادلة : ١٢]. ثم نسخها بقوله تعالى : (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم * ءأفقتهم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [المجادلة : ١٢ ـ ١٣] ونحو نسخ إمساك النساء الزواني في البيوت في قوله : (فأمسكوهن في البيوت) [النساء : ١٥] ، نسخ الله ذلك بآية الجلد. ونحو نسخ عدة المتوفى عنها زوجها في قوله : (متاعا إلى الحول) [البقرة : ٢٤٠] ، نسخ ذلك بقوله : (يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) [البقرة : ٢٣٤] ، إلى غير ذلك. وهذا كله في القران ، وهو معلوم بالاضطرار.

وإنما قلنا : بأن الوقوع فرع على الجواز ، لأنه لو لم يكن جائزا لكان قبيحا ، ولو كان قبيحا لما فعله الحكيم سبحانه ، لما ثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح فلا يبق إلا أن يكون جائزا وحسنا.

__________________

من الرافضة ، فإنهم منعوا من جواز أن يأمر الله بشيء ثم ينهى عنه ، أو يحرمه ثم يبيحه. قلت : ولقد وقفت في بعض التفاسير على رواية جعفر بن محمد عليه السلام أنه نفى أن يكون نكاح الأخت جائزا في شريعة آدم ، قال : ولكن الله أنزل لابن آدم حورا ينكحها فجازات ابنتها لابن أخيه من حوى أخرى ، ثم تناسلوا بعد ذلك لا عن نكاح الأخوات ، وهذه الرواية إن صحت تدل على أن جعفر كان ممن يمنع النسخ في الشرائع ، لكنها رواية مغمورة غير ظاهرة إلا في الباطنية ، وإن صحت فلعل خلافه في الوقوع دون الجواز كما هو رأي أبي مسلم بن يحيى الأصفهاني ، وهو معتزلي العقيدة.

٢٧٦

الوجه الثاني أن الشرائع مصالح. والمصالح (١) يجوز اختلافها في الأزمنة والأمكنة وأعيان المكلفين ، وإذا جاز اختلافها جاز ورود النسخ عليها.

وإنما قلنا : بأنها مصالح ، لأنها لو لم تكن مصالح لما حسنت ولا وجبت ، ولا حسن من الله تكليفنا إباها.

وإنما قلنا : بأن المصالحك يجوز اختلافها في الأزمنة والأمكنة وأعيان المكلفين لما نعلمه في الشاهد أن الطبيب العارف بالطب قد يأمر المريض بأن يستعمل في وقت ومكان ما ينهاه عن استعمال مثله في وقت آخر ، ومكان آخر ، ويأمره في وقت ومكان بأن يستعمل من الأدوية ما ينهى غيره من المرضى والأععلاء عن استعماله في ذلك الوقت ، وفي ذلك المكان. والأمر في ذلك ظاهر.

وإنما قلنا بأنه إذا جاز اختلافها جاز ورود النسخ عليها ، لأنا لا نعني بجواز ورود النسخ عليها إلا ذلك ، لأن التعبد بالشرائع فرع على ثبوت المصلحة فمتى اختلفت المصلحة جاز اختلاف التعبد وهذا واضح. وقد أكد الشرع ذلك فيما رويناه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال عن الله تعالى : إنه سبحانه يقول : «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. إني أدبر أمر عبادي لعلمي بقلوبهم. إني عليم خبير» (٢). فثبت أن ذلك تابع للمصلحة.

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : بحذف «والمصالح».

(٢) أخرجه في تهذيب تاريخ دمشق ٢ / ٢٤٨ ، كما ذكره في موسوعة أطراف الأحاديث النبوية ص ٤٣٨. والأولياء لابن أبي الدينا ص ٢٨ ، ومجمع الزوائد ٢ / ٢٤٨ ، وعزاه إلى الطبراني في الكبير.

٢٧٧

مسألة في النبوءات والكلام فيها يقع في سبعة مواضع :

أحدها في معنى قولنا : رسول الله ونبيّ الله. وثانيها في حسن إرسال الله تعالى للرسل. وثالثها في بيان صفة المرسل. ورابعها هو الكلام في المعجز الدال على نبوة الأنبياء (ع). وخامسها هو الكلام في نبوة نبينا محمد المختار وغيره من الأنبياء (ع). وسادسها في ذكر نبذة من الأخبار الدالة على كون نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأنبياء (ع) وأكرمهم على الله تعالى. وسابعها في جواز نسخ الشرائع.

أما الموضع الأول وهو في معنى قولنا : رسول الله ، ونبيّ الله :

فالرسول : يفيد في أصل اللغة أن مرسلا أرسله إلى غيره (١) برسالة قد تحملها وقام بقبولها وأدائها. وفي عرف الشرع لا فرق بين قولنا : رسول الله وبين الرسول مطلقا. وهو المتحمل للرسالة عن الله بغير واسطة آدمي.

وقولنا : نبي الله بغير همز لفظة نبيّ يفيد الرّفعة لما شهد له اللغة في النّباوة التي يراد بها الرفعة. فإذا قلنا : نبيّ الله بغير همز أفاد كونه عظيم المنزلة عند الله تعالى لما تحمّل عن الله تعالى من الرسالة بغير واسطة آدمي. وإذا همزت لفظة نبيء كانت من الإنباء وهو الإخبار ، ولا يفيد الرفعة بنفسه ، بل لا بد من واسطة وهو أن يكون الله تعالى قد أخبره بمصالح أمته لا بواسطة آدمي ، ولا يخبره بذلك إلا على طريق إرساله إليهم فيستحق الرفعة لذلك ؛ فلهذا المعنى صار معنى الرسول والنبي في الشريعة واحدا. وقد أجراهما الله تعالى في كتابه مجرى واحدا فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ). وقال : (يا أَيُّهَا

__________________

(١) في (ب) : أنه مرسل ، والتغير واضح على اللفظة.

٢٧٨

الرَّسُولُ). وكذلك معنى النبوة والرسالة قد (١) صار في الشرع واحدا.

وأما الموضع الثاني وهو في حسن إرسال الله تعالى للرسل

فإنا نعتقد كون ذلك حسنا ، والذي يدل على ذلك أن العقل يجوّز أن يكون فيه فائدة ، وأن يتعرّى عن سائر وجوه القبح ، وكلّ ما هذا حاله فإن العقل يجوّز حسنه. وتحقيق هذه الدلالة أنها مبنية على أصلين : أحدهما : أن العقل يجوّز أن يكون في إرسال الله تعالى للرسل فائدة ، وأن يتعرّى عن سائر وجوه القبح. والثاني : أن كل ما هذه حاله فإن العقل يجوّز حسنه.

أما الأصل الأول : فالذي يدل عليه إمّا أنه يجوز أن يكون فيه فائدة ؛ فلأنه يجوز أن يكون مصلحة للمكلفين بأن يحثّهم على ما في عقولهم فيكونون مع ذلك أقرب إلى الإتيان بذلك ، كما ثبت أنّ لأمر الزهاد ووعظ الوعاظ هذه المزية مع تجويز الخطأ عليهم ، فكيف بمن يظهر عليهم المعجز. وهذه فائدة عظيمة كافية في ذلك. ثم نقول : وفيه فائدة أخرى وهي : أن يرد الوعيد على سبيل القطع فيكون المكلفون مع ذلك أقرب إلى الانزجار عن القبائح العقلية ويصرفهم عن فعل القبائح العقلية التي لم يبلغ العقل إلى معرفة تفصيلها ، كما أن الطبيب العارف يعرّف المريض من المصالح النافعة له ما لم يكن يعرف بعقله تفصيله. وإذا جاز أن يخفى على بعضنا من المصالح النافعة ما لم يعرفه (٢) البعض الآخر ـ جاز أن يخفى علينا منّ مصالحنا ما يعلمه علام الغيوب ، وإذا جاز ذلك جاز أن يبيّنه تعالى لنا على ألسنة الرسل. وإمّا أنه ليس فيه وجه من وجوه القبح ؛ فلأنّ وجوه القبح محصورة ، والعقل يقطع على انتفاء

__________________

(١) في (ب) : فقد.

(٢) في (ب) : يعرف. وقال في الهامش : الأولى ما لم يخف على البعض وذلك ظاهر.

٢٧٩

كثير منها عن إرسال الرّسل. ولا سبيل للمخالف إلى القطع على واحد (١) منها في ذلك. فهذا هو الأصل الأول.

وأما الأصل الثاني : وهو أنّ كلما هذه حاله فإنّ العقل يجوّز حسنه. فالذي يدل على ذلك ما قدمنا من أنّ الحسن هو ما كانت فيه فائدة ، وتعرّى (٢) عن سائر وجوه القبح.

وأما الموضع الثالث ـ وهو في صفة المرسل :

فالمرسل يجب أن يكون من جنس من أرسل إليهم. وقد نبّه الله تعالى على ذلك بقوله : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥]. ويجب أن يكون في غاية الكمال من العقل والتمييز وحسن الرأي ، وأن لا يكون على صورة منفّرة (٣) ، نحو صورة القردة والخنازير ، ولا يجوز أن يكون أجذم ، ولا أبرص ، ولا أن يكون به سلس البول ، ونحو ذلك مما تقع النّفرة عنه لأجله. ويجوز أن يكون صغير السّن إذا كان كامل العقل نحو عيسى ويحيى (ع).

ويجوز أن يكون أعمى أو أصم (٤) ما لم يتعلق أداء الشريعة بهما. فهذا ما يتعلق من الأوصاف بالخلقة ، ولا يظهر خلاف بين العلماء في اشتراطها. ومن الأوصاف ما يتعلق بشرعه. والذي يجب أن ينفى عنه في ذلك الكتمان ، والنسيان ، والزيادة ، والنقصان ، والخطأ في ذلك ، والتغيير ، والتبديل ، وترك الصبر على العوارض دون الأداء ، وما أشبه ذلك.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : على حصول واحد.

(٢) في (ب) و (ج) : ويعرى.

(٣) في (ب) : منفردة ، وصوّبها في الهامش على ما في الأصل.

(٤) في (ب) : أعمى وأصم. والظاهر ما في الأصل.

٢٨٠