نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

فنقول : ليس علّة تشخص تلك النار طبيعة ذلك المحل ، لأنّ ذلك المحلّ كما يقبلها يقبل مثلها ضرورة وجوب اشتراك المثلين في الصفات الواجبة. فإذن العلّة في تشخّص تلك النارية أعراض مخصوصة موجودة في المادة. ولا شكّ في أنّ الأعراض توابع للصور فالأعراض المشخصة لهذه النارية إن كانت معلولة لتلك اللوازم (١) لزم الدور. وإن كانت معلولة لصورة أخرى موجودة في تلك النارية فقد كانت قبل هذه الصورة صورة أخرى ، فهذه الصورة حادثة. ثمّ الصورة السابقة إن كانت مساوية لهذه الصورة في النوع امتنع زوالها وقبول هذه ، لأنّ الصورة إنّما تتجدد إذا قويت ملائمة المادة لها ، ولو كانت السابقة مماثلة للمتجدّدة لكان ما يجعل المادة ملائمة للمتجدّدة يجعلها لا محالة ملائمة لتلك السابقة فلا يكون مبطلا لها وحينئذ يمتنع تجدّد الصورة المتجدّدة ، هذا خلف. فأمّا إذا كانت السابقة مخالفة للمتجدّدة كان ما يجعل المادة ملائمة للمتجدّدة يجعلها منافرة للسابقة فلا جرم تنعدم تلك السابقة حتى توجد المتجدّدة ، وظاهر أنّ كلّ صورة عنصرية نوعها في شخصها (٢) ، وقد كانت مادتها موصوفة قبلها بصورة أخرى تخالفها ، وذلك يدلّ على الكون والفساد.

ويدلّ على ذلك أنّ القوّة الجسمانية لا تقوى على البقاء الغير المتناهي فتكون حادثة لا محالة. (٣)

النوع الثاني من الأدلة : الاعتبارات الحسية

وتقريره أن نقول : إنّه سيظهر لك أنّ العناصر أربعة. فوجوه الكون والفساد

__________________

(١) في المباحث : «الصورة».

(٢) في المباحث : «لا ينحصر نوعها في شخصها».

(٣) انتهى كلام الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٧٠٢ ـ ٧٠٣.

٤٠١

لا تزيد على اثني عشر ، ستة منها بسائط (١) وهي : تكوّن النار هواء وعكسه ، وتكوّن الهواء ماء وعكسه ، وتكوّن الماء أرضا وعكسه. وأربعة ثلاثية (٢) هي : تكوّن النار ماء وعكسه ، وتكون الهواء أرضا وعكسه. وإمّا رباعيان (٣) وهما : تكوّن النار أرضا وعكسه.

وإذا أثبتنا ثلاثة أوجه منها وهي : صيرورة الأرض ماء ، والماء هواء ، والهواء نارا ، حصل المقصود من جواز البواقي ، لأنّ ذلك يدلّ على أنّ المادة مشتركة بين الكلّ.

أمّا صيرورة النار هواء فأمر ظاهر عند الكلّ لم يقع فيه اختلاف (٤) ، لأنّه مشاهد محسوس في الشعل المرتفعة تضمحل في الهواء ولا تبقى لها حرارة محسوسة.

وأمّا عكسه ، فذلك إذا ألح على الكير الذي شدّ فيه طرف دخول الهواء الجديد إليه وكرر عليه النفخ والخنق ومنع الهواء من الدخول والخروج ، فانّه عن قريب يستحيل ما فيه نارا.

وإذا قرّبنا شعلة من جبل كبريت ظهرت نيران عظيمة ، وليس ذلك إلّا لانقلاب الهواء والأرض نارا

وأمّا انقلاب الهواء ماء فيدلّ عليه أمران : (٥)

__________________

(١) وهي الأنواع الأوّلية.

(٢) في شرح الإشارات ٢ : ٢٥٨ هكذا : «وأربعة من الباقية تتركّب من بسيطين».

(٣) وهما اثنان مركّبان من ثلاثة بسائط. شرح الإشارات.

(٤) وذلك عند انطفاء النار. المباحث ١ : ٧٠٦. وفي المحصل : «إنّ النار عند انطفائها تنقلب هواء.» نقد المحصل : ٢٢٨.

(٥) راجع الفصل السادس من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء ؛ طبيعيات النجاة : ١٨٠ ـ ١٨١ (فصل في فسخ ظنون قيلت في هذا الموضع) ؛ نقد المحصل : ٢٢٨.

٤٠٢

الأمر الأوّل : أنّا إذا أخذنا قدحا ووضعناه على جمد وجعلنا رأسه خارجا مسدودا فانّه يبرد وتحدث على أطراف الاناء قطرات وتجتمع في الإناء قطرات كثيرة ، فهذه القطرات هواء تكوّنت ماء ، لأنّ الندى الذي يوجد هناك : إمّا أن يتكون من الهواء ، وهو المطلوب. أو لا يتكون منه ، بل إمّا أن يجتمع من الهواء المطيف به على ما ذهب إليه منكروا الكون والفساد بين الهواء والماء كالشيخ أبي البركات (١) وغيره. أو يترشح ممّا في داخله.

والأوّل باطل ، لأنّ الهواء المطيف بالإناء لا يمكن أن يشتمل على أجزاء كثيرة من الماء خصوصا في الصيف ، فانّ الأجزاء المائية إن كانت باقية فقد تتصاعد جدّا لفرط حرارة هوائه (٢) ، ولا تبقى مجاورة للإناء. وعلى تقدير بقائها هناك يلزم أحد ثلاثة أشياء : إمّا نفاذ تلك الأجزاء إذا تواتر حدوث الندى بعد تنحيته من الإناء مرّة بعد أخرى فينقطع حصوله على الإناء مع كون الإناء بحالة الأولى. (٣) وإمّا تناقصها فيكون حصوله كلّ مرّة أنقص ممّا كان قبلها. وإمّا تراخي أزمنة حصولها فيكون بين كلّ حصولين زمان أطول ممّا بين حصولين قبلهما. وذلك على تقدير أن تجتمع الأجزاء التي تكون في هواء أبعد من الإناء إليه مع أنّ ذلك بعيد جدّا ، لأنّ تلك الأجزاء الصغيرة مع جذب حرارة الهواء إيّاها لا تتمكن من خرق حجم كبير من الهواء. ولكن الوجود يكذب ذلك كلّه ، لأنّا نرى حدوث

__________________

(١) قال في المعتبر بعد ذكر المثال المذكور آنفا ، ومثال آخر ، وبعد إبطال الترشح : «فهو في الحالين لاستحالة الهواء المحيط والمحوى ماء.» ٢ : ١٦٦ (الفصل الثاني في ما يتغير ويستحيل ويتكون ويفسد). فإنّه زعم أنّ في الهواء المطيف بالإناء أجزاء لطيفة مائية لكنّها لصغرها وجذب حرارة الهواء إيّاها لم تتمكن عن صرف الهواء والنزول إلى الإناء ، فلما برد الإناء الهواء الذي يليه زالت تلك السخونة من الأجزاء المائية لصغره فثقلت وكثفت فنزلت واجتمعت على الإناء. راجع شرح قطب الدين الرازي على شرح الإشارات ٢ : ٢٦٠.

(٢) في شرح الإشارات : «هوائية».

(٣) في شرح الإشارات : «بحاله الأوّل».

٤٠٣

الندى مرّة بعد أخرى على وتيرة واحدة بشرط أن ينحّى من الإناء ما حدث عليه ويكون الإناء على حاله من التبرّد.

واعترض بأنّ برودة الماء (١) إن اقتضت فساد الهواء المحيط بالإناء فوجب أن يصير كلّ ذلك الهواء ماء ، ولا محالة يسيل الماء حينئذ ويتّصل به هواء آخر ويصير أيضا ماء ويجري الماء جريانا صالحا وكان يجب أن يمتلئ الإناء ماء ، وإذ ليس كذلك ، بل يحصل قدر من الماء في زمان يسير لم لا يزيد مثله في مثل ذلك الزمان ، علم أنّه حدث من أجزاء مائيّة خارج الإناء إن اعتبرنا القطرات التي على ظاهره أو في داخل الإناء كانت منتشرة في الهواء المحصور في الكوز فلما بردت نزلت فانقطعت واتصلت بنقلها (٢) عن الهواء إلى قعر الكوز فلما استصفاها البرد المصفى من الهواء بالإحدار (٣) لم يتصل مددها ولم يزد ما فيه قليلة المدد.

وأجيب عنه بأنّ جرم الإناء صلب فلا يتكيّف بالكيفيات الغريبة سريعا ، وعند التكيّف تحفظ الكيفية بطيئا فإذا ألحّت القوّة المكيفة اشتدّ تكيّفه بها دون ما يشتدّ تكيّف غيره ، ولهذا تجد الأواني الرصاصيّة المشتملة على المائعات الحارّة أسخن من تلك المائعات ، فالإناء المذكور لشدّة برده يفسد الهواء المطيف به ، والماء لسرعة تكيّفه بالكيفيات الغريبة يحيل (٤) الهواء المطيف به ظاهره عن برودته الشديدة سريعا فلا يفسد الهواء ما دام على سطح الإناء (٥) ، أمّا إذا نحّي منه واتصل الهواء بالسطح عاد إلى إفساده.

وقوله : «لو كان ذلك بسبب إحالة الهواء وجب أن يزداد حتى يمتلئ

__________________

(١) في شرح الإشارات : «الإناء».

(٢) في النسخ غير منقوطة ، وفي نسخة من المباحث المشرقية : «بثقلها» ج ١ ، ص ٧٠٥.

(٣) في النسخ : «بالأجزاء إذ» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٤) في شرح الإشارات : «يحيله».

(٥) في شرح الإشارات : + «ماء» بعد «الإناء».

٤٠٤

القدح».

فجوابه : أنّ تبريد الجمد مغلوب بتسخين حرارة العالم فلا يتعدّى تبريد الجمد عن الهواء القريب منه جدا فإذا أحاله ماء (١) لم يكن لذلك الماء من البرد ما للجمد فيكون ضعيف البرد فلا يقوى على إحالة هواء آخر ماء ، بل يصير كالحجاب من وصول تأثير الجمد إلى هواء آخر ، بل إذا انقطعت القطرات فقد زال المانع ، فلا جرم تعود تلك الإحالة.

والثاني : وهو أن يقال : الندى يترشح ممّا في داخل الآنية فهو باطل لوجوه :

الوجه الأوّل : قد يوجد الندى من غير أن يكون فيه ماء ، بل بسبب وجود الجمد الذي لم يتحلّل بعد ، بل كلّما كان الجمد أبعد من التحلّل كان هذا المعنى أكمل.

الوجه الثاني : يلزم أن لا يوجد الندى إلّا في موضع الرشح ، لكن الوجود يكذبه فانّه يوجد فوق ذلك الموضع مع أنّ الجمد يسفل منه.

الوجه الثالث : لو كان ذلك للرشح لكان ظهور الندى مع حرارة الماء أولى وأكثر ، لأنّ الحار ألطف وأقبل للرشح لرقّة قوامه ، وليس كذلك.

الأمر الثاني : تكوّن السحاب المتولد في قلل الجبال دفعة (٢) ، وذلك لأنّه قد شوهد الهواء الصافي أصفى ما يكون ثمّ ينعقد دفعة من غير بخار صعد إليه أو ضباب ينساق إليه أو سحاب يأتي إليه من موضع آخر ، ثمّ ينزل ذلك السحاب ثلجا ، ومقدار ذلك رمية في رمية ثمّ يعود الهواء صافيا ثمّ ينعقد مرّة أخرى ويدوم ذلك إلى أن يتصل (٣) من هذا الوجه على تلك البقعة ثلج عظيم ، وليس ذلك إلّا

__________________

(١) في النسخ : «ما» ، أصلحناها طبقا للمعنى. وفي المباحث : «فإذا إحالة ماء».

(٢) وهذا في قلل الجبال الباردة. طبيعيات النجاة : ١٨٠ (فصل في فسخ ظنون قيلت في هذا الموضع).

(٣) كذا ، وفي الشفاء : «ينتضد».

٤٠٥

هواء استحال ماء.

وحكى الرئيس : انّه شاهد ذلك بجبال طبرستان وطوس وغير هما ، وقد شاهد أهل المساكن الجبليّة ذلك كثيرا.

قال أفضل المتأخّرين : «تبريد الإناء للهواء ليس بأعظم من تبريد الأراضي الجمديّة إيّاه في صميم الشتاء ، بل في المواضع التي تخفى الشمس عنها ستة أشهر ، وذلك يقتضي انقلاب أكثر الهواء ماء. وأيضا لو كان انقلاب الهواء ماء للبرودة فبعد نزول الثلج يصير الهواء أبرد ممّا كان قبله ، ويوم الصحو أبرد من يوم المطر. فإذن يلزم أن يستمر الثلج والمطر إلى أن يتغير الفصل والهواء». (١)

وأجاب أفضل المحقّقين : «بأنّ هذا غير قادح في غرضنا ، لأنّا لم ندع أنّ السبب في ذلك أيّ برودة هي ، ولا أنّها على أيّ شرط ينبغي أن تكون ، ولا أنّ المانع إيّاها عن ذلك أيّ شيء هو. وإذ لم ندع حصر الأسباب الموجبة للكون والفساد فلا يلزمنا النقض بعدم الكون والفساد عند حصول برودة ما ، بل إنّما ادّعينا إمكان وجود الكون والفساد بمشاهدة ما يقتضي حصوله ، فمهما ثبت ذلك لمن شاهد واعتبر علم بالجملة أنّ للكون والفساد سببا موجبا هو البرودة مثلا بحال ، فإن حصلت البرودة ولم يحصل الكون والفساد حكم بفقدان شرط أو وجود مانع بالجملة وإن لم يعرفهما بالتفصيل فانّ الجهل بتفصيل ذلك لا يقدح في علمه بإمكان وجودهما». (٢)

وفيه نظر ، فإنّا إذا وجدنا برودة غالبة ولم يحصل مانع من تأثير المؤثر ، ثمّ لا يحصل الأثر جزمنا بانتفاء العلّية عن ذلك السبب.

ونقل أفضل المتأخرين عن بعضهم «أنّه يحتمل أن يقال : الأجزاء المتصغرة

__________________

(١) و (٢) شرح الإشارات ٢ : ٢٦٢.

٤٠٦

المتصعدة إلى الجو البارد لمّا عرض لها برد هبطت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز فاجتمعت وصارت سحابا وإذا قوي بردها امتدت إلى أجزاء أخر فبردت واجتمعت فانفصلت (١) سحابا مثلّجا ، ولو كان ذلك لاستحالة الهواء لا تصل مدد الثلج لاتصال مدد البرد بالثلج الواقع على الأرض فكان لا يصحى الجو إلّا بحرّ حادث ، وليس كذلك فانّ يوم الصحو عن المطر أبرد من يوم المطر. ولأنّ الهواء الملاصق للثلج النازل على الأرض أولى بالبرودة من الذي في أعالي الجو فلم لا ينكثف ويصير ماء أو ثلجا؟» (٢) وذكر أنّه وارد. (٣)

وأمّا عكسه وهو انقلاب الماء هواء ، فذلك عند تسخين الماء فانّه يظهر له بخار متصاعد وهو هواء فيه أجزاء مائية يسيرة جدّا إلى أن ينفى ذلك الماء.

وأمّا انقلاب الماء أرضا ، فما نشاهد من فعل أهل الاكسير فانّهم يعقدون المياه الجارية أحجارا صلبة صلدة (٤) ، وذلك مشاهد من بعض المياه التي تنعقد حجرا بعد خروجها من منابعها.

لا يقال : تلك المياه تخالطها أجزاء أرضية صغيرة جدا وعند العقد تتحلل الأجزاء المائية بالتبخير وتبقى الباقية على مزاجها المستحكم بالأرضية.

لأنّا نقول : لو كان كذلك لكان في تلك المياه من الخثورة (٥) ما نفعله

__________________

(١) في المباحث : «فاتصلت».

(٢) كما تكاثف في الجو العالي ، والهواء الذي عندنا أكثف من هواء الجو وأشد استعدادا للاستحالة. المباحث المشرقية ١ : ٧٠٥ ـ ٧٠٦.

(٣) قال : «وهذا الذي ذكره هذا المعترض متجه فلنترك ذلك الوجه.» المصدر نفسه.

(٤) والظاهر فيه أنّ أصحاب الاكسير يحلّون الأجسام الصلبة مياها. وأمّا عكسه فتفعله الطبيعة ، فإنّ كثيرا من مياه العيون ينعقد حجارة صلدة. راجع نقد المحصل : ٢٢٨.

(٥) الخثورة : نقيض الرّقّة. لسان العرب ٤ : ٢٧. وفي هامش نسخة ج : الخثر ـ محرّكة ـ : العكر ، والعكر ـ محرّكة ـ دردي كل شيء.

٤٠٧

بسحقنا (١) هذا الحجر وتصويلنا (٢) له ومزجنا إيّاه بقدر من الماء المصعّد المقطر المردد مرات قدره أضعاف ذلك ، ولم نر في ذلك الماء خثورة أصلا فبطل هذا السؤال.

ويقرب من ذلك أنّا إذا أخذنا ماء القلي المصفى غاية التصفية ثمّ خلط بخل الذي مزج فيه ماء المرتك ثمّ صفى عليه ثمّ خلطا جميعا فانّه يحصل منه شيء يسمى لبن العذراء ثمّ ينعقد في نفسه حجرا قاسيا ، فذلك ماء انقلب أرضا.

وأمّا عكسه وهو انقلاب الأرض ماء ، فإنّ أهل الحيل يحلّون الأجساد الصلبة الحجريّة مياها سيّالة. يعرف ذلك أصحاب الحيل الذين هم طلاب الإكسير. ويكون ذلك بتصييرها أملاحا إمّا بالاحتراق أو بالسحق مع الأجسام المشابهة للاملاح كالنوشادر ، ثمّ إذابتها بالماء كما يشاهد في الأجزاء الأرضية النديّة المحترقة كيف تصير ملحا وتذوب بالماء.

لا يقال : تلك الأحجار كانت فيها مياه كثيرة لكنّها كانت شديدة الاختلاط بما فيها من الأرضية فإذا دبرت بالمياه الحارة (٣) ضعف الامتزاج وتخلصت الأجزاء المائية عن الأرضية واختلط تلك (٤) الأجزاء المائية من ذلك الماء الحار (٥) قدر صالح. ثمّ إنّه مع ذلك إنّما ينحل بالبرد المقتضي لبرد الأجزاء الصغيرة المتفرقة في الهواء وهي إذا بردت ثقلت فنزلت واتصلت عند النزول ويحصل منها ماء صالح له قدر يمتزج بالمحلول الأوّل فيصير في الحس كأنّه ماء حار.

__________________

(١) في المباحث : «ما يقلّل سحقنا» ، ص ٧٠٣.

(٢) في الشفاء : «تهييئنا». الفن الثالث في الكون والفساد ، ص ١٠٥. والتصويل : اخراجك الشيء بالماء ، كتصويل الكنس (نقاه) أخرج ما فيه من تراب ونحوه بالماء. كذا في هامش نسخة ج.

(٣) في المباحث : «الحادة» ، ص ٧٠٤.

(٤) في المباحث : «بتلك».

(٥) في المباحث : «الحاد».

٤٠٨

وبالجملة الملح وما يشبهه من النوشادر المحلولان (١) كالمياه الجارية مع أنّا لا نشكّ في وجود أرضية كثيرة هناك ولذلك يعقدها أدنى حرارة.

لأنّا نقول : الأجزاء الرطبة إن كانت مغلوبة في المقدار فكيف صارت غالبة عند الانحلال (٢)؟ وإن كانت متساوية معادلة لكنّها كانت مغلوبة في الظاهر وجب أن تكون غالبة في الباطن ، وليس الأمر كذلك. وممّا يقرّب ذلك أنّ كثيرا من الأجسام تقع في المالح فتصير ملحا ، ثمّ إنّ الملح ينحل بالرطوبة ويصير ماء زلالا.

وأمّا انقلاب الأرض نارا ، فلأنّ الحطب الرطب يعصي على النار ولا يحترق بسرعة ويجتمع منه دخان كثير وذلك هو الأجزاء العاصية منه ، وإذا كان يابسا لم يدخن أو دخن قليلا.

وليس يمكن أن يجعل السبب فيه كون الأرضية في الرطب أكثر فلا جرم الثقيل الذي يصعده الحر من الرطب أكثر والهوائية في اليابس أكثر ، فلا جرم الثقيل الذي يصعده الحر من الرطب أكثر.

لأنّا نقول : ربّما كان اليابس أقلّ لعلمنا (٣) أنّ سبب ذلك كون انقلاب الأرض إلى النار أسهل من انقلاب الماء إليه ، لأنّ الماء في غاية البعد عن النار. وأيضا البلسان (٤) يستحيل دفعة واحدة نارا وليس ذلك إلّا لاستحالة كلّ ما فيه من العناصر.

__________________

(١) في النسخ : «المحلولين» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٢) ولم يحدث شيء. الشفاء ، الكون والفساد ، ص ١٠٥.

(٣) في المباحث : «أثقل فعلمنا» ، ص ٧٠٦.

(٤) في الشفاء : «دهن البلسان». والبلسان : شجر لا يعرف اليوم نباته إلّا في مصر خاصة ، في الموضع المعروف منها بعين شمس ... وهي تشبه السّذاب ، لونها أبيض ، أجود دهنها الطريّ الذكي الرائحة وعودها حار يابس في الثانية ، ودهنها أقوى ، وهي نافعة من عرق النساء والتشنج ... ويجلو ظلمة البصر ....» الغساني التركماني ، المعتمد في الأدوية المفردة : ٣٢ ـ ٣٣.

٤٠٩

وأمّا انقلاب الماء نارا ، فقد ذكر الرئيس أنّه شاهد قمقمة صغيرة مشدودة الرأس وضعت في أتون فانشقت وخرج كلّ ما كان فيها نارا. ومعلوم أنّ الماء الذي كان فيها لم تمازجه أجزاء نارية لا بأن كانت كامنة فظهرت فيها ، ولا بأن نفذت إليه ودخلت فيه لعدم المنفذ في القمقمة. فإذن الماء الذي كان فيها انقلب إلى الهوائية والنارية.

واعلم أنّ هذه الأمور غير يقينية.

تذنيب : قالوا لمّا ثبت تكون كلّ واحد من صاحبه ثبت أنّ بينها (١) هيولى مشتركة تخلع صورة كلّ واحد منها (٢) بسبب تجدّد استعداد مناسب للصورة الجديدة وتلبس تلك الصورة فيتكون ذلك الذي صورته متجددة وتفسد الصورة المخلوعة وتعدم عن ذلك الجسم ، فلهذا أثبتوا الهيولى مشتركة في العناصر دون الأفلاك.

المقام الخامس : في أنّ الصور الجوهرية لا تحدث بالحركة

لمّا أثبتوا الكون والفساد في الصور العنصرية مع أنّها جواهر لم يكن ذلك نافعا لهم في مطلوبهم وهو : امتناع وقوع الحركة في الجوهر إلّا بالعرض ، فشرعوا في النافع لهم وهو : أنّ هذا التبدل والتغير في الصور الطبيعية لا يمكن أن يحدث على التدريج ، بل إنّما يحدث دفعة واحدة.

واحتجوا عليه بوجوه : (٣)

__________________

(١) ج : «بينهما».

(٢) ج : «منهما».

(٣) راجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٠٧ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢١٦ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٢٣.

٤١٠

الوجه الأوّل : الصورة الجوهرية غير قابلة للاشتداد والتنقص ، وكلّ ما يكون غير قابل للاشتداد والتنقص فانّه لا يحدث على التدريج بل يحدث دفعة واحدة.

أمّا الصغرى : فلأنّها لو قبلت الشدة والضعف لكانت في وسط الاشتداد إمّا أن يبقى نوعها وذاتها وطبيعتها أو لا يبقى. فإن بقى فالتغير لم يكن في الصورة بل في لوازمها وعوارضها. وإن لم يبق لزم عدم تلك الصورة لا اشتدادها. ثمّ إمّا أن تحدث عقيبها صورة أخرى أو لا ، فإن لم تحدث لزم عدم المادة لعدم ما يقومها من الصور ، وإن حدثت فتلك الصور المتعاقبة إن وجد فيها ما يبقى أكثر من آن واحد فيلزم سكون تلك الحركة ، وإن لم يوجد لزم وجود صور متتالية آنية الوجود ويلزم تتالي الآنات وهو محال عندهم.

وهذه الحجّة تطعن في الحركة مطلقا سواء كانت في الكيف أو في غيرها. والقول بالتخصيص في الحجج العقلية باطل بخلاف النقلية.

الوجه الثاني : وجود الحركة يتوقف على وجود المتحرك بالضرورة ، فانّه لا يعقل قيام الحالّ في غيره مجردا عن ذلك الغير ، والمادة وحدها غير موجودة فلا تقع الحركة في الصور ، لأنّ المادة لمّا لم يكن لها وجود بدون الصور لم يمكن أن تتحرك في الصور ، فإنّ الحركة في الصور إنّما تكون بتعاقب صور لا توجد واحدة منها أكثر من آن ، وعدم الصورة المقومة يوجب عدم الذات. فإذن ليس يبقى شيء من الذوات زمانا وكلّ متحرك فانّه باق في زمان الحركة. فإذن ليس شيء من هذه الذوات متحركا. ولا ينتقض ذلك بالحركة في الكيف كما انتقض الوجه الأوّل ، لأنّ عدم الكيفية لا يوجب عدم الذات بل تبقى الذات محفوظة في جميع زمان تغير الكيفيات.

اعترض أفضل المتأخّرين : بأنّ قوله : «عدم الصورة المقومة يوجب عدم الذات» إن عنى به أنّ عدم الصورة يوجب عدم الجملة الحاصلة منها ومن محلّها ،

٤١١

فذلك حقّ ، لأنّ عدم المركب يصحّ لعدم جزئه ، لكن الخصم لا يجعل المتحرك تلك الجملة حتى يضرّه عدم الجملة ، كما في الحركة الكيفية لا يجعل المتحرك في الكيف المجموع الحاصل من الجسم والكيف حتى لا يلزم المحال ، بل المتحرك محلّ تلك الصورة وحده ، كما أنّ المتحرك في الكيف محل الكيف وحده.

وإن عنى به أنّ عدم الصورة يوجب عدم المادة ، فليس كذلك ، فإنّ مواد العناصر عندهم باقية بعد عدم الصور الجسمية بالانفصال وعدم الصور النوعية بالكون والفساد ، ولو عدمت المادة لعدم الصورة كانت حادثة وكلّ حادث فله مادة عندهم ويتسلسل ، ومع هذا فإن لم يوجد هناك شيء محفوظ الذات باقيا مع تلك الأمور المتعاقبة كان الحادث غنيا عن المادة ، وهو محال عندهم. وإن وجد منها واحد محفوظ الذات لم يكن زوال الصور عن ذلك الشيء موجبا عدمه. (١)

ثمّ تعجب من الشيخ لمّا أورد على نفسه سؤالا في باب كيفية تعلّق الهيولى بالصورة (٢) وهو : أنّ الصورة النوعية زائلة فتعدم المادة بزوالها. وأجاب بأنّ الوحدة الشخصية للمادة مستحفظة بالوحدة النوعية للصورة لا بالوحدة الشخصية.

وإذا كان هذا قوله فبتقدير أن تقع الحركة في الصورة لا يلزم من تبدل تلك الصورة عدم المادة ، بل هي باقية بعد عدم الصورة. وحينئذ تبطل الحجّة. (٣)

الوجه الثالث : أورد الشيخ حجّة أخرى وبيّن ضعفها (٤)

وهي : أنّ الحركة إنّما تتحقق بين الضدّين لأنّها سلوك من ضدّ إلى ضد ،

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٧٠٨.

(٢) الفصل الرابع من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء : ٨٦ ـ ٨٧.

(٣) المباحث المشرقية ١ : ٧٠٨.

(٤) راجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٩٩.

٤١٢

والجوهر لا ضدّ له.

ثمّ اعترضها بأنّ التضاد إن اعتبر فيه التعاقب للمتضادين على موضوع واحد فلا ضدّ للصورة ، وإن لم يعتبر ذلك بل اكتفينا بتعاقبهما على المحلّ كان للصورة النوعية والجسمية أضداد ، فانّ الصورة المائية والنارية أمران وجوديان متعاقبان على محلّ واحد وبينهما غاية الخلاف فيكونان ضدّين.

وأيضا ما منه وما إليه الحركة لا يجب تضادّهما ، بل قد يكونان واحدا كالنقط المفروضة في الحركة الدورية وقد يكونان متساويين كالحركة من نقطة إلى أخرى وبالعكس.

ثمّ إنّ الكم لا تضاد فيه مع أنّ فيه حركة.

ثمّ اعترض الشيخ على هذه المقالة (١) بأن المنيّ يتكون حيوانا يسيرا يسيرا ، وكذا البذر يتكون نباتا على التدريج.

ثمّ أجاب : بأنّ المني إلى أن يتكون تعرض له تكونات أخر تصل ما بينها استحالات في الكم والكيف ، فيكون المني دائما يستحيل يسيرا يسيرا وهو بعد مني لم تنخلع (٢) صورة المنوية عنه إلى أن يبلغ حدا يزول معه قبول الصورة المنوية ويحصل له قبول صورة أخرى نوعية هي العلقة فيخلع تلك الصورة ويلبس هذه دفعة لا على التدريج ، وكذا في تنقلاته من العلقة إلى المضغة ، ومن المضغة إلى العظم. لكن في ظاهر الأمر أنّ هذه التنقلات سلوك واحد من صورة جوهرية إلى صورة أخرى (٣) ، وليس كذلك بل هنا انتقالات دفعية في الصور وتتخللها حركات في الكيف.

__________________

(١) المصدر نفسه ١ : ١٠١.

(٢) في النسخ : «تخلع» ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) ويظن لذلك أنّ في الجوهر حركة. المصدر نفسه.

٤١٣

ثمّ عوّل أفضل المتأخرين على الحجّة الأولى (١). وأجاب عن ورودها في الكيف : أنّ كلّ واحدة من تلك الكيفيات المتعاقبة تبقى زمانا ويكون السلوك من البياض إلى السواد وإن كان في الحس مستمرا إلّا أنّه في الحقيقة ليس كذلك ، بل هناك توقفات وانتقالات (٢) ، حيث لم يقم برهان قاطع على أنّ ذلك السلوك مستمر في نفس الأمر وإنّما الاعتماد على الحس. والسلوك المستمر حسا لا يمنع من وجود توقفات في أزمنة صغيرة جدا خصوصا والزمان يقبل انقسامات غير متناهية.

ولما أبطل الشيخ الشعاع بحجة حكاها عمّن تقدمه وهي : أنّه كان يجب أن تكون نسبة زمان حركة الشعاع إلى شيء على بعد ذراع (٣) إلى زمان حركته إلى الكواكب الثابتة نسبة المسافتين ، فكان يظهر بين الزمانين تفاوت محسوس.

واعترضها بإمكان فرض زمان غير محسوس قصرا تحصل فيه الحركة الشعاعية ثمّ يمكن أن يقسم هذا الزمان إلى ما لا يتناهى فيوجد فيه ما نسبته إليه نسبة المسافة القصيرة إلى البعيدة ومع ذلك يكون الزمان للعظيم والصغير غير محسوسين قصرا. (٤)

وحينئذ لا يمكن الاستدلال بالسلوك المستمر حسا على أنّ ذلك السلوك يستمر في الحقيقة ، بل لو لم يلزم على الحركة الكيفية شيء من المحالات لكان من الواجب عليهم عدم الجزم بوجودها تعويلا منهم على الاستمرار الحسي بعد اعتقادهم أنّ الزمان غير المحسوس يمكن انقسامه إلى الحدّ الذي قالوه ، فانّه لو حصل التوقّف في جزء من ألف جزء من ذلك الزمان الغير المحسوس لم يكن

__________________

(١) وهي : أنّ المادة لو تحركت في صورتها الجوهرية لزم منه تتالي الآنات. ولا شكّ أنّ هذه الحجة بعينها قائمة في الحركة في الكيف. راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٠٩.

(٢) في النسخ : «انقلابات» ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) في الشفاء : ذراعين.

(٤) طبيعيات الشفاء ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة من كتاب النفس.

٤١٤

ذلك الزمان مستمرا في الحقيقة ولم تكن حركة.

ولما ثبت أنّ الحركة في الكيف لم تقم عليها حجّة يعتد بها ، بل يلزم من وجودها تتالي الآنات لزوما لا مدفع له وجب القول بنفيها.

فقد عرفت أنّ الحجّة الدالّة على نفي الحركة في الجوهر تدلّ بعينها على نفيها في الكيف. وأنّ متمسّك من أثبت الحركة في الجوهر هو بعينه متمسّك مثبتيها في الكيف ، وهو السلوك (١) حسا يسيرا يسيرا.

والجواب عنهما واحد وهو : الاستمرار الحسي لا يستلزم ثبوته في نفس الأمر ولا بالعكس.

ولمثبتي الحركة الكيفية أن يقولوا : إذا حصل الوقوف في الحركة الكيفية فإن بقى الاستعداد في الحركة فهو تسليم للتغير المتصل المستمر. وإن لم يبق وجب أن تستمر تلك الكيفية وأن لا تحدث بعد زمان كيفية أخرى لأنّ الاستعداد عند حدوث الكيفية الثانية كهو قبل حدوثها ، وإذا كان كذلك استحال حدوث تلك الكيفية ، وهو غير خال عن نظر.

المقام السادس : في نفي الحركة عن باقي المقولات (٢)

قالوا : المضاف لا تقع فيه حركة بالذات بل بالعرض ، وذلك أنّ الإضافة لا تعقل قائمة بنفسها ولا مستقلة بالوجود بل ولا بالتعقل ، بل هي تابعة لغيرها. فإن قبل متبوعها الشدّة والضعف قبلهما الإضافة وإلّا فلا ، فإنّ السخونة لمّا قبلت

__________________

(١) في النسخ : «الكون» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

(٢) راجع طبيعيات الشفاء ، السماع الطبيعي ، الفصل الثالث من الفن الأوّل ؛ التحصيل : ٤٢٧ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧١٠ ؛ شرح حكمة العين : ٤٣٨ ؛ إيضاح المقاصد : ٢٨٤ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢١٩ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٢٣.

٤١٥

الشدّة والضعف كان الأسخن قابلا لهما ، فانّها لو بقيت على حد واحد عند تغير متبوعها إلى الاشتداد والتنقص أشعر ذلك باستقلالها بنفسها. ومن هذا يعرف أنّ ما يقال : من أنّ حال الانتقال في الإضافة يكون دفعة ، لا يخلو عن نظر.

وأمّا «متى» فإنّ وجوده للجسم بتوسط الحركة ، فكيف تكون الحركة فيه؟ فإنّ كلّ حركة في «متى» فلو كان فيه حركة لكان لمتى متى آخر ، هذا خلف. (١)

وفي الشفاء : يشبه أن يكون الانتقال فيه واقعا دفعة ، لأنّ الانتقال من سنة إلى سنة ومن شهر إلى شهر يكون دفعة. (٢)

وهما (٣) غير متنافيين ، فانّ الانتقال دفعة والحركة متغايران.

ثمّ قال الشيخ : ويشبه أن يكون حال متى كحال الإضافة في أنّ الانتقال لا يكون فيه ، بل يكون الانتقال الأوّل في كيف أو كم ويكون الزمان لازما لذلك التغير فيعرض بسببه فيه التبدل. (٤)

وهو جيد ، لأنّ متى نسبة الشيء إلى زمانه والنسبة طبيعة غير مستقلة فهي تابعة لمعروضها في التبدل والاستقرار. (٥)

وفيه نظر ، فانّه لا يلزم من قبول المعروض أو عدم القبول للتغير قبول العارض ولا بالعكس.

وكذا القول في الجدة ، فانها مقولة نسبية. (٦)

__________________

(١) طبيعيات النجاة ، فصل في الحركة.

(٢) السماع الطبيعي ، الفصل الثالث من الفن الأوّل : ١٠٣.

(٣) أي الكلامين من الشيخ.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المباحث المشرقية ١ : ٧١١.

(٦) قال الشيخ : «وأمّا مقولة الجدة ، فإنّي إلى هذه الغاية لم أتحققها.» المصدر نفسه : ١٠٦.

٤١٦

وأمّا مقولتا «أن ينفعل» ، فنقل الشيخ عمّن تقدّمه قبولهما للحركة. وأبطله بأنّ الشيء إذا انتقل من التبرد إلى التسخن فإمّا أن يكون التبرد باقيا لم يعدم بل انتقل إلى التسخن والتبرد بعد تبرد ، أو لا.

والأوّل باطل ، لأنّ التبرّد توجّه إلى البرد وأخذ من طبيعته والتسخن توجه إلى السخونة وأخذ من طبيعة السخونة ، فيكون الشيء الواحد في الزمان الواحد متوجها إلى البرد وأخذا من طبيعته وإلى السخونة وأخذا من طبيعتها ، والشيء الواحد لا يتوجّه في الوقت الواحد إلى الضدّين معا.

وإن لم يبق التبرد فالتسخن إنّما وجد بعد وقوف التبرد وبينهما سكون لا محالة ، فليس هناك حركة من التبرد إلى التسخن على الاستمرار. (١)

احتجوا (٢) بأنّ الشيء قد ينسلخ عن اتصافه (٣) بالفعل يسيرا يسيرا لا من جهة تنقص قبول الموضوع لتمام ذلك الفعل بل من جهة هيئته ، فذلك إمّا لأنّ القوة تخور (٤) يسيرا يسيرا إن كان الفعل بالطبع ، وإمّا لأنّ العزيمة تنفسخ يسيرا يسيرا إن كان الفعل إراديا ، وإمّا لأنّ الآلة تكلّ يسيرا يسيرا إلى أن بطل الفعل بها. (٥) وكلّ ذلك إنّما هو تبدل الحال أوّلا في القوّة أو العزيمة أو الآلة ، ثمّ يتبعه التبدل في الفاعلية فيكون التبدل في الفاعلية بالتبعية.

والأصل فيه أنّ الفعل والانفعال أمران نسبيان تابعان لمعروضهما في الثبات والتبدل. ومن نفى التأثير والتأثّر بطل هذا التفريع عنده. (٦)

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) أنظر الاحتجاج في النجاة : ١٣٣.

(٣) في النجاة : «إنصافه» ، وهو خطأ.

(٤) في شرح المقاصد : «فتور القوة».

(٥) في النجاة : «إن كان فعله بهما جميعا».

(٦) مثل الرازي وهو يقول : «وأمّا على مذهبنا فهذا البحث ساقط.» المباحث المشرقية ١ : ٧١٢.

٤١٧

البحث السابع

في أنّ المقابل للحركة أيّ سكون هو؟ (١)

إنّ بين الحركة والسكون تقابلا ضروريا بحيث لا يمكن اجتماعهما في الجسم الواحد مع اتحاد الوقت والمقولة ، ولا شكّ أنّ السكون في المكان قد تسبقه حركة وقد تلحقه حركة أيضا. وقد اختلف الناس هنا فذهب بعضهم إلى أنّ المقابل للحركة هو السكون في مبدأ الحركة لا في نهايتها ، أعني السكون في ما عنه الحركة ، لأنّ الحركة مؤدية إلى السكون وتنتهي إليه والشيء لا يتأدى إلى مقابله.

ولأنّ السكون في النهاية كمال للحركة وكمال الشيء لا يكون مقابلا له.

ولأنّ السكون ليس عدم أية حركة اتّفقت ، وإلّا لكان عدم حركة تتوهم للجسم في مكان خارج سكونا ، فالجسم المتحرك في المشرق ساكن في المغرب لأنّه قد فقد عنه الحركة في المغرب ، وهو محال. فإذن العدم المقابل هو السكون في المكان الذي تتأتى فيه الحركة ، والحركة في المكان بعينه مفارقة المكان بعينه وكلّ مفارقة للمكان بعينه فبالحركة عنه لا بالحركة إليه. فإذن السكون المقابل إنّما يقابل الحركة عن المكان لا الحركة إليه.

__________________

(١) راجع أرسطوطاليس ، الطبيعة ٢ : ٥٨٣ (مضادة الحركة للسكون) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧١٣ ؛ كشف المراد : ٢٧١ ؛ شرح حكمة العين : ٤٥٧ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٥٨.

٤١٨

والثالث ذكره في النجاة. (١)

وزيّف في الشفاء (٢) الأوّل بأنّ الحركة إلى المنتهى متأدية إلى عدم تلك الحركة بالاتّفاق فإذا جاز تأديها إلى عدمها فأيّ ضرر في أن يكون ذلك العدم هو المقابل؟

والثاني بأنّ السكون في المنتهى ليس كمالا للحركة كيف ويمتنع تحقّقه معها؟ بل هو كمال المتحرك.

والحقّ أنّ السكون في المكان مقابل للحركة منه وإليه (٣) ، فانّ السكون ليس عدم حركة خاصة وإلّا لكان المتحرك إلى جهة ساكنا في غير تلك الجهة ، بل هو عدم كلّ حركة ممكنة له في ذلك الجنس.

نعم إن جعل السكون المقابل هو الذي يطرأ على الحركة ، فإنّ ذلك هو السكون في النهاية. وإن جعل المقابل هو الذي تطرأ عليه الحركة ، كان ذلك هو السكون في البداية. وإن جعل السكون المقابل السكون الذي يمكن أن يطرأ على الحركة وأن تطرأ عليه الحركة معا على البدل فغير موجود أصلا ، لأنّ السكون في المبدأ يمتنع تأخره والسكون في المنتهى يمتنع تقدّمه.

وأيضا لو أوجبنا أن يكون المقابل للحركة الطبيعية سكونا طبيعيا (٤) على

__________________

(١) طبيعيات النجاة ، فصل في التقابل بين الحركة والسكون : ١٤٢. وردّ عليه التفتازاني في شرح المقاصد ٢ : ٤٥٨.

(٢) السابع من رابعة الأوّل من السماع الطبيعي : ٢٩٠.

(٣) وهو مختار الرازي والطوسي أيضا. وعبر عنه الطوسي بقوله : «يقابل الحركتين» ، وهو أحد احتمالين من هذا التعبير عند المصنف في كشف المراد. وهو الحقّ عند التفتازاني أيضا في شرح المقاصد.

(٤) في النسخ : «سكون طبيعي» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٤١٩

أنّ (١) المقابل للحركة الطبيعية إلى فوق هو السكون إلى فوق ، لأنّ ذلك هو الطبيعي ، فحينئذ يكون السكون المقابل هو السكون المنتهى. (٢)

تنبيه : الجسم قد يخلو عن الحركة والسكون في أمور ثلاثة : (٣)

الأمر الأوّل : الجسم الذي يمتنع خروجه عن حيزه مثل كليات الأفلاك والعناصر فإنّها غير متحركة عن مكانها وهو ظاهر ؛ ولا ساكنة أيضا ، لأنّ السكون عدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرك والكليات ليس من شأنها أن تتحرك فلم تكن ساكنة ، بل ثابتة في أحيازها لا ساكنة ولا متحركة.

وليس بجيد ، لأنّ الجسم من حيث هو جسم يمكن أن يتحرك ، وكليات العناصر من حيث ذاتها يمكن أن تتحرك فإن امتنع فلأمر خارجي لا يطعن في الإمكان الذاتي ، وهو كاف في عدم الملكة.

الأمر الثاني : الجسم إذا لم يماسه محيط واحد أكثر من آن واحد كالحجر الواقف في الماء الجاري والطير في الهواء بحيث لا يحيط به سطح من الماء والهواء أكثر من آن واحد فذلك الجسم غير متحرك لعدم تبدل أوضاعه بالنسبة إلى الأمور الخارجة عنه ؛ ولا ساكن أيضا ، لأنّه غير ثابت في مكان واحد زمانا.

والتحقيق : أنّه إن جعل المكان عبارة عن السطح كما اختاره أرسطو ، والسكون عبارة عن الاستقرار في مكان واحد زمانا ، والحركة استبدال مكان بمكان على أن يكون مبدأ الاستبدال من المتحرك ، لم يكن هذا الجسم متحركا ولا ساكنا.

وإن جعلنا المكان عبارة عن البعد كما اخترناه أوّلا ، فهذا الجسم ساكن لأنّه

__________________

(١) في المباحث : «كان» بدل «على أن».

(٢) في المباحث : «في المنتهى».

(٣) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧١٥. راجع أيضا النيسابوري ، التوحيد : ٦١ (باب الكلام في أنّ الجسم لم يخل من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون).

٤٢٠