ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

(قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩] ، وقال : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] ، وقال في وكلاء عذابهم : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] ، وقال : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] ، وقال : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) [غافر : ٤٩]. وقال في عذاب أعضائهم : قال في الجلود : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (١) [النساء : ٥٦] ، وقال في وجوههم : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [الأحزاب : ٦٦] ، وقال في رءوسهم : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٨] ، وفي آنافهم : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم : ١٦]. وقال في جباههم وظهورهم وجنوبهم : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) [التوبة : ٣٥] الآية. وقال في أيديهم : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة : ٣٠ ـ ٣٢] ، وقال في قلوبهم وأفئدتهم : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) [الأنعام : ١١٠] الآية ، وقال في بطونهم : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) [الحج : ٢٠] ، وقال في أمعائهم : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥] ، وقال في أرجلهم : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) [المزمل : ١٢] ، يعني قيودا (٢). وفي القرآن من وصف العذاب ما هو أكبر (٣) من قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] ، ونحو ما تقدم.

__________________

(١) قال في الكشاف ١ / ٥٣٢ : المراد أبدلناهم إياها ، فإن قلت : كيف تعذب مكان الجلود العاصية جلود لم تعصي؟ قلت : العذاب للجملة الحساسة وهي التي عصت الله لا الجلد.

(٢) الكشاف ٤ / ٦٤٠.

(٣) في (ب) ، (ج) : أكثر.

٥٢١

الفصل الخامس عشر : في التوبة

وفيها تسعة مباحث : أحدها : ما التوبة؟ والتوبة (١) : هي الندم على ما مضى ، ولكن لا يكون نادما على ما مضى من فعله للقبيح وتركه للواجب ـ وهو ذاكر لحال ما تاب منه ـ إلا بشرط أن يكون عازما على أن لا يعود إلى مثل ما تاب منه ، فهو من شروطها على ما نبينه ، وليس يدخل في حقيقتها.

المبحث الثانى : في وجوبها (٢) ، وقد دلّ على ذلك العقل والسمع.

أما العقل : فلما تقرر في عقل كلّ عاقل من وجوب دفع الضرر عن النفس ، وهي تدفع (٣) ضرر الذنب الذي يؤدي إلى العقاب الدائم ، فلا مضرة في العقول أعظم من ذلك. وأما السمع : فالكتاب : نحو قوله تعالى (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ، وقوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٤] ونحو ذلك.

والسنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا» (٤) ، ونحو ذلك. والإجماع : وهو ظاهر بين المسلمين.

المبحث الثالث (٥) : بيان فضلها ومنفعتها ، وعلى الجملة فلا أفضل في الطاعات بعد أصول العقيدة منها ؛ لأن المكلف لا ينجو في أثناء تكليفه من السيئات. إما الكبائر ، وإما الصغائر ، وقد بيّنّا أنه لا مضرة أعظم من مضرة

__________________

(١) في (ب) : التوبة ، بحذف الواو.

(٢) في (ب) : المبحث الأول.

(٣) في الأصل : بدفع ، ولا معنى لها ولذلك أثبتنا ما في (ب).

(٤) سلوة العارفين ٤٣٣ ، وأخرجه ابن ماجه ١ / ٣٤٣ رقم ١٠٨١. والبيهقي في السنن ٣ / ١٧١. والقرطبي في تفسيره ١٨ / ٧٧.

(٥) في (ب) : المبحث الثاني في بيان ، وهو الصواب ؛ لأن الثالث سوف يأتي.

٥٢٢

الذنوب المفضية إلى العذاب الدائم ، فمنفعة التوبة حسم تلك المضرة بالكلية ، منفعة أخرى ، وهي (١) حصول الثواب الدائم على فعل التوبة ، فقد دفعت أعظم الضرر وجلبت أعظم النفع ، فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عنها طرفة عين.

وفي حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٢) ، وفي حديثه عليه‌السلام : «إذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ما علموا من مساويه ، وأمر الجوارح أن يكتموا ما علموا من مساويه» (٣).

المبحث الثالث (٤) : في شروطها وصفتها ولها شرطان : أحدهما أن يتوب عن القبيح لقبحه فقط ، لا لمخالفة الناس ، ولا لخوف الفضيحة ، ولا لطلب نفع من أحد ، ولا لغير ذلك من الأغراض ، فإنّ من أساء إلى الغير واعتذر إليه لأجل قبح ما فعله معه ـ قبح منه ترك قبول عذره ، ويسقط اللوم عن المعتذر ، ومتى كان ذلك لغرض ـ لم يحصل ما ذكرناه من سقوط اللوم عنه ، ولزوم القبول. والشرط الثاني أن لا يتوب عن قبيح مع استمراره على قبيح آخر ؛ لأنه إنما تاب لقبحه ، فمتى كان مقيما على قبيح مثله ـ انتقض الغرض بالتوبة ، وجرى مجرى من يتجنّب العسل لحلاوته ، فإنه متى استعمل السّكّر ـ انتقض عليه غرضه باجتناب العسل ؛ لاشتراكهما في الحلاوة. وقد دل على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه» (٥).

__________________

(١) في (ب) : وهو.

(٢) أخرجه المرشد بالله ١ / ١٩٨. وابن ماجه في سننه ٢ / ١١٤ رقم ٤٢٥٠. والبيهقي في السنن ٥ / ٣٨٨ رقم ٧٠٤٠ ، والهيثمي في مجمع ١٠ / ٥٠.

(٣) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ١٩٨ ، المنذري في الترغيب ٤ / ٩٤ ، وعزاه الأصبهاني. والمتقي الهندي في الكنز ٤ / ٢٠٩ رقم ١٠١٧٩ ، وعزاه إلى ابن عساكر.

(٤) في (ج) : المبحث الرابع.

(٥) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٩٧.

٥٢٣

وأما صفة التوبة : فروي عن علي عليه‌السلام : أنه سمع رجلا بحضرته يقول : أستغفر الله ، فقال له : ثكلتك أمّك ، أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين وهو اسم واقع على ستة معان : أولها : الندم على ما مضى. والثاني : العزم على ترك العود إليه أبدا. الثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله وليس عليك تبعة. والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها ، والخامس : أن تعمد إلى اللّحم الذي نبت على السّحت فتذيبه بالأحزان حتى تلحق (١) الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطّاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول : أستغفر الله. (٢) وعن ابن عباس رضى الله عنه في قوله تعالى : (تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ، قال : التوبة النصوح النّدم بالقلب والإقلاع بالبدن ، والإضمار على ألّا يعود ، والاستغفار باللسان (٣). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «التّوبة من الذنب أن يتوب العبد ثمّ لا يعود» (٤).

المبحث الرابع : في قبول التوبة : وقد دل على قبولها العقل والسمع ، متى وقعت على شروطها وصفتها. أما العقل : فهو أنّ من أساء إلى غيره بإساءة ثم اعتذر إليه لكونها إساءة لا لغرض ؛ لزمه (٥) قبول عذره ؛ لأن ذلك هو نهاية ما

__________________

(١) في (ب) : يلحق ، وفي النهج تلصق.

(٢) النهج ص ٧٧٤ رقم ٤١٧ ، وسقط الرابع والخامس من النهج وجعل الخامس الرابع. والكشاف ٤ / ٥٦٩ ، في تفسير : (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) وآية «٨» من سورة التحريم باختلاف يسير

(٣) هو قول محمد بن كعب القرطبي كما ذكره القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٢٩ ، والبغوي ٦ / ٢٣٥ ، والخازن ٦ / ٢٣٥.

(٤) أخرجه أحمد بن حنبل ٢ / ١٥٧ ، برقم ٤٢٦٤ ، عن عبد الله بن مسعود.

(٥) في (ب) : لزم.

٥٢٤

في وسعه ، وقد بذله لمن أساء إليه ، فكذلك التوبة. والعلة الرابطة بينهما أن كل واحد منهما هو بذل الجهد في تلافي ما فرّط.

وأما السمع فالكتاب نحو قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [الشورى : ٢٥]. ونحو ذلك في القرآن.

وأما السنة : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ العبد إذا أذنب ذنبا فاعترف به وتاب غفر له» (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٢) ، وقيل للحسن رحمه‌الله : المؤمن يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب ، إلى متى؟ قال : ما أعرف هذا إلّا أخلاق المؤمنين (٣). وأما الإجماع : فلا خلاف فيه.

المبحث الخامس فيما يفسد التوبة ، وما يمنع من التوبة : أما ما يفسدها ففسادها على وجهين : أحدهما : ما معه لا تصح التوبة ولا تكون مزيلة للعقاب ، وذلك إذا اختل بعض شروطها المتقدمة.

والثاني : أن يعود إلى مثل ما تاب عنه من القبائح ، فإنّ التوبة الأولى تبطل ، والعقاب يستحقّ ، ويعود عليه وبال إفسادها بإبطال الثواب ، واستحقاق العقاب. وأما ما يمنع منها فأمور :

منها أن يكون الإنسان معتقدا لصحة ما هو عليه من البدعة ، مصوبا

__________________

(١) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ٢٠٠ ، بلفظ : يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي ؛ فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار ؛ فإن العبد إذا استغفر الله من ذنب غفر له ، والبخاري ٢ / ٩٤٤ رقم ٢٥١٨. والحاكم ٤ / ٢٤٣ ، وغيرهم بلفظ : إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» ، في ذكر حادثة الإفك.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ١٠ / ١٥٤. ومجمع الزوائد ٨ / ١٩.

(٣) سلوة العارفين ٤٣٨.

٥٢٥

لنفسه فيما هو فيه مخط ، وهذا داء مستحكم لا يزول أبدا ، ولا يكون لصاحب البدعة توبة ما دام معتقدا لصحة ما هو عليه (١). وقد مات على ذلك الطّبق الأكثر ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٢) [الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤]. وعلى هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعوذ بالله من ذنب لا أستغفر الله منه» ، قيل : يا رسول الله ويكون هذا؟ قال : «نعم أقوام في آخر الزمان يبتدعون البدع ، يدينون الله بها ، لا يستغفرون الله منها حتى يموتوا». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله حجر التوبة عن كلّ صاحب بدعة» (٣). وإنما يتوب من هذه حاله متى تغير اعتقاده ، وعرف خطأه ، فأما في حال اعتقاده لصحة ما هو عليه فلا يتوب.

ومنها : استحكام الذنب وكثرة اللهج به ، والاعتياد له من دون تخلّل طاعة ، ولا توبة ، قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا

__________________

(١) قال أبو هاشم فيمن دعا غيره إلى الضلال فقبله ، أنه مع التوبة يلزمه أن يعرفه بطلان ما دعاه إليه ؛ إن ظن أن ذلك يؤثر ؛ لأنه المختص بأن أضربه ، فإذا علم أو ظن صحة إزالة ذلك لزمه ، فأما إن لم يظن ، فسبيله سبيل سائر الناس إذا أرادوا النهي عن هذا المنكر. ينظر المغني ١٤ / ٣٣.

(٢) وروى الطبري في تفسيره مج ٩ ج ١٦ ص ٤٣ ، والقرطبي ١١ / ٤٤ وغيرهما : أن ابن الكوّاء سأل عليّا عليه‌السلام عن الأخسرين أعمالا. فقال : أنت وأصحابك. وكان ابن الكواء من الخوارج.

(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط ٤ / ٢٨٠ رقم ٤٢٠٢ بلفظ : إن الله حجب التوبة .. الحديث. وابن ماجه ١ / ١٩ رقم ٤٩ بلفظ : لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا صدقة ولا حجّا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين ، وقال في رقم ٥٠ : أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته.

٥٢٦

يَكْسِبُونَ) [المطففين : ١٤] ، قيل : هو الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب (١).

ومن موانع التوبة : كثرة الجهل ، وترك العلم ، حتى لا يدري بمضرة الذنب ، ولو عرف مضرة الذنب فإنه لا يدري كيفية المخرج منه ، ومن هاهنا يموت أكثر الخلق من غير توبة ؛ لجهلهم وقلة تمييزهم ، وهم العامة ، وقد شبههم الله بالأنعام ، فقال : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩]. وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل ذنبا واحدا» (٢). ومن موانع التوبة للعارفين التسويف للتوبة وتأخيرها ، فإنه ربما هجمه الموت وهو مصرّ على الكبائر ، فخسر الدنيا والآخرة. ومن موانع التوبة : إغفال النّظر في الحساب والجزاء ، وقلة التفكر في الموت ، والمصير إلى القبر ونحو ذلك. ومن موانع التوبة : الإياس والقنوط من رحمة الله ونحو ذلك.

المبحث السادس : وبال تأخيرها ، ولا شبهة في أنّ وباله عظيم ؛ فإنه يؤدي إلى بقاء الضرر العظيم وهو العقاب الدائم ؛ لأنّ الموت ربما هجم عليه

__________________

(١) هو قول الحسن كما في النكت والعيون للماوردي ٦ / ٢٢٩ بمعناه. ويؤكد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الرّان الذي ذكر في قوله : (كَلَّا بَلْ رانَ). رواه الترمذي ٥ / ٤٠٤ رقم ٣٣٣٥.

(٢) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خيار أمتي علماؤها ، وخيار علمائها خيارها ، ألا وإن الله .. الحديث». وتمامه : ألا وإن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب كما يسري الكوكب الدري. المرشد بالله ١ / ٥٢ ، ٦٢ ، وتاريخ بغداد ١ / ٢٣٨ ، وحلية الأولياء ٨ / ٢٠٢.

٥٢٧

في حالة تركه للتوبة وهذا خطر عظيم ، لا خطر أعظم منه. قال علي عليه‌السلام : ما أطال رجل الأمل إلا أساء العمل (١). وقال عليه‌السلام : التسويف شعاع إبليس.

المبحث السابع : متى تنقطع منفعة التوبة : وهي تنقطع عند معاينة الموت وتنقطع عند ظهور علامات القيامة التي معها ينقطع التكليف ، قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨] ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢]. أي حراما محرّما (٢). وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية [الأنعام : ١٥٨]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تاب قبل أن يغرغر بالموت تاب الله عليه» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : التوبة مقبولة ما لم ينزل سلطان الموت» (٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التوبة مقبولة حتى تطلع الشّمس من المغرب ، فإذا طلعت طبع على كلّ قلب بما فيه ، وكفّ الناس عن العمل» (٥). والأخبار في ذلك كثيرة.

المبحث الثامن : في سبب التوبة : ولها سببان : أحدهما : الخوف من وبال الذنب. والثاني : الرجاء لثواب التوبة. ولا يحصلان إلا بذكر الأمر

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ / ٦٨٨.

(٢) الماوردي ٤ / ١٤٠. والألوسي مج ١١ ج ١٩ ص ١٠. وفي (ب) : حرما محرما.

(٣) المستدرك ٤ / ٢٥٧ ، والخطيب في تاريخه ٨ / ٣١٧.

(٤) سلوة العارفين ٤٣٤ ، بلفظ : «التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت».

(٥) سلوة العارفين ٤٣٣ ، ومسلم ٤ / ٢٠٧٦. وأحمد بن حنبل ج ٣ برقم ٩١٤١ ، بلفظ : من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه».

٥٢٨

المخوف والمرجو ، وهو العقاب والثواب ، وجميع ما يكون في حال الموت وبعده ، وفي القبر ، وعند النشر والحشر ، وعند المواقف ، والصراط ، والميزان ، ونحو ذلك.

وقد يكون سبب هذا الذّكر المولّد للخوف والرجاء من قبل النفس (١) بالفكر المولّد لذلك. وقد يكون من قبل الله تعالى ، وقد يكون من بعض عبيده الواعظين المذكّرين ونحو ذلك.

المبحث التاسع : في (٢) طرف مما جاء في الاستغفار ، وذكر كيفية (٣) ما جاء من التلفظ به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما من عبد ولا أمة يستغفر الله كل يوم سبعين مرة إلا غفر له سبعمائة ذنب ، وقد خاب عبد أو أمة عمل في ليلته أو يومه أكثر من سبعمائة ذنب» (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت له ذنوبه وإن كان (٥) فرّ من الزحف. ومن قالها خمس مرات غفر له وإن كان عليه مثل زبد البحر» (٦). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن في القرآن لآيتين ما

__________________

(١) في (ب) : من شغل النفس.

(٢) في (ب) : في ذكر طرف.

(٣) في (ب) : كيفية بعض.

(٤) أخرجه الديلمي في مسنده ٤ / ١٧ رقم ٦٠٤٩. والمتقي الهندي في الكنز ١ / ٤٨٢ رقم ٢١٠٥ وعزاه إلى الحسن بن سفيان. والبيهقي في شعب الإيمان ١ / ٤٤٢ برقم ٦٥٢ ، وفيه الزيادة : وقد خاب وعيد ..»

(٥) كان ساقطة في (ب).

(٦) أخرجه الإمام زيد في المجموع ص ٤١٨. والترمذي ٥ / ٥٣١ رقم ٣٥٧٧. وأبو داود ٢ / ١٧٨ رقم ١٥١٧.

٥٢٩

من عبد يذنب ذنبا فيقرأ هما ثم يستغفر الله إلا غفر له : قوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ١٣٥]. والآية الأخرى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١) [النساء : ١١٠]. والأخبار في ذلك كثير (٢). وإذ قد فرغنا من الكلام في العقيدة فلنتكلم فيما طلبه السائل من الكلام في فروض الصلوات الخمس ، وسننها الداخلة فيها وهيئاتها ، والتمييز بين فروضها وسننها وهيئاتها.

[الأذان والإقامة]

فنقول وبالله التوفيق والتسديد والمعونة والتأييد : ينبغي أن نتكلم في الأذان والإقامة أوّلا ، وإن لم يكن من فروض الصلوات الخمس بل هو فرض مستقل بنفسه (٣) ، فإنه لا بد لكل مصلّ منه ، ولا بد من تقدّم الكلام فيه لأجل ذلك ، ولوقوع الخلاف فيه بيننا وبين من في جهتك من المخالفين.

وإذا كان كذلك قلنا : إن الأذان أصله من الله تعالى ، أمر الله ملكا من ملائكة الله تعالى ليلة أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هكذا روينا عن الأئمة الفضلاء : الباقر محمد بن علي السجاد زين العابدين (٤) ،

__________________

(١) أخرجه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود كما في الدر المنثور ٢ / ١٣٧ بلفظ : إن في كتاب الله لآيتين ..».

(٢) في (ب) : كثيرة.

(٣) ذكر المؤلف في الشفاء ١ / ٢٤٧ أنه فرض على الكفاية وهو قول القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله.

(٤) الباقر : ولد سنة ٥٧ ه‍ وقيل ٥٦ ه‍ ، كان عابدا زاهدا ناسكا ولقب بالباقر ؛ لأنه بقر العلم ، وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسع فيه. والبقر التوسع ، توفي ١١٤ ه‍ ، وله كتاب التفسير ، رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر. ينظر أعيان الشيعة ١ / ٦٥٠ والأعلام ٦ / ٢٧٠.

٥٣٠

والعالم ترجمان الدين أبي محمد نجم آل رسول الله القاسم بن إبراهيم الغمر ، والهادي إلى الحق أبي الحسين يحيى بن الحسين ، والناصر للحق أبي محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهم ، وأنكروا ذلك على من جعله مأخوذا من رؤيا (١) الأنصاري (٢). وقد ذكرنا فيما تقدم طرفا من فضائل هؤلاء الأئمة (ع) ، فيكون ما ذكرناه من فضائلهم مرجّحا لروايتهم على رواية غيرهم ، فلا يعدل عن روايتهم من طلب الاحتياط لنفسه ، والأخذ بالقوي من الأسانيد.

وإذا ثبت ذلك قلنا : إن الأذان الذي ذكره هؤلاء الأئمة المذكورون ورووه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو قول المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله (٣).

والإقامة مثل ذلك ، إلا أنك تقول بعد قولك : حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله. فهذا هو لفظ الأذان ولفظ الإقامة. والنطق بذلك واجب ؛ لأنه

__________________

(١) في (ب) : من رؤيا بعض الأنصار.

(٢) أنظر الأحكام ١ / ٨٤. والاعتصام ١ / ٢٧٧. وشرح التجريد. وقد أخرج الطبراني في الأوسط ٩ / ١٠٠ رقم ٩٢٤٧. لمّا أسري به إلى السماء أوحى الله إليه بالأذان فنزل به ، فعلمه جبريل. والأذان بحي على خير العمل ص ٥٧ ، وعلي بن موسى الرضى في صحيفته ص ٤٤٨ ، وقد احتج للقول بأن الأذن شرع ليلة الإسراء غير واحد ووسع في ذلك الشهيد محمد بن صالح السماوي في الغطمطم الزخار ٤ / ٤٣٥ وما بعدها.

(٣) الأحكام ١ / ٨٤. وكتاب الأذان بحي على خير العمل. وشرح التجريد (خ) ، والتحرير ١ / ٨٤. وأصول الأحكام (خ).

٥٣١

قول ، والقول يحصل بالمخافتة. والجهر به سنّة. ولا يصحّ أذان الجنب ، ولا أذان الفاسق أيّ فسق كان : من سكر أو غيره ، ولا أذان الكافر [كافر تأويل] سواء كان مجبريّا قدريّا أو غيره ، ولا أذان المجنون. واللّاحن في أذانه لا يصحّ أذانه ، وكذلك أذان المرأة ، وكذلك الصبي الذي لم يبلغ ، لا يجب عليه الأذان ، ولا شيء من الشرائع فلا يعتدّ بأذانه.

ويصح أذان المحدث [حدثا أصغر] ولا تصح إقامته. ولا يقيم للغير غير مؤذنهم ، إلا عن عذر. فإن أعاد الأذان غير المؤذن الأول جاز أن يقيم ، كما فعل أبو محذورة مؤذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه جاء وقد أذّن إنسان فأعاد الأذان ثم أقام (١). ويجوز أن يؤذن مؤذنان وثلاثة وأكثر في وقت صلاة واحدة لصلاة واحدة ، سواء أذّنوا في وقت واحد ، أو أذّن كل واحد منهم وحده. وقد روينا أن بلال ابن حمامة (٢) ، وابن أم مكتوم ، وصهيبا الرومي. ورابع (٣) ، ذهب عمّن روى لنا اسمه فلا يدري (٤) أهو عبد الله بن زيد أو أبو محذورة رحمة الله عليهم ـ أذّنوا في وقت واحد لصلاة واحدة في مسجد رسول الله على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام (خ) بلفظ : جاء وقد أذن إنسان فأذن هو وأقام. والمؤلف في الشفاء ١ / ٢٥٣.

(٢) قيل : إنه بلال بن رباح وحمامة أمه ، نسب إليها ، كما ذكر ذلك في أسد الغابة. شهد بدرا والمشاهد كلها ، وكان من السابقين إلى الإسلام وعذب من أجل ذلك. وهو مؤذن رسول الله توفي بدمشق سنة ٢٠ ه‍ ، وقيل ١٧ ه‍ وقيل ١٨ ه‍ ، وقيل : بحلب. أنظر أسد الغابة ١ / ٤١٤.

(٣) في (ب) كانت «رابع» وصلّحها «رابعا» توهما للعطف والرفع على أنها ابتداء كلام ، والمعنى : ورابع ذهب اسمه عن الراوي. وسوّغ الابتداء به ، وهو نكرة التقسيم.

(٤) في (ب) : فلا ندري.

(٥) المؤلف في الشفاء ١ / ٢٥٦.

٥٣٢

وروى في الوافي (١) عن السيد أبي العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه‌الله أنه قال : إذا كثر المؤذنون أذّن واحد بعد واحد ، والخبر الذي ذكرناه يقضي بخلاف ذلك ، وهو أنه يجوز أن يؤذن المؤذنون في وقت واحد ، فأما في الإقامة فتحتمل (٢) أن يقال : إنهم يقيمون. وفي كلام الناصر الحسن بن علي (ع) ما يقتضيه فإنه ذكر في الإبانة في آخر كلام له (٣) ما لفظه : حتى يفرغ المؤذنون من الإقامة ، فأما إن سبق واحد منهم بالأذان فإنه أولى بالإقامة ؛ لسبقه لهم بفضيلة الأذان ؛ ولأن الواجب قد سقط بأذانه فكانت متوجهة إليه ، فإن أقام غيره ممن أذن بعده جاز ، كما فعل (٤) أبو محذورة وقد ذكرناه. ولا يجوز الأذان لشيء من الصلوات قبل دخول أوقاتها ، خلافا في الفجر (٥) ، وإجماعا بين العلماء فيما عدا صلاة الفجر. قال زيد بن علي (ع) : من أذّن قبل الفجر فقد أحلّ ما حرم الله وحرم ما أحل الله (٦).

وروي أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرجع فينادي : إن العبد نام ، أي سها وغفل (٧). وعن علي عليه‌السلام أنه قال : من أذّن قبل الفجر أعاد ، ومن أذن قبل الوقت أعاد (٨).

__________________

(١) هو للعلامة علي بن بلال الآملي.

(٢) في (ب) : فيحتمل.

(٣) «له» محذوفة من (ب).

(٤) في (ب) : فعله.

(٥) الخلاف للشافعي ومالك. ينظر الأم ٢ / ٦٢. والمدونة ١ / ١٥٩.

(٦) المجموع ص ٩٤. والأحكام ١ / ٨٦.

(٧) الأحكام ١ / ٨٦. وأبو داود ١ / ٣٦٣ رقم ٥٣٢. والترمذي ١ / ٣٩٤. وابن أبي شيبة في المصنف ١ / ٢٠١.

(٨) أخرجه الإمام الهادي في الأحكام ١ / ٨٦.

٥٣٣

وعن علقمة رحمه‌الله أنه سمع مؤذنا في مكة يؤذن قبل طلوع الفجر فقال : أمّا هذا فقد خالف سنة أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان نائما لكان (١) خيرا له ، فإذا طلع الفجر أذّن (٢). فأخبر علقمة أن ذلك خلاف سنة أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدلّ ذلك على أنهم أجمعوا على خلافه. فأما ما احتج به المخالفون من أذان بلال قبل الفجر فإن ذلك على وجه التذكير فقط ، بدلالة ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إن بلالا يؤذن ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم (٣) ، ويتسحّر صائمكم فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تؤذّن حتى يستبين الفجر هكذا ومدّ بيده عرضا» (٥) ، وروي عن عمر بن الخطاب أنّ مؤذنا يقال له : مسروح أذّن قبل الفجر فغضب عمر ، وأمر أن ينادى أن مسروحا وهم (٦).

والأذان بحي على خير العمل : من جملة الأذان بإجماع أهل البيت عليهم سلام رب العالمين ، ورووه عن جدّهم خاتم النبيين صلوات الله عليهم

__________________

(١) في (ب) : كان.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ١ / ١٩٤.

(٣) أي يرد المتهجد لينام قليلا حتى يصبح نشيطا لصلاة الفجر.

(٤) أخرجه البخاري ١ / ٢٢٤ برقم ٥٩٦ ـ ٥٩٧ عن عبد الله بن مسعود بلفظ : لا يمنعنّ أحدكم أو أحدا منكم أذان بلال من سحوره ؛ فإنّه يؤذّن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ولينبّه نائمكم ، وليس أن يقول الفجر أو الصبح. وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل : حتى يقول هكذا. وقال زهير [راوي الحديث] بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ، ثم مدها عن يمينه وشماله. ومسلم في كتاب الصيام ٢ / ٧٦٨ رقم ١٠٩٢ ـ ١٠٩٣.

(٥) أخرجه أبو داود ١ / ٣٦٥ رقم ٥٣٤. ويقال : إن هذه الرواية تفرد بها أبو داود. وينظر عون المعبود ١ / ٣١١ طبعة حجري.

(٦) ينظر سنن أبي داود ١ / ٣٦٥ رقم ٥٣٣ ولفظه : أن مؤذنا يقال له : مسروح أذّن قبل الصبح فأمره عمر أن يرجع فينادي ألا إن العبد قد نام ، ألا إن العبد قد نام.

٥٣٤

أجمعين ، وإجماعهم حجة يجب اتباعها ، ويقبح خلافها ، وروايتهم أولى من رواية غيرهم لما ذكرناه (١) من الأدلة التي ضمناها فضائلهم فيما تقدم.

ورووا عن أبيهم يعسوب الدين أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليه‌السلام أنه روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه أمر بلالا بأن يؤذن بحي على خير العمل (٢) ، وروي عن أبي محذورة أنه قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقول في أذاني : حي على خير العمل ، وهو أحد مؤذني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وروي بأن الأذان بحي على خير العمل كان ثابتا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى عهد أبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر ، ثم أمر عمر بالكف عنها ، وقال : أخشى إذا سمعها الناس ضيعوا الجهاد ، واتكلوا عليها (٣).

وإذا كان كذلك دل على أن تركها بدعة ؛ لأنه لا نسخ فيما ثبت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا في حياته ، فأما بعد موته فذلك مما لا سبيل إلى زواله ، والأمر في ذلك ظاهر. ولو كان ترك حي على خير العمل من جملة الدين ـ لبيّنه الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما فوّت مصلحة العباد بموت محمد عليه‌السلام قبل كمال المصلحة مع قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣٥] ،

__________________

(١) في (ب) : لما ذكرنا.

(٢) ينظر مجموع الإمام زيد ص ٩٣. وكتاب الأذان بحي على خير العمل كتاب مطبوع حديثا من إصدارات مركز بدر العلمي ، رواية للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن العلوي المتوفي سنة ٤٤٥ ه‍ ، وفيه ١٩٢ رواية حول حي على خير العمل ؛ فاطلبه لزاما. ورواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف ١ / ٤٦٠ رقم ١٧٨٦ بلفظ : أن ابن عمر كان إذا قال في الأذان : حي على الفلاح قال : حي على خير العمل. وص ٤٦٤ رقم ١٧٩٧ بلفظ : عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقيم الصلاة في السفر ، يقولها مرتين أو ثلاثا يقول : حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على خير العمل.

(٣) ينظر الأذان بحي على خير العمل فقد رواه من عدة طرق ، وأخرج ذلك ابن أبي شيبة في المصنف ١ / ١٩٥.

٥٣٥

فلما لم يبينه لرسوله عليه‌السلام ، ولا أمره بتركه وإزالة حكمه دلّ ذلك على أنّ تركها ليس من جملة الدين. ولمّا أمر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دل على أنها مشروعة من الله تعالى ، ومأمور بالأذان بها لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤].

وقال تعالى فيما أمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠]. والعجب من جهال من ينتسبون إلى مذهب الشافعي رحمه‌الله ، ينكرون على من يؤذن بحي على خير العمل ، ويرون من تلفّظ (١) بها في الأذان قد أتى أمرا كبيرا ، وربما يرون أنه قد خرج من الدين ، وذلك من كثرة جهلهم وقلّة تمييزهم (٢) ؛ لأنا قد بينا أن ذلك مروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعن علي عليه‌السلام ، وهو مذهب أسباط الأئمة (ع). فكيف ينكر على فاعله لو لا الجهل وضلال العقل ، وسفه الرأي ، وقلة العلم؟ فإنه متى كان حي على خير العمل مأخوذا من (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبه كان يؤذّن مؤذّنوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتى مات ، ثم أجمع أهل البيت (ع) على التأذين به ، لم يسغ خلاف ذلك. فإن ساغ لهم خلافه ، وقالوا : بأن المسألة اجتهاديّة ـ لم يسغ لهم الإنكار في

__________________

(١) في (ب) : يلفظ.

(٢) لعل هذا كان في أيّام المؤلّف ، أما في أيّامنا فلا يظهر منهم إلا كل خير ، والحرب على حيّ على خير العمل ، إنما جاء من أتباع محمد بن عبد الوهاب أصحاب نجد ، وقد رصدوا لهذا الغرض ونحوه من محو المذهب الزيدي أموالا طائلة ، وساعدهم الجهلة والمحتاجون من اليمنيين ؛ لأن الفقر كاد أن يكون كفرا وقد عمت بلواهم ، وانتشرت فتنتهم كفانا الله الفتن والأهواء.

(٣) في (ب) : عن.

٥٣٦

مسائل الاجتهاد ، مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مجتهد مصيب». والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى ، إلا أنا أتينا بهذه الجملة لتنبّه الغافلين وتذكّر المؤمنين وتهدي (١) الجاهلين.

والتثويب في أذان الفجر ليس من جملة الأذان (٢)

وهو قول المؤذن : «الصّلاة خير من النّوم». وإنما أحدثه عمر ، وأمر به في أذان الصبح (٣) ، وهو عندنا بدعة لما روى مجاهد رحمه‌الله قال دخلت مع عبد الله بن عمر إلى مسجد فثوّب المؤذن فقال ابن عمر : أخرجنا من هذه البدعة (٤).

والأذان فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر ، وكذلك الإقامة. وذكر بعض أئمتنا (ع) : أنه إذا أذّن في بعض المساجد في بلد

__________________

(١) في (ب) : لننبّه ... ونذكر ... ونهدي.

(٢) وقد قال الإمام الشافعي في الأم ٢ / ٦٩ رقم ١١١٥ : ولا أحب التثويب في الصبح ولا غيره ؛ لأن أبا محذورة لم يحك عن النبي أنه أمر بالتثويب ، فأكره الزيادة في الأذان وأكره التثويب بعده.

(٣) ينظر الأحكام ١ / ٨٤. وشرح التجريد ١ / ١٠٥. وأصول الأحكام ـ خ ـ والمصنف ١ / ١٨٩ عن إسماعيل قال : جاء المؤذن عمر بصلاة الصبح ، فقال : «الصلاة خير من النوم» ـ فأعجب بها عمر ، فقال للمؤذن : اقرأها في أذانك. ومالك في الموطأ ١ / ٦٩. وقال : بلغني أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح ، فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمر عمر أن يجعلها في نداء الصبح. قال الإمام القاسم بن محمد في الاعتصام ١ / ٢٨٣ بعد ذكر رواية مالك : وكفى بهذا جرحا لمن رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن إنكارهم متضمن لتكذيب ما رفعه.

(٤) أخرجه الترمذي ١ / ٣٨١ ، وأبو داود ١ / ٣٦٧. والمؤلف في الشفاء ١ / ٢٦٢.

٥٣٧

أو قرية سقط فرض الأذان عن الباقين في سائر المساجد ، والمذكور هو السيد أبو طالب عليه‌السلام (١).

وذكر المنصور بالله عليه‌السلام أن الأذان يتقدّر سقوطه إذا وقع فيما دون الميل ، فمن كان في الميل سقط عنه فرض الأذان إذا أذّن فيه المؤذن ، ويكفي في سقوط فرضه العلم بأن الأذان قد وقع ؛ لأنّ سماعه لا يجب ، قال القاسم عليه‌السلام ومن صلى بغير أذان ولا إقامة صحّت صلاته (٢).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لأبي ذر : «يا أبا ذر ، إذا كان الرجل في أرض

__________________

(١) ذكره في التحرير ١ / ٨٢ وهو الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين الهاروني شمس العترة وقمر الأسرة «السادة الهارونيين» ، مولده سنة ٣٤٠ ه‍ ، كان عالما فاضلا ورعا ومن أئمة أهل البيت المشاهير ، قال الإمام عبد الله بن حمزة : لم يبق فن إلا طار في أرجائه ، وسبح في أفنائه ، وقال في الحدائق : كان عليه‌السلام في الورع والزهادة والفضل والعبادة على أبلغ الوجوه وأسناها ، وقال ابن حجر في لسان الميزان : كان إماما على مذهب زيد بن علي عليه‌السلام وكان فاضلا غزير العلم مكثارا ، عارفا بالأدب وطريقة الحديث ، ، وقال ابن طاهر : كان من أمثل أهل البيت المحمودين في صناعة الحديث ، بويع له سنة ٤١١ ه‍ ، وله في أصول الدين شرح البالغ المدرك مطبوع بمركز بدر ، وتيسير المطالب ، والمبادي ، وزيادات شرح الأصول ،. وله كتاب الدعامة في الإمامة طبع بعنوان «نصرة مذاهب الزيدية» ، ومنسوب إلى الصاحب بن عباد. وله في أصول الفقه جوامع الأدلة. وله المجزي في أصول الفقه مجلدان. وله في فقه الهادي عليه‌السلام التحرير ـ مطبوع بمركز بدر ـ وشرحه مجلدات عدة تبلغ ستة عشر مجلدا. ت : ٤٢٤ ه‍ ، بالديلم أنظر الحدائق الوردية ـ خ ـ ، لسان الميزان ٦ / ٢٤٨ ، والأعلام للزركلي ٨ / ١٤١ ، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة ٤ / ٩٢.

(٢) لفظ الأزهار : ويكفي السامع ومن في البلد أذان في الوقت من مكلف ذكر معرب عدل طاهر من الجنابة. والظاهر أن سماع الأذان في غير المدينة يكفي ولو خارج الميل ، ولو بواسطة مكبر الصوت. أما في المدينة أو القرية فيكفي أذان واحد ولو لم يسمع الأذان. أما الإقامة فلا تكفي إلا إذا أقيمت في مسجد لمن صلّى فيه تلك الصلاة. ينظر شرح الأزهار ١ / ٢١٨ ، ٢١٩.

٥٣٨

فتوضأ أو تيمّم ، ثم أذّن ثم أقام ثم صلّى ـ أمر الله الملائكة فصفّوا خلفه صفّا لا يرى طرفاه فيركعون بركوعه ، ويسجدون بسجوده ويؤمّنون على دعائه ، ومن قام ولم يؤذّن لم يصلّ معه أحد إلا ملكاه اللذان معه» ؛ وإذ قد ذكرنا هذه الجملة في الأذان والإقامة فلنعد إلى الكلام فيما طلبه السائل من فروض الصلوات الخمس وسننها وهيئاتها ، والتمييز بين هذه الأمور فنقول وبالله التوفيق :

باب : فروض الصلاة وسننها الداخلة فيها وهيئاتها

فصل : في الاستعاذة وما يحسن ذكره معها

فإذا فرغت أيها المسترشد من الإقامة فاستقبل القبلة ثم قل : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، قل ذلك وأنت مستقبل القبلة قائما مزاوجا لقدميك بحيث لا تضمّهما ، وأرسل يديك إرسالا ، واضرب ببصرك إلى موضع قدميك ، وإنما أمرت بالاستعاذة من الشيطان لعظم اعتراضه للآدمي عند الصلاة.

ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ركعتان خفيفتان في ذكر خير من قيام ليلة والقلب ساه. وإن القوم يكونون في صلاة بينهم من الفضل كما بين السماء والأرض ؛ لأن الخاشع يقبل ؛ فإذا دخل الرجل في الصلاة أتاه الشيطان يذكّره حوائجه (١) فيقول (٢) له الملك : أقبل على صلاتك ويناديه في أذنه اليمنى ،

__________________

(١) روي أن رجلا أتى أبا حنيفة رحمه‌الله فقال : يا إمام إني دفنت مالا ونسيت المكان الذي دفنته فيه. فقال أبو حنيفة : هذه ليست مسألة فقهية ، ولكن توضأ وصلّ فلعلك تذكر ضالتك ، فما صلّى إلا قليلا حتى جاء وقال : قد تذكرت ، قال أبو حنيفة : قد علمت أن الشيطان لن يدعك تصلي فهلّا أكملت ليلتك شكرا لله.

(٢) في (ب) : ويقول.

٥٣٩

والشيطان يناديه في أذنه اليسرى وقلبه ينازع الأمرين فإن أطاع الملك ضرب الملك الشيطان بجناحه ، وإن أطاع الشيطان قال له الملك : أما إنك لو أطعتني لم تقم من صلاتك إلا وقد غفر لك» (١). صدق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن أيها المسترشد لن تكفى شرّه إلا متى صدق تعوّذك باعترافك بجلال الله وعظمته وأنه لا يتعاظمه عظيم ، واعتصامك بحوله وقوته لا بحول نفسك وقوتها ، وعليك بالخشوع في جميع صلاتك ، والخضوع لله تعالى والتفكر بقلبك في معاني حروف ألفاظ (٢) الصلاة ؛ فإن التفكر في الصلاة من جملة الواجبات فيها على ما ذكره السيد أبو طالب عليه‌السلام. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يحضرها قلبه مع بدنه» (٣). وفي (الوافي) عن القاسم عليه‌السلام أنه يجب على المصلي الإقبال بجهده عليها ـ يعني الصلاة ـ وتفريغ فكره لها حتى يتمها كلها خاشعا في جميعها». تم كلامه.

ووجه ذلك قول الله تعالى في صفة المؤمنين : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ٢] ، ويمكن أن يقال : إن ترك الخشوع فيها لا يفسدها لما (٤) روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : أما هذا فلو (٥) خشع قلبه لخشعت جوارحه» (٦) ، ثم قال (٧) : «لا يقطع الصلاة

__________________

(١) الحاكم في السفينة ٣ / ٦٩.

(٢) «ألفاظ» ملحقة في «أ» ، ومشطوبة من (ب).

(٣) الحاكم ٣ / ٦٩.

(٤) في (ب) : كما.

(٥) في (ب) : لو خشع.

(٦) المجموع ص ١١٨. والأحكام ١ / ١٠٦. وكنز العمال ٨ / ١٩٧ برقم ٢٢٥٣٠.

(٧) في (ب) : وقال.

٥٤٠