نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

قلنا : لا نسلّم اشتراك الجسمية بين أفراد الأجسام ، وإلّا لكانت شخصية كلّ واحد من الأجسام زائدة على جسميته ؛ لأنّ ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، لكن يستحيل أن تكون شخصية الجسم المشخص زائدة على جسميته ؛ لأنّ انضمام ذلك الزائد إلى الجسمية في الخارج يتوقف على حصول الجسمية في الخارج ، وحصول الجسمية في الخارج يتوقف على تشخيصه (١) الذي هو عبارة عن انضمام ذلك الزائد إليه ، فيدور. فالقول بكون الجسمية أمراً مشتركا بين أشخاص الأجسام يؤدي إلى هذا المحال ، فيكون محالا.

لا يقال : المعقول من الجسمية إنّما هو شغل الحيز ومنع الغير عن أن يكون بحيث هو ، وهذا القدر مشترك.

لأنّا نقول : ليس الشغل والمنع من (٢) نفس الجسمية ، بل حكمان من أحكامها. ولا يلزم من الاشتراك في الأثر الاشتراك في المؤثر.

سلّمنا (٣) ، لكن لا نسلم الاشتراك في المعلول عند اشتراك العلّة لوجوه :

الوجه الأوّل : الذات حال الحدوث يجب افتقارها إلى الفاعل ، وحالة البقاء يمتنع افتقارها إليه مع وحدة الذات في الحالين ، ومعلوم أنّ التفاوت بين المثلين أكثر من التفاوت بين الذات الواحدة في الحالين ، فإذا جاز أن ينقلب الشيء الواحد من الوجوب إلى الامتناع الذاتيين بحسب زمانين ، فلأن (٤) يجوز ذلك في المثلين كان أولى.

وأيضا ، فلأنّ الجوهر الحادث مثل الباقي ، ثمّ لا يلزم من تماثلهما تساويهما

__________________

(١) نهاية العقول : «تشخصه».

(٢) «من» ساقطة في نهاية العقول.

(٣) كون الجسمية مشتركة.

(٤) نهاية العقول : «فان».

٤١

في صحّة المقدورية وامتناعها ، فكذا هنا. وكذا العرض غير الباقي يصحّ أن يحدث في زمان عدمه مثله ، ولا يلزم من صحّة حدوث مثله في ذلك الزمان صحّة وجوده في ذلك الزمان ، فكذا هنا.

الوجه الثاني (١) : الممكن المعين محتاج إلى مؤثر معين أو شرط معين ، وعلّة تلك الحاجة الإمكان ، إذ لو رفع لبقى الوجوب أو الامتناع ، وهما مغنيان عن المؤثر ، ثمّ الإمكان مشترك بين الممكنات ولا يلزم من اشتراكها في الإمكان اشتراكها في الحاجة إلى ذلك المؤثر المعين ، أو إلى ذلك الشرط المعين ؛ لأنّ أكثر الطوائف أثبتوا أمورا ثبوتية غير الله تعالى ، فبعضهم زعم أنّ العبد موجد ، وبعضهم أثبت معاني توجب أحوالا ، وبعضهم أثبت طبيعة وعقلا ونفسا.

ثمّ لو كان المؤثر واحدا ، لكن لا نزاع في كثرة الشرط ، فانّ الجوهر شرط للعرض ، والحياة شرط للعلم اتّفاقا ، ومعلوم أنّ حاجة المشروط إلى الشرط لإمكانه ، والشرط علّة لصحّة المشروط ، مع أنّه لا يلزم من احتياج صحّة ذلك المشروط إلى الشرط احتياج كلّ صحّة إلى ذلك الشرط ، فلا يلزم من الاشتراك في المقتضي الاشتراك في الحكم.

سلّمنا أنّ الاشتراك في السبب يقتضي الاشتراك في الحكم ، ولكن متى؟ إذا فقد شرط ، أو وجد مانع ؛ أو إذا لم يكن (٢)؟ ع م (٣).

بيانه أنّ الأشياء المتماثلة في الماهية لا بدّ وأن تتمايز بتشخصاتها وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز ، فتشخص كلّ شخص زائد على ماهيته. ولأنّ

__________________

(١) راجع المطالب العالية ١ : ١٥٥.

(٢) أي إذا لم يفقد شرط ولا يوجد مانع.

(٣) كذا في المخطوطة ونهاية العقول. ولعلّ معنى «ع» أنّ الأوّل (فقد شرط ، أو وجد مانع) ممنوع ومعنى «م» أنّ الثاني (لم يفقد شرط ولا يوجد مانع) مسلم.

٤٢

المتصور من الجسم مثلا أمر يصحّ حمله على كثيرين ، والمتصور من هذا الجسم لا يصحّ حمله على كثيرين ، مع العلم الضروري بأنّ المتصوّر من الجسم داخل في المتصور من هذا الجسم ، فالمتصور من هذا الجسم داخل فيه أمر زائد على المتصور من هذا الجسم. وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ تعيّن كلّ مشخص (١) زائد على ماهيته فيحتمل أن تكون شخصية الشخص المعين من الأجسام المتماثلة شرطا لاقتضاء الجسمية الحصول في ذلك الحيز ، أو تكون شخصية الجسم الآخر مانعة من ذلك الاقتضاء. وإذا كان كذلك لم يلزم من اشتراك الأجسام في تمام الجسمية وكونها موجبة للحصول في الحيز المعين اشتراك كلّ الأجسام في ذلك ، وحينئذ يظهر ضعف المقدمة الشهيرة «أنّ المتماثلات يجب تساويها في اللوازم».

لا يقال : التعين عدمي ، لأنّ معناه انّه ليس غيره ، فلا يكون جزءا من المقتضي.

لأنّانقول : نمنع كونه عدميا.

سلّمنا ، لكن المقصود حاصل ، لأنّه لا نزاع بين العقلاء أنّ العدم يصلح للشرطية ، فانّ عدم الضد (٢) شرط لصحّة حلول الضدّ الآخر في المحلّ.

سلّمنا عدم جواز انّه يجب حصول الجسم المعيّن في الحيز المعيّن لجسميته ، فلم لا يجوز أن يكون لبعض لوازمه؟

قوله : «الكلام في لزوم ذلك اللازم كالكلام في الأوّل ، ويتسلسل أو يدور».

قلنا : نمنع استحالتهما.

سلّمنا انّه لا يجوز أن يكون لشيء من عوارض الجسم ، فلم لا يجوز أن يكون لبعض معروضاته؟ وما ذكرتموه من «الدلالة على أنّ الجسمية لا محلّ لها» ممنوع ،

__________________

(١) نهاية العقول : «شخص».

(٢) ق : «الضوء» ، وهو خطأ.

٤٣

فلم لا يجوز أن يكون حصول ذلك المحل في تلك الجهة تبعا لحصول الجسمية فيها؟ وهذا لا ينافي كون الجسمية صفة له ، فانّ الله تعالى موصوف بالصفات أو الأحكام أو الأحوال أو السلوب أو الإضافات ، على اختلاف مذاهب العقلاء فيه ، مع امتناع حصول ذاته تعالى في الحيز. فعلمنا أنّ كون الشيء صفة لغيره أمر مغاير لحلوله في جهة المحلّ تبعا لحصوله (١) فيه ويكون تبعا لحصولها فيه (٢).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على (٣) [نفي] محلّ الجسمية ، لكنّه معارض بما ذكرناه من (٤) أنّ للجسم هيولى.

ثمّ إن سلّمنا أنّه لا يجوز أن يكون لشيء من معروضات الجسم ، فلم لا يجوز أن يكون لشيء مباين عن الجسمية مجرد؟

قولكم : «نسبته إلى جميع الأجسام واحدة ، فلم يكن بأن يجب لأجله حصول بعض الأجسام في ذلك الحيز أولى من سائر الأجسام».

قلنا : يبطل بأمرين :

الأوّل : الباري تعالى خصص خلق العالم بوقت معيّن مع مساواته لسائر الأوقات ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز منّا مثله؟

الثاني : صحّة حدوث العالم وصحّة محدثية الباري تعالى حدثتا في وقت معين مع كونه مساويا لسائر الأوقات المقدّرة التي قبله وبعده ، إذ لو لم تكن لهاتين الصحتين بداية لم يصح قطعكم بوجوب حدوث العالم ، وإذا جاز ذلك هناك فليجز هنا.

__________________

(١) نهاية العقول : «لحصولها».

(٢) «ويكون تبعا لحصولها فيه» ساقطة في نهاية العقول.

(٣) في النسخ : + «يدل» قبل «على» ، وهو زيادة من الناسخ. وما بين المعقوفين من نهاية العقول.

(٤) في النسخ : «في» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٤٤

سلّمنا صحّة خروج كلّ جسم عن حيزه ، فلم قلتم : إنّه بتقدير الخروج عن الحيز لا بدّ وأن تعدم تلك الكائنية ، فجاز أن تكون كامنة أو انتقلت إلى محل آخر أو لا إلى محل. ومع هذه الاحتمالات لا يمكن الجزم بالعدم (١).

سلّمنا أنّ كلّ كائنية فانّه يصحّ عليها العدم ، فلم قلتم إنّ ما يصحّ [عليه] (٢) العدم يجب أن يكون حادثا (٣)؟

قوله : «لأنّ القديم إمّا واجب لذاته أو مستند إليه».

قلنا : جاز أن يكون واجبا لذاته.

ونمنع (٤) امتناع عدم ما يجب وجوده ، فانّه ينتقض بامتناع وجود العالم أزلا وإمكانه فيما لا يزال. فإذا عقل زوال الامتناع الذاتي وتجدّد الإمكان فليعقل زوال وجوب الواجب لذاته.

سلّمنا انّه ليس واجبا لذاته ، فلم قلتم : إنّه واجب لغيره؟ لاحتمال أن تكون الوجودية أولى وإن كان قابلا للعدم ، فلأجل قبوله للعدم لا يكون واجبا ، ولأجل الأولوية استغنى عن السبب ، كالصوت والحركة اللّذين يكون العدم لهما أولى ، ولذلك لا يوجدان إلّا عند تعلّق القادر بهما مع صحّة الوجود عليهما.

سلّمنا تساوي قبوله للوجود والعدم ، فلم قلتم : إنّه لا بدّ من سبب؟ لأنّ جهة الحاجة الحدوث ، لاستغناء البناء حال استمراره عن الباني ، والحجر المرمي (٥) بعد مفارقة الرامي.

__________________

(١) راجع المطالب العالية ٤ : ٢٩٥.

(٢) أثبتناه طبقا للسياق ولنهاية العقول.

(٣) مرّ في ص ١٩ ـ ٢٠.

(٤) جواب لقوله : «لأنّه ما يجب لذاته يمتنع عدمه».

(٥) إلى فوق بالقسر.

٤٥

ولأنّ الأثر لو احتاج حال البقاء ، فالمؤثر إن لم يكن له أثر كان ذلك الأثر في ذلك الوجود غنيا عن المؤثر. وإن كان له أثر ، فإن كان الوجود الأوّل لزم تحصيل الحاصل ، وإن كان غيره لزم وجود الشيء مرتين. ولو سلّم فالمحتاج المتجدد لا الأوّل ، فلا يكون الباقي محتاجا ، فجهة الحاجة الحدوث (١). فما لم تبيّنوا أنّ الذي يصحّ عدمه يجب أن يكون حادثا ، لا يمكنكم إثبات حاجته إلى المؤثر ، ولو بينتموه استغنيتم عن هذه الحجة (٢).

سلّمنا أنّه لا بدّ من سبب ، فلم لا يجوز أن يكون موجبا؟

قوله : «يلزم من امتناع عدم الواجب امتناع عدمه».

قلنا : إذا جاز أن يتخلف الأثر عن القادر مع حصول جميع جهات المؤثرية ، فلم لا يتخلف عن الموجب؟

سلمنا أنّه لا يكون موجبا ، فجاز أن يكون مختارا.

قوله : «كلّ فعل للمختار حادث».

قلنا : ما الدليل عليه؟ وتدل على بطلانه وجوه (٣) :

الأوّل : العدم السابق ينافي وجود الفعل وفاعلية الفاعل ، فلا يكون شرطا لهما (٤).

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٣ : ٦٨ ـ ٦٩ ؛ المطالب العالية ٤ : ١٩٢ و ٢٣١.

(٢) قال الرازي بعد هذه العبارة في نهاية العقول : «ثمّ هنا وجوه كثيرة تدلّ على أنّ الإمكان لا يجوز أن يكون علّة للحاجة ، سيأتي ذكرها في باب إثبات العلم بالصانع تعالى».

(٣) أنظر تفصيل الوجوه في المطالب العالية ٤ : ٢٣٢ ـ ٢٣٩. راجع أيضا المصدر نفسه : ٢٧٢.

(٤) فالعدم السابق لا يكون شرطا لكون الفعل فعلا ولا لكون الفاعل فاعلا ، فإذن الفعلية والفاعلية قد يتحقّقان عند عدم العدم السابق ، فإذن لا يجب أن يكون فعل المختار حادثا. راجع نهاية العقول.

٤٦

الثاني : للمحدث وجود وعدم ومسبوقية الوجود بالعدم. والعدم مستغن ؛ لأنّه نفي محض ، والمسبوقية واجبة للمحدث فيستغني ، فالمحتاج الوجود. وليس جهة الحاجة كونه وجودا وإلّا تسلسل ، واحتياج الشيء إلى نفسه ، فليست جهة الحاجة الحدوث ، بل الإمكان. فالمحتاج في وجوده إلى القادر لا يجب أن يكون محدثا.

الثالث : الممكن حالة البقاء ممكن ، لاستحالة انقلابه إلى الواجب والممتنع ، لاستحالة انقلاب الحقائق ، والإمكان علّة الحاجة فالباقي محتاج ، فليس من شرط الحاجة الحدوث.

لا يقال : إنّه حال بقائه يصير أولى ، فيكون غنيا عن المؤثر.

لأنّا نقول : تلك الأولوية إن كانت حاصلة لذاته كانت حاصلة حالة الحدوث ، فاستغنى الحادث عن المؤثر. وإن حصلت لأمر ، كان الباقي محتاجا في بقائه إلى علّة تلك الأولوية بواسطة حاجته إلى الأولوية ، وهو قول بحاجة الباقي إلى المؤثر.

الرابع : الحدوث مسبوقية الشيء بالعدم فهو صفة للوجود متأخر ، فيتأخر عن تأثير القادر فيه المتأخر عن احتياج الحادث إلى القادر المتأخر عن علّة الاحتياج ، فلا يكون علّة الحاجة وإلّا دار ، وإذا لم يكن للحدوث مدخل في الحاجة لم يلزم أن يكون المحتاج حادثا(١).

سلّمنا ، لكن القديم يجوز عدمه للوجوه الستّة السابقة في خواص

__________________

(١) قال في نهاية العقول : «واعلم انّا قد أوردنا قبل هذا السؤال سؤالا ذكرنا فيه أنّ علّة الحاجة هي الحدوث لا الإمكان وذلك إنّما ذكرناه على ما يليق بالسائل من المطالبة بكلّ جانب من جوانب الاحتمال ، ولكن ذاك ليس مذهبا للقوم ، وإنّما مذهبهم هذا الذي قررناه في هذا المقام. وسترى من هذا النوع كثيرا في هذا الكتاب وإنّما نبهناك عليه لئلّا تعدّه من الغفلة».

٤٧

القديم (١).

سلّمنا أنّ الجسم لا يخلو عن الحوادث ، فلم قلتم : إنّ لتلك الحوادث بداية؟

قوله في الأوّل (٢) : «مجموع العدمات السابقة على الحوادث لما كانت حاصلة في الأزل ، فإن حصل معها وجود بعضها اقترن السابق والمسبوق».

قلنا : هذا معارض لصحّة حدوثها في الأوقات المقدّرة ، فإنّ صحّة حدوث الحادث المعين في الوقت المعين تقديرا كان ذلك الوقت أو تحقيقا لا يحصل إلّا عند حصول ذلك الوقت التقديري أو التحقيقي ، ثمّ ذلك الوقت مسبوق بعدم لا بداية له (٣) ، وكذا الكلام في كلّ صحّة تفرض مختصة بوقت معيّن ، فلا حادث إلّا وصحّة حدوثه في الوقت المعيّن مسبوقة بعدم لا بداية له. فيلزم على قولكم أن تكون لصحّة كلّ الحوادث بداية وهو محال ، لأنّه يفضي إلى السفسطة وإلى نفي الصانع تعالى.

وأيضا فانّ هذا الإشكال إنّما وقع من لفظة الأزل (٤) ، فانّ الإنسان يتخيل منه انّه وقت معيّن قد اجتمع فيه جميع (٥) الحوادث ، فحينئذ يجب الاعتراف بخلو ذلك الوقت عن وجود الحوادث ، وليس الأمر كذلك ، فانّ الأزل ليس إلّا عبارة عن نفي الأولية ، فقولكم(٦): «كلّ واحد من العدمات السابقة حاصل في الأزل» لا

__________________

(١) ذكرها في المجلد الأوّل ، ص ٢٣٣ ـ ٢٣٥.

(٢) أي في الوجه الأوّل من الوجوه الدالّة على أنّ الحوادث متناهية ، ص ٢١.

(٣) والعبارة في نهاية العقول هكذا : «ثمّ إنّ ذلك الوقت مسبوق بأوقات لا بداية لها ، فإذن صحّة حدوث الحوادث في ذلك الوقت مسبوق بعدم لا بداية لها».

(٤) راجع المطالب العالية ٤ : ٢٦٦ و ٢٦٩.

(٥) نهاية العقول : «عدم جميع».

(٦) مرّ في ص ٢١.

٤٨

معنى له ، إلّا أنّ كلّ واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أوّل له.

ثمّ قولكم بعده : «فيجب أن لا يوجد شيء من الحوادث في الأزل» معناه : أنّه لا بدّ من الانتهاء إلى حادث لا يكون مسبوقا بغيره. فيرجع حاصل كلامكم إلى أنّه لمّا كان كلّ واحد من الحوادث مسبوقا بعدم لا أوّل له ، وجب انتهاء تلك الحوادث إلى حادث لا يكون مسبوقا بغيره وهذا نفس المسألة ، ويؤكد هذه المطالبة : أنّه تعالى قديم ولا يعقل من قدمه إلّا أنّه متقدم على العالم بأزمنة محققة لا بداية لها على ما يقوله الفلاسفة ، أو بأزمنة مقدّرة لا بداية لها على ما يقوله المتكلّمون.

ثمّ دليلكم على إبطال أزمنة محقّقة لا بداية لها ، قائم في المقدّرة. و (١) لأنّ كلا من الأزمنة مسبوق بعدم لا أوّل له ، فمجموع العدمات السابقة على الأزمنة المقدّرة حاصل في الأزل ، فيجب أن لا يحصل في الأزل شيء من تلك الأوقات (٢) المقدّرة فتكون لتلك الأوقات المقدرة بداية ، وهو يقتضي نفي قدمه تعالى ، وهو باطل. فعلمنا أنّ ما قلتموه مغالطة وقعت بسبب الاشتباه في لفظة الأزل.

قوله في الثالث : «إنّ الحوادث بأسرها فعل فاعل مختار» (٣) يشتمل على المصادرة على المطلوب ؛ لأنّ كلّ الحوادث إمّا أن تكون عبارة عن كلّ واحد منها ، وهو معلوم البطلان ؛ للعلم الضروري بأنّ العشرة ليست كلّ واحد من آحادها. ولانّكم بعد استدلالكم على أنّ كلّ واحد من الأكوان حادث تستدلون على أنّ مجموعها حادث ، ولو لم يكن المجموع مغايرا لكلّ واحد لكان استدلالكم الثاني عبثا أو مغايرا لها.

__________________

(١) «و» ساقطة في نهاية العقول.

(٢) «الأوقات» ساقطة في ج.

(٣) مرّ في ص ٢٢.

٤٩

فنقول : ذلك المجموع واجب الحصول عند حصول كلّ الآحاد بالضرورة ، وإذا كان كذلك لم يكن مجموع الحوادث من حيث هو مجموع واقعا بالفاعل ، بل الواقع بالفاعل هو كلّ واحد من آحادها ، فيرجع حاصل الاستدلال إلى أنّ الفاعل تعالى لمّا كان سابقا على كلّ واحد واحد (١) من الحوادث وجب أن يكون سابقا على مجموعها ، وهو عين النزاع.

سلّمنا أنّ تلك الحوادث من حيث كونها كلا فعل فاعل ، لكن لم قلتم : إنّه مختار؟ (٢)

سلّمنا ، فلم قلتم : «إنّ فاعل (٣) المختار يجب أن يكون سابقا على فعله؟» لأنّ(٤) المختار إن حصل عنده جميع ما يتوقف عليه الايجاد وجب وجود الفعل عنه ؛ لأنّه لو لم يجب الأثر عند استجماع جميع جهات المؤثرية بل جاز تخلفه ، كان صدوره عنه عند استجماعه لكلّ تلك الأمور ممكن وكلّ ممكن فله مؤثر ، فحينئذ لا يكون المؤثر مستجمعا لجميع شرائط المؤثرية وقد فرض كذلك ، هذا خلف. وإن لم تحصل جميع جهات المؤثرية امتنع صدور الأثر عنه ، إذ لو صحّ لم يكن صدوره موقوفا على حصول أمر آخر ، فحينئذ لا يكون شيء من شرائط المؤثرية ثابتا مع انّا فرضناه ثابتا ، هذا خلف.

فثبت أنّ الفاعل المختار متى تمت جميع جهات فاعليته وجب حصول الفعل عنه. (٥) فبطل قولكم بوجوب تقديمه على فعله.

قوله في الرابع : «الحوادث الماضية محتملة للزيادة والنقصان» ممنوع ؛ لأنّ

__________________

(١) «واحد» الثاني ساقطة من نهاية العقول.

(٢) قال الرازي : «وتقريره سيأتي في مسألة إثبات العلم بالمختار» ، نهاية العقول.

(٣) في النسخ : «فعل» ، وما أثبتناه من نهاية العقول.

(٤) دليل لاستحالة أن يكون سابقا على فعله.

(٥) نهاية العقول : «معه».

٥٠

معنى قولنا : «كذا موصوف بشيء ، أنّ تلك الصفة ثابتة لذلك الموصوف ، لأنّ وصف الشيء بالشيء إن لم يقتض ثبوت الصفة للموصوف وجب أن يقتضي نفي حصوله للموصوف ، لامتناع الخروج عن النقيضين.

وإذا ثبت ذلك ، فنقول : ثبوت الوصف للموصوف فرع على ثبوت الموصوف في نفسه ، فانّ الشيء ما لم يثبت في نفسه لم يثبت له غيره ، بل قد يثبت في نفسه ولا يثبت له غيره ، فلو قلنا : الحوادث الماضية قابلة للزيادة والنقصان وتتصف بهما فقد ادعينا ثبوت الزيادة و (١) النقصان لها ، ثمّ الموصوف بهذا الوصف إن كان موجودا في الخارج ، فإمّا أن يكون هو كلّ واحد من الحوادث الماضية أو مجموعها ، فإن كان الأوّل لزم أن تكون لكلّ واحد بداية ، وهو مسلّم. وإن كان الثاني فهو باطل ، لأنّ مجموع تلك الحوادث لا وجود له في وقت من الأوقات ، وما لا وجود له لا يمكن أن يوصف بوصف ثبوتي في الخارج.

لا يقال : إنّكم تصفون ذلك المجموع بأنّه لا يمكن وصفه بالزيادة والنقصان ، فنفي الوصف عنه دون غيره وصف له ، وهو متناقض. ولأنّ اليوم حال حضوره لا يوصف بالأمسية وإنّما يتصف بها بعد مضيه.

لأنّا نقول : نفي الوصف لو كان وصفا كان نفي الشيء عين ثبوته ، وكلّ واحد من النقيضين هو الآخر ، وهو محال. والأمسية وصف اعتباري لا خارجي. وإن كان المحكوم عليه بهذا الوصف هو الصورة الذهنية ، فنقول : الذهن لا يقوى على استحضار ما لا يتناهى على التفصيل ، بل يقوى على استحضار اللانهاية ، (٢) ومعنى اللانهاية من حيث هو (٣) هذا المعنى أمر واحد

__________________

(١) نهاية العقول «أو».

(٢) أي معنى اللانهاية.

(٣) «هو» ساقطة في ق ، وهو خطأ.

٥١

ليس فيه كثرة. وفرق بين اللانهاية ومعنى ما صدق عليه اللانهاية التي هي الاعداد الموصوفة بذلك ، فكيف يلزم من اقتدار الذهن على استحضار معنى اللانهاية اقتداره على استحضار الأمور التي حمل عليها اللانهاية؟ فظاهر أنّه لا يمكن الحكم على الحوادث الماضية بالزيادة والنقصان.

سلمنا إمكان الاتصاف ، لكن لم قلتم : إنّه يقتضي البداية؟ فانّكم إن عنيتم باحتمال الحوادث الزيادة والنقصان أنّ الناقص (١) ينتهي ويفضل عليه من الزائد شيء ، فهو ممنوع. وإن عنيتم أنّه أبدا يوجد في جانب الزائد ما لا يوجد في جانب الناقص ، فمسلّم ، لكن لا يستلزم التناهي.

سلمنا (٢) ، لكن هنا ما يدل على عدم دلالته على التناهي ، وهو وجوه : (٣)

الوجه الأوّل : الصحّة الماضية من زمان الطوفان أقلّ ممّا مضى من زماننا ، ثمّ لا يجب أن تكون للصحّة بداية ، لما مرّ.

الوجه الثاني : الحوادث المستقبلة من زمان الطوفان أكثر منها إذا أخذت من زماننا ، ومع ذلك فلا يقتضي ثبوت آخر الحوادث ، فكذا هنا.

الوجه الثالث : الباري تعالى متقدم على العالم بما لو كان هناك زمان لكان لا بداية له ، ثمّ ذلك الزمان المقدّر محتمل للزيادة والنقصان ، ولا يجب أن تكون لذلك الزمان المقدر بداية ، وإلّا لزم حدوثه تعالى.

الوجه الرابع : تضعيف الألف مرارا لا نهاية لها أقلّ من تضعيف الألفين ، وكلاهما غير متناهيين مع ثبوت التفاوت بينهما.

__________________

(١) في نهاية العقول : «مناقص».

(٢) دلالة ما ذكرتموه على أنّ المحتمل للزيادة والنقصان يجب أن يكون متناهيا.

(٣) أنظرها في المطالب العالية ٤ : ٢٥٤ وما يليها و ١ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ؛ كشف المراد : ١٧١ ـ ١٧٣ ؛ نقد المحصل : ٢٠٨.

٥٢

الوجه الخامس : معلومات الله تعالى أكثر من مقدوراته (١) ، وهما غير متناهيين.

الوجه السادس : إذا علم الله تعالى شيئا فلا بدّ وأن يعلم أنّه عالم بذلك الشيء وأن يعلم بعلمه بذلك الشيء إلى ما لا يتناهى ، فهناك علوم غير متناهية مترتبة مع انّها قابلة للزيادة والنقصان. وسيأتي بطلان القول بأنّ العلم بالعلّة نفس العلم.

الوجه السابع : أثبت مشايخ المعتزلة الذوات المعدومة ولا نهاية لها مع احتمالها للزيادة والنقصان. وبعضهم (٢) أثبت لله تعالى عالميات وقادريات لا نهاية لها. (٣)

سلّمنا أنّ الحوادث الماضية لها بداية ، فلم قلتم : إنّ الجسم إذا لم ينفك عنها يجب أن تكون له بداية؟ فانّه لا يجب تساوي المتلازمين في جميع الأحكام ، وإلّا لكان الجوهر عرضا وبالعكس.

والجواب : قوله : «المقدمة الثانية إعادة الدعوى مع زيادة دعاو».

قلنا : لا نسلّم ؛ لأنّ المطلوب ثبوت الحدوث للعالم ، وجائز في بعض صفات الشيء أن يكون بيّنا وبعضها غير بيّن ، وهذا غير البيّن يكون بيّنا لما هو بيّن للشيء ،

__________________

(١) لأنّ العلم يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل والقدرة لا تتعلق إلّا بالجائز. نهاية الاقدام في علم الكلام : ٢٩. وقال المنصّف : «لانّ الواجب والممتنع يعلمان ولا يقدر عليهما». كشف الفوائد : ١٦٨.

(٢) في نهاية العقول : «جمع من الصفاتية».

(٣) راجع المحيط بالتكليف ٦٩ (فصل : ولا بدّ ... من أن نبين أنّ الحوادث لها أول) ، حيث قال : «والطريقة التي بها نعلم تناهي الأشياء ، أن نعلم جواز وجود الزيادة والنقصان فيها». وبعد الاستدلال بهذه الطريقة يستدل بطريقة أخرى ويقول : «وكما ندل بطريق الزيادة والنقصان على ما هي هذه الحوادث ، فانّا ندل بطريقة الوصل والقطع على تناهي العالم ...».

٥٣

فجاز أن يكون المجهول مكتسبا بواسطة اللازم المعلوم ، فالحدوث مجهول الثبوت للجسم ومعلوم الثبوت لما لم يخل عن الحوادث ، وعدم الخلو عن الحوادث يكون معلوم الثبوت للجسم ، فتصير تلك النسبة المجهولة معلومة بواسطة النسبتين المعلومتين ، فليست الثانية إعادة للدعوى.

قوله : «المنتج مجموع المقدمتين أو إحداهما؟»

قلنا : المجموع.

ومجموع (١) المقدّمتين حاصل في الذهن لاجتماع التصورات في الذهن ، فإنّا نحكم بأمر على آخر والحكم يستدعي حضور المحكوم عليه والمحكوم به دفعة في الذهن ، وإلّا امتنع الحكم ؛ لأنّه نسبة يتوقف ثبوته على ثبوت المنتسبين دفعة. وكذا التصديقات يمكن اجتماعهما (٢) في الذهن ، فانّه يمكننا الحكم بتلازم القضايا وتعاندها ، فنقول : كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا. وإمّا أن تكون الشمس طالعة وإمّا أن يكون الليل موجودا. ولو لا حصول علمنا بطلوع الشمس ووجود النهار والليل دفعة امتنع هنا الحكم باللزوم والتعاند ، لأنّ الحكم بكون أحدهما لازما والآخر ملزوما حكم باللازمية والملزومية ، وهو يستدعي العلم بكلّ واحد منهما.

قوله : «إذا لم يكن كل واحد منهما مؤثرا (٣) لم يكن المجموع مؤثرا».

قلنا : إنّ عند اجتماع المقدمتين يحصل لهما وصف الاجتماع ، فبالطريق الذي عقل به حصول الاجتماع لهما مع امتناع حصوله لكلّ واحد منهما منفردا يعقل به حصول النتيجة منهما لا من كلّ واحدة منهما.

__________________

(١) جواب لقوله : «احتياج النتيجة إليهما يستدعي وجودهما معا».

(٢) ق : «اجتماعها».

(٣) عند الانفراد.

٥٤

قوله : «لا يمكن أن ينتج هنا».

قلنا : لا نسلم.

والنقض بحمل الجنس على الحيوان والحيوان على الإنسان غير وارد ؛ لعدم اجتماع الشرائط ، لأنّ من جملتها كلية الكبرى وهو منفي هنا ، لكذب كلّ حيوان جنس ، لامتناع صدق الجنسية على كلّ فرد ، بخلاف الكبرى في قياسنا ، فانّها كلية يصدق محمولها على كلّ فرد.

قوله : «المقدمة الثانية كاذبة ، لأنّ بتقدير أن لا تكون للحوادث بداية لا يلزم من عدم خلو الجسم عنها حدوثه». (١)

قلنا : الكلام عليه من وجهين :

الأوّل : هذا التقدير عندنا محال ، ولا يلزم من عدم صحّة الكلام على تقدير باطل بطلان الكلام ، فلو قلنا : كلّ خمسة فرد كانت قضية صادقة مع أنّا لو قدرنا انقسام الخمسة بمتساويين لم يكن فردا ، لكن لمّا كان هذا التقدير باطلا لم يقدح في صدق الكلية ، فكذا هنا.

الثاني : نذكر الدليل على وجه آخر ، فنقول : الأجسام لا تخلو عن الحوادث ولتلك الحوادث بداية ، ينتج : الأجسام لا تخلو عن حوادث لها بداية ، وهو المعنى بحدوثها.

لا يقال : إذا قلنا الأجسام لا تخلو عن الحوادث ثمّ قلنا : والحوادث لها بداية لم يتّحد الوسط ، فانّ الموضوع في الكبرى الحوادث وهو جزء محمول الصغرى ، فلا ينتج. كما لو قلنا : كلّ جسم ففيه كائنية ، وكل كائنية عرض ، لم ينتج أنّ كلّ جسم عرض ، وإنّما لم ينتج لأنّ موضوع الكبرى جزء محمول الصغرى.

__________________

(١) مرّ في ص ٢٥.

٥٥

لأنّا نقول : لا ندعي أنّه متى كان موضوع الكبرى جزء محمول الصغرى تلزم النتيجة حتى يرد ما قلتم ، بل قد لا ينتج كما مثّلتم به وقد ينتج بحيث يعلم ذلك بالضرورة ، كما (١) في قولنا : «أ» مساو ك «ب» و «ب» مساو ك «ج» فانّه يلزم انّ «أ» مساو ك «ج» بالضرورة ، مع أنّ موضوع الكبرى جزء محمول الصغرى.

قوله : «إن دلّ امتناع خلو الجسم عن الكائنيات على حدوثه دلّ استحالة لا خلوه عنها على قدمه». (٢)

قلنا : ليس قولنا يمتنع خلو الجسم عن كلّ الكائنيات نقيض قولنا إنّه يمتنع لا خلوه عن كلّ الكائنيات ، فانّهما قد يجتمعان على الصدق ، لأنّ الحقّ أنّ الجسم أبدا موصوف بكائنية واحدة ، فنقيض «يستحيل خلوه عن الكل» لا يستحيل خلوه عن الكل ، لا أنّه يستحيل لا خلوه عن الكل.

سلّمنا أنّ استحالة الخلو عن الكلّ تناقضها استحالة اللاخلو عن الكل ، لكن ليس يلزم أن يكون اللازم من أحد النقيضين نقيضا للازم من الآخر ، فانّ الضدين يتشاركان في الدخول تحت جنس واحد فيجوز تشاركهما في أمر (٣) واحد ، فبطل ما قالوه.

قوله : «لا بدّ من تفسير الحدوث».

قلنا : تفسيره المسبوق بالعدم أو بالغير.

ولا نسلّم حصر أقسام التقدم في الخمسة ، فان تقدّم أمس على اليوم ليس

__________________

(١) في نهاية العقول : «إذا قلنا الأشياء ثلاثة : إنّ الأوّل منها مساو للثاني والثاني مساو للثالث ، انتج لا محالة: أنّ الأوّل مساو للثالث».

(٢) مرّ في ص ٢٦.

(٣) نهاية العقول : «أثر».

٥٦

أحدها. (١) وتقدّم الباري تعالى على العالم ليس بالزمان أيضا ، لامتناع كونه تعالى زمانيا ، واستلزام أن يكون الزمان قديما. وإذا ثبت أنّ هذين التقدمين (٢) ليسا على أحد الأنحاء الخمسة ثبت نوع سادس للتقدم ، فبطل ما قالوه ؛ فانّهم بالوجه الذي عقلوا فيه تقدّم الأمس على اليوم وتقدم الباري تعالى على الحادث ، يجب (٣) أن يعقلوا به تقدم عدم العالم على وجوده وتقدّم الباري على العالم.

قوله : «صحّة حدوث العالم إمّا أن تكون لها بداية». (٤)

قلنا : صحّة حدوث العالم كصحة حدوث الحادث المعين بشرط كونه مسبوقا بالعدم ، فانّه لا أوّل لصحّة حدوث هذا الحادث مع امتناع أزليته ، فانّ الشيء بشرط كونه مسبوقا بالعدم يمتنع أن يكون أزليا.

قوله : «ما المعنى بالحصول في الحيز؟».

قلنا : لا حاجة إلى تفسيره ، فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّه في مكانه المعيّن دون سائر الأمكنة ، وما كان كذلك لا نحتاج إلى تفسيره.

قوله : «لا نسلم أنّ حصول الجسم في الحيّز زائد عليه». (٥)

__________________

(١) قال المنصف في أنوار الملكوت : «السبق على خمسة معان ... وعلى سادس زاده المتكلّمون وهو : تقديم أمس على اليوم» : ٥١ (المسألة الثالثة من المقصد الرابع).

وقال الشهرستاني : «ولو طالبهم مطالب لم حصرتم الأقسام في أربعة أو خمسة لم يجدوا على الحصر دليلا سوى الاستقراء ...» نهاية الاقدام : ٨.

راجع أيضا المطالب العالية ٤ : ١٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٧١ ؛ كشف المراد : ٥٨ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٧٠ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٢٠.

(٢) ق : «المتقدمين».

(٣) ق : «لزم».

(٤) أو لا تكون.

(٥) مرّ في ص ٣٢.

٥٧

قلنا : إنّا نعلم بالضرورة أنّ الكائنية أمر زائد على ذات الجسم ثبوتي ، والأمور الضرورية لا تبطل بالشّبه ، فانّ النظريات كسبية فإمّا أن يكتسب كلّ علم من علم كسبي فيتسلسل أو يدور ، أو ينتهي إلى علم غير مكتسب وهو قول بإثبات علوم غير كسبية ، والنظرية متفرعة عليها ، والفرع لا يقدح في الأصل ، وإلّا لقدح في نفسه ، ولا وجه أبلغ في الفساد من كون الشيء قادحا (١). ولا شكّ أنّ أظهر العلوم العلم بكون المتحركية والساكنية أمور متغايرة في حقائقها لحقيقة الجسم ، فما ذكرتموه من الشبه يجري مجرى شبه السوفسطائية في عدم استحقاقها للجواب.

سلّمنا أنّه كسبي ، لكنّا نستدل عليه بتبدل الساكنية بالمتحركية وبالعكس مع بقاء الذات.

«ومنع بقاء الذات في الحالتين» ضروري البطلان ، فان زيدا الذي شاهدته بالأمس هو الذي شاهدته الآن بالضرورة من غير تبدل.

لا يقال : المسلمون اتّفقوا على أنّ الله تعالى قادر على أن يخلق شخصا مثل زيد في شكله وصورته من جميع الوجوه ، ومع التجويز كيف يدعي الضرورة بانّه المشاهد بالأمس؟

لأنّا نقول : هذا الشكّ لا يقدح في علمي بانّي الذي كنت موجودا بالأمس ، فاندفع الإشكال ، وهو مبني على نفي النفس الناطقة.

قوله : «تبدل الساكنية بالمتحركية لا يدل على وجود واحد منهما ، كتبدل الامتناع بالصحّة». (٢)

__________________

(١) في نفسه.

(٢) أي كما أن تبدل الامتناع بالصحة لا يدل على وجود واحد منهما.

٥٨

قلنا : لا نسلم تبدل الامتناع بالصحّة ، وكيف لا نمنع ذلك؟ وتجويزه يفضي إلى عدم الثقة بالقضايا البديهية ، حتى يلزم تجويز أن تنقلب استحالة الجمع بين الضدّين في بعض الأوقات ممكنا بل واجبا ، وهو جهل. بل نقول : المحال هو وجود الفعل الأزلي ، وهذا المعنى لم تزل استحالته في شيء من الأوقات. والممكن وجود الفعل فيما لا يزال ، وهذا لم تزل الصحّة عنه في شيء من الأوقات.

قوله : «الحدوث يتبدل بالبقاء من غير أن يكون واحد منها ثبوتيا».

قلنا : الحدوث حصول الذات في الزمن (١) الأوّل ، والبقاء حصولها في الزمن (٢) الثاني ، فالمتبدل إنّما هو النسبة إلى الأزمنة فقط ، وذلك ليس ثبوتيا ، وإلّا لكان لذلك الأمر نسبة إلى ذلك الزمان ، ويتسلسل. وأمّا الكائنية فهي النسبة إلى الأحياز والأمكنة ، وهي أحوال طارئة على الجسم مدركة بالمشاهدة ، فهي لا محالة ثبوتية.

قوله : «المتحركية والساكنية غير مشاهدة».

قلنا : الفرق بين الحالتين مشاهد بالحس فإنكاره مكابرة. وعدم الإحساس في الصورة التي ذكرتموها لا يدلّ على انتفاء كونهما مدركتين في ذاتيهما ، وإلّا لما أدركنا قط. نعم يدل على أنّ إدراكهما مشروط ببعض الشرائط المفقودة في تلك الصورة.

قوله : «لو سلّمنا دلالة التبدل على كون أحد المتبدلين ثبوتيا ، لكن لا يدل على كونهما وجوديين».

__________________

(١) و (٢) نهاية العقول : «الزمان».

٥٩

قلنا : الحركة هي حصولات متعاقبة و (١) أحياز متوالية (٢) ، والسكون حصول واحد في حيز واحد ، فالتفاوت بين الحركة والسكون إنّما هو بالدوام وعدمه ، وإذا كان كذلك فمتى كان أحدهما وجوديا كان الآخر كذلك ، ضرورة توافقهما في الحقيقة.

قوله : «ما ذكرتموه معارض بأمور».

قلنا : إفادة النظر في الدليل العقلي لا يتوقف على نفي ما يعارضها ، وإذا كان كذلك لم نلتفت إلى المعارضات في العقليات ، لكن هذا كلام جدلي ، فانّه ليس جعل أحدهما أصلا والآخر معارضه أولى من العكس.

قوله : «الحصول في الحيز لشيء (٣) فوجوده في الخارج يستدعي وجود الحيز في الخارج».

قلنا : هذا باطل بالعلم ، فانّه نسبة أو ذو نسبة بين العالم (٤) والمعلوم. ثمّ إنّا نعلم المحالات ولا وجود لها في أنفسها مع أنّ النسبة المسماة بالعلم حاصلة موجودة ، فعلمنا أنّ وجود النسبة لا يقتضي وجود كلّ واحد من المنتسبين.

قوله : «الكائنية لها نسبة إلى محلّها».

قلنا : إنّما أثبتنا الكائنية لأنّا رأينا الجوهر الواحد تحرك بعد أن كان ساكنا فعلمنا أنّ المتبدل غير المستمر ، فلو كانت الكائنية الواحدة تارة تحل محلا وتارة تخرج عنه وتحل غيره كانت مثالا لمسألتنا ، لكن لمّا استحال ذلك ظهر الفرق.

__________________

(١) نهاية العقول : «في».

(٢) قال الرازي : «إنّ الدليل على أنّ الحركة عبارة عن الحصولات المتعاقبة في أحياز متلاصقة وجوه» ذكرها في المطالب العالية ٤ : ٢٨٩ وما يليها.

(٣) نهاية العقول : «أمر لشيء».

(٤) في النسخ : «العلم» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

٦٠