نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

وقد سبق في الوجه الأوّل جواب الأسئلة عليه.

وأمّا الوجه الثاني : فدليل زيادة الوجود (١) ـ وهو الشكّ مع تعقل الماهية ـ لا ينتقض بالوجود (٢) ؛ فإنّ الشكّ فيه ليس في أنّه موجود أم لا ، لأنّ الوجود لا يقبل الوجود ، وإلّا لكان الحالّ مثل المحلّ ، فليس أحدهما بالأصالة والمحلية أولى. ويلزم وجود الشيء مرّتين. ويكون الكلام في ذلك الوجود كالأوّل ويتسلسل. ولا العدم (٣) ؛ لأنّا لو قدّرنا عروض العدم للوجود وعروض ذلك الوجود للماهية فتكون الماهية موجودة بوجود معدوم ، والضرورة تبطله. فالشكّ في الوجود شكّ في حصوله للماهية ، وهو نافع في المطلوب.

ولا يلزم أن يكون حصول الوجود (٤) زائدا على الوجود ؛ لأنّ حصول الشيء للشيء ليس زائدا ، وإلّا لكان هو حاصلا لذلك المحلّ ويتسلسل ، بل حصول شيء لشيء اعتبار ذهني ، فظهر الفرق.

وحقيقته (٥) تعالى ليست معلومة ، بل المعقول السلوب والإضافات. ثمّ لا ندري إذا عقلنا حقيقته هل يمكننا الذهول عن وجوده؟ فاندفع النقض.

قوله على الأوّل من أدلة الاشتراك في الوجود : «إنّه منقوض بالماهية». (٦)

قلنا : كون السواد ماهية اعتبار زائد على ذات السواد ، والسواد من حيث إنّه سواد ليس إلّا السواد ، فانّ السواد حقيقة منفردة فإذا أخبرت عنها بشيء

__________________

(١) ق : «الوجوب» ، وهو خطأ.

(٢) أنظر النقض في المطالب العالية ١ : ٣٠٣ (الحجة التاسعة).

(٣) أي لا يقبل العدم. وفي ق : «لعدم» ، وهو خطأ.

(٤) للماهية.

(٥) جواب لقوله : «انّا نعقل حقيقة الله تعالى مع الذهول عن وجوده».

(٦) راجع ص ١٠٧.

١٢١

فالمخبر به لا محالة مغاير في المفهوم للمخبر عنه ، فإذا قلنا : السواد ماهية وجب أن يكون كونه ماهية مغايرا لكونه سوادا ، وكيف لا وكونه ماهية مشترك بينه وبين غيره ، وكونه سوادا ليس كذلك؟ بل كونه ماهية إمّا اعتبار سلبي أو ذهني غير منته إلى صفة خارجية ، والوجود لا يمكن أن يكون كذلك ، فظهر الفرق.

قوله : (١) «ما الذي يريدون بوجود الجوهر ، نفس كونه جوهرا أو أمرا زائدا على كونه جوهرا؟».

فانّه يمكننا أن نعتقد أنّ الله تعالى خلق موجودا هو جوهر ، ثمّ يمكننا أن نعتقد أنّ ذلك الموجود الذي كنّا نعتقد فيه أنّه كان جوهرا ما كان كذلك بل كان عرضا ، ومن دفع إمكان ذلك فهو مكابر ، ومعلوم بالضرورة أنّ الوجود الذي لا يتعيّن (٢) اعتقاد تحقّقه بخلاف اعتقاد كونه جوهرا أو عرضا لا بدّ وأن يكون مشتركا بين الجوهر والعرض ، فحينئذ يعلم بالضرورة أنّ الوجود مشترك.

وما ذكرتموه من : «أنّ ذلك بناء على كون الوجود زائدا» ، فليس بل يلزم منه كون الوجود زائدا ؛ لأنّ الأمر الذي ذكرنا معلوم بالضرورة قبل العلم بكونه زائدا أم لا.

قوله على الثاني : «سلب كلّ حقيقة يقابله ثبوته الخاص ، وليس بين ذلك السلب وذلك الإيجاب واسطة ، وإن ادعيتم ثبوتا عاما يقابل سلبا عاما ، فهو النزاع». (٣)

قلنا : إذا قلنا السواد إمّا أن يكون موجودا أو لا ، لا نعني به أنّ (٤) السواد إمّا

__________________

(١) راجع ص ١٠٨.

(٢) كذا ، وفي نهاية العقول : «لا يتغير».

(٣) راجع ص ١٠٨.

(٤) ق : «أمّا» ، وهو خطأ.

١٢٢

أن يكون سوادا أو لا ، لعدم فائدة هذه المنفصلة ، فإنّ كلّ عاقل (١) يعرف صدق أحد جزئيها وكذب الآخر ، فبطل كون المراد من التقسيم ما ذكرتموه ، فبقى المراد منه التقسيم بالوجود العام والعدم العام.

قوله : «الوجود إمّا في قسم الثبوت أو لا». (٢)

قلنا : في قسم الثبوت العام.

ولا يلزم التسلسل (٣) ؛ لأنّه إنّما يلزم لو ساوى الوجود المجرّد سائر الأمور الموجودة في أصل الوجود وامتاز بوصف آخر حقيقي ، وليس بل الوجود ممتاز عن سائر الموجودات بقيد عدمي ، وهو أنّ الوجود المجرّد وجود ليس معه مفهوم آخر وسائر الموجودات وجودات يقارنها غيرها ، وإذا كان الامتياز بعدمي فلا تسلسل.

قوله على الثالث : «مورد التقسيم بالوجوب والإمكان نفس حقيقة كلّ شيء».(٤)

قلنا : يبطل بما مرّ في الثاني.

ولا ينتقض بالماهية ؛ لأنّ كون الشيء ماهية (٥) اعتبار عام مشترك ذهني بخلاف أصل الوجود الذي (٦) لا يمكن أن يقال : إنّه مجرّد اعتبار ذهني.

__________________

(١) ق : «فاعل» ، وهو خطأ.

(٢) راجع ص ١٠٩.

(٣) جواب لقوله : «فعلى هذا التقدير يكون هو مساويا لسائر الأمور الثابتة في أصل الثبوت ولا بدّ وأن يكون ممتازا عنها باعتبار آخر فيكون للثبوت ثبوت آخر ويلزم التسلسل».

(٤) راجع ص ١٠٩.

(٥) ق : «ماهيته» ، وهو خطأ.

(٦) ق : «أن».

١٢٣

قوله في الرابع : «لو كان الحكم بعدم اشتراك الوجود لا يعم إلّا عند اشتراكه لكان الحكم على المختلفات بعدم الاشتراك لا يعمّ إلّا عند اشتراك المختلفات ، وهو تناقض». (١)

قلنا : نمنع التناقض ؛ لأنّ المختلفات مشتركة في كونها مختلفة ، لأنّ الاختلاف حكم شامل لها ، بل الاختلاف اعتبار ذهني لا حصول له في الخارج ، أمّا الوجود فلا يمكن أن يكون كذلك ، فظهر الفرق.

قوله في الخامس : «من جعل الماهية قافية (٢) أبيات قضية (٣) واحدة ، حكم العقلاء عليه بالتكرير». (٤)

قلنا : لأنّ المفهوم من كون الجوهر ماهية مفهوم مشترك بين كلّ الأمور ، ولكنّه اعتبار ذهني أو سلبي ، بخلاف الوجود.

وكون (٥) الجوهر ماهية اعتبار ذهني زائد على نفس كونه جوهرا. وكذا الأسد مسمّى بالليث اعتبار إضافي وهو زائد ، لكن لا وجود له في الخارج بخلاف نفس الوجود. وكون الباري تعالى موجودا مشكل (٦) ، ويمكن دفعه ، بأنّ المعقول من وجود الباري تعالى صفة إضافية وهي مغايرة لنفس وجوده تعالى.

قوله : «لو كان الوجود زائدا على الماهية لكان القابل للصفة الوجودية غير موجود».(٧)

__________________

(١) راجع ص ١١٠.

(٢) في النسخ : «ماهية» ، أصلحناها طبقا لنهاية العقول.

(٣) نهاية العقول : «قصيدة».

(٤) راجع ص ١١٠.

(٥) جواب لقوله : «هذا منقوض بقولنا الجوهر ماهية ، وبقولنا الأسد ليث ، وبقولنا الباري موجود».

(٦) وفي نهاية العقول : «فهو الإشكال العظيم».

(٧) وهو محال. راجع ص ١١٢.

١٢٤

قلنا : لا نسلّم امتناعه ، فجاز أن يكون تعيّن الماهية من حيث إنّها ماهية كافيا في قابلية الوجود.

لا يقال : الماهية القابلة للوجود إذا لم تكن موجودة كانت معدومة ، فالمعدوم موصوف بالوجود ، وهو محال.

لأنّا نقول : اعتبار الماهية من حيث إنّها ماهية مغاير لاعتبار كونها موجودة أو معدومة. وإسقاط الوجود عن درجة الاعتبار في القابلية للوجود لا يقتضي دخول اعتبار العدم ، فانّ الماهية لا يمكن الحكم عليها بالإمكان عند اعتبار كونها موجودة ؛ لأنّها حال وجودها لا تكون قابلة للعدم ، فانّ العدم لا يحتاج أن يجامع الوجود ، وكذا عند (١) اعتبار كونها معدومة لا تكون قابلة للوجود. فإذن الماهية لا تتصف بالإمكان بشرط وجودها أو عدمها ، بل إذا جردت عنهما. فإسقاط الوجود عن الاعتبار لا يوجب دخول العدم فيه.

قوله : «لو كان الوجود زائدا ، فإن كان ثابتا تسلسل». (٢)

قلنا : ممنوع ؛ لأنّ امتيازه بأمر سلبي.

قوله : «لو كان زائدا لصحّ أن تعقل الماهية حاصلة في الخارج مع الذهول عن وجودها». (٣)

قلنا : معنى الوجود الحصول في الأعيان ، فإذا عقلنا كون الماهية حاصلة في الأعيان فقد عقلناها موجودة ، ولا يمكن الغفلة عنه.

قوله : «لم قلتم : إنّه إذا كان زائدا كان ممكنا؟». (٤)

قلنا : لما مرّ من أنّ الوجود إن كان غنيا عن المحل استحال كونه عارضا

__________________

(١) «عند» ساقطة في ق.

(٢) راجع ص ١١٢.

(٣) راجع ص ١١٢.

(٤) راجع ص ١١٢.

١٢٥

لشيء من الماهيات.

قوله : «يجوز أن يكون غنيا عن المحل ، ولكنّه يقتضي كونه مقارنا لتلك الماهية». (١)

قلنا : مقارنة الشيء لغيره ليست زائدا ، وإلّا لكان أيضا مقارنا ويتسلسل. وإذا لم تكن المقارنة زائدة لم يمكن جعلها معلول ماهية المقارنة.

سلّمنا ، لكن الشيء لمّا وجبت مقارنته لغيره فعند زوال ذلك الغير لا بدّ وأن يزول ذلك الشيء ، فحينئذ يكون ذلك بحيث يلزم من فرض عدم غيره فرض عدمه ، وذلك ممّا تحقّق عليه الإمكان.

قوله : «لم لا تكفي الماهية في اقتضاء الوجود؟». (٢)

قلنا : مرّ دليله.

قوله : «معارض بالباري».

قلنا : هذا صعب على هذه الطريقة ، وإنّما يدفعه أمران :

الأوّل : قول الوجود على الواجب والممكن باشتراك الاسم ، ثمّ تبيّن أنّ وجود الممكنات زائد على ماهياتها بالوجه الأوّل والثالث لا بالثاني ، ويمنع كون وجود الباري تعالى زائدا على ماهيته ، ويقدح في الوجه الثاني.

الثاني : أن نقول : الوجود عليهما بالاشتراك المعنوي ، لكن الوجود تمام حقيقته تعالى ، وهو غير مقارن لشيء من الماهيات ، وهي طريقة الفلاسفة. (٣)

__________________

(١) راجع ص ١١٢.

(٢) راجع ص ١١٥.

(٣) قال الرازي : «وإنّها أضعف الطرق على ما سيأتي في مسألة إثبات العلم بوجود الصانع». نهاية العقول.

١٢٦

قوله : «لم لا يكون الجسم علّة الكائنية؟». (١)

قلنا : لما مرّ في الأوّل.

قوله : «لو احتاج الجوهر إلى الكائنية دار». (٢)

قلنا : يجوز احتياج كلّ منهما إلى الآخر من وجهين مختلفين ، فلا دور.

قوله : «لم قلتم : إنّ نسبة المؤثر إلى كلّ الأجسام واحدة؟». (٣)

قلنا : لأنّ المؤثر إن كان جسما أو جسمانيا ، فالكلام في وجوب اختصاصه بتلك المؤثرية من سائر الأجسام يعود بعينه. وإن لم يكن جسما ولا جسمانيا والأجسام بأسرها قابلة للأثر الفائض (٤) عنه ، فما (٥) لأجله اختص البعض بقبول ذلك الأثر عنه قائم في الكل ، فوجب أن يقبل (٦) الكل ذلك.

قوله : «يجوز أن يكون المؤثر موجبا لذوات الأجسام ومختارا في إحداث صفاتها».

قلنا : الأجسام لا تخلو عن الأشكال والحصول في الأحياز ، فلو كانت الأجسام قديمة والفاعل لأشكالها وتخصيصاتها بأحيازها فاعلا مختارا لكان ذلك المختار موجدا لتلك الأشكال والكائنيات في الأزل ، والايجاد بالاختيار أزلا محال بالضرورة ، وهو بعينه جواب أن يكون موجبا للأجسام ولوجود قادر مختار ، ثمّ إنّ ذلك القادر يخصص بعض الأجسام بصفاتها.

__________________

(١) راجع ص ١١٤.

(٢) و (٣) راجع ص ١١٥.

(٤) ق : «القابض» ، وهو خطأ.

(٥) ق : «ممّا» ، وهو خطأ.

(٦) ق : «تعقل» ، وهو خطأ.

١٢٧

الوجه الرابع (١)

لو كان الجسم قديما فقدمه لا يجوز أن يكون عدميا ، وإلّا لكان الحدوث الذي يناقضه ثبوتيا ، فإن كان الحدوث حادثا تسلسل. ومحال أن يكون قديما ، لاستحالة أن يكون الوصف المحتاج ثبوته إلى ثبوت الحادث قديما. ويستحيل أن يكون ثبوتيا ، لاستحالة أن يكون عين الجسم ، وإلّا لكان العلم بهما واحدا فيكون العلم بقدمه ضروريا ، كما أنّ العلم بكونه جسما ضروري. ولا زائدا عليه ، لاستحالة أن يكون قديما ، وإلّا تسلسل ، ولا حادثا ، لاستحالة كون قدم القديم وصفا ثبوتيا حادثا ، لأنّه غير معقول.

فإن قيل : الكلام عليه من وجهين :

الوجه الأوّل : ما يتعلّق بالنظم ، فنقول : إنّه غير (٢) منتج لوجوه :

الأوّل : الملازمة التي ادعيتموها ليست ثبوتية.

أمّا أوّلا : فلأنّها إن كانت ملازمة للمتلازمين كانت ملازمتهما زائدة وتسلسل. (٣) وإن لم تكن ملازمة لهما لم تتحقق الملازمة أصلا ؛ لأنّ نفس الملازمة إذا

__________________

(١) راجع المطالب العالية ٤ : ٣٢٠ (الحجّة العاشرة) ؛ شرح المقاصد ٣ : ١٢٠. وهو المسلك الثالث في نهاية العقول.

(٢) «غير» ساقطة في ق ، وهو من إقحام الناسخ.

(٣) والعبارة في نهاية العقول : «فلانّها إن كانت ثبوتية لكانت إمّا أن يكون ملازمة للأمرين اللّذين وصفتموهما بهذه الملازمة أو لا يكون ، فإن كان الأوّل كان كونها ملازمة لذينك الأمرين زائدا على ذاتها فتسلسل».

١٢٨

لم تكن لازمة للمتلازمين وجب انتفاء الملازمة بينهما.

وأمّا ثانيا : فلأنّكم ادعيتم أنّ قدم الجسم يستلزم كون القدم (١) ثبوتيا أو عدميا ثمّ أبطلتموهما ، وبيّنتم عليّة (٢) ابطال قدم الجسم ، والملزوم واللازم هنا عدميان والأمور العدمية إذا كانت متعلقة بالملازمة لم تكن الملازمة صفة ثبوتية ، لاستحالة أن يكون الوصف الثبوتي حاصلا للموصوف المعدوم ، فالملازمة ليست ثبوتية فهي عدمية.

ولا فرق بين ملازمة لا ثبوت لها وبين عدم الملازمة ، إذ لو تميز عدم الملازمة عن الملازمة العدمية لكان في العدم تميّز وتعيّن ، ولا معنى للوجود (٣) إلّا ما كان كذلك ، فلو وجد في العدم هذا المعنى لم يتميز العدم عن الوجود ، وهو محال فوجب نفي الملازمة.

الثاني : الملازمة عبارة عن امتناع تحقّق الملزوم إلّا عند تحقّق اللازم ، وهو غير معقول ؛ لأنّ الذي يحكم بتوقفه (٤) على تحقّق اللازم ليس هو ماهية الملزوم ؛ لأنّ الماهية إمّا بسيطة والبسيط لا تعرض له الإضافة ، لأنّ الإضافة لا تعقل إلّا بين أمرين ، فالواحد يستحيل عروض الإضافة له ، وإذا امتنع عروض الإضافة امتنع عروض الإمكان الذي هو نوع منها ، وإذا امتنع عروض الإمكان للبسيط امتنع توقفه على الغير ، لأنّ التوقّف على الغير ليس إلّا الحاجة والإمكان ، وإذا استحال توقف البسيط على الغير استحال توقف المركّب الذي لا معنى له إلّا مجموع أمور كلّ واحد منها بسيط ، على الغير. فتبين أنّ الماهية لا يمكن توقّفها على الغير سواء

__________________

(١) ق : «العدم».

(٢) «عليّة» ساقطة في ق.

(٣) نهاية العقول : «للموجود».

(٤) ق : «موقعه» ، وهو خطأ.

١٢٩

كانت بسيطة أو مركبة وليس هو الوجود ، لذلك أيضا. وإذا ثبت ذلك كان الذي فرض ملزوما غير متوقف الماهية والوجود أصلا على الغير أعني اللازم ، وإذا كان كذلك انقطع التلازم.

الثالث : مقتضى التلازم إمّا عدم الملزوم عند عدم اللازم أو وجود اللازم عند وجود(١) الملزوم.

أمّا الأوّل ، فانّه غير صحيح ؛ لأنّ المعقول من الملازمة أن يكون وجود اللازم واجب الحصول عند وجود الملزوم ، وذلك كيفية عارضة لوجودهما. فإذن تتوقف هذه الملازمة على ثبوت اللازم وثبوت الملزوم ، ثمّ إذا حكمنا في المقدمة الثانية بعدم اللازم (٢) كان ذلك مناقضا لدعوى اللزوم الذي لا يحصل إلّا عند ثبوت اللازم ، فعلمنا التناقض بين المقدمتين.

وأمّا الثاني ، فباطل أيضا ؛ لأنّ دعوى كون الشيء ملزوما لغيره دعوى لثبوت إضافة بين ذينك الشيئين ، والحكم بثبوت الإضافة بين أمرين لا يمكن إلّا بعد ثبوتهما فيتوقف حكمنا بتلك الملازمة على ثبوت المتلازمين ، مع أنّ المطلوب هنا معرفة ثبوت اللازم (٣) فلا يعرف ثبوت اللازم إلّا بعد معرفة ثبوت اللازم ، فيدور.

الرابع : الشرطية إن ذكرت كلية استحال إرادة عموم الأشخاص ، لأنّها قد تكون كلية ولا أشخاص لها ، مثل : كلّما كان زيد عالما فهو حي. واستحال إرادة عموم الأحوال ، لأنّ الشرطية يمتنع أن تصدق كلية في عموم الأحوال ، لأنّ (٤) من جملة الأحوال التي يمكن اعتبارها انتفاء الملازمة ، فيمتنع حينئذ صدق اللزوم.

__________________

(١) ق : «دخول» ، وهو خطأ.

(٢) نهاية العقول : «التلازم».

(٣) نهاية العقول : «الملازمة».

(٤) «لأن» ساقطة في ق ، وهو خطأ.

١٣٠

وإن ذكرت مهملة فهي في قوة الجزئية لا تنتج ، إذ لا يلزم من كون الشيء لازما لغيره في بعض الأحوال تحقّق اللازم لا محالة عند تحقّق الملزوم وانتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم.

سلّمنا سلامته (١) ، لكن لم قلت : إنّه لو كان الجسم قديما لكان قدمه إمّا ثبوتيا أو عدميا؟

لا يقال : لا واسطة بين الثبوت والانتفاء.

لأنّا نقول : مورد التقسيم بالثبوت والانتفاء ليس هو نفس الثبوت ولا الانتفاء ؛ لأنّ مورد التقسيم لا بدّ وأن يكون ثابتا مع جملة الأمور التي بها وقعت القسمة لكن الثبوت لا يجامع الانتفاء ، فلا يمكن أن يكون مورد التقسيم بالثبوت أو (٢) الانتفاء هو الثبوت أو الانتفاء ، ولما بطلا ثبت أنّ المورد مغاير لهما فتتحقق الواسطة بين الثبوت والانتفاء ، فبطل الحصر.

الوجه الثاني : ما يتعلّق بالمقدمات ، فنقول : جاز أن يكون القدم زائدا ويكون قديما لذاته فلا يتسلسل ، كتقدم الزمان لذاته وغيره به. وجاز أن يكون حادثا. ولا تناقض ، فانّ الأشعرية زعموا أنّ الجوهر باق ببقاء ممتنع البقاء ، فإذا عقل ذلك فليعقل أن يكون الشيء قديما بقدم غير قديم.

ثمّ يعارض بوجوه :

الأوّل : لو كان الجسم حادثا فحدوثه إن كان عينه (٣) كان العالم بالجسم عالما بحدوثه بالضرورة ، وإن كان زائدا فإن كان حادثا تسلسل ، وإن كان قديما كان حدوث الحادث قديما.

__________________

(١) أي سلامة النظم.

(٢) نهاية العقول : «و».

(٣) ق : «عينية» ، وهو خطأ.

١٣١

الثاني : قدمه تعالى إن كان نفس ذاته لزم من العلم بذاته العلم بقدمه وليس كذلك ، فانّا بعد معرفة وجوده نحتاج في علم قدمه إلى دليل مستأنف ، وإن كان زائدا لزم التسلسل أو التناقض. (١)

الثالث : الحادث المستمر إن كان استمراره نفس ذاته فالعالم بذاته عالم بمدة استمراره وليس (٢) ، أو زائدا عليه فإن كان مستمرا تسلسل ، أو لا فلا يكون استمرار المستمر مستمرا ، فجاز أن لا يكون قدم القديم قديما.

والجواب : أمّا الأسئلة على نظم التلازم ، فلا تستحقّ الجواب ؛ لأنّها إن لم يلزم منها القدح في نظم التلازم لم يلزم الجواب ، وإن لزم ثبتت الملازمة في الجملة فلا يسمع القدح في الملازمة بعده ، لأنّه يكون متناقضا.

ونفي الواسطة بين النفي والإثبات ضروري لا يمكن إثباته بالدلالة.

ومورد التقسيم بالنفي والإثبات شيء ثالث. ولا واسطة ؛ لأنّا لم نقل : الحقائق إمّا النفي أو الإثبات حتى يكون ثبوت حقيقة ثالثة قدحا فيما قلنا ، بل قلنا : إنّها لا تخلو عن النفي أو الإثبات ، وكأنّا سلّمنا أنّ هنا حقائق كثيرة ، إلّا أنّا ادّعينا أنّ كلّ واحد منها لا يخلو عن هذين ، فلا يبطل الحصر بما ذكرتم.

لا يقال : وجدنا بعض الصور قد خلا الحكم بالنفي والإثبات فيها ، فإنّا إذا قلنا : الموجود إمّا موجود أو لا فالقسمان باطلان (٣) بالاتّفاق ، فانّه يمتنع (٤) سلب الشيء عن نفسه فكذب الثاني. والأوّل كاذب لقضاء البديهة بأنّ المحكوم به مغاير للمحكوم عليه فيكون للموجود وجود آخر زائد عليه من حيث إنّه موجود ،

__________________

(١) إن كان قديما لزم التسلسل ، وإن كان حادثا لزم التناقض.

(٢) أي وليس كذلك.

(٣) في النسخ : «باطل» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٤) ق : «يمنع».

١٣٢

وهو باطل. و (١) لأنّ من جعل الوجود نفس الماهية ينكر ذلك ، ومن جعله زائدا أثبت للوجود وجودا آخر ، ولو حصل للماهية مع الوجود وجود آخر تسلسل ، فثبت كذب النقيضين ، وهو المطلوب.

لأنّا نقول : هذا تشكيك في الضروريات فلا يسمع.

قوله : «جاز أن يكون قدم القديم نفس ذاته».

قلنا : محال ، لأنّ قدم الجسم إذا كان زائدا على الجسم كان ذلك الزائد مساويا لذات الجسم في الاستمرار ومخالفا له (٢) في حقيقته المخصوصة وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فحقيقة القديم مغايرة لاستمرار وجود تلك الحقيقة ، وهو يقتضي كون قدم القديم زائدا ويتسلسل.

قوله : «جاز أن يكون حادثا».

قلنا : محال ، لأنّ المعنى بالقدم الاستمرار من الأزل إلى الأبد وليس ذلك أمورا كثيرة بل معقولا واحدا ثابتا في الأزل والثابت في الأزل يستحيل أن يكون حادثا. وكون الجوهر باقيا ببقاء لا يبقى محال.

والحدوث وصف عدمي فلا يلزم من العلم بنفس الجسم العلم به ، بخلاف القدم فانّه ثبوتي.

وتحقيقه : أنّ الحدوث لا يتقرر إلّا عند وجود حاصل وعدم سابق فجاز أن يكون العالم بالوجود الحاصل جاهلا بالعدم السابق ، فلا يعلم الحدوث ، أمّا القدم فهو عبارة عن نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات.

وليس بجيد (٣) ، والباري تعالى قدمه نفس ذاته. ولا نسلم أنّا إذا دللنا على

__________________

(١) ساقطة في نهاية العقول.

(٢) في النسخ : «لها» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٣) العبارة كذا.

١٣٣

وجوده وبعض صفاته فقد عرفنا حقيقته المخصوصة ، بل تلك الحقيقة عندنا مجهولة.

ولقائل أن يقول : لمّا علمنا كونه قديما مع جهل حقيقته لزم التغاير ويتوجه الإشكال.

والباقي إذا كان محدثا فانّا لا نعرف مقدار مدّة بقائه إلّا إذا عرف حدوثه في الزمان الذي حدث إمّا مقدّرا أو محقّقا ، ولمّا أمكن العلم بوجوده مع الجهل بذلك الزمان الذي حدث فيه لا جرم كانت مدّة بقائه مجهولة ، بخلاف القديم فانّ وجوده غير مختصّ بزمان دون زمان حتى يكون الجهل بشيء من الأزمنة قادحا في الجهل بالقدم ، فافترقا.

الوجه الخامس (١)

كلّ جسم متناه على ما تقدّم (٢) وكلّ متناه محدث ، لأنّه يجوز عقلا كونه أزيد وأنقص فاختصاصه بذلك القدر دون الزائد والناقص يحتاج إلى مرجّح مختار (٣) وإلّا فقد ترجّح الممكن لا لمرجح ، وفعل المختار محدث.

__________________

(١) راجع الرازي ، المسائل الخمسون في أصول الدين : ٢١ (الدليل الثالث) ؛ المطالب العالية ٤ : ٣١٤ (الحجّة الخامسة).

(٢) في المجلد الأوّل ، ص ٣٥٦ (البحث التاسع : في تناهي الأبعاد).

(٣) ويمتنع أن يكون المرجح موجبا ، لأنّ نسبة الموجب إلى جميع المقادير على السوية ، فلم يكن كونه موجبا لمقدار معين أولى من كونه موجبا لغير ذلك المقدار. راجع المصدر نفسه.

١٣٤

الوجه السادس (١)

لو كان الجسم أزليا لامتنعت عليه الحركة ، والتالي باطل بالحس ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ كلّ جسم فلا بدّ له من حيّز معيّن يوجد فيه ، لاستحالة حصوله لا في حيّز أو في كلّ حيز (٢) ، فلو كان الجسم أزليا لوجب في الأزل أن يكون حاصلا في حيّز معين لكنّه لو كان كذلك لامتنع زواله عنه لاستحالة عدم القديم فامتنعت الحركة عليه ، لكنّها جائزة.

قيل : معنى الأزل (٣) «الدائم لا إلى أوّل» فمعنى قولنا : لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيّز ، أنّه لو كان دائما لا إلى أوّل لكان حصوله في حيز معيّن واحد دائما وهو معنى السكون ، وهذا ممنوع ، بل يكون دائما حصوله في موضع معيّن إمّا عينا أو على البدل ، أي يكون في كلّ وقت في حيّز معيّن غير الذي كان حاصلا فيه قبله.

ويندفع (٤) ببطلان حوادث غير متناهية على ما سبق.

__________________

(١) راجع المصدر نفسه : ٣١٣ (الحجّة الرابعة). وقال الرازي : «هذا الدليل لا يتم أيضا في الحقيقة ، إلّا عند الرجوع إلى دليل الحركة والسكون ، إلّا أنّه أقلّ مقدمات من ذلك الدليل».

(٢) أو في حيز مبهم ، لاستحالة حصول الجسم المعيّن في حيز مبهم.

(٣) الأزل «Eternity­ : دوام الوجود في الماضي ، كما انّ الأبد دوامه في المستقبل. وقيل : هو اللامسبوقية بالغير ، وهذا معنى ما قيل : الأزل نفي الأوّلية. وقيل : هو استمرار الوجود في أزمنة مقدّرة غير متناهية في جانب الماضي. راجع كشاف اصطلاحات الفنون ، مادة «أزل» ؛ تعريفات الجرجاني : ٣٢ ؛ دستور العلماء ١ : ٧٧.

(٤) ق : «فيندفع».

١٣٥

المسألة الثالثة

في إبطال شبه (١) الفلاسفة

اعلم أنّ الفلاسفة ذهبوا إلى أنّ العالم قديم ، واحتجوا عليه بوجوه :

الأوّل : العالم إن كان واجبا لذاته كان قديما ، وإن كان ممكنا فلا بدّ له من مؤثر ، فمؤثره إن كان حادثا لزم أن يكون له محدث فيكون من جملة العالم فإمّا أن

__________________

(١) الشبهة ما به يشتبه ويلتبس أمر بأمر ، وربما يطلق على دليل الخصم. دستور العلماء ٢ : ١٩٦. والفرق بين الدلالة والشبهة فيما قال بعض المتكلمين : إنّ النظر في الدلالة يوجب العلم والشبهة يعتقد عندها انّها دلالة فيختار الجهل لا لمكان الشبهة ولا للنظر فيها ، والاعتقاد هو الشبهة في الحقيقة لا المنظور فيه. الفروق اللغوية : ٥٢ (الباب الثالث).

وقد استقصى المصنف شبه الفلاسفة هنا إلى اثنتين وعشرين شبهة ، ونقل الرازي ست عشرة شبهة في نهاية العقول ، فراجع.

وراجع أيضا أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٣٧ (المسألة الثالثة في شبه الخصوم والردّ عليها) ؛ شرح الأصول الخمسة : ١١٥ (الشبه التي تورد في قدم العالم) ؛ التوحيد للنيسابوري : ٢٨٤ (فصل في ذكر شبههم) ؛ شرح الإشارات ٣ : ١٣١ ؛ نقد المحصل : ٢٠٥ (بيان الفلاسفة في امتناع حدوث العالم) ؛ المطالب العالية ٤ : ٤٥ (من المقالة الثانية إلى المقالة الثانية عشر) ؛ الرازي ، المسائل الخمسون : ٢٢ ؛ قواعد المرام : ٥٩ ؛ نهاية الاقدام في علم الكلام : ٣٠ ، وعبّر الشهرستاني فيه ب «شبه الدهرية» ؛ وعبّر في الملل والنحل في ترجمة برقلس ب «شبه برقلس» ، حيث قال : «إنّ القول في قدم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع والقول بالعلّة الأولى إنّما ظهر بعد أرسطوطاليس ، لأنّه خالف القدماء صريحا وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنّها حجّة وبرهانا ، فنسخ على منواله من كان من تلامذته ، وصرحوا القول فيه ، مثل الاسكندر الافروديسي وثامسطيوس وفرفوريوس وصنف برقلس المنتسب إلى أفلاطون في هذه المسألة كتابا وأورد فيه هذه الشبهة ...» الملل والنحل ، ترجمة برقلس.

راجع أيضا كشف المراد : ١٧٣ ؛ مناهج اليقين : ٤١ ؛ كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ١٥٠ ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٢٨ ؛ شرح المقاصد ٣ : ١٢٠.

١٣٦

يدور أو يتسلسل أو ينتهى إلى مؤثر قديم ، فنقول : إذا كان المؤثر قديما وجب أن يكون أثره قديما ، لأنّ كلّ ما لا بدّ منه في مؤثرية المؤثر القديم في العالم إمّا أن يكون بتمامه حاصلا في الأزل أو لا يكون ، فإن لم يحصل في الأزل كان حادثا فله مؤثر ، ثمّ ننقل الكلام إلى ذلك المؤثر فإمّا أن يدور أو يتسلسل أو ينتهي إلى مؤثر قديم ، وإن كان حاصلا في الأزل وجب حصول الأثر ، لأنّه إذا استجمع المؤثر جميع جهات المؤثرية فإمّا أن يجب حصول أثره أو لا ، والثاني محال ، وإلّا لكان حصوله في وقت حصوله دون ما قبله وبعده من الأمور الجائزة فتخصصه بوقت حدوثه دون ما تقدم أو تأخّر إن كان لا لأمر لزم ترجيح أحد الأمور الجائزة بالوجود من غير مرجح ، وهو باطل بالضرورة ، ولأنّه يسدّ باب إثبات الصانع تعالى ، وإن كان لأمر لم يكن المؤثر التام حاصلا في الأزل وقد فرضناه حاصلا ، هذا خلف. وإذا (١) ثبت قدم المؤثر التام في العالم وثبت أنّ قدم المؤثر التام يستدعي قدم أثره وجب القول بقدم العالم. وهذه الشبهة هي أقوى شبه القوم. (٢)

الثاني : العالم صحيح الوجود (٣) في الأزل وإذا كان صحيح الوجود في الأزل كان واجب الوجود في الأزل.

أمّا الصغرى ، فلأنّه لو لم يكن صحيحا في الأزل لكان ممتنعا أو واجبا ، فإن كان الثاني فالمطلوب ، وإن كان الأوّل لزم انقلاب الممتنع لذاته ممكنا لذاته (٤) ، وانقلاب الحقائق محال. ولأنّه لو جاز ذلك انتفت دلالة الحدوث على المؤثر لجواز أن يكون العالم محالا في الأزل ثمّ صار واجبا لذاته فيما لا يزال فيستغني عن المؤثر.

__________________

(١) ق : «فاذا».

(٢) وهي العمدة عندهم في إثبات مطلبهم ومأخوذ من العلّة المؤثرة ، شرح المواقف ٧ : ٢٢٨. وقال البحراني : «وهي العمدة الكبرى لهم». قواعد المرام : ٥٩.

(٣) أي ممكن الوجود.

(٤) وانّه يرفع الأمان عن البديهيات كجواز الجائزات واستحالة المستحيلات شرح المواقف ٧ : ٢٣٠.

١٣٧

ولأنّ ذلك الحكم المتجدد إن كان لسبب فهو مسبوق بالإمكان الذاتي فكان الإمكان الذاتي مسبوقا بالإمكان الذاتي ، وهو محال. (١)

وأمّا الكبرى ، فلأنّ صحيح الوجود في الأزل لو كان معدوما في الأزل لاستحال أن يوجد في الأزل ، لأنّ الحادث في وقت معيّن لا يكون حدوثه في ذلك الوقت المعيّن موجبا حصوله في الأوقات الماضية ، لأنّ الشيء يستحيل أن يتجدد له حصول في الزمان الماضي. فإذن لو لم يكن موجودا في الأزل لم يصحّ أن يكون أزليا ، لكن العالم يصحّ أن يكون أزليا كما تقدّم فيجب أن يكون أزليا.

الثالث : (٢) كلّ محدث فانّه مسبوق بإمكان عائد إليه على ما سبق وذلك الإمكان يستدعي محلا هو الهيولى ، فإن كانت الهيولى محدثة افتقرت إلى هيولى أخرى وتسلسل. وإن كانت قديمة وجب قدم الصورة لما تقدم من استحالة انفكاك الهيولى عن الصورة ومجموع الهيولى والصورة هو الجسم ، فالجسم قديم.

الرابع : كلّ محدث فانّه مسبوق بزمان ، لأنّ عدمه سابق على وجوده ، وإلّا لكان قديما ، وذلك السبق والتأخر ليس عبارة عن مجرّد العدم والوجود ، لأنّ العدم قبل كالعدم بعد ، وليس القبل بعد ، فالقبلية والبعدية صفتان وجوديتان فلهما موصوف موجود ، فقبل حدوث كلّ حادث لا بدّ من شيء وجودي يكون موصوفا لذاته بالقبلية حتى يكون العدم الحاصل فيه موصوفا بكونه قبلا لذلك الحادث ، والشيء الذي يكون قبلا لذاته هو الزمان ، فقبل حدوث كلّ حادث زمان لكن الزمان شيء غير مستقر بل هو على التقضي ، فقبل كلّ زمان زمان لا إلى أوّل ، ويلزم من قدم الزمان قدم الحركة لأنّه من لوازمها ، ويلزم من قدم الحركة قدم

__________________

(١) والفرض الثاني لا يوجد في النسخ ، وهو في نهاية العقول هكذا : «وإن لم يكن لسبب كان المتجدد غنيا عن السبب ، بل كان المتجدد واجب الوجود لذاته وهو محال».

(٢) ذكره الرازي في المطالب العالية ٤ : ١٦٩ (المقالة السادسة في الوجوه المستنبطة من العلّة المادية).

وقال : «إنّ هذه الشبهة قوية ، لو ثبت أنّ الإمكان صفة موجودة».

١٣٨

الجسم.

الخامس : (١) لو كان العالم محدثا لكان محدثه إمّا أن يقال : إنّه كان قادرا على أن يحدث العالم قبل الوقت الذي أحدثه فيه بمدة متناهية أو ما كان قادرا عليه ، والثاني محال ، لأنّه يلزم إمّا انتقال الخالق من القدرة إلى العجز (٢) أو انتقال المخلوق من الامتناع إلى الإمكان ، وهما محالان ، فثبت (٣) الأوّل.

وبمثله ثبت أنّه كان قادرا على أن يخلق أيضا حوادث تنتهي إلى الوقت الذي أحدث العالم فيه بمقدار ضعف تلك المدّة ، وإذا ثبت هذا فإمّا أن يقال : إنّه يمكن إحداث ما ينتهي إلى العالم بضعف تلك المدّة مع إحداث ما ينتهي إليه أيضا بتلك حتى يكون ابتداؤهما وانتهاؤهما معا أو لا يكون ذلك ممكنا. والأوّل ضروري البطلان. والثاني يقتضي وجود زمان قبل حدوث العالم ، لأنّ هناك أمرا يتسع لقدر معيّن كسنة مثلا ولا يتسع لسنتين وهناك ما يتسع لسنتين ولا يصير مستغرقا لسنة ، وكلّ قابل للزيادة والنقصان والتقدير فهو أمر وجودي مقداري وذلك هو الزمان ، فقد ثبت حصول الزمان قبل حدوث العالم ، وإذا ثبت قدم الزمان ثبت قدم الحركة ، فثبت قدم الجسم.

لا يقال : التقدير الذي ذكرتموه يكشف عن إمكان وجود زمانين أحدهما أطول من صاحبه ، ولا يدل على وجودهما.

لأنّا نقول : الأمر التقديرى يتغير عند تغير الفرض ، وما ذكرناه من وجود أمر

__________________

(١) ذكره الشيخ بقوله : «وهؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله تعالى عن جوده لا يخلو أمرهم إمّا أن يسلموا انّ الله عزوجل كان قادرا قبل أن يخلق الخلق ...» إلهيات النجاة (فصل في أنّ المخالفين يلزمهم أن يضعوا وقتا قبل وقت بلا نهاية ...) وهي الحجّة العاشرة المستنبطة من الزمان في المطالب العالية ٤ : ٢٠٨.

(٢) في نهاية العقول : «من العجز إلى القدرة».

(٣) ق : «وثبت».

١٣٩

قبل العالم بحيث لا يتسع إلّا لحوادث سنة سواء وجد فرض فارض أو لم يوجد ، وأمر آخر يتسع لحوادث سنتين ولا يصير مستغرقا لحوادث سنة (١) لا يتغير سواء وجد فرض أو لا ، فعلمنا أنّ التقدير الذي ذكرناه يكشف عن وجود هذه الإمكانات المتقدرة بالمقادير المحدودة قبل وجود العالم لا أنّه يكشف عن مجرّد فرض ذهني واعتبار وهمي.

السادس : (٢) الله تعالى قديم ، فلو كان العالم محدثا لكان الله تعالى متقدما عليه بالضرورة ، وإلّا لكان القديم محدثا أو المحدث قديما ، وإذا كان متقدما عليه فإمّا بمدّة أو لا بمدّة ، والثاني يستلزم أحد المحالين السابقين (٣) ، والأوّل إمّا أن تكون المدّة متناهية ويلزم حدوث الله تعالى ، لأنّ المتقدم على الحادث بمدّة متناهية يكون حادثا بالضرورة ، أو غير متناهية ويلزم قدم الزمان المستلزم لقدم الحركة المستلزم لقدم الجسم.

السابع : لو كان العالم محدثا لكان الله تعالى متقدما عليه بقدم لا بداية له لأنّه قديم ، وذلك التقدم ليس عبارة عن وجود الباري تعالى وعدم العالم ، لأنّ الله تعالى بمجرّد هذا الاعتبار لا يكون قبل العالم ، فكونه متقدما على العالم كيفية وجودية زائدة على وجوده تعالى وعدم العالم ، ولا بدّ لتلك الكيفية الثبوتية من شيء يتصف بها لذاته ، والذي يتصف بالقبلية والبعدية لذاته هو الزمان فتقدم الباري تعالى على العالم بالزمان ، فإذا لم تكن لتقدمه على العالم بداية وجب أن لا تكون للزمان بداية.

__________________

(١) في النسخ : «عشرة أيّام» ، أصلحناها طبقا للسياق والمعنى.

(٢) راجع المطالب العالية ٤ : ١٩٧. (الحجّة الأولى من الوجوه المستنبطة من الزمان).

(٣) قال الشهرستاني : «فإن تأخّر لا بمدّة فقد قارن وجوده وجود الباري تعالى». نهاية الاقدام : ٣٠.

وليس هذا الوجه في نهاية العقول.

١٤٠