ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

لكرامتهم على الله عزوجل» (١). وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «خلقنا من شجرة واحدة : أنا أصلها ، وفاطمة فرعها ، وأنت لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها (٢) ، وشيعتنا ورقها. يا عليّ لو أنّ رجلا عبد الله عزوجل ألف سنة حتى صار كالأوتار من صومه ، وكالحنايا من صلاته ، ثم لقي الله وفي قلبه مثقال ذرة من بغضك لكبّه الله على منخريه في النّار» (٣). فقال في ذلك الشاعر (٤) :

يا حبذا دوحة في الخلد نابتة

ما مثلها نبتت في الأرض من شجر (٥)

المصطفى أصلها والفرع فاطمة

ثمّ اللّقاح عليّ سيّد البشر

والهاشميان سبطاه لها ثمر

والشيعة الورق الملتفّ بالشّجر

هذا مقال (٦) رسول الله جاء به

أهل الرواية في العالي من الخبر

إني بحبّهم أرجو النجاة غدا

والفوز مع زمرة من أفضل الزّمر

وعن جعفر الصادق عليه‌السلام قال : نزل قوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (٧) [الشعراء : ١٠٠] فينا. وفي شيعتنا ، وذلك أنّ الله تعالى يفضّلنا وشيعتنا حتى إنا لنشفع ويشفعون ، فإذا رأى ذلك من ليس منهم قالوا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ).

__________________

(١) شمس الأخبار ١ / ١٤٤.

(٢) في (ب) : ثمارها.

(٣) أخرجه الكنجي في الكفاية ص ٤٢٥. والحاكم ٣ / ١٦٠ ، وان استنكر متنه فقد صحح إسناده ، وأما شذوذ متنه ، فلأنه ذكر فيه فضائل الخمسة صلوات الله عليهم وشيعتهم لكن نكتفي ونقول حسبنا الله ونعم الوكيل. وذخائر العقبى ص ١٦.

(٤) هو أبو يعقوب الطبراني. الحدائق الوردية ١١ / ١٦.

(٥) ما في الجنان لها شبه من الشجر. الكفاية ص ٤٦٢.

(٦) حديث الكفاية ص ٤٦٢.

(٧) تنبيه الغافلين ١٧٤.

٤٨١

وروى الناصر للحق الحسن بن علي (ع) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «يدخل الجنة من أمّتي سبعون ألفا لا حساب عليهم» ، ثم التفت إلى علي فقال : «هم شيعتك وأنت إمامهم» (١).

وقيل في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفتح : ٧] إنّهم الزيدية (٢). وعن الصادق بن الباقر (ع) أنه قال : «كلّ راية في غير الزيدية فهي راية ضلال». وعن إبراهيم بن عبد الله (ع) أنه قال : لو نزلت راية من السماء لم تنزل إلا في الزيدية» (٣).

أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه وعقيدته

كان ممن يعتقد وجوب محبّة أهل البيت (ع) ، ووجوب نصرتهم ، ومعاونتهم ، وتحريم عداوتهم وبغضهم وكراهتهم (٤).

ولمّا قام زيد بن عليّ (ع) اعتذر إليه في القيام معه بأعذار حقّق بعضها ، وأعذار أجملها وكتمها ، فمن جملة ما اعتذر به ودائع كانت عنده للنّاس ، ثم أعانه بمال اختلف في كمّيته فقيل : هو ألف دينار.

__________________

(١) الكوفي في المناقب ٢ / ٢٨٥. والمناقب لابن المغازلي ١٨٤ رقم ٣٣٦ ، وتنبيه الغافلين ١٧٤.

(٢) في هامش (ب) : جنود السماء الملائكة ، وجنود الأرض الزيدية. الشافي ٢ / ١٢٠ ، وسلوة العارفين ٥٤٤.

(٣) ذكره في الاعتبار وسلوة العارفين ٥٤٤ ، والشافي لجعفر بن محمد (ع) ١ / ١٧٨. و ٢ / ١٢٠.

(٤) روى أبو الفرج في المقاتل ص ١٤٠ إن محمد بن جعفر بن محمد قال في أبي حنيفة : رحم الله أبا حنيفة لقد تحققت مودّته لنا في نصرته زيد بن علي.

٤٨٢

ولمّا قام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) كتب إليه أبو حنيفة كتابا من جملته قوله أما بعد : فإذا أظهرك الله على آل عيسى بن موسى فسر فيهم بسيرة (١) أبيك في أهل صفين ، فإنه قتل المدبر ، وأجهز على الجريح (٢) ، ولا تسر بسيرته في أهل الجمل فإنه لم يقتل المدبر ، ولم يجهز على الجريح. فوجد الكتاب فكتمه أبو جعفر الدوانيقي الملقّب بالمنصور حتى انقضت حروب إبراهيم عليه‌السلام ، وسكن النّاس ، ثم أشخصه إلى بغداد. فسقي شربة مات منها [سنة ١٥٠ ه‍] (٣) ، فهو شهيد في حبّنا أهل البيت ودفن في بغداد [رحمه‌الله].

وقام عليه رجل (٤) فقال : يا أبا حنيفة ما اتّقيت الله في فتواك أخي بالخروج (٥) مع إبراهيم بن عبد الله فقتل؟ فقال أبو حنيفة مجيبا له : قتل أخيك مع إبراهيم خير له من الحياة ، قال : فما منعك أنت من الخروج؟ قال : ودائع للناس عندي (٦). وسأله رجل (٧) تلك الأيام عن الحج ، أو الخروج إلى

__________________

(١) في (ب) : سيرة.

(٢) المقاتل ص ٣٦٧ ، والإفادة ص ٨٤.

(٣) المقاتل ص ٣٦٧ ـ ٣٦٨. قال الزمخشري ١ / ١٨٤ في تفسير قوله تعالى : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، وكان أبو حنيفة رحمه‌الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل ، فقال : ليتني مكان ابنك ، وكان يقول في المنصور وأشباهه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وذكر صاحب مرآة الجنان أنه مات في السجن مسموما سنة ١٥٠ ه‍.

(٤) هو أبو إسحاق الفزاري ، واسمه إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن حارثة.

(٥) في بقية النسخ : للخروج.

(٦) مقاتل الطالبيين ص ٣٦٤. والإفادة ص ٨٦.

٤٨٣

إبراهيم عليه‌السلام؟ فقال : غزوة خير من خمسين حجة.

وممّن خرج مع إبراهيم عليه‌السلام طبقات أصحاب الحديث في عصرهم : شعبة ابن الحجاج (١) ، وهشيم بن بشير (٢) ، وعبّاد بن العوّام (٣) ، ويزيد بن هارون (٤) ، إلى غيرهم (٥). فالغرض الاختصار. وسئل شعبة عن

__________________

(٧) هو إبراهيم بن سويد الحنفي. ينظر المقاتل ص ٣٧٩.

(١) شعبة بن الحجاج ولد سنة ٨٠ ه‍ ، وقيل : ٨٢ ه‍. كان من سادات أهل زمانه حفظا وإتقانا وورعا ، كان الثوري يقول عنه : أمير المؤمنين في الحديث ، وقال الشافعي : لو لا شعبة ما عرف الحديث ، وقال الأصمعي : لم نر أحدا أعلم بالشعر منه ، خرج مع إبراهيم بن عبد الله وروى أبو الفرج عن أبي سهل قال : ما زلت أسمع أن شعبة كان يقول في نصرة إبراهيم بن عبد الله للناس إذا سألوه : ما يقعدكم؟ هي بدر الصغرى. ينظر تهذيب الكمال ١٢ / ٤٧٩. وسير أعلام النبلاء ١٢ / ٢٠٢. والمقاتل ص ٣٦٥. والفلك الدوار ص ٦١٥.

(٢) هشيم بن بشير : محدث بغداد وحافظها ، ولد سنة ١٠٤ ه‍ ، سكن بغداد ، ونشر بها العلم ، وصنّف التصانيف. قتل أخوه وابنه في الجيش الذي كان يقاتل فيه مع إبراهيم ابن عبد الله كما ذكره صاحب المقاتل ص ٣٦٥. توفي سنة ١٨٣ ه‍. ينظر تذكرة الحفاظ ١ / ٢٤٩. سير أعلام النبلاء ٨ / ٢٨٧.

(٣) عباد بن العوام الواسطي : كان من الأعلام ، حبسه الرشيد على التشيع ثم خلى عنه ، ثقة ، قال الذهبي : أظنه خرج مع إبراهيم لذلك سجنه ، نعم إن ذلك سبب سجنه فهو أحد قوّاده ، كما ذكره أبو الفرج الأصفهاني ص ٣٦٤ ، وقد هدم الرشيد داره ومنعه من الحديث ، وروي أبو الفرج في المقاتل ص ٣٦٢ عن رحمويه ، قال المهدي لابن علاثة : أبغي قاضيا لمدينة الوضاح ، قال : قد أصبته ، عباد بن العوام ، فقال له : وكيف مع ما في قلوبنا عليه. توفي سنة ١٨٥ ه‍. ينظر تذكرة الحفاظ ١ / ٢٦١. وسير أعلام النبلاء ٨ / ٥١١. وطبقات ابن سعد ٧ / ٣٣٠. والفلك الدوّار ص ٣٦٢.

(٤) يزيد بن هارون ، كان ثقة ، كثير الحديث ، ولد سنة ١١٨ ه‍. وتوفي سنة ٢٠٦ ه‍. وكان ممن خرج مع إبراهيم بن عبد الله كما ذكره صاحب المقاتل ص ٢٦٤ ، وطبقات ابن سعد ٧ / ٣١٤. وسير أعلام النبلاء ٩ / ٣٥٨.

(٥) ذكر هؤلاء أبو الفرج ص ٣٧٧. والفلك الدوار ص ١١٥.

٤٨٤

الخروج مع إبراهيم والقيام معه. قال : سألوني عن إبراهيم صلوات الله عليه وعن القيام معه والله لهي بدر الصغرى (١). وقال شعبة ـ لمّا جاء العلم بقتل إبراهيم ـ : لقد بكى أهل السماء على قتل إبراهيم ، إن كان من الدّين لبمكان.

مالك بن أنس رحمة الله عليه وعقيدته

جرى على هذا الحال ، ونسج على هذا المنوال ، فإنه كان يعتقد مثل ما تقدّم ، وكان يدين به. ولمّا قام محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه‌السلام حثّ على نصرته ، وقضى بوجوبها ، وأتاه قوم ممن قد بايع أبا جعفر الملقب بالمنصور وهو أبو الدوانيق ، فسألوه عن بيعتهم له ـ يرومون الاعتذار بالبيعة عن القيام مع محمد عليه‌السلام ، فقالوا له : إنّ في رقابنا لأبي جعفر يمينا ، وقد قام محمد بن عبد الله فما ترى؟ قال : انفروا إليه ، وليس على مكره يمين (٢).

وهكذا محمد بن إدريس الشافعي المطّلبي رحمه‌الله وعقيدته

كان من أوليائنا وهو داعية الإمام يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣). وكان يقول بفضل أهل البيت ، ويعترف به ،

__________________

(١) المقاتل ص ٣٦٥. والفلك الدوار ص ١١٥.

(٢) المقاتل ص ٢٨٣. والطبري ٧ / ٥٦٠. وأما الإمام مالك فقد خلع كتفه أمير الحرمين جعفر بن سليمان عم الخليفة المنصور العباسي بعد أن ضربه بالسياط كما بينه صاحب مرآة الجنان ؛ لأنه كان يروم قلب الخلافة العباسية عند ما أفتى بعدم صحة بيعة المنصور لأنها كانت عن إكراه ، وبايع محمد بن عبد الله بن الحسن بالخلافة وكان من أعوانه. ينظر سر انحلال الأمة العربية ووهن المسلمين لمحمد سعيد العرفي ص ١٢١.

(٣) الحدائق الوردية ١ / ١٨٢. والتحف شرح الزلف ص ١٣٠.

٤٨٥

ويعرّف به ، ويعتقد وجوب مودتهم ، وتحريم عداوتهم. وهو القائل :

إن شئت تمدح قوما

لله لا لتعلّه

فاقصد بمدحك قوما

هم الهداة الأدلّة

أخبارهم عن أبيهم

عن جبرئيل عن الله

وهو القائل أيضا شعرا :

يا راكبا قف بالمحصّب من منّي

واهتف بواقف خيفها والنّاهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منّى

سيلا كملتطم الفرات الفائض

قف ثم ناد بأنّني لمحمّد

ووصيّه وابنيه لست بباغض

إن كان رفضا حبّ آل محمّد

فليشهد الثّقلان أنّي رافضي (١)

وهذا مما يدل على حسن اعتقاده ، وأنه مباين لطرائق كثير ممن ينتسب إليه في هذا الزمان ؛ لأنّ عندهم ، أو عند أكثرهم من البغضة (٢) لأهل بيت النبوة (ع) ما لا يخفى على من عرفهم واختبر أحوالهم ، بل قد تعدى الأمر حتى صاروا يبغضون كلّ من انتسب إليهم ، وعرف بأنه شيعي من شيعتهم ، وصار هذا الاسم معدودا عندهم من جملة الشتم ، والذّكر القبيح ؛ فيدخلون ببغضهم تحت ما ورد به الخبر عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رويناه عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديا». قلت : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال : «وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم» (٣). إنما احتجز بذلك من سفك دمه ، وأن

__________________

(١) أنظر ديوانه ص ٥٥. ومناقب الشافعي ٢ / ٧١.

(٢) في (ب) ، (ج) : البغاضة.

(٣) أخرجه الإمام الناصر في البساط ص ٩٨. وسبق تخريجه.

٤٨٦

يعطي الجزية عن يد وهو صاغر. وقد علمنا أيها المسترشد أن الجزية لا يعطيها عن يد وهو صاغر إلا أهل الذمة والعهد من الكافرين. إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين ؛ ولكن لا تبصرها أفئدة العمين ، وما يعقلها إلا العالمون (١).

مسألة : ونعتقد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

متى تكاملت شرائطهما. والكلام فيهما يقع في أربعة فصول :

أحدها في معاني هذه الألفاظ التي هي الأمر ، والمعروف ، والنهي ، والمنكر ؛ لأنه لا يحسن أن نتكلم (٢) في أحكام أمر ولمّا نعلم (٣) ذلك الأمر.

فالأمر : هو قول القائل لغيره افعل ، أو ليفعل ، أو ما يجري مجراهما على جهة الاستعلاء دون الخضوع ، مع كون المورد للصيغة مريدا لحدوث المأمور به على ما هو مذكور في غير هذا الموضع. والمعروف : هو كلّ فعل عرف فاعله ، أو دل على أن لفعله مدخلا في استحقاق المدح. والنّهي : هو قول القائل لغيره : لا تفعل ، أو لا يفعل ، أو ما يجري (٤) مجراهما على جهة الاستعلاء دون الخضوع ، مع كون المورد للصيغة كارها للمنهي عنه. والمنكر : هو كلّ فعل عرف فاعله ، أو دلّ على أنّ لفعله مدخلا في استحقاق الذم ، على ما هو مفصّل في غير هذا الموضع (٥).

__________________

(١) يوجد من الشافعية وغيرهم كثير من أهل الإنصاف.

(٢) في (ب) : يتكلّم.

(٣) في (ب) : يعلم.

(٤) في (ب) : وما يجري.

(٥) في أصول الفقه.

٤٨٧

والفصل الثاني : في حكمهما

واعلم أيها المسترشد أنهما واجبان متى تكاملت شرائطهما ، والذي يدل على وجوبهما الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران : ١٠٤]. وقوله عزّ قائلا : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ* تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) [المائدة : ٧٨ ـ ٨٠]. فبين سبحانه أنّ من جملة ما لعنهم به تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة : فكثير نحو ما أخبرني به والدي وسيدي بدر الدين عماد الإسلام رضى الله عنه (١) بالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يحلّ لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيّر ، أو تنتقل» (٢). وفي السماع المتصل بالمنصور بالله عليه‌السلام : «حتى تغيّر أو تنصرف» (٣). ونحو ما رويناه إلى زيد بن علي عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا قدّست أمّة لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ، ولا تأخذ على يد ظالم ، ولا تعين المحسن ، ولا تردّ المسيء

__________________

(١) هو الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى (ع).

(٢) الأحكام ٢ / ٥٤٠. ورأب الصدع ٣ / ١٥٨٩.

(٣) درر الأحاديث النبوية ص ٣٦.

٤٨٨

عن إساءته» (١). ونحو ما رويناه عن الحاكم رحمه‌الله يرفعه بإسناده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه إنّي معذّب من أمّتك مائة ألف : أربعين ألفا من شرارهم ، وستين ألفا من خيارهم. قال يا رب : هؤلاء الأشرار ، فما بال الأخيار؟ قال : داهنوا أهل المعاصي ، ولم يغضبوا لغضبي» (٢). ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم فيقتلونكم فلا يبقى أحد يأمر بمعروف ، ولا ينهى عن منكر ، ثم لتدعنّ الله فيمقتكم» (٣). وفي الحديث : «المستمع أحد المغتابين» (٤). وإنما كان كذلك لتركه لإنكار الغيبة على قائلها.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، هم أعزّ وأكثر ممن يعمله ولا يغيّرونه إلا عمّهم الله بعقابه» (٥). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «سيكون أمراء يملكون رقابكم ، يحدّثونكم فيكذبونكم ، ويعملون فيسيئون ، ولا يرضون عنكم حتى تحسّنوا قبيحهم ، وتصدّقوا كذبهم. فأعطوهم الحقّ ما رضوا به ، فإذا تجاوزوه إليكم فقاتلوهم ، فمن قتل على ذلك فهو شهيد».

__________________

(١) المجموع ص ٤٢٠.

(٢) أمالي أبي طالب ٢١٤. والمرشد بالله ١ / ٣٥ ، أوحى الله إلى يوشع بن نون (ع) أني مهلك من قومك مائة ألفا وأربعين ألفا من شرارهم فما بال خيارهم؟ قال : إنهم يؤاكلونهم ويشاربونهم لا يغضبون لغضبي ، ولا يرضون لرضاي.

(٣) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ٣٥. وأبو طالب في أماليه ص ٢٩٣. والطبراني في الأوسط ٢ / ٩٩ رقم ٣١٧٩ بلفظ : أو ليسلطن الله عليكم .. إلخ. ودرر الأحاديث ص ١١٠ باختلاف يسير.

(٤) الزبيدي في اتحاف السادة المتقين ٧ / ٥٤٣. وتهذيب ابن عساكر ٣ / ١٤٣ كما في أطراف الحديث ٨ / ٦٧٢.

(٥) أخرجه أبو طالب ص ٢٩٧. وأحمد بن حنبل برقم ١٩٢٥٠. ١٩٢١٣. ١٩٢٣٦ عن جرير بن عبد الله. وأبو داود ٤ / ٥١١ برقم ٤٣٣٩.

٤٨٩

وعن مالك بن دينار قال : أوحى الله إلى ملائكته : أن أهلكوا قرية كذا. قالوا : يا رب إنّ فيهم فلانا العابد! قال : أسمعوني ضجيجه فيهم ، فإنّ وجهه لم يتغيّر غضبا لمحارمي. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لمقام أحدكم في الدنيا يتكلّم بكلمة يردّ بها باطلا ويحقّ بها حقّا أفضل من هجرة معي» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أفضل الجهاد كلمة حقّ بين يدي سلطان جائر» (٢). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر (٣) ، فهو خليفة الله في الأرض ، وخليفة كتابه ورسوله» (٤). إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما الإجماع فذلك ظاهر لا خلاف في وجوبهما بين المسلمين متى تكاملت شرائطهما.

وأما الفصل الثالث :

فهو في تعيين شرائطهما. وهي خمس شرائط :

أحدها : أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالما بأنّ ما أمر به فهو حسن غير قبيح ، وأنّ ما نهى عنه فإنه قبيح (٥) مختص بوجه من وجوه القبح. فيدخل في ذلك أن يكون المأمور به حسنا والمنهيّ عنه قبيحا ؛ لأنه متى لم يكن

__________________

(١) أخرجه السيوطي في جامع الأحاديث ٥ / ١٠٨ رقم ١٧٤٩٢ ، بلفظ : «لمقام أحدكم في الدنيا يتكلم بحقّ يزيل به باطلا ، أو ينصر به حقا أفضل من هجرة معي».

(٢) المرشد بالله ٢ / ٢٢٨ من حديث : «أي الجهاد أفضل ، قال : كلمة حق عند إمام جائر». والطبراني ٨ / ٢٩٢ رقم ٨٠٨١ بلفظه ، وص ٢٨١ رقم ٨٠٨٠ بلفظ : أحب الجهاد. وابن ماجة ١ / ١٣٢٩ رقم ٤٠١١ بلفظ : أفضل الجهاد كلمة عدل. وأبو داود ٤ / ٥١٤ رقم ٤٣٤٤٤.

(٣) في الأحكام : من ذريتي.

(٤) الأحكام ٢ / ٥٠٥.

(٥) في (ب) : فهو قبيح مختص بوجه.

٤٩٠

كذلك لم يأمن أن يكون آمرا بقبيح ، وناهيا عن حسن وذلك قبيح لا يجوز فعله. وثانيها : أن يعلم أو يغلب على ظنه أنّ لأمره ونهيه تأثيرا ؛ لأنّ الأمر والنهي لا يرادان إلّا لحصول المأمور به ، وامتناع المنهيّ عنه.

وثالثها : أن لا يؤدي الأمر والنهي إلى مثل ما نهي عنه أو أعظم منه من المناكير ؛ لأنّ الأمر والنهي ـ والحال هذه ـ لا يجوزان ؛ لأجل المفسدة التي فيهما ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إلّا في وجه واحد ، وهو أنه إذا غلب على ظنه أنّ أمره ونهيه يؤديان ، أو المفعول من أحدهما إلى قطع عضو من أعضائه ، أو إلى قتله ـ وكان في ذلك إعزاز للدّين ـ هل يكون حسنا مندوبا ، أو قبيحا محظورا؟. من العلماء من ذهب إلى جواز ذلك ـ والحال هذه ـ وعليه دلّت أفعال العترة كالحسين بن علي ، وزيد بن علي ، ومن طابقهما من أهلهما سلام الله عليهم أجمعين. وعلى ذلك يدل سير (١) الصحابة (رض). وإليه ذهب الشيخان أبو عبد الله الحسن البصري ، وأبو الحسن الكرخي (٢).

وأما الشيخ أبو هاشم فجوّز ذلك عند إظهار كلمة الحق عند الظّلمة ، وإظهار الإسلام عند الكفرة دون ما عدا ذلك. والأول هو الأولى عندنا لما تقدم ذكره من أفعال الصحابة (رض) ، وأفعال العترة.

ورابعها : أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه متى لم يأمر بالمعروف الواجب ، أو لم ينه عن المنكر أدّى ذلك إلى تضييع المعروف ووقوع المنكر ؛ لأنه متى لم يعلم ذلك أو يغلب على ظنه لم يكن للأمر ولا للنهي وجه.

__________________

(١) في (ب) : تدل سيرة.

(٢) هو عبد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم ، قيل : إنه ولد سنة ٢٦٠ ه‍ ، وإليه انتهت رئاسة أصحاب أبي حنيفة ، وكان معتزليّا ، كثير العبادة ، صبورا على الفقر والحاجة. توفي في ١٥ شعبان سنة ٣٤٠ ه‍. ينظر طبقات المعتزلة ص ١٣٠. وتاريخ بغداد ١٠ / ٣٥٣. وسير أعلام النبلاء ١٥ / ٤٢٦.

٤٩١

وقلنا : المعروف الواجب ؛ لأن المعروف على ضربين : فرض ، وندب ؛ فالأمر بالفرض فرض متى تكاملت شرائطه ، والأمر بالندب ندب وليس بفرض ؛ لأنّ الأمر به تبع له ، فإذا لم يجب في نفسه فأولى وأحقّ أن لا يجب الأمر به (١).

وأما الفصل الرابع : وهو في مراتبهما

فاعلم أنه يجب أن يبدأ في ذلك بالوعظ والقول الليّن ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الحجرات : ٩] فأمر بالإصلاح أوّلا ؛ ولأن الله تعالى أمر موسى وهارون (ع) أن يبدءا في الأمر لفرعون المدّعي للربوبية بالقول الليّن ، فقال عز قائلا : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦]. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان آمرا بمعروف فليكن أمره ذلك بمعروف» (٢) أي بلطف ولين ، فإن أثّر ذلك وإلا انتقل إلى القول الخشن والوعيد والإغلاظ في الكلام ؛ لقوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم : ٩] ؛ فإن نجع [أي نفع] وإلا انتقل إلى الضرب بالسوط والعصى ، فإن أثّر ذلك وإلا انتقل إلى الضرب بالسيف ؛ لقوله تعالى : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] وإنّما لزم ترتيبهما [أي الأمر والنهي] هذه المراتب ؛ لأن الانتقال إلى الأعلى مع حصول الغرض بدونه يكون عبثا فلا يجوز فعله (٣).

__________________

(١) لم يذكر إلا أربعة شروط فلعل الخامس التكليف. ا ه السيد عبد الرحمن شائم.

(٢) شمس الأخبار ٢ / ١٦٠. وشعب الإيمان ٦ / ٩٩ رقم ٧٦٠٣.

(٣) قال صاحب الأزهار : ولا يخشّن إن كفى اللّين.

٤٩٢

فإن قيل : فهل يجوز جميع ذلك لغير الإمام أو لا (١)؟ ، قلنا : أما النهي عن المنكرات فممّا لا يختصّ به (٢) أئمة المسلمين ، بل يجب ذلك على جميع المؤمنين ، وكافة المسلمين ، على الشرائط المتقدمة ، والمراتب المرتّبة ، وعلى ذلك إجماع المسلمين كافة.

وأما الأمر بالمعروف فلا يجوز الضرب بالسوط والسيف فيه على الإطلاق ، ولو تكاملت شرائطه إلا في زمان الإمام ، فأما الأمر بالمعروف باللسان فهو جائز لغير الإمام ومندوب إليه ، وهو واجب ـ متى تكاملت شرائطه ـ باللسان لعموم المسلمين على ما فصّلنا ذلك في : «الرسالة المفصحة بالبراهين الموضحة».

مسألة : ونعتقد وجوب الموالاة لأولياء الله

وهم المؤمنون ، ووجوب المعاداة لأعداء الله وهم المجرمون ، كفارا كانوا أو فاسقين ، وسواء كانوا من الأباعد أو من الأقربين ، وسأضرب لك مثالا (٣) يكشف عن الحال ، ثم أتبع ذلك بالاحتجاج والاستدلال بمشيئة ذي الجلال. فنقول وبالله التوفيق : إن ملكا من الملوك لو كان له عبدان فأنعم على كل واحد منهما بالعتق وفكّه من ربق الرق ، ثم علّمه الدين ، وهداه إلى الصراط المستبين حتى صار عارفا بفروع الدين وأصوله ، عالما بالإسلام مسموعه ومعقوله ، ثم زوّجه ابنته المؤمنة التقية الرضية المرضية الكاملة خلقا وخلقا ، ثم سلّم له القصور العالية وملّكه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة واللآلي والجواهر ونحو ذلك ، من كل صنف قناطير كثيرة ، وأنعم عليه بصنوف الأموال كلها

__________________

(١) في (ب) بحذف «أولا».

(٢) في (ب) بحذف «به».

(٣) في (ب) : مثلا.

٤٩٣

من المواشي السائمة ، والمراعي الوسيعة ، والبساتين الحسنة الكثيرة ، والخلع والملابس الحسنة ، والزرائع الجيدة على الأنهار الجارية الدائمة ، وجعل له الخدم ، وخوّله النعم ، ومكّنه من كل ما يمكن (١) الإشارة إليه من نعم الدنيا ، ثم إن أحدهما عصى مولاه في كل وجه من الوجوه ، فقال الملك للثاني : إن هذا قد عصاني ، وخرج عن أمري ، وكفر نعمتي ، وأنا أحب منك أن تهجره وتقليه ، وتبعده وتقصيه ، فإن فعلت ذلك خوّلتك نعما أكثر من نعمك هذه بألفي ألف ألف ضعف ، فعند ذلك بادر هذا العبد إلى تقريب العبد العاصي ، وإتحافه وإنصافه ، والإنعام عليه بالأموال الجليلة والنعم الكثيرة معاندة لمولاه ، واتباعا لهواه ، مع استمراره على الالتزام بأوامر سيده كلها ، إلا ما كان منه من موالاته لمن عصى مولاه ، وخروجه في ذلك عن رضاه ـ ما حكم هذين العبدين عند أولي الأحلام والنّهى؟! أليس يشهد جميع العقلاء بأنهما كافران لنعم سيدهما التي ذكرناها ، وأياديه التي وصفناها ، وأن حكمهما قد صار واحدا عند العارفين ، فإذا كان يستقبح من هذا العبد موالاة عدو مولاه الذي أنعم عليه من النعم بما ذكرناه ـ وإنما قبح ذلك لكونه كفرا لنعمة مولاه ـ فكيف بنعم الله تعالى؟ إذ كل النّعم من جهته ، قال (٢) تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] ولا سواء ؛ فإن نعم الله تعالى تمطر على عبيده كلهم ، في كل حركة وسكون ، وجدّ ومجون ، ولا تفارقهم في حال معصية يرتكبونها ، ولا في حال طاعة يفعلونها ، بل لا يقدر العبد على معصية الله إلا بنعمة الله ، ولا يقدر على القيام بما يلزمه من شكر الله إلا بنعمة الله ، فإنه لو لا تعريفه للعبد كيفية

__________________

(١) في (ب) : تمكن ويمكن بالتاء والياء.

(٢) في (ب) : قال الله.

٤٩٤

الشكر ، وإقداره له (١) على الاعتراف بنعمه (٢) ـ لما ذكر الله تعالى ذاكر ، ولا شكره شاكر. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤]. وعلى الجملة أيها المسترشد فانظر في نفسك فما (٣) لا تستحسن لعبدك من مخالطة عدوك ـ فلا تستحسنها لعدو مولاك تبارك وتعالى ، فإنك لا تستحسن من عبدك (٤) مخالطة عدوك بالمناصرة ، والمعاضدة ، والملاينة ، والمساعدة ، والموادة ، والمشاورة ، والمعاونة ، والمظاهرة ، والمصاحبة ، والمجاورة ، ونحو ذلك. ثم أقلّ حقوق الله سبحانه وتعالى عليك أن تنزّله منزلة نفسك ، وتنزل نفسك فيما يحلّ لها من عدو الله منزلة عبدك فيما تستحسنه له في عقلك من عدوك ، ولا سواء ، فإن لله المثل الأعلى ، وهو أجل وأعلى ، ونعمه عليك لا تحصى. وأما ما وعدناه من إيضاح الدلالة فهذا حين إيضاح السبيل وإقامة الدليل. فنقول وبالله التوفيق : دلّ على وجوب موالاة أولياء الله ، ووجوب عداوة أعداء الله الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب : فقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) الآية [المجادلة : ٢٢]. وقال عز قائلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] وإنما أراد بذلك مكاتبتهم بسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) بحذف «له» من (ب).

(٢) في (ب) : بنعمة الله.

(٣) في (ب) : فيما ، وفي الهامش : فكما.

(٤) في (ب) : وتعالى علوا كبيرا ، فإنك لا تستحسن لعبدك.

٤٩٥

وقصة حاطب بن أبي بلتعة ظاهرة (١) والغرض الاختصار وقال الله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) [النساء : ١٤٤]. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم : ٩]. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣]. ونظائر ذلك في القرآن كثير ، ثم حكم الله سبحانه بأنّ حكم من والاهم كحكمهم (٢) فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٥١].

وأما السنة : فكثير ، نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر : «أتدري أيّ عرى الإسلام أوثق؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحبّ في الله ، والبغض في الله» (٣). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لو أنّ عبدا قام ليله

__________________

(١) فقد كتب لأهل مكة يخبرهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد غزوهم ، فأعلم الله نبيه بذلك فأرسل عليا والمقداد والزبير وعمارا وطلحة وأبا مرتد إلى روضة خاخ ، فوجدوا ظعينة معها كتاب حاطب ، وقد أخفته بين شعر رأسها ، وقد كانت أنكرته لو لا أن عليّا تهددها قائلا : والله لنكشفنك ، فو الله ما كذبنا ولا كذبنا. فطلب حاطب ، واعتذر بأنه ما نافق ، وإنما أراد أن يقدم يدا لمشركي مكة ؛ ليحفظوا له عياله ؛ لأنه لصيق بهم لا عشيرة له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد صدقكم» ، ونزلت الآيات. ينظر أسباب النزول للواحدي ص ٣٤٧.

(٢) في (ب) : حكمهم.

(٣) شمس الأخبار ٢ / ١٦١. والطبراني في الكبير ١٠ / ١٧١ رقم ١٠٣٥٧ ورقم ١٠٥٣١ ص ٢٢٠. وحلية الأولياء ٤ / ١٩٦.

٤٩٦

وصام نهاره وأنفق ماله في سبيل الله علقا علقا (١) وعبد الله بين الركن والمقام حتى يذبح بينهما مظلوما ، لما صعد إلى الله من عمله وزن ذرة حتى يظهر المحبة لأولياء الله والعداوة لأعدائه» (٢).

وقد علمت أيها المسترشد شفقة الوالد على ولده ، وفرط محبته له ، فلما عصى الله تعالى ابن نوح قال له نوح عليه‌السلام : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٢ ـ ٤٣] ، ثم ظن نوح عليه‌السلام أنه ممن وعده الله نجاته ، (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥]. فأجابه الله سبحانه : (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] فعند ذلك تاب نوح عليه‌السلام واعترف واستعاذ بالله عزوجل : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ* قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٧ ـ ٤٨].

وهكذا قد عرفت عظم حرمة الوالد وحقه الذي ألزمه الله تعالى ولده وافترضه عليه فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، وقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤] ولو علم الله أدنى من «أفّ» لذكره ، وقال :

__________________

(١) العلق : النّفس.

(٢) رواه الناصر الأطروش في البساط ص ٦٩.

٤٩٧

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥] ، ولا أقوم بفرض الله ولا أعرف بحق الله تعالى في الآدميين من الأنبياء المرسلين سلام الله عليهم أجمعين.

فكان (١) من قصة آزر ما هو ظاهر ، فإنه كان ينافق إبراهيم عليه‌السلام على ما ذكره بعض المفسرين حتى وعده أنه يستغفر الله له ، فاستغفر الله له سبحانه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرّأ منه ، قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٤] واتّبعه على ذلك أصحابه المؤمنون في التبري من قومهم المجرمين.

وأمرنا (٢) الله تعالى بالتأسي بهم والاقتداء بصنيعهم فقال (٣) عز قائلا : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة : ٤] ، وتوعّد الله على موالاة أعدائه ، فقال عزّ قائلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة : ٢٣] ، وفي اجتماع المؤمنين في العقائد الصحيحة الدينية والأفعال الزكية المرضية جعلهم الله إخوة وأولياء ، فقال عز قائلا : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ، فواخى بذلك بين الملائكة والأنبياء

__________________

(١) في (ب) : وكان.

(٢) في (ب) : فأمرنا.

(٣) في (ب) : قال.

٤٩٨

والصديقين وسائر المؤمنين. وقال سبحانه : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٧١] وهكذا حكم تعالى على المتوافقين في العقائد السقيمة ، والأفعال الذميمة ، بأن بعضهم من بعض فقال : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧] ، وغير ذلك من الآيات كثير.

وأما الإجماع : فذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين ؛ بلى قد سوغ الله سبحانه التّقيّة إذا خشي المؤمن على نفسه ، وكذلك لدعاة الحق ما يقتضي ظاهره الموالاة ؛ لاستدعائهم إلى الدين ، أو التألّف لهم ؛ لنصرة المحقين ؛ وتكثير سواد المتقين ، أو تخذيل المردة الفاسقين على ما بينّا ذلك في «كتاب ثمرة الأفكار في أحكام الكفار». وهذا (١) ثابت في الشاهد ؛ فإنك تستحسن من عبدك ، إذا خشي على نفسه الهلاك من عدوك أن يعامله بالمداراة والمجاورة والموالاة حتى يتخلّص من مكره ، ويستنقذ نفسه من شره ، ثم يظهر له عداوته بعد ذلك ليرضي بها المولى المالك ، وكذلك تستحسن له (٢) موالاة عدوك ومقاربته ومحاورته ومشاورته ليرده إلى طاعتك ، وينظمه في سلك إرادتك ، ويخرجه من عداوتك.

وكذلك تستحسن منه أن يفرّق بين أعدائك بأن يوالي بعضهم ويعادي

__________________

(١) في (ب) : وذلك.

(٢) في (ب) : منه.

٤٩٩

بعضا ، ويحارب ببعضهم بعضا حتى يذلّ أعداؤك كلهم ، ويصير أعزهم قبل ذلك أذلّهم. وكذلك تستحسن منه أن يفرق بين أعدائك المجتمعين على عداوتك ، المحاربين بجمعهم لك ، حتى يخذل بعضهم بعضا فيقف بعضهم عن حربك ، ويفترق جمعهم ، وتشتّت كلمتهم ، ويقلّ عددهم ، فكذلك يحل لك من عدو الله مثل ذلك ، فاسلك هذه المسالك فالأعمال بالنيات ، وأنت تعامل بارئ البريّات ، الّذي يعلم السّرّ وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور ، وهو على ما يشاء قدير.

مسألة :

ونعتقد صدق الله عزوجل في وعده ووعيده

وفي ذلك فصول عدّتها خمسة عشر فصلا :

الفصل الأول : أنه لا بد لكل مخلوق من الحيوان

من الموت والفناء ، وإنه لا بد من فناء العالم كله وهلاكه

أما الموت : فهذا (١) معلوم ضرورة بالمشاهدة فيما حضرنا ، وبالأخبار المتواترة فيما غاب عنّا فيما مضى ، ومنتظر في المستقبل بالأدلة المعلومة قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] ، وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء : ٣٥] ونظائرها في القرآن كثير. وفي شدة الموت ما روي عن الحسن رحمه‌الله أنه قال : الموت أشد من ضرب ألف سيف يقعن جميعا ، وأشد من طبخ في القدور ، وقطع بالمناشير. وعن الحسن : إن الأنبياء

__________________

(١) في (ب) : فهو.

٥٠٠