ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، قالوا : وهذا يدل على أنه تعالى يرى في الآخرة (١). ومنها قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين : ١٥ ـ ١٦] ، وهذا يدل على الرؤية ؛ لأن المؤمن لو حجب عن رؤية ربه لاستوى حاله وحال الكافر (٢).

ومنها قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ، قالوا : وتلك الزيادة هي النظر إليه ، والرؤية له (٣).

ومنها قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] (٤).

ومنها ما رواه قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنكم سترون ربّكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» (٥). قالوا : وهذا نص صريح يقتضي إثبات رؤية الخلق له يوم القيامة.

__________________

(١) معالم أصول الدين ص ٥٤.

(٢) تفسير الطبري مج ١٥ ج ٣٠ ص ١٢٥ نقل أن هذا رأي ، والرأي الأخر محجبون عن كرامته ، وهو رأي قتادة. مفاتيح الغيب مج ١٦ / ٣١ / ٩٦.

(٣) تفسير الطبري مج ٧ ج ١١ ص ١٣٧. والإبانة ص ٣٥. والقرطبي ١٩ / ٧٠. وتفسير ابن كثير ٤ / ٤٥٠. ومعالم أصول الدين ص ٥٥.

(٤) معالم أصول الدين ص ٥٤.

(٥) البخاري : ١ / ٢٠٣ رقم ٥٢٩. ومسلم ١ / ٤٣٩ برقم ٦٣٣. وتضامّون ـ بفتح التاء وضم الميم وتشديدها ـ معناه : لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا يقول : أرنيه ، بل كلّ ينفرد برؤيته. وروي تضامون ـ بضم التاء وضم الميم بدون تشديد ـ والمعنى : لا يظلم بعضكم بعدم رؤيته ، بل كلكم يراه. وهذا التفسير على قول من يجيز الرؤية.

١٢١

والجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أنه قد ورد في القرآن الكريم ما يبطل قولهم في الرؤية وهو ما قدمنا ذكره قبل هذا الموضع ، فإنه يدل على أنه تعالى لا يرى ، وليسوا بأن يتمسكوا بما ظنوا كونه حجة لهم على صحة قولهم أولى من أن يتمسكوا بما يشهد ببطلانه ؛ إذ القرآن كله واجب الاتباع ، وهكذا القول في السّنة ؛ لأنها قد وردت بما يشهد ببطلان التشبيه ، كما وردت بما ذكروه وتوهموا كونه دليلا على الرؤية ، فليسوا بأن يتمسكوا ببعض ذلك أولى من البعض. ونحن نورد بعضا مما يدل على أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومن كلام الصحابة ، ومن كلام أهل البيت (ع) ؛ ليتضح بذلك صحّة ما ذكرناه. فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ أحدا لا يرى ربّه في الدنيا ولا في الآخرة» (١).

وعن سمرة بن جندب قال : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل نرى ربنا في الآخرة؟ قال : فانتفض ثم سقط فلصق بالأرض ، وقال : «لا يراه أحد ، ولا ينبغي لأحد أن يراه». وعن ابن عباس أنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعائه في الوتر : «اللهمّ إنك ترى ولن ترى» ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وروي من كلام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في بعض خطبه : الحمد لله الذي يعلم خفيّات الأمور ، ودلت عليه أعلام الظّهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من أثبته تبصره ، ولا قلب من لم يره ينكره (٢). ومن كلام له وقد سئل : كيف عرفت ربّك؟ فقال : أعرفه بما عرّف به نفسه من غير رؤية ، لا يدرك

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة ص ٢٧٠. والمغني ٤ / ٢٢٩.

(٢) النهج ١٧١.

١٢٢

بالحواس ، ولا يقاس بالناس. وعن ابن عباس أن عليا عليه‌السلام مرّ برجل رافع يديه إلى السماء ، شاخص ببصره ، فقال عليه‌السلام : يا عبد الله اكفف من يدك ، واغضض من بصرك فإنك لن تراه ولن تناله. فقال : يا أمير المؤمنين إن لم أره في الدنيا فسأراه في الآخرة ، فقال : كذبت بل لا تراه في الدنيا (١) ، ولا في الآخرة ، أو ما سمعت قول الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، إن أهل الجنة ينظرون إلى الله تعالى كما ينظر إليه أهل الدنيا ، ينتظرون ما يأتيهم من خيره وإحسانه.

ومن كلام ولده الحسن بن علي عليه‌السلام قال (٢) لنافع بن الأزرق وقد سأل (٣) عن صفة الله تعالى ، فقال : أصفه بما وصف به نفسه وأعرّفه بما عرّف به نفسه : لا يعرف بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، إلى آخر كلامه. ومن كلام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام وقد سئل : أرأيت ربك؟! فقال : لم أكن لأعبد شيئا لم أره. قيل : كيف رأيته؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس (٤) ، إلى آخر كلامه.

وعن عبد الله بن العباس رحمه‌الله أنه قال في وصفه (٥) لله تعالى : لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس. ذكره في جوابه لنجدة الحروري. وروي أن مسروقا (٦) أتى عائشة ، فقال : يا أم المؤمنين أرأى محمّد ربّه؟! فقالت : سبحان

__________________

(١) في (ب) : لن تراه في الدنيا. وبحذف كذبت.

(٢) في (ب) : أنه قال.

(٣) في (ب) : سئل.

(٤) ينظر أمالي المرتضى ١ / ١٥٠ ، ونسبه إلى ابنه الباقر عليه‌السلام.

(٥) في (ب) : في صفة الله.

(٦) مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني الكوفي تابعي ، عدّ في المخضرمين الذي أسلموا في حياة النبي ولم يره. أنظر سير أعلام النبلاء ٣٤ / ٦٣ ، والتاريخ الكبير ٨ / ٣٥.

١٢٣

الله العظيم لقد قفّ (١) شعري ممّا قلت ، ثم قالت : ثلاث من حدّثك بهنّ فقد كذب : من حدّثك (٢) أنّ محمّدا رأى ربّه فقد كذب ، ثم تلت قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الآية. وقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١]. ومن حدّثك أنّ أحدا يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم تلت قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ). الآية. [لقمان ٣٤]. ومن حدّثك أنّ محمّدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب ، ثم تلت قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية (٣) [المائدة : ٦٧]. فقال مسروق : يا أمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، أرأيت قول الله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) [النجم : ١٣] ، قالت عائشة : ذلك جبريل لم يره رسول الله في صورته التي خلق فيها إلا مرتين (٤). تعني أنّ إحداهما عند سدرة المنتهى.

كما روي عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : رأيت جبريل عند السّدرة وعليه ستّمائة جناح (٥) ، ينتثر من ريشه الدّرّ والياقوت (٦). والثانية منهبطا من السماء إلى الأرض. وعن طاوس عن ابن عمر قال : لو رأيت من

__________________

(١) قفّ شعره : قام من الفزع.

(٢) في (ب) : من زعم. وهي رواية مسلم ، والذي في الأم لفظ البخاري.

(٣) قراءة نافع. و (رِسالَتَهُ) لحفص.

(٤) البخاري ٤ / ١٨٤٠ رقم ٤٥٧٤. ومسلم ١ / ١٥٩ ، ١٦٠ رقم ١٧٧. باختلاف يسير في اللفظ.

(٥) البخاري ٣ / ١١٨٠ رقم ٣٠٦٠. ومسلم ١ / ١٥٨.

(٦) أخرجه في الدر المنثور ٦ / ١٦٠.

١٢٤

يزعم أنه يرى الله لاستعديت عليه (١). وسئل أبو العالية : هل رأى محمد ربّه؟ فقال : لا (٢). وعن الحسن البصري أنه قال : لا يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة. وعلى الجملة فذلك مما انعقد عليه إجماع الصحابة. وهو مذهب جميع علماء أهل البيت المطهّرين. وهو قول جميع العلماء الراشدين الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فهذا هو الوجه الأول.

والوجه الثاني : أن نتكلم في معاني ما استدلوا به من الآيات والسّنّة ، فإنّ ظاهر ذلك يخالف دليل العقل ومحكم القرآن ؛ فلو دلّ على صحّة قولهم لوجب تأويله على ما يوافق الأدلّة ، كيف وبعضه لا يدلّ على ذلك بوجه من الوجوه ، وبعضه لا يصح الاستدلال به ، ونحن نوردها شيئا شيئا ، ونتكلم عليها ، ونبيّن صحّة الصحيح من معانيها ، وفساد الفساد بمنّ الله وعونه ، فنقول : أما قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، فقد تكلّمنا فيها في كتاب الإرشاد في ثلاثة مطالب : أحدها في معنى النظر في اللغة وأقسامه ، وثانيها في الدلالة على أنّه لا يجوز أن يكون حقيقة في الرؤية. وثالثها في بيان معنى النظر في الآية وذكر ما ورد فيه عن علماء الصحابة والتابعين (رض) أجمعين.

والغرض الاختصار هاهنا فلنقصد إلى الغرض من ذلك وهو المطلب الثالث بعد ذكر طرف مما يدل على أنه لا يجوز حمله على الرؤية. فأما الذي يدل على أنه لا يجوز حمل النظر هاهنا على الرؤية فوجوه : منها أنّه مخالف لدليل

__________________

(١) المغني ٤ / ٢٢٩.

(٢) أخرج الطبرسي في مجمع البيان مج ٩ ج ٢٧ ص ٢٩١ ، عن أبي العالية قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل رأيت ربّك ليلة المعراج؟ قال : لا. رأيت نهرا ، ورأيت وراء النهر حجابا ، ورأيت وراء الحجاب نورا ، ولم أر غير ذلك.

١٢٥

العقل ؛ لأن القول برؤيته تعالى يوجب (١) كونه محدودا في محاذاة ما ؛ إذ الرؤية لا تصحّ إلا على متحيّز. أو قائم بمتحيّز ، مثل الكون لا ينطبق إلا على جسم متحيز ، وقد ثبت حدوث المتحيزات وقدمه تعالى ؛ فلا يجوز القول بخلافه. ومنها أنّ القول بجواز رؤيته تعالى يؤدي إلى مناقضة القرآن ، نحو قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، وذلك عموم لا تخصيص فيه. وقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي) ، فنفى نفيا عامّا. وإذا كان القول بمناقضة القرآن محالا كان ما أدّى إليه محالا ، وهو القول برؤيته تعالى ؛ لأن ما أدى إلى المحال فهو محال. ومنها أنّ نمط الآية لا ينبئ عن الرؤية بل يبطلها ؛ لأنه تعالى قال في نقيضه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) [القيامة : ٢٤ ـ ٢٥] فلمّا أوجب للكفار خوف العقاب دون المنع من الرؤية ـ وجب أن يكون ما وعد به المؤمنين انتظارا للثواب دون الفوز بالرؤية. (٢) ومنها أنّ الوجه لا يرى ولا يكون رائيا على الحقيقة ، فلا يجوز حمل قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، على الرؤية ، وذلك شائع في اللغة ، قال حسان بن ثابت :

__________________

(١) في (ج) : توجب ويوجب ، وفي الأصل : توجب ، وفي (ب) : يوجب وهو الأظهر ، ولذلك أثبتناه.

(٢) يقال في علم البلاغة إن في الآيات مقابلة ، وهي لون من ألوان البديع فقابل بين وجوه ناضرة أي مشرقة جميلة بقوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي قبيحة كالحة ، وناظرة بمعنى منتظرة لرحمة الله قابلها بقوله في أهل النار : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)! أي تتوقع البوار كما تنتظر تلك النعيم ، هذا هو النّسق العالي للقرآن ، ولا معنى للرؤية هنا مطلقا ؛ لأن نظم القرآن سيكون شاذّا بشعا إذا قلنا : وجوه جميلة ترى الله ، ووجوه قبيحة تتوقع الهلاك ، ولهذا فلا يجوز تحميل القرآن ما لا يحتمل.

١٢٦

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن يأتي بالخلاص

أي منتظرة ، وذلك يبطل قول من قال : إنّ النّظر إذا علّق بالوجه لم يكن بمعنى الانتظار ، ومما يبطل ذلك أيضا قول البعيث :

وجوه بها ليل (١) الحجاز على النّوى

إلى ملك ركن المعارف ناظرة (٢)

أي منتظرة لمعروفه على النوى وهو البعد. وإذا ثبت ذلك قلنا في الصحيح من معنى الآية : إنّ قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) : يومئذ يعني يوم القيامة ، ناضرة ، أي مشرقة حسنة جميلة ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : يعني ناظرة إلى ثواب ربها ، ومنتظرة لما يأتي منه (٣) ، وعليه يدلّ قول الله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] ، أي منتظرة. وقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي عابسة مكتئبة ، (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي داهية عظيمة.

[المروي عن الصحابة] (٤)

وأما المروي عن الصحابة. فروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّ معنى قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، قال : إلى ثواب ربها. ومثله عن السدي ، وعن سعيد

__________________

(١) البهلول : السيد الجامع لكل خير. [القاموس ١٢٥٣].

(٢) وجوه مبتدأ ، وناظرة خبره ، وركن خبر مبتدإ محذوف تقديره هو ركن المعارف ، والجملة من المبتدإ والخبر صفة لملك. ويعاب على هذا البيت بالتعقيد المعنوي.

(٣) غريب القرآن ص ٣٥٩. والكشاف ٤ / ٦٦٢ ، وتمثل بقول الشاعر :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

والطبرسي مج ١٠ ج ٢٩ ص ١٩٨. والدر المصون ١٠ / ٥٧٦.

(٤) المغني ٤ / ٢٢٩.

١٢٧

ابن المسيب أنه قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : ناضرة من النعيم (١). (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بمعنى تنتظر ثواب ربها ، ولا يرى الله أحد ، وهو المروي عن عبد الله بن العباس فإنه قال في قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، أي منتظرة لما يأتيها من ثواب ربها ، فأمّا الله تعالى فلم يره أحد ولا يراه أحد ، ومثله عن مجاهد (٢) ، ومثله عن الحسن (٣). قال أبو هاشم [الجبّائي] والمعنيان مراد (٤) بالآية فكأنه قال : تنظر إلى ثواب الله وتنتظر ثوابا ، فتكون فيه زيادة النعمة والرحمة. وروي عن الضحاك : أنّ عبد الله بن العباس رحمه‌الله خرج ذات يوم فإذا هو برجل يدعو ربّه شاخصا إلى السماء رافعا يده فوق رأسه ، فقال ابن عباس : ادع بإصبعك اليمنى ، وشدّ بيدك اليسرى ، واخفض بصرك ، واكفف يدك لن تراه ولن تناله. فقال الرجل : ولا في الآخرة؟ قال : نعم ، ولا في الآخرة. قال الرجل : فما قول الله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فقال ابن عباس : أليس يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، ثم قال : إنّ أولياء الله تنضر (٥) وجوههم يوم القيامة ، وهو الإشراق ، ثم ينظرون إلى ربهم ، معناه ينتظرون متى يأذن (٦) لهم في دخول الجنة بعد الفراغ من الحساب. ثم قال : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) يعني كالحة ، (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) قال : يتوقعون العذاب بعد العذاب ، كذلك قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ينتظر أهل الجنة الثواب بعد

__________________

(١) الطبرسي ١٠ / ١٨٩.

(٢) تفسير الماوردي ٦ / ١٥٦. والدر المنثور ٦ / ٤٧٦. والطبري مج ١٤ ج ٢٩ ص ٢٣٩.

(٣) انظر المارودي ٦ / ٤٧٦.

(٤) في (ب) : مرادان ، وهو الأولى ليطابق المبتدأ.

(٥) أي تحسن ، وفي (ب) : تنضّر أي تنعّم.

(٦) في (ب) : يؤذن.

١٢٨

الثواب ، والكرامة بعد الكرامة (١).

وأما قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ١٥] ، فهذا لا تعلّق لهم به (٢) ، فإن معناه أنهم مبعدون عن رحمة الله وثوابه. وروي عن قتادة أنه قال : معناه أنّ الله تعالى لا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم (٣) ولهم عذاب أليم. أجرى الله تعالى ذلك كما جرت به العادة من الإخبار عن سوء حال الغير عند السلطان ، ومن يجري مجراه ، ولهذا يقال فيمن غضب عليه السلطان وسخط عليه : أبعده عنه وأقصاه وحجبه ، وأنه لا ينظر إليه ، أي لا يرحمه ولا يكلّمه إلى نحو ذلك ، وهو شائع في لغة العرب ، وما قدّمنا من الأدلة يعضد هذا التأويل ، ويكون موافقا لأدلة العقول ، ولئلّا يؤدي إلى مناقضة السمع.

وأما قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ،

__________________

(١) ينظر تفسير الطبري مج ١٤ ج ٢٩ ص ٢٣٩.

(٢) قال القاضي عبد الجبار في متشابهه ٢ / ٦٨٣ في تفسير هذه الآية : لا تدل على ما تقوله الحشوية في أنه تعالى يرى يوم القيامة بأن يرفع عنه الحجب للمؤمنين فيروه ، ويحتجب عن غيرهم فيمنعون من رؤيته ؛ لأن هذا القول يوجب أن يكون تعالى جسما محدودا في مكان مخصوص ، ويجوز عليه الستر والحجاب ، ويراه قوم دون قوم ، ومن حيث يظهر في جهة دون جهة. والمراد بالآية : أنهم ممنوعون من رحمة الله ؛ لأن الحجب هو المنع ولذلك يقال فيمن يمنع الوصول إلى الأمير : إنه حاجب له ، وإن كان الممنوع مشاهدا له ، وقال أهل الفرائض في الأخوة : إنهم يحجبون الأم من الثلث ؛ إذا منعوها ، وإن لم يكن هناك ستر في الحقيقة ؛ فثبت بذلك أنه تعالى لم يمنعهم بذلك من رحمته وسعة فضله ، ليبعث السامع بذلك على التمسك بطاعة الله ، فيكون يوم القيامة من أهل الرحمة ، لا من المحجوبين عنها.

(٣) ينظر البغوي ٦ / ٣٨٦. والكشاف ٤ / ٧٢٣. وذكر أنه قول ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة.

١٢٩

وقولهم إنّ الزيادة هي الرؤية (١). فالجواب : أنّ قولهم باطل بما تقدّم ذكره من الأدلة. وبعد فإنّ الزيادة في اللغة لا يعقل منها الرؤية ، ولا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بما ليس في اللغة إلا أن يريد شيئا في اللغة مع البيان ، وإنما يصح ذلك في الشرع من حيث إنه لم يكن لما أمر به من الحقائق الشرعية معنى معروف على الوجه الذي ورد به الشرع في أصل اللغة ، ولا اسم (٢) موضوع [في أصل اللغة] وليس كذلك الرؤية. مع أنّه لا بيان هاهنا ، فبطل قولهم.

وأما معنى الآية فالمروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : الزيادة غرفة من لؤلؤ ، لها أربعة أبواب (٣). فالغرفة هي زيادة الثواب (٤). وروي عن ابن عباس أنه قال (٥) : الحسنة بالحسنة ، والزيادة التّسع. إنّه تعالى يقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠].

وأما قوله (٦) : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] ، وقولهم : إنّه وعد من عمل صالحا بلقائه ورؤيته (٧). فالجواب عن ذلك أنّ اللقاء ليس من الرؤية في شيء على نحو ما تقدم من الدلالة على أنّ

__________________

(١) قول أبي بكر الصديق ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري. الماوردي ٢ / ٤٣٢. وتفسير الطبري مج ٧ ج ١١ ص ١٣٧.

(٢) في (ب) : ولا اسم ، وفي الأصل تعليقة : ولا اسم. ظ. وهو الأصح.

(٣) تفسير الطبري مج ٧ ج ١١ ص ١٤١.

(٤) تفسير الدر المنثور ٣ / ٥٤٨.

(٥) أنظر المارودي ٢ / ٤٣٣ ، والدر المنثور ٣ / ٥٤٩.

(٦) في (ب) : قولهم.

(٧) قال الرازي في مفاتيح الغيب مج ١١ ج ٢١ ص ١٧٨ : وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته ، والمعتزلة حملوه على ثوابه.

١٣٠

الزيادة ليس هي الرؤية ، يزيد ذلك بيانا ما روى عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار» (١). وعن ابن مسعود عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان» (٢) ، فلو كان اللقاء حقيقة في الرؤية لكان ذلك دليلا على جواز رؤية المشركين والمجرمين لله رب العالمين ، والقوم لا يقولون به ، فبطل قولهم.

وأمّا معنى اللقاء في الآية فهو اللقاء لأمر الله ، والرجوع إلى الموضع الذي يقع فيه الحكم له ، ولقاء جزائه على ما ذكره المفسرون (٣)

وأما استدلالهم بالخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» ، وقولهم : إنه يدل على الرؤية.

فالجواب عن ذلك من وجوه : منها أن هذا الخبر من أخبار الآحاد ، وهي لا توصل إلّا إلى الظن فقط متى تكاملت شرائطها. ومسألة الرؤية من مسائل أصول الدّين فلا يجوز أن يؤخذ فيها بأخبار الآحاد ؛ لأن الواجب في مسائل أصول الدين هو المصير إلى العلم من حيث إن مدارها على الاعتقاد الذي لا يحسن إلّا متى كان علما مقتضيا لسكون النّفس ، وخبر الواحد لا يوجب العلم فلم يجز الأخذ به. ومنها أنّ الصحابة أجمعت على اطّراح أخبار الآحاد متى عارضت الكتاب والسنة المعلومة ؛ ولهذا فإنّ فاطمة ابنة قيس لمّا طلّقها

__________________

(١) ينظر أحمد بن حنبل ٥ / ١٦٩ برقم ١٥٠٢٠.

(٢) رواه الإمام القاسم في الاعتصام ٤ / ٢٧٧ ، والبخاري ٢ / ٨٣١ برقم ٢٢٢٩ ، أخرجه مسلم في الإيمان ١ / ١٢٣ برقم ١٣٨.

(٣) ينظر المارودي ٣ / ٣٥٠. وغريب القرآن للإمام زيد ص ١٩٨. ومجمع البيان للطبرسي مج ٦ ج ١٦ ص ٣٩٥. والطبري مج ٩ ج ١٦ ص ٥٠.

١٣١

زوجها طلاقا بائنا ـ وروت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقض لها بنفقة ولا سكنى ـ ردّ عمر بن الخطاب خبرها بمحضر من الصحابة ، وقال : لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا لخبر امرأة (١). والأمر في ذلك ظاهر ولا شبهة في كون هذا الخبر معارضا لكتاب الله تعالى وهو قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، وقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي). ومنها أنّ هذا الخبر معارض لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنها قاضية بأنه تعالى لا يرى وقد قدّمنا طرفا منها. وهو معارض أيضا لأدلّة العقول القاضية بأنه تعالى لا يرى. وهو معارض أيضا لإجماع العترة ؛ فإنّهم مجمعون على أنه تعالى لا يرى. وهو معارض لإجماع المسلمين من الصحابة والتابعين وإجماعهم حجّة (٢). فيجب فيما عارض هذه الأدلة مما هو مظنون أن يطرح ويلغى حكمه ، إلا أن يمكن تأويله على الوجه المطابق لهذه الأدلة ، فذلك هو الواجب حفظا لكلام الرسول عليه‌السلام عن الإهمال (٣) وإبطال الفائدة فيه. ومنها أنّ أخبار الآحاد لا يجوز الأخذ بها (٤) والعمل عليها إلا متى تكاملت شرائطها وهي ثلاث : إحداها أن يكون الراوي عدلا ضابطا ؛ لأنّ رواية غير العدل

__________________

(١) أخرجه مسلم ٢ / ١١١٨ كتاب الطلاق رقم ٤٦. والترمذي ٣ / ٤٨٤ رقم ١١٨٠. وأبو داود ٢ / ٧١٨ برقم ٢٢٩١. والنسائي ٦ / ٢٠٩.

(٢) في دعوى الإجماع نظر فإن كان المراد بالرؤية في الدنيا فيصح دعوى الإجماع ، ولا عبرة بالقول الشاذ في تجويز الرؤية في الدنيا ، وأما في الآخرة فالاختلاف بين المسلمين من قديم الزمان طويل عريض ، فيمكن الاحتجاج لنفي الرؤية بالعقل ومحكم القرآن ، وإجماع العترة ، ولا سيما في الثلاثة القرون الأوّل ، وكون أحاديث الرؤية ظنية ، أما لو وجد إجماع لما وجد خلاف ، والله أعلم.

(٣) في (ب) : من الإهمال.

(٤) في (ب) : ولا.

١٣٢

الضابط مردودة بلا خلاف ، وهذا الخبر لم يسلم من ذلك ؛ فإنّه ينتهى إلى قيس ابن أبي حازم (١) ، وهو مطعون في روايته من وجوه : أحدها أنه كان متولّيا من بني أمية ومعينا لهم على أمرهم ، ولا شبهة في كون ذلك فسقا إن لم يبلغ الكفر ؛ لأنهم عندنا كفّار (٢).

ومنها أنه كان قد خولط في عقله وكان يلعب به الصبيان كما يلعبون بسائر المجانين ، وقال لصديق له أعطني درهما أشتري بها (٣) عصا ، قال : ما تفعل بها؟ قال : أطرد بها كلاب المدينة. وروي أنه أدخل في بيت وكان في بابه

__________________

(١) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب [٨ / ٣٨٨] : كان يحمل على علي. وكذلك قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء [٤ / ١٩٩ ـ ٢٠١] ، وقال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : كبر سنه وذهب عقله قال : فاشتروا له جارية سوداء أعجمية قال : وجعل في عنقها قلائد من عهن وودع وأجراس من نحاس فجعلت معه في منزله وأغلق عليه الباب ، قال : وكنا نطلع عليه من وراء الباب وهو معها قال : فيأخذ تلك القلائد بيده فيحركها ويعجب منها ويضحك في وجهها. ورواها أيضا الخطيب في تاريخه [١٢ / ٤٥٥]. وفي طبقات المعتزلة ص ١٢٥ في المناظرة التي جرت بين أحمد بن أبي دؤاد وأحمد بن حنبل في الرؤية فقال : هذا يزعم أن الله تعالى يرى ، والرؤية لا تقع إلّا على محدود ، فروى له ـ أي أحمد بن حنبل ـ حديث قيس بن أبي حازم ، فقال ابن أبي دؤاد : تحتج بحديث قيس بن أبي حازم وهو أعرابي بوال على عقبيه!!. ونحن نقول كما قال. ت ٩٨ ه‍.

(٢) حجّة المؤلف في تكفيرهم ما رواه البخاري ١ / ٢٧ رقم ٤٨ عن عبد الله بن مسعود عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر». وقد تكرر برقم ٥٦٩٧ و ٦٦٦٥. ومسلم ١ / ٨١ رقم ١١٦ بلفظ البخاري. أقول : ومن المعلوم قطعا أن بني أمية بدأ بمعاوية قد استحلوا قتال علي والصحابة ، وقتل بسيوفهم عشرات الألوف ، ولعنوا آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنابر زمنا طويلا.

(٣) في (ب) : ما تفعل به. وأشتري بالياء في كل النسخ ، والأظهر حذف الياء ؛ لأن الفاء إذا سقطت بعد الطلب وقصد به الجزاء جزم.

١٣٣

جلاجل فإذا دقّ الباب من خلفه ضحك. ومنها أنه كان مبغضا لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام (١) وحكي أنه قال [أي قيس] : منذ سمعته يقول [أي علي] على منبر الكوفة (٢) : انفروا إلى بقية الأحزاب ـ دخل بغضه في قلبي ، يعني عليا عليه‌السلام ، ومن دخل بغض عليّ في قلبه فلا شبهة في فسقه ـ إن لم يكن كافرا ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق (٣)» ، ولقوله : «اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» (٤) ، ثم إنّ الخبر

__________________

(١) قال الوالد العلامة مجد الدين المؤيدي بهامش (ب) : إن الأمير الحسين عليه‌السلام ـ مؤلف الينابيع ـ لا يجيز قبول خبر المبغض لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وبالأولى المحارب ، مع أنه صرّح في شفاء الأوام بقبول فاسق التأويل ، وهذا يدل على أنّهم عنده غير متأولين وهو الواقع ، وأنه يذهب إلى أنهم فساق تصريح ، وكذا الإمام المؤيد بالله عليه‌السلام فقد صرح برد رواية مبعض أمير المؤمنين عليه‌السلام ومحاربه وهو يقبل المتأولين كما ذكره في شرح التجريد ، ما ذاك إلا لأنهم عندهم غير متأولين فتدبر والله ورسوله ولي التوفيق.

(٢) في هامش الأصل : مخاطبا لأصحابه.

(٣) روي بألفاظ كثيرة. ففي مسلم ١ / ٨٦ رقم ١٣١ كتاب الأيمان قال عليّ : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. أنظر المرشد بالله ١ / ١٣٥. وابن حجر في الإصابة ٢ / ٥٣. والاستيعاب ٣ / ٥٠٣. ومصنف ابن أبي شيبة ٦ / ٣٦٥ رقم ٣٢٠٦. وتذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ١٠. أحمد بن حنبل ١ / ١٨٣ برقم ٦٤٢ ، وفتح الباري ١ / ٦٣. والبداية والنهاية ٧ / ٣٩١ ، والنسائى ٨ / ١١٦ برقم ٥٠١٩. والخطيب في تاريخ بغداد ٨ / ٤١٧ ، والترمذي ٥ / ٥٩٤ رقم ٣٧١٧. وغيرهم.

(٤) هذا حديث متواتر ، قال المقبلي في الأبحاث المسددة ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤ : بعد ذكر رواته وهو متواتر فإن كان مثل هذا معلوما وإلا ما في الدنيا معلوم وقد ورد بألفاظ كثيرة من مراجع عدة نذكر منها : أمالي أحمد بن عيسى ١ / ٣٨. والمرشد بالله الشجري ١ / ٤٢. والإمام المؤيد بالله في الأمالي الصغرى ، ص ٩٠ ، ١٠٢. وأبو طالب في أماليه ص ٤٨. والإمام القاسم بن محمد في الاعتصام ٥ / ٣٧٧ ـ ٣٧٩ ، وعلي بن موسى الرضى في صحيفته ص ٤٥٧. والإمام الهادي في الأحكام ١ / ٣٧ ، ومسند أحمد ج ١ ص ١٨٢ رقم ٦٤١ ورقم ٩٥٠ ورقم ٩٦٤ ورقم ١٣١٠ مسند علي وقد رواه من أربعين طريقة ،

١٣٤

ينتهى إلى جرير بن عبد الله. وجرير بن عبد الله هذا ، هو الذي لحق بمعاوية وأحرق عليّ عليه‌السلام داره ، فثبت أن راويه ليس بعدل ولا ضابط ، إذ لم يسلم إسناده عن المطاعن ، ولا كان راويه وهو جرير بن عبد الله عدلا لأنه خالف الحقّ وخرج على أمير المؤمنين عليه‌السلام ولحق بمعاوية ...

وثانيها : أن لا يعارض أدلة العقول ولا محكم الكتاب ولا السنة المعلومة ، وقد دللنا على معارضته لهذه الأدلة فوجب سقوطه. وثالثها : أن لا يرد في أصول الدّين ولا فيما لا يؤخذ فيه إلا بالأدلة العلميّة ، وهذا الخبر ورد في أصول الدّين فوجب سقوطه ؛ فإذا كانت هذه الشرائط تعتبر في باب العمل بأخبار الآحاد حيث (١) لا يجب العمل بها إلا مع تكامل هذه الشرائط فكيف يصحّ العمل (٢) به مع فقد هذه الشّرائط؟ ثم كيف يسوغ الأخذ به وإلغاء حكم أدلة العقول وأدلّة الشرع المقتضية للعلم؟ ، فبطل ما ذكره المخالفون من الاحتجاج بهذا الخبر ؛ فمتى رجعوا إلى التأويل فليسوا بالتأويل أولى ، فنحمله إذا صح عن الرسول عليه‌السلام على أنّ المراد به العلم ؛ لأن الرّؤية تستعمل بمعنى العلم في اللغة ،

__________________

ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٠٣ وما بعدها ، بروايات عديدة. وتاريخ الإسلام عهد الخلفاء للذهبي ص ٦٣١ ـ ٦٣٣. وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٠. والمستدرك ج ٣ ص ١٣٤. وينظر مختصر زوائد مسند البزار ج ٢ ص ٣٠٣ وما بعدها رقم ١٩٠٠ وساق روايات من طرق متعددة. والبداية والنهاية لابن كثير مج ٤ ج ٧ ص ٣٨٣ وما بعدها. وقد جمع محمد بن جرير الطبري فيه مجلدين كما ذكره الذهبي في طبقاته ٢ / ٢٥٤. وقال في السير ٨ / ٣٣٥ : إنه متواتر. وقد صنف الشيخ عبد الحسين الأميني موسوعة بحالها في شأن حديث الغدير هذا سمّاه «الغدير في الكتاب والسنة والأدب» خصّص الجزء الأوّل لطرق حديث الغدير ، ثم ظل يلاحق الغدير في الشعر والنثر حسب الطبقات ـ طبع في ١١ مجلدا ـ الطبعة الرابعة ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ١٣٩٧ ه‍ ـ ١٩٧٧ م.

(١) في ب ، ج : بحيث

(٢) في (ب) ، (ج) : الأخذ.

١٣٥

قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل ١] ، وقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) [الفجر : ٦] ، أي ألم تعلم ، وقال الشاعر (١) :

رأيت الله إذ سمّى نزارا

وأسكنهم بمكة قاطنينا

أي علمت الله ، بل حمله على المعرفة بالله أولى لمطابقته لأدلة العقول ومحكم الكتاب والسنّة المعلومة ، ولأنه قال : لا تضامّون في رؤيته ، يريد بذلك زوال الشكّ ، فكأنه قال : لا تشكّون في معرفته ، ويكون فائدة التخصيص بيوم القيامة ؛ لأنّ الخلق كلّهم يعرفونه حلّ وعزّ ذلك اليوم ، وإنما مثّل ذلك برؤية القمر ليلة البدر ؛ لأنّ العلم به يحصل يوم القيامة لكافة المؤمنين والفاسقين والكافرين جميعا ، كما يحصل العلم بالقمر ليلة البدر لكل من شاهد (٢) ، فيكون العلم به يوم القيامة ضروريّا ، فلا يحتاجون فيه إلى نظر واستدلال. فهو في الجلاء والظهور بمنزلة علمهم بالقمر ليلة البدر. فبطل قولهم في هذه المسألة من كل وجه ، وصح أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.

__________________

(١) الكميت بن زيد الأسدي. ينظر شرح الهاشميات ص ٢٦٣. بتحقيق الأستاذ أحمد الجاسر بلفظ :

وجدت الله إذ سمى نزارا

وأنزلهم بمكة قاطنينا

(٢) في (ب) : يشاهد.

١٣٦

المسألة العاشرة :

ونعتقد أنّه تعالى واحد

والكلام فيه يقع في أربعة مواضع : أحدها في معنى الواحد. والثاني في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثالث في الدلالة على فساد ما ذهب إليه المخالفون. والرابع فيما يؤكد أدلة العقل من أدلة (١) السمع على صحّة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون.

أما الموضع الأول وهو في معنى الواحد : فالواحد يستعمل في معنيين : أحدهما ما لا يتجزّأ ولا يتبعّض ، وهذا لا يكون مدحا بانفراده في حقه تعالى ؛ لأن الجوهر الفرد (٢) لا يتجزأ ولا يتبعض ، وكذلك العرض القائم به ، وإنما يكون مدحا بانضمامه إلى كونه حيّا ؛ لأن كلّ حيّ سواه ذو أجزاء وأبعاض ، وهو تعالى حيّ (٣) لا يتجزّأ ولا يتبعّض. الثاني (٤) : هو المتفرّد بصفات الكمال إثباتا ونفيا ، فلا يشاركه فيها أحد على الحدّ الذي استحقّها عليه ، وهذا هو مراد المتكلمين ؛ لأنهم يوردون ذلك مورد المدح. ويريدون به التفرّد بصفات الكمال والتعالي عن الأشكال والأمثال ، ونريد بقولنا على الحدّ الذي استحقها عليه ؛ لأنها ثابتة له على سبيل الوجوب. والواحد منا وإن شاركه في بعض صفاته جنسا أو قبيلا أو نوعا فليست بثابتة للواحد منا على سبيل الوجوب بل على سبيل الجواز.

__________________

(١) في (ب) : من السمع

(٢) أصغر جسم وهو الذي لا يقبل الانقسام ويسمى بالذرة التي لا تتجزأ.

(٣) في (ب) : بحذف حي.

(٤) في (ب) ، و (ج) : والثاني.

١٣٧

وأما الموضع الثاني : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف :

فمذهبنا أنه تعالى واحد لا ثاني له يشاركه في القدم ولا في الإلهية ، وهذا هو قول المسلمين كافة. وأثبت قوم أكثر من قديم واحد. فالصّفاتية من الأشعرية أثبتت قدما (١) ، وزعمت أنها قائمة بذات الباري ، وهي القدرة والعلم والحياة والسمع والبصر والإرادة والكلام فبها يكون قادرا وعالما وحيّا وسميعا وبصيرا ومريدا ومتكلّما. قالوا : ولو لاها لما كان كذلك ، قالوا : وليست هي الله ولا هي غيره ولا بعضه ، وكلّ واحد منها ليس بالآخر ولا غيره ولا بعضه. والثّنوية أثبتت اثنين قديمين فاعلين مختلفين لا يقوم أحدهما بذات الآخر : أحدهما نور والآخر ظلمة. قالوا : وكلّ خير فمن النّور ، وكل شرّ فمن الظلمة. والمانوية (٢) فرقة منهم تقول (٣) : إنّ النور حيّ بحياة يقال لها : نسيم ، والظلمة حيّة بحياة ، يقال لها : همامة. والمجوس أثبتت قدم الشيطان مع الله تعالى ، وعبّرت عن الله تعالى بيزدان. وقالوا : ما حصل من خير فهو منه ، وعبّرت عن الشيطان بأهرمن ، وقالوا : هو جسم ، وقالوا : ما حصل من شرّ فهو منه. ومنهم من يثبت حدوث الشيطان ، ولهم ترّهات لا فائدة في ذكرها. والنصارى تقول بثلاثة أقنوم (٤) : الأبّ وهو ذات الباري عندهم ، وأقنوم الابن

__________________

(١) في (د) : قدماء.

(٢) نسبة إلى الحكيم السرياني : ماني بن واني أو ابن فاتك ، الذي ظهر في زمن سابور ابن اردشير ، ادعى النبوة فخالفته المجوس ، فأشاروا بقتله ؛ فقتله بهرام بن هرمز بن سابور «بعد عيسى عليه‌السلام». ينظر في المانوية الملل والنحل للإمام المهدي ٦٨ ، والملل والنحل للشهرستاني ٦ / ١٩٤ بهامش ابن حزم.

(٣) في (ب) ، و (ج) : يقولون.

(٤) الأقنوم : اسم سرياني وهو عند النصارى الشيء المتفرد بالعدد ، والأقانيم عندهم ثلاثة : أقنوم الأب وهو ذات الباري ، وأقنوم الابن وهو الكلمة ، وأقنوم روح القدس وهو الحياة. ينظر الأساس ١ / ١٥٣.

١٣٨

وهو الكلام ، وربما رجعوا به إلى العلم. قالوا : ولم يزل متولّدا عن الأب كتولّد الضياء عن الشمس ، وأقنوم روح القدس وهو الحياة ، ويقولون : بأن الله تعالى جوهر واحد على الحقيقة ، وثلاثة أقانيم في الحقيقة ، ولهم تفاصيل تطول مع تناقضها.

وأما الموضع الثالث :

وهو في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون

فلنا في ذلك مطلبان : أحدهما أن نتكلّم على قول كل فرقة من هؤلاء المخالفين بما يبطله على التعيين. والثاني : أن نستدلّ على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه على العموم.

أما المطلب الأول : فنقول وبالله التوفيق : أمّا قول الصفاتية فقد قدّمنا النّقض عليهم في فصل الكيفية ؛ فإنا دللنا هناك (١) بأربعة أدلة على إبطال قولهم على التعيين ، فلا نطوّل بإعادتها.

وأما قول الثنوية بقدم النور والظلمة فهو باطل ؛ لأن فرسان الكلام مختلفون فيهما. فعند بعضهم أن النور والظلمة عرضان ، وعند الآخرين أنّهما جسمان ، وقد دللنا على حدوث الأجسام والأعراض فيما تقدم ، فبطل كونهما قديمين. وقولهم مبنيّ على أنّ النّور ـ وهو فاعل الخير والحسن ـ لا يفعل (٢) الشرّ والقبيح ، والظلمة لا تفعل الخير والحسن بل تفعل الشرّ والقبيح ، وهو باطل ؛ لأن ضوء النهار قد يكون سببا لوجدان الضالّة ، وقد يكون سببا لظفر العدو بالإنسان ، وكذلك الظّلمة قد تكون سببا لستره من العدو ، وقضاء كثير من حوائجه التي يحبّها ويشتهيها ، كما قال الشاعر :

__________________

(١) في المسألة الخامسة في فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحق هذه الصفات .. إلخ.

(٢) في الأصل و (د) ، (ه) : ولا يفعل ، وبقية النسخ بحذف الواو ، وهو الأظهر.

١٣٩

وكم لسواد الليل عندي من يد

تخبّر أن المانوية تكذب (١)

وكذلك فقد تكون الظّلمة سببا لوقوعه أو وقوع غيره في الآبار والنّيار (٢) ونحو ذلك من المضارّ ، فقد وقع الخير والشرّ من النور جميعا ، ووقعا من الظلمة جميعا. فبطل قولهم.

وأما قول المجوس فظاهر البطلان ؛ لأنّ الشيطان متى كان جسما استحال قدمه لما بيّنّا أنّ الأجسام محدثة ، ومتى كان محدثا فلا بدّ له من محدث ؛ لما قدّمنا من حاجة كلّ محدث إلى محدث ، ولو لم يحتج إلى محدث لكان العالم لا يحتاج إلى محدث ، ولكانت الشرور المحدثة لا تحتاج إلى محدث ، وفي ذلك الاستغناء عن الشيطان. وإذا قالوا : بأن محدثه هو الله تعالى ، لم يخل إمّا أن يقرّوا بعدله وحكمته أم لا ؛ فإن أقرّوا بعدله وحكمته فليس من الحكمة أن يخلق ما يغالبه ، وإن لم يكن حكيما جاز أن تضاف إليه هذه الشرور لخروجه عن حدّ الحكمة ، وفي ذلك الاستغناء عن الشيطان.

وأما قول النصارى : إنه تعالى جوهر واحد على الحقيقة وثلاثة أقانيم على الحقيقة فهو فاسد غير معقول أصلا ؛ فإنّ ما يكون واحدا لا يكون ثلاثة ، وما يكون ثلاثة لا يكون واحدا ، بل ذلك فاسد في العقول ، ويكفي في فساده وإبطاله كونه غير معقول ؛ فإنّ ما لا يكون معقولا لا يمكن اعتقاده ، وهذا لا يمكن اعتقاده ، ولا يصح جعله مذهبا (٣) ؛ وذلك لأنّ ما يصح جعله مذهبا هو ما يمكن اعتقاده ، ويمكن اشتراك العقلاء فيه ، ويصحّ اعتقاد خلافه. فأمّا ما لا يكون كذلك فلا يصح كونه مذهبا ، ولا يمكن إيراد الدلالة عليه ، فاتضح

__________________

(١) ديوان المتنبي ٤٦٦ : وكم لظلام الليل ...

(٢) النيار : كأنها جمع نار ، وفي (ب) : والتبار ، وهو الهلاك كما ذكره في الهامش.

(٣) في (ب) : مذهبا لهم.

١٤٠