ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

لعجلة الإمام قرأ بعد أن يسلم الإمام ، وكذلك حكم المخافتة إن سبقه الإمام ولم يكمل القدر الواجب من القراءة بالمخافتة قرأ فيما يستأنف ، ولا يخالف الإمام في شيء من ذلك ، فإذا سلّم الإمام قام اللاحق فأتمّ لنفسه ما بقي عليه ، ويسجد (١) لسهو الإمام إذا كان إمامه سها في صلاته ، سواء سجد الإمام لسهو نفسه أو لا ، ولكن لا يقوم اللاحق لتمام ما بقي عليه حتى يفرغ الإمام من التسليمتين جميعا.

ولا بأس بالقعود مع الإمام فيما لا يقعد فيه المؤتمّ اللاحق من الصلاة لو كان وحده ، إلّا أنه يتشهّد فيما ينبغي له التشهّد فيه ، ويسكت فيما ليس التشهد بمشروع عليه في ذلك الموضع في صلاته ، نصّ الهادي إلى الحق عليه‌السلام على معنى ذلك (٢).

وإذا حدث على الإمام حدث في صلاته فلذلك (٣) أمور : منها أن ينتقض وضوءه ، فإذا كان كذلك بطلت صلاته وصلاة من خلفه صحيحة ، وله أن يستخلف عليهم إماما آخر من المؤتمين به بأن يجرّه إلى القبلة من الصف ، فإذا جرّه فعليه أن ينوي الإمامة ، وعلى المؤتمين أن ينووا الإتمام به ، وإن لم يقدّم الإمام رجلا جاز لهم أن يقدّموا على الفور رجلا منهم ، وإن أتمّ كلّ واحد من المؤتمين صلاته وحده صحّت صلاتهم. ومنها أن يلحن الإمام في القراءة ، فإذا كان كذلك فصلاته فاسدة ، وكذلك صلاة المؤتمين ، ذكره المؤيد بالله عليه‌السلام.

ومثله ذكره القاضي زيد بن محمد رحمه‌الله ، قال عليّ بن الخليل (٤) :

__________________

(١) في (ج) و (ب) : وليسجد

(٢) قال المهدي صاحب الأزهار : ولا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع.

(٣) في (ج) ، (ب) : فذلك.

(٤) في (ب) و (ج) : خليل. وفي هامش (ب) تنويه بأن الأصل الخليل.

٥٦١

وهذا إذا لم يعزل المؤتم صلاته عن صلاة الإمام [بعد اللّحن ، بل تابعه فإنها تفسد ، وأما إذا عزل المؤتم صلاته] (١) فيجب أن لا تفسد ، كما لو أحدث الإمام فعزل المؤتم صلاته. ومنها أن يحصر الإمام عن القراءة ، فإذا أحصر وكان قد قرأ حدّ الواجب من القراءة أجزت الصلاة ـ وإن تمكنوا من الفتح عليه وجب على المؤتمين أن يفتحوا على الإمام ، بأن يقرءوا الآية التي تركها الإمام ؛ لأنه من المعاونة على البر والتقوى التي فرضها العليّ الأعلى ، وفي الحديث : «إذا استطعمك إمامك فأطعمه» ، وإن لم يتمكّنوا من الفتح عليه صلّوا فرادى ؛ لأن ذلك كالعذر في خروجهم ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام ، وذكر أبو العباس رحمه‌الله : أن الإمام إذا أحصر فقدّم رجلا يصلي بهم جازت الصّلاة. ومنها : أن تنكشف عورة الإمام ، فإنها إذا انكشفت بمقدار تأدية ركن فسدت صلاته وصلاة المؤتمين ، وإن (٢) كان دون ذلك فستر العورة لم تفسد عليه ولا عليهم ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام. ومن انكشفت عورته ولم يتمكن من سترها فليس له أن يستخلف ، ذكره بعض فقهاء العامة. قال السيد أبو طالب عليه‌السلام وهذا لا يبعد. وأقول : إن مذهب الهادي وجده القاسم (ع) أنّ عورة المصلي إذا انكشفت بطلت صلاته ، سواء انكشف منها قليل أو كثير ، وسواء كان قد أدّى من الرّكن قدر الفرض أو لا ، وبه قال المؤيد بالله عليه‌السلام.

ومنها أن يقعد الإمام فإن له أن يستخلف أحد المؤتمين يصلي بهم ـ وصلاة الإمام لنفسه صحيحة ، فلا يلزمه (٣) الاستئناف ؛ لأنه إذا استأنفها أتى بها كلها ، من قعود ، وإن بنى عليها كان بعضها من قيام فكان البناء أولى ، ذكره في

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ساقط من (ب).

(٢) في (ب) : فإن كانت.

(٣) في (ب) : يلزم.

٥٦٢

تعليق الإفادة. وإن أتمّ المؤتمون صلاتهم منفردين صحت صلاتهم. ومنها أن يغمى على الإمام ، ففي كتاب الوافي : ولو أن رجلا صلّى ركعة ثم غلب على عقله فسدت صلاتهم (١).

واعلم أن الإمام إذا سلم على الركعة الثالثة من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ، أو على الركعة الأولى من الفجر فإن المؤتم يقوم ويتمّ صلاته ، وتجزيه ، وكذلك إذا سجد الإمام سجدة واحدة ، ولم يسجد السجدة الثانية بل قام فإنّ المؤتمّ لا يتابعه ، بل يسجد السجدة الثانية. قال المنصور بالله عليه‌السلام : وإذا ترك الإمام الجهر ـ وهو والمؤتمّ يريان وجوبه ـ وانتظره لعله يتذكر جاز ، فإن بلغ الرّكعة الرابعة ولم يذكر جهر المأموم ، فإن تيقّظ الإمام فقرأ كان على المأموم الامساك وسمع ، وما لم يركع فله أن يقرأ (٢). قال : وإذا نسي الإمام والمأموم الجهر في الركعات ثم ذكرا كان لهما أن يقوما فيأتيا بركعة يجهر الإمام فيها ، وكذلك حكم المخافتة يقومان فيخافتان في ركعة. قال : وهذا عند من يقول بأنّ ترك الجهر والمخافتة يفسدها. ويجوز الجمع بين الصلاتين في أوّل وقت الأولى منهما مع الإمام ، وهو أفضل من تأخيرها إلى وقت الأخرى ثم يصلّي منفردا (٣) ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام.

وإذا قد فرغنا من الكلام مما طلبه صاحب الكتاب فلنتبع ذلك بفصول

__________________

(١) في (ب) : صلاته.

(٢) سواء الإمام والمأموم ؛ لأنه إذا ركع فقد خرج من ركن القراءة فيلزمه إما إعادة الصلاة ، وإما العود من الركوع للقراءة ، وإما الإتيان بركعة ؛ ليقرأ فيها القدر الواجب جهرا في الجهرية ، وسرّا في السريّة.

(٣) أي إن الصلاة جماعة جمعا في أول الوقت أفضل منها فرادى في وقتها. ولقائل أن يقول : إنها في وقتها أفضل ولو فرادى. لما في ذلك من مشقة وانتظار للوقت ، وتأسّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله أعلم.

٥٦٣

خمسة نضمّنها طرفا مما جاء من التحذير عن الظلم ، والزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والمسكر ، واستعمال المغاني ، فإن هذه المعاصي مما كثر استعمال أهل جهته (١) لها ، حتى أفرطوا فيها ، فرجونا أن ينفع الله تعالى بما نذكره في ذلك وبالله التوفيق.

الفصل الأول : في النهي عن الظلم

قال الله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥٢] ، وقال عز من قائل : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان : ٢٧ ـ ٢٨]. إلى غير ذلك من الآيات ، وقال الله تعالى في الزبور : «يا داود من أتى يوم القيامة وعليه خردلة من ظلم لم يبارح عرصة القيامة حتى آخذ منه حقّ المظلوم ، ومن ظلم أجيرا أجرته أطلت حبسه في عرصة القيامة ، وعزّتي وجلالي لا خليت (٢) مظالم العباد».

وروينا عن نبينا محمد صلوات الله عليه وآله أنه قال : «من ظلم أجيرا أجرته أحبط الله عمله وحرّم عليه ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ، ألا وإنّ الله عزوجل لا يجاوره ظالم ، وهو بالمرصاد ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» (٣). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يؤتى بالجبابرة يوم القيامة في الحديد فيقول : سوقوهم إلى النّار».

وعن الباقر عليه‌السلام أنه قال : إذا كان يوم القيامة جعل سرادق من نار وجعل فيه أعوان الظلمة ، وجعل فيه كلاليب من حديد يحكّون بها أبدانهم

__________________

(١) في (ب) : جهتنا.

(٢) في (ب) مصلحة : لا أخليت.

(٣) شمس الأخبار ٢ / ٢٦٤.

٥٦٤

حتى تبدوا أفئدتهم (١) ؛ فإذا كان هذا في أعوانهم ، فكيف حكم أعيانهم. وقال الله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) .. الآية [الصافات : ٢٢].

جاء في الحديث : «أنّهم يحشرون حتى من برا لهم قلما ، فيؤمر بهم إلى النّار». وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة ، وأشباه الظلمة حتى من برا لهم قلما ، أو لاق (٢) لهم دواة ، فيجمعون في تابوت من حديد ، ثم يرمى بهم في جهنم». وعن ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لردّ دانق من حرام يعدل عند الله سبعين حجّة مبرورة» (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يؤتى بالظالم يوم القيامة ـ ويداه مغلولتان حتى يكون عدله الذي يفكّه ، وجوره الذي يوبقه». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن مطل غريمه وهو يقدر على أداء حقّه فعليه عن كلّ يوم مطله لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقال الله سبحانه في الزبور : يا داود ما يؤمّن الظّالم أن أقصمه في الساعة التي ظلم فيها ، فإذا رأيت منكرا فغيّره. يا داود من عظّم فاسقا أو قرب من فاسق حشرته معه إلى سجّين.

وقال نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا (٤) من مدح فاسقا ذهب ماء وجهه ، ألا ومن مشى مع ظالم ـ وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الدّين ، ألا ومن كثّر سواد قوم فهو منهم ، ألا ومن تشبّه بقوم فهو منهم». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سوّد علينا

__________________

(١) الأحكام ٢ / ٥٣٨. وأمالي أحمد بن عيسى ٣ / ٣٥٢.

(٢) لاق : هزّ.

(٣) أبو طالب في أماليه ص ٣٩٧.

(٤) في (ب) بحذف ألا.

٥٦٥

فقد شرك في دمائنا» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مدح الفاسق اهتزّ العرش» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن عظّم صاحب دنيا ومدحه لطمع دنيا يرجوها منه سخط الله عليه ، وكان هو وقارون في الدرك الأسفل من النار ، ومن حفّ سلطانا جائرا في حاجة كان قرينه في النار ، ومن علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعل الله ذلك السوط حيّة طولها سبعون ذراعا فتسلّط عليه في نار جهنم خالدا فيها وله عذاب مقيم».

فصل : وهذا لا يخرج عنه إلا دعاة الحق ، فإنه يجوز لهم أن يفعلوا من الأفعال ما ظاهره الموالاة للظّلمة والكفرة ، للتّألّف لهم ، والاستدعاء لهم إلى الحق ، أو الاستنصار بهم (٣) ، والاستعانة بهم على نصرة الدّين ، ولا يجوز لغير دعاة الحقّ إلا على وجه التّقيّة فقط على ما فصّلنا ذلك في كتاب «ثمرة الأفكار في أحكام الكفار» ، وعلى ما فصلناه أيضا في «الرسالة الحاسمة في الأدلة العاصمة».

فصل : وأما حكم المال الحرام فروينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ الله حرم الجنة أن يدخلها جسد غذّي بحرام» (٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به فيؤجر عليه ولا ينفق منه فيبارك فيه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار» (٥). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أصاب مالا من حرام وتلبّس جلبابا

__________________

(١) أمالي أحمد بن عيسى ٣ / ٣٥٣.

(٢) السفينة ٣ / ٩٤.

(٣) في (ب) و (ج) : أو الانتصار بهم.

(٤) شمس الأخبار ٢ / ٢٤. والكنز ٤ / ١٤ رقم ٩٢٦١.

(٥) السفينة ٣ / ٢٦١. وفي الكنز ٤ / ١٧ رقم ٩٢٨٠ ما يوافق ذلك.

٥٦٦

قميصا (١) لم تقبل صلاته حتى ينخرق ذلك الجلباب عنه. إن الله تعالى أكرم وأجلّ من أن يتقبّل عمل رجل أو صلاته وعليه جلباب من حرام» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من اكتسب مالا حراما لم يقبل الله منه صدقة ولا حجّا ولا عمرة ولا صياما ، وكتب ما أنفق عليه وزرا (٣) في عنقه ، وما بقي كان زاده إلى النار» (٤). وتصديق ذلك كله قول الله سبحانه وتعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ، وقوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) [التوبة : ٥٣] ، وقال الله في الزبور : مثل الصّدقة مع الحرام كمثل الذي يغسل القذر ببوله عن ثوبه. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاء.

ومما يدل على عظم أمر الظّلم أن النّمرود بن كنعان مع ادّعائه للربوبية لم يرض لنفسه بالظلم ، ولا استحسن لنفسه أن يفعل ما يتّهم (٥) به الناس كونه ظالما ؛ فإن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه لمّا كسر الأصنام رفعوا خبره إلى النّمرود فقال لهم : فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ، فأمرهم بالإشهاد على كسر الأصنام ؛ ليظهر للنّاس أنه إنّما يعاقب إبراهيم عليه‌السلام لأجله فيخرج بذلك عن الظلم ، فلم يرض لنفسه بالظلم ، ولا بما يوهمه ، مع كفره وعتوّه ، وادعائه للربوبية. ثم لا أعدل من الله تعالى ، ولا أجلّ ولا أعظم ، فإذا كان يوم القيامة جاء بالشهود. قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)

__________________

(١) في (ب) : أو قميصا.

(٢) شمس الأخبار ٢ / ٢٦٥.

(٣) في (ب) و (ج) : وكتب عليه ما أنفق منه.

(٤) الحاكم في السفينة ٣ / ٢٦٢.

(٥) في (ب) : ما يتهمه به الناس.

٥٦٧

[النساء : ٤١] ليظهر تنزيهه تعالى عن الظلم قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦].

وروي أن رجلا من ملوك الصين أصابه الصمم في أذنيه فبكى يوما ثم قال إني لا أبكي للبلية (١) التي نزلت بي ولكن أبكي لصارخ مظلوم على الباب لا أسمع صوته ، ثم قال : فإن كان سمعي قد ذهب فإن بصري لم يذهب فلا يلبس ثوبا أحمر إلا من كان مظلوما حتى أعرف المظلوم إذا رأيته ، وكان يركب الفيل طرفي النهار بكرة وعشية لينظر إلى المظلوم ـ وهو مشرك بالله فلم يرض بالظلم (٢) ؛ لكونه مخرّبا لبلاده ، وحافظ على العدل ليدوم سلطانه ، ويعمر بلدانه.

ويجوز عندنا قتل الظالم دفعا لظلمه ، ويجب ذلك متى تكاملت شروط وجوب النهي عن المنكر. وإذا ظهر إمام الحق فله أن يأخذ جميع ما في أيدي الظلمة تضمينا لهم لما استهلكوه من أموال الناس ، وأموال الله التي أخرجوها في غير موضعها ، ومنعوها أهلها إلا أمهات أولادهم فإنه لا يجوز له أخذهنّ على ما فصلنا ذلك في الرسالة المفصحة ، وفي الرسالة الحاسمة.

وعلى الجملة فالآيات والأخبار في التحذير عن الظلم أكثر من أن نأتي عليه في هذا المختصر.

الفصل الثاني : في التحذير عن الزنا والنهي عنه

قال الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] ، وقال عزوجل (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩] ، وقال

__________________

(١) في (ب) : لبليتين.

(٢) في (ب) : الظلم.

٥٦٨

سبحانه : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [المؤمنون : ٥ ـ ٧]. وعن علي عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الزنا ستّ خصال : ثلاث في الدنيا ، وثلاث في الآخرة. فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه ، ويقطع الرزق من السماء ، ويسرع الفناء. وأما اللواتي في الآخرة فغضب الرّبّ ، وسوء الحساب ، والخلود في النار (١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الزنا يورث الفقر في الدنيا ، وشدّة الحساب والعقوبة في الآخرة» (٢). رواه أبو هريرة. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يجتمع الزنا والغنى في بيت ، ولا الفقر وقراءة القرآن في بيت» (٣). وعن علي عليه‌السلام أنه قال : أتدرون أيّ الذنب أعظم؟ قالوا : لا. قال : أعظم الذنوب عند الله تعالى بعد الشرك الزنا ؛ لأنه يزني بحليلة أخيه فيصير زانيا ، ويفسد على أخيه زوجته (٤). وعن المقداد بن الأسود رحمه‌الله قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الزنا فقال : حرام حرمه الله ورسوله ، ثم قال : «لأن يزني الزاني بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» (٥). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» ، وقد ذكرنا تمام الخبر أولا.

__________________

(١) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٤٠٣. والخطيب في تاريخه ١٢ / ٤٩٣ باختلاف يسير. وشعب الإيمان ٤ / ٣٨١ عن حذيفة بن اليمان ، بلفظ : يا معشر المسلمين إياكم والزنا .. إلخ. وشمس الأخبار ٢ / ١٩٣ ، عن جابر بن عبد الله ، وعزاه إلى الحسن بن بدر الدين في أنوار اليقين.

(٢) السفينة ٣ / ١١١ بلفظه. والديلمي ٢ / ٣٠٢. وابن عدي ٦ / ٤٣٢ بلفظ : «الزنا يورث الفقر».

(٣) السفينة ٣ / ١١١.

(٤) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٠.

(٥) أخرجه الطبراني في الأوسط ٦ / ٢٥٤ رقم ٦٣٣٣. والترغيب والترهيب ٣ / ٢٧٤.

٥٦٩

فائدة : ويجب الحد على الزاني بأن يقرّ أربع مرات في أربعة مجالس ، أو يشهد عليه أربعة شهود رجال ، أهل عدالة ، وأمانة ، وطهارة ، وديانة. ولا تقبل شهادتهم حتى يشهدوا بالجماع كالميل في المكحلة.

ويجوز لهم النظر إلى عورة الزّانيين لإقامة الشهادة عليهما متى كانوا أربعة ، ولا يجوز النظر لمن دون الأربعة ؛ لأنه لا يقام الحد بشهادتهم ، فإذا كملت الشهادة ، وحصل للحاكم ثبوت عقل الشهود ، وصحة عدالتهم ، وصحة أبصارهم ـ أقام عليهم الحد (١) : فإن كان الزاني بكرا فحدّه الجلد مائة جلدة ، إن كان حرا ذكرا كان (٢) أو أنثى متى كان الزاني عاقلا بالغا ، وإن كان الزاني محصنا فحدّه أن يجلد مائة جلدة ، ذكرا كان أو أنثى ، ويرجم بالحجارة حتى يموت ، ويكون الرجم عقيب الجلد ، ولا بد من الجمع بينهما. والإحصان يثبت بأن يكون الزاني حرا بالغا عاقلا ذكرا كان أو أنثى ، وأن يكون الزاني قد تزوج بامرأة عاقلة يجامع مثلها في الفرج ، وأن يكون نكاحه لها نكاحا صحيحا ، وأن يكون قد جامعها.

قال الهادي عليه‌السلام : وكذلك إن خلا بها خلوة صحيحة توجب كمال المهر : وسواء كانت الزوجة حرة أو أمة (٣). وذكر المرتضى لدين الله محمد بن الهادي (ع) : أن امرأة حرة لو تزوج بها صبي لم يبلغ ، ودخل بها ، ثم زنت ـ أنه إن كان مثله يأتي النساء فهو يحصنها ، وكذلك إن تزوج بالغ بصبية لم تبلغ ودخل بها ، ومثلها يؤتى فهو محصن ، ذكره في النوازل (٤).

__________________

(١) الظاهر عليهما أي الزانيين.

(٢) في (ب) : بحذف كان.

(٣) الأحكام ٢ / ٢٢٦.

(٤) هو لصاحب القول المرتضى بن الهادي (ع).

٥٧٠

ويمكن أن يخرّج ذلك على أصل الهادي إلى الحق عليه‌السلام. وليس من شرط الإحصان الإسلام. وحكم الزانية في شرائط الإحصان حكم الزاني بلا خلاف في ذلك. ولا يثبت الإحصان إلا بشهادة شاهدين عدلين على ما مضى. ويسألهما الحاكم عن معنى الإحصان وتفسيره.

فائدة : وكان الأصل في حد الزنا (١) هو الحبس في النساء الزواني. قال الله تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء : ١٥]. وكان قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) إشعارا منه بالنسخ لهذا الحكم ، وهو وجوب إمساكهن في البيوت.

ثم نسخ الله تعالى ذلك بالجلد والتغريب في البكر ، وبالجلد والرجم في الثّيّب ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عنّي ، قد جعل الله لهنّ سبيلا :

البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب رجم بالحجارة» (٢) ، ثم نسخ الله التغريب بأية الجلد ، فقال (٣) تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢]. وروي عن علي عليه‌السلام : كفى بالنفي فتنة (٤). وروي أنّ عمر بن الخطاب نفى واحدا فارتد ولحق بهرقل الكافر ، فقال عمر : لا أنفي بعده أحدا ، ولم ينكره أحد من الصحابة ، فكان ذلك دليلا على أنهم علموا أن النفي منسوخ ؛ لو لا ذلك لأنكروا عليه قوله : لا أنفي بعده أحدا (٥).

__________________

(١) في (ب) : الزاني.

(٢) مسلم ٣ / ١٣١٦ رقم ١٣١٦. وأبو داود ٤ / ٥٧١ رقم ٤٤١٥. والترمذي ٢ / ٣٢ رقم ١٤٣٤. ومسند أحمد ٨ / ٣٩٢ رقم ٢٢٧٢٩ ، وغيرهم.

(٣) في (ج) ، (ب) : قال.

(٤) الحاوي ١٧ / ٢٠. وعبد الرزاق ٧ / ٣١٤.

(٥) النسائي ٨ / ٣١٩. وعبد الرزاق ٧ / ٣١٤.

٥٧١

وبيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرجم ـ فرجم ماعز بن مالك بالحجارة حتى مات (١). ورجم امرأة من جهينة كذلك (٢). وكان الرجم ثابتا على عهد الصحابة (رض) ؛ فقال علي عليه‌السلام لمّا جلد الهمدانية ورجمها : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣). والرجم إنما يختص بالأحرار دون المماليك فإنّ حدّ الأمة والمملوك على النصف من حد الحرّ ؛ لقوله تعالى في الإماء : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] ، وحكم ذكران المماليك حكم الإماء في ذلك بلا خلاف بين المسلمين.

وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال : حدّ العبد نصف حد الحر (٤). وهذا إنما يتصوّر في الجلد. فأما الرجم فإنه لا يتبعّض ؛ فلهذا إنّ المماليك لا يرجمون. ولا خلاف بين أئمتنا (ع) في ذلك ، وحكم أم الولد والمدبّر والمدبّرة (٥) في ذلك حكم العبد والأمة.

فأمّا المكاتب : فإن كان لم يؤدّ شيئا من مال الكتابة فحكمه في الحدود حكم العبد ، وإن كان قد أدى شيئا من مال الكتابة ؛ فإنه يقام عليه الحد بقدر ما عتق (٦) ، وهذا في الجلد دون الرجم ، فإن المكاتب لا يرجم أبدا ؛ لأنه عبد.

__________________

(١) مسلم ٣ / ١٣٢٢ رقم ١٦٩٥.

(٢) مسلم ٣ / ١٣٢٤ رقم ١٦٩٦.

(٣) المجموع ص ٣٣٤. ورأب الصدع ٣ / ١٣٨٣. والبخاري ٦ / ٢٤٦٨ رقم ٦٤٢٧. وأحمد بن حنبل ١ / ٣٤٧ رقم ٩٤١ ، ٩٤٢.

(٤) المجموع ص ٣٣٥.

(٥) أم الولد : الجارية التي ولدت لسيدها واعترف بهم. والمدبّر والمدبّرة هو من يقول له سيده : اعتقتك بعد موتي.

(٦) في (ب) : ما قد عتق ، وفي قد مثبتة بعد ما من الحديث التالي.

٥٧٢

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» (١) ، وإنما خصصناه في الجلد وفي الميراث بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا أصاب المكاتب ميراثا أو حدّا فإنه يرث على قدر ما عتق منه ، ويقام عليه الحد على قدر ما عتق منه» (٢).

وروي عن علي عليه‌السلام أنه جلد عبدا قد أعطى نصف مال الكتابة خمسا وسبعين جلدة (٣) : نصفه حدّ الحر ، ونصفه حدّ العبد. وإذا ثبت ذلك ؛ فإن إقامة هذه الحدود إلى الأئمة دون غيرهم من سائر الأمة إلا حدّ المماليك فإنه في وقت الأئمة إليهم كما تقدم مثله في الأحرار ، وفي غير زمان الأئمة إلى موالي المماليك ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (٤). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ، فإن عادت فليجلدها ، فإن عادت فليبعها» (٥). فإن قيل : فهل حد الزاني والزانية عقوبة أو لا؟ قلنا : نعم ؛ لقول الله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٢] فإن قيل : فما تقولون فيمن يتوب بعد الزنا وقبل إقامة الحد عليه ، أليس التوبة تسقط العقوبة؟ قلنا : التوبة تسقط العقاب بلا خلاف بين المسلمين ، وعلى ذلك يدل دليل العقل والكتاب والسنة والإجماع.

__________________

(١) الترمذي ٣ / ٥٦١ رقم ١٢٦٠.

(٢) الترمذي ٣ / ٥٦٠ رقم ١٢٥٩. وأبو داود ٤ / ٧٠٦ رقم ٤٥٨٢. والبيهقي في السنن ١٠ / ٣٢٥. والدار قطني في السنن ٤ / ١٢١. والحاكم ٢ / ٢١٩.

(٣) المجموع ص ٣٣٦.

(٤) أبو داود ٤ / ٤١٧ رقم ٤٤٧٣. والدار قطني في السنن ٣ / ١٥٨. والبيهقي في السنن ٨ / ١٢٢٩.

(٥) الترمذي ٤ / ٣٧ رقم ١٤٤٠. وأحمد بن حنبل ٩ / ٣٣٣ رقم ٢٤٤١٥ باختلاف يسير.

٥٧٣

ومع ذلك لا يسقط الحد ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجم امرأة من جهينة أقرّت بالزنا وتابت وصلّى عليها ، فقال له عمر بن الخطاب : تصلي عليها وقد زنت ،؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد تابت توبة لو قسّمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم» (١). فإن قيل فكيف ترجم بعد التوبة ، والتوبة تسقط العقاب؟ قلنا : يكون ذلك على وجه الابتلاء والامتحان ، يعيضهم عليها الرحمن ، كما نقوله في أمراض المجانين والصبيان ، فإنهم لا يستحقون العقاب ولكن يبتليهم بذلك رب الأرباب ويعوضهم بأضعاف ذلك مضاعفة كما بينا ذلك في «كتاب النظام» ، والله الهادي.

الفصل الثالث : في التحذير عن اللواط وما أشبهه

قال الله سبحانه (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) [الأعراف : ٨٠ ـ ٨١] الآية ونظائرها في القرآن كثير وقال الله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩].

جاء في تفسيره أن ذلك عشر خصال : اللواط ، والخذف بالحصى ، والرمي بالبندق ، والصفير (٢) ، وسيأتي ذكر سائرها في فصل اللهو والمغاني.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قبّل غلاما شهوة حرّم الله عليه الجنة ، وأوجب له النّار» (٣). وعن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ثلاثة لا يقبل الله

__________________

(١) أبو طالب ص ٤٠١. ومسلم ٣ / ١٣٢٤ رقم ١٦٩٦ باب الحدود. وأبو داود ٤ / ٥٨٧ رقم ٤٤٤٠. والترمذي ٤ / ٣٣ رقم ١٤٣٥. ومسند أحمد ٧ / ٢٢٠ رقم ١٩٩٧٤. والنسائي ٤ / ٦٣ رقم ١٩٧٥.

(٢) الدر المنثور ٥ / ٢٧٦.

(٣) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٤.

٥٧٤

لهم شهادة أن لا إله إلا الله : الراكب والمركوب ، والراكبة والمركوبة ، والإمام الجائر» (١).

وعن علي عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ثلاثة لا تنالهم شفاعتي : ناكح البهيمة ، ولاوي الصّدقة ، والمنكح من الذكور مثل ما تنكح النّساء» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تملّوا (٣) أعينكم من أولاد الأغنياء فإنّ فتنتهم أشدّ من فتنة العذارى» (٤).

يريد بذلك مع اقتران الشهوة بالنظر ؛ لأنه إذا لم يقع عند النظر إليهم شهوة لهم جاز نظرهم بالإجماع. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «احذروا الملوك وأبناء الملوك ؛ فإن لهم شهوة كشهوة العذارى» (٥). وعن سعيد بن المسيب أنه قال «إياكم ومجالسة كلّ غلام ، فإنه أعظم فتنة من فتنة النساء» (٦). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قبّل غلاما لشهوة فكأنما نكح أمّه سبعين مرة ، ومن نكح أمّه مرة فكأنما افتضّ سبعين عذراء بغير مهر ، ومن افتضّ سبعين عذراء بغير مهر ، فكأنما زنا بسبعين ثيّبا ، ومن زنى بامرأة مسلمة أو غير مسلمة حرة أو أمة فتحت عليه في قبره ثمانمائة ألف باب من النار ، تخرج إليه حيات وعقارب وشهب من النار ، فهو يعذّب بها إلى يوم القيامة» (٧).

__________________

(١) شمس الأخبار ٢ / ٢٠٠ ، وعزاه إلى السمان في أماليه.

(٢) رأب الصدع ٣ / ١٥٩١. وشمس الأخبار ٢ / ١٩٩ ، وعزاه إلى السمان في المجالس.

(٣) في بعض النسخ : لا تملئوا.

(٤) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٤. والبيهقي في شعب الإيمان ٤ / ٣٥٨ ، عن الحسن بن ذكوان مرسلا.

(٥) السفينة ٣ / ١١٢.

(٦) السفينة ٣ / ١١٤.

(٧) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٥.

٥٧٥

وروي عن عبد الله بن العباس رضى الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه» (١). وروي أنّ عبد الملك بن مروان لعنه الله سأل قاضي حمص عن ذلك فقال : يرمى بالحجارة كما رجم قوم لوط. قال الله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ، فقتله عند ذلك. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستّة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يجمعهم مع الناس : الفاعل بيده ، والفاعل بحليلة جاره ، وشارب الخمر إلا أن يتوب ، والفاعل ، والمفعول به ، والضارب والديه حتى يستغيثان الله» (٢). وسئل إبليس لعنه الله عن أي شيء أحبّ إليه ، وأبغض إلى الله؟ فقال : الذّكران يعلو أحدهما الأخر (٣). وفي الحديث : وإذا رأى الشيطان ذكرا يعلو ذكرا فرّ منه مخافة أن ينزل بهم العذاب (٤). وفي الحديث : «يأتي يوم القيامة قوم ، بطون أيديهم كبطون الحوامل ، يريد بذلك الفاعل بيده حتى ينزل ماؤه» (٥). وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لعن الله ناكح البهيمة ، وناكح اليد».

واعلم أيها المسترشد أنّ إتيان النساء في أدبارهن حرام ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تأتوا النساء في أدبارهن» (٦). وقال : «هي اللوطية الصغرى» (٧).

__________________

(١) الترمذي رقم ١٤٥٦. وأبو داود رقم ٤٥٦١. وابن ماجه رقم ٢٥٦١. والحاكم ٤ / ٣٥٥ ، وغيرهم.

(٢) أخرج في شعب الإيمان ٤ / ٣٧٨ ما يوافق ذلك.

(٣) السفينة ٣ / ١١٣.

(٤) السفينة ٣ / ١١٣.

(٥) أخرج في شعب الإيمان ما يوافق ذلك ٤ / ٣٧٨.

(٦) البيهقي في السنن ٧ / ١٩٦. والدارمي ١ / ٢٦٠.

(٧) البيهقي في السنن ٧ / ١٩٨. وأحمد بن حنبل ٢ / ٦٠٢ رقم ٦٧١٨ ، ورقم ٦٩٨٥ ، ورقم ٢٩٨٦.

٥٧٦

وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أتى حائضا ، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمّد» (١). وعن جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في محاشّهنّ (٢). وقال الله سبحانه : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : ٢٢٣] ، أي كيف شئتم ، والحرث موضع الزرع ، ولا يطلب الزرع إلا في القبل. وروي عن جابر أنه قال : إن اليهود كانت تقول : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها جاء ولده أحول (٣) ؛ ثم فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يجوز للزوج أن يجامع زوجته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا من قبلها في قبلها فنعم ، وأما من دبرها في قبلها فنعم ، وأما في دبرها فلا. إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن» (٤). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ومن نكح امرأة في دبرها ، أو رجلا ، أو غلاما ، حشره الله يوم القيامة أنتن من الجيفة ، يتأذى منه أهل الجمع حتى يدخل جهنم ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل (٥) ، وحبط كلّ عمل عمله في الدنيا ، وإذا دخل جهنم أمر به فأدخل في تابوت من نار ، ولو وضع ألم عرق من عروقه على سبعمائة أمّة لماتوا جميعا. وهو من أشد أهل النار عذابا» (٦).

والأخبار في هذه الأمور أكثر من أن نحصيها في هذا المختصر ، فلنقتصر

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٣٧٨ رقم ٩٣٠١.

(٢) أخرج في الدر المنثور ٢ / ٤٧١ : إن الله لا يستحيي من الحق لا يحل مأتى النساء في حشوشهن.

(٣) ينظر الدر المنثور ٢ / ٤٦٩.

(٤) السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ١٩٦. والدر المنثور ٢ / ٤٧١.

(٥) الصرف : التوبة ، وقيل : النافلة. والعدل : الفدية ، وقيل : الفريضة.

(٦) شمس الأخبار ٢ / ١٩٩.

٥٧٧

على هذا القدر منها ، ونتكلم في حد من فعل شيئا من ذلك ، فنقول وبالله التوفيق : فنقول : أما المخنّث فإنه يقتل ؛ لإجماع الصحابة (رض) على ذلك ، وإجماعهم حجة. وروي أنهم أجمعوا على تحريق مخنّث (١). واختص أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بالقول بأنه يلقى عليه حائط فيموت (٢) ، وإليه ذهب عثمان بن عفان. واختار بعضهم أنه يلقى من أعلى بناء في قرية فيموت (٣). ومنهم من قال : يحرّق (٤). فحصل من هذا الخلاف إجماع منهم على جواز قتله ، ولم يفصلوا بين أن يكون محصنا أو غير محصن ، وهو قول القاسم بن إبراهيم [الرسي] ، والناصر للحق الحسن بن علي [الأطروش] (ع) ، وهو قول الشافعي ومالك (٥).

وهكذا حكم الفاعل بالمخنث فإنه يقتل عندنا ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (٦). قال القاسم بن إبراهيم (ع) من أتى البهيمة فحكمه حكم من أتى الرجل (٧). قال المؤيد بالله عليه‌السلام : كلام القاسم عليه‌السلام يدل على أنه يرجم بكرا كان أو ثيّبا.

والذي يدل على ذلك ما رواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من وجد

__________________

(١) ينظر الاعتصام ٥ / ٧٧. والتجريد ٥ / ٩٨. والحاوي ١٧ / ٦١.

(٢) التجريد ٥ / ٩٨.

(٣) هو قول ابن عباس كما في الحاوي للماوردي ١٧ / ٦١ ، ٢ / ٦١. والاعتصام ٥ / ٧٧.

(٤) هو عبد الله بن الزبير ، ينظر الحاوي ١٧ / ٦١.

(٥) ينظر الماوردي ١٧ / ٦٢. والتجريد ٥ / ١٠٠.

(٦) مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٦٤٤ رقم ٢٧٣٣. وكنز العمال ٥ / ٣٣٩ رقم ١٣١٢٥.

(٧) التجريد ٥ / ١٠٠ ، والتحرير ٢ / ٥٦١.

٥٧٨

على بهيمة فاقتلوه مع البهيمة» (١). قيل لابن عباس : ما شأن البهيمة؟ قال : إنها ترمى ، فيقال : هذه وهذه ، وقد فعل بها ما فعل. فدل ظاهر الخبر على وجوب قتل من يفعل هذا الفعل ؛ فإذا ثبت وجوب القتل ظهر بذلك صحة مذهب القاسم عليه‌السلام ، وهو أحد قولي الشافعي رحمه‌الله ، والقول الآخر ، أنه لا يقتل إلا أن يكون محصنا. وذكر أصحاب الشافعي فيمن أتى بقرة الغير فقتلت فإنه لا يؤكل لحمها ويضمن الواطي قيمتها.

ومثله ذكره الإمام السيد أبو طالب رضي الله عنه في وجوب قيمتها على الواطي. قال المؤيد بالله رضي الله عنه فإن اشتبهت عليه البقرة ، فلا شيء عليه.

وأما ناكح اليد فإنه يعزّر. وكذلك من أتى امرأته وهي حائض. وكذلك من أتى امرأته في دبرها فإنه يعزّر على قدر ما يقع بمثله الانزجار عن مثل هذا الصنيع القبيح ، والتعزير في مثل ذلك دون حد الزنا (٢) بسوط أو سوطين. وإقامة ذلك إلى الأئمة في وقتهم ، فإن لم يكن إمام وقتل المخنّث قاتل فلا قود عليه ولا دية. وكذلك ذكر أصحاب الشافعي رضي الله عنه فيمن يرى (٣) رجلا يزني بامرأة ـ وكان الزاني محصنا ـ جاز له قتله (٤). وإن كانا جميعا محصنين جاز له قتلهما. قال السيد الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين عليه‌السلام وهذا يجب أن يكون صحيحا على أصل يحيى بن الحسين الهادي عليه‌السلام ؛ لأن إقامة الحدود ـ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجامع الصحيح ٤ / ٤٦ رقم ١٤٥٥. وسنن أبي داود ٤ / ٦٠٩ رقم ٤٤٦٤. وكنز العمال ٥ / ٣٣٥ رقم ١٣١٢٣ كما أخرجه في المستدرك ٤ / ٣٥٥.

(٢) في (ج) ، (ب) : الزاني.

(٣) في (ب) ، (ج) : رأى.

(٤) من هنا سقطت صفحة من الأصل ، واعتمدنا (ب) ، (ج) ، (د) ، (ه).

٥٧٩

وإن كانت إلى الإمام ، ـ فإنّ قتل من هو مستحق للقتل مباح الدم كالمرتد ـ لا يوجب على القاتل القود. وأقول أنا : ولا خلاف في أنه لا يجب عليه الدية. قال المؤيد بالله قدس الله روحه : ويجوز التعزير لمن نصبه المسلمون ، إذا لم يكن في العصر إمام ، فإن كان فيه إمام لم يجز إلا بإذنه ، إلا أن يكون ذلك في بلد لا يجري للإمام فيها حكم. ومثل ذلك ذكره القاضي زيد في باب اللعان ، فقال :

حكاه المؤيد بالله عن السيد أبي العباس عليه‌السلام.

الفصل الرابع

في التحذير عن شرب الخمر والمسكر

فصل : الإثم : هو الخمر عند العرب. قال شاعرهم :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يفعل بالعقول (١)

وقد حرمه الله تعالى ؛ لقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) [الأعراف : ٣٣] ، وقال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] ، فوصفها الله بأنها رجس ، وكل رجس محرم بدلالة قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] ، ولأنه وصفها بأنها من عمل الشيطان ، أي الدعاء إلى شرابها ، وهذا يقتضي تحريمها ، ولأنه قال : (فَاجْتَنِبُوهُ) ، فأمر ، والأمر يقتضي الوجوب باجتنابها ، وما يجب اجتنابه من الأشربة فإنه محرم ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخمر جماع الإثم» (٢). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «وحلف الله بعزته أن لا يشرب أحد في الدنيا الخمر إلا سقي مثلها من الحميم

__________________

(١) اللسان ١٢ / ٦ ، وفيه تذهب بالعقول.

(٢) شمس الأخبار ٢ / ١٩٠. والترغيب والترهيب ٣ / ٢٥٧.

٥٨٠