نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

الثالث : النقط متساوية فالجهتان متساويتان بالذات ، فالمحدد ليس محصلا لهما ، لأنّ الأبعاد متناهية. ولا مميزا ، لتساوي النقط في جميع الذاتيات.

الرابع : البعد يتحدد بتناهي الأبعاد ، فلا حاجة فيه إلى محدد.

الخامس : اختصاص الاثنين بالقرب المعين كاختصاص المتحدد في جميع أحواله من كمه وكيفه ووضعه وجهة حركته وسرعته بالبعض دون ما يساويه.

السادس : نمنع قبلية الجهتين عليه. ولا يلزم من قبليتهما على حركته قبليتهما عليه.

السابع : الجسم من حيث هو جسم قابل للحركة المستقيمة ، وإنّما تمتنع عليه باعتبار صورة خاصة ، فهو لذاته يقبل الكون والفساد والخرق والالتئام ، والامتناع في ذلك لمانع ، ونحن نجوزه.

الثامن : الحركة المستقيمة جائزة على الفلك لأنّها جائزة على العناصر ، وعندكم الأجسام متساوية في الماهية. ولأنّ الصورة الجسمية عندكم طبيعة واحدة نوعية تختلف بالخارجات عنها دون الفصول على ما نصّ عليه الشيخ في الإشارات (١) ، والمادة في العناصر واحدة فتكون مادة الأفلاك كذلك ، لأنّ حدّ المادة عندكم هو الجوهر القابل وهو واحد. ولأنّه لو لا ذلك لزم تركب المادة من مادة أخرى ويتسلسل. ولأنّه لا يجوز اشتمالها على جهتي فعل واستعداد كما

__________________

(١) قال الشيخ : «إنّها طبيعة نوعية محصّلة تختلف بالخارجات عنها دون الفصول». وقال الطوسي في شرحه «وكأنّ هذا الكلام جواب عن إيراد نقض للحكم المذكور وهو أن يقال : كما كانت الحيوانية مقتضية للضحك في الإنسان دون غيره من سائر الحيوانات ، فلم لا يجوز أن يكون الامتداد الجسماني مقتضيا لوجود القابل فيما يقبل الانفكاك دون غيره من الأجسام؟ فأجاب عنه ...» شرح الإشارات ٢ : ٥٠ ـ ٥١.

٢٤١

استدل به الشيخ في الشفاء على إثبات المادة (١) وإذا كانت المادة والصورة واحدة في الفلكيات والعنصريات تساوت أحكامهما ، وقد ثبت للعناصر قبول الخرق والالتئام والكون والفساد فيثبت للأفلاك. ولأنّ مادة الأفلاك لا تقتضي منعا عن شيء بل ليس للمادة أثر البتة وإنّما لها القبول خاصة والصورة واحدة ، فتساوت الأفلاك والعناصر.

التاسع : نمنع أنّ المكان الواحد لا يستحقه جسمان.

العاشر : جاز أن يكون التحدد حاصلا بجسم واحد تمتنع عليه الحركة المستقيمة ، لكن العدم جائز عليه فلا يلزم ارتفاع التمايز عند عدمه.

الحادي عشر : لو سلّمنا ارتفاع التمايز من دون محدد ، لكن يكفي الواحد بالنوع ، فإذا عدم جسم تجدد في ذلك الآن غيره.

الثاني عشر : يجوز أن يكون تمايز الجهات بالفاعل المختار ، أو تخصيص أحد الجسمين بالبعد المعين عن صاحبه يكون مستندا إلى الفاعل المختار ، وهو الحقّ.

والاعتراض على الثاني من وجوه :

الأوّل : دلالة الرصد ظنية بل هي وهمية ، فلا يجوز بناء الأمور القطعية عليها.

الثاني : لا نسلّم تنافي الميلين ، فانّ الميلين المتضادين أشدّ تعاندا من

__________________

(١) قال : «إنّ الجسم من حيث هو جسم له صورة الجسمية فهو شيء بالفعل ، ومن حيث هو مستعد أيّ استعداد شئت فهو بالقوة. ولا يكون الشيء من حيث هو بالقوة شيئا هو من حيث هو بالفعل شيئا آخر ، فتكون القوة للجسم لا من حيث له الفعل. فصورة الجسم تقارن شيئا آخر غيرا له في أنّه صورة ، فيكون الجسم جوهرا مركّبا من شيء عنه له بالقوة ومن شيء عنه له بالفعل. فالذي له بالفعل هو صورته والذي عنه بالقوة هو مادته ، وهو الهيولى». الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء : ٦٧.

٢٤٢

المختلفين ويمكن اجتماعهما في الجسم الواحد ، كالحجر الكبير والصغير إذا رمى بهما علوا فانّ الكبير أعصى والصغير أطوع ولو لا اجتماع الميلين لما كان كذلك.

الثالث : الاختلاف في الاقتضاء لا يمنع من الاجتماع لجواز قهر أحدهما الآخر ، كما في الممتزجات.

الرابع : لم لا يجوز أن يقتضي الجسم الواحد ميلا مستقيما عند كونه في المكان الغريب وميلا مستديرا عند كونه في مكانه الطبيعي ، كما أنّ الجسم الذي في طباعه ميل مستقيم يقتضي الحركة عند لا حصوله في مكانه ويقتضي السكون عند حصوله فيه؟ (١)

وهذا سؤال مشهور أجاب عنه أفضل المحقّقين : بأنّ اقتضاء الحركة والسكون شيء واحد تقتضيه الطبيعة الواحدة ، وذلك الشيء هو استدعاء المكان الطبيعي فقط. فإن كان غير حاصل فذلك الاستدعاء يستلزم حركة تحصله ، وإن كان حاصلا فهو بعينه يستلزم سكونا ، ومعناه أنّه لا يستلزم حركة ، فهو إذن ليس بشيء آخر غير ما اقتضته أوّلا. وأمّا اقتضاء الحركة المستديرة فهو أمر مغاير لاستدعاء المكان الطبيعي ، إذ قد يوجد أحدهما منفكا عن صاحبه وقد يوجد معه. وأيضا في الأمكنة مكان طبيعي يطلبه المتحرك على الاستقامة وليس في الأوضاع وضع طبيعي يطلبه المتحرك على الاستدارة ، ولذلك أسندت إحدى الحركتين إلى الطبيعة بخلاف الأخرى. فإذن ليس مبدؤهما شيئا واحدا. (٢)

__________________

(١) والعبارة في شرح الإشارات هكذا : «وعليه سؤال مشهور وهو أنّ الجسم الذي في طباعه ميل مستقيم قد يقتضي الحركة عند حصوله في مكانه وقد يقتضي السكون عند حصوله فيه ، فلم لا يجوز أن يقتضي جسم ميلا مستقيما عند إحدى حالتيه وميلا مستديرا عند الحالة الأخرى ، وذلك لأنّ الطبيعة الواحدة إنّما لا تقتضي أمرين بانفرادها أمّا بحسب اعتبارين فقد تقتضي». ٢ : ٢٣٨ (النمط الثاني).

(٢) المصدر نفسه.

٢٤٣

وفيه نظر ، فانّا لا نسلّم أنّ اقتضاء الحركة أو السكون شيئا (١) واحدا. ولأنّ كلامه على المثال فلا يبطل به أصل الاعتراض.

سلّمنا أنّ اقتضاء الحركة الدورية مغاير لاستدعاء المكان الطبيعي ، لكن جاز أن يكون هناك أمر محصّل بالحركة المستديرة ويكون حصوله موقوفا على حصول الجسم في مكان معين ، فإذا خرج عنه اقتضى الحركة المستقيمة وإذا حصل فيه اقتضى الحركة الدورية.

الخامس : نمنع ثبوت الميل ، وقد سبق. (٢)

والاعتراض على الثالث من وجوه :

الأوّل : لا نسلّم أزلية الزمان وأبديته ، وقد سبق. (٣)

الثاني : لا نسلّم أنّ الزمان من لواحق الحركة ، فانّ جماعة من الحكماء ذهبوا إلى أنّه واجب لذاته ، وذهب آخرون إلى أنّه جوهر قائم بذاته ، لأنّه لو فرض معدوما لزم منه المحال عندكم وهو اجتماع وجوده وعدمه ، وكلّ ما يلزم من فرض عدمه لذاته المحال لذاته لا يتوقف وجوده على الحركة.

الثالث : لم لا يجوز أن يكون عائدا إلى النسب الواقعة أنّها (٤) كانت إلى أمور واقعة أنّها كانت (٥) ، كما ذهب إليه قوم آخرون من الحكماء؟

الرابع : لم لا يجوز أن يكون مقدارا لمطلق الوجود ، فانّ زمان بعض الأمور

__________________

(١) كذا.

(٢) راجع المجلد الأوّل ، ص ٥١٧.

(٣) أنظر المذاهب في ماهية الزمان في المجلد الأوّل ، ص ٣٢٩ وما يليها.

(٤) ج : «أنهّما».

(٥) العبارة كذا.

٢٤٤

الثابتة قد يكون أزيد من زمان بعض أو أقل فيكون عارضا لمطلق الوجود ، كما ذهب إليه أبو البركات البغدادي. (١)

الخامس : لا نسلّم أنّ الزمان من لواحق الحركة الدورية ، فانّه لو سلّم أنّه يلحق التغير على الاتصال لم يجب أن يكون جسمانيا.

السادس : لا نسلّم أنّ الحركة تابعة للجسم ، فانّه قد تحصل كيفيات على الاتصال نفسانية متصلة اتصال الحركة الجسمانية.

السابع : لا نسلّم أنّ بين الحركات المستقيمة المتضادة سكونا ، بل يجوز (٢) اتصالها على ما يأتي.

والاعتراض على الرابع من وجوه : (٣)

الأوّل : يجوز عدم بعض الجوانب للخارق وتجدد غيرها عند مفارقة الخارق.

الثاني : لم لا ينخرق بعض الجوانب بأن يتحرك في كمه دون أن يعدم منه شيء فينتقص مقدار الجانب المنخرق بحيث إذا عاد إلى الرتق عاد الكم إلى حاله.

الثالث : لو صحّ هذا الدليل مع مقدماته المشكلة لكان مختصا بالمحدد دون باقي الأفلاك.

والاعتراض على الخامس :

لا نسلّم حركة الفلك على الاستدارة. (٤)

__________________

(١) راجع المعتبر في الحكمة ٢ : ٦٩ وما يليها (الفصل السابع عشر في الزمان).

(٢) ق : «يحدث».

(٣) أنظر بعض الوجوه في شرح الرازي على الإشارات (في النمط الثاني).

(٤) قال الرازي : «هذا في الفلك المحدد وأما سائر الأفلاك ففيها سؤال آخر وهو أنّا لا نسلّم أنّ فيها ميلا مستديرا ، لأنّ دليلكم في ذلك مبني على بساطة الفلك والدليل على بساطة الفلك إنّما يجري في المحدد لا في غيره». المصدر نفسه.

٢٤٥

سلّمنا ، لكن لا نسلّم امتناع اجتماع الميلين.

والاعتراض على السادس :

لا نسلّم حصر القسمة.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ الكواكب لا تخرق الفلك بحركته على ما يأتي.

سلّمنا ، لكن يجوز أن يختار الله تعالى فتقة تارة ورتقة أخرى.

سلّمنا الايجاب ، لكن لم لا يختلف حاله في الاستعداد للرتق تارة والفتق أخرى بواسطة الحركة الأولى أو حركتين؟ وبالجملة فكلّ ما يجوز في البسائط العنصرية من الاختلاف بواسطة الحركات الفلكية يجوز مثله في الفلكيات بواسطة حركة بعضها.

سلّمنا ، لكن الكواكب والأفلاك عندهم احياء ناطقة ، فلم لا يجوز أن يختار بعض الأفلاك أو بعض الكواكب خرق فلك آخر؟

سلّمنا ، لكنّه إنّما يدلّ على أنّها لا تنخرق لعدم الخارق لا على أنّها غير قابلة للانخراق.

والاعتراض على السابع :

انّ عدم الاحساس بعدم التغير لا يدلّ على عدمه حقيقة ، فانّ الذي يتحلل من الياقوت ، في مدّة عمر الواحد منّا ، شيء يسير جدا مع صغر الياقوت وقربه منّا ، فكيف لو قدرنا تحلل شيء قليل من هذه الأجرام العظيمة مع بعدها عنّا؟

سلّمنا عدم التغير ، لكن العدم لا يدلّ على الامتناع.

٢٤٦

المسألة السادسة : في أنّ الله تعالى قادر على أن يخلق عالما آخر (١)

هذه مسألة خلاف بين المتكلّمين والفلاسفة ، فجوزه المتكلّمون ومنعه الفلاسفة. (٢) وربما ذهب البلخي إلى مذهب الفلاسفة ، لاعتقاده بوجوب (٣) فعل الأصلح في الدنيا. (٤)

لنا وجوه :

الوجه الأوّل : الأجسام متساوية في الماهية والحقيقة (٥) ، والمتساويان حكمهما واحد ، وهذا العالم ممكن الوجود فيكون مساويه كذلك ، وإلّا لكان ممتنعا فيكون مساويه الموجود ممتنع الوجود ، هذا خلف.

__________________

(١) قال المصنّف : يتوقف إيجاب المعاد على هذه المسألة. كشف المراد : ٤٠٠ (المسألة الأولى من المقصد السادس).

(٢) أنظر دلائل المتكلمين واعتراضهم على دلائل الفلاسفة في : «المطالب العالية ٦ : ١٩٣ ؛ كشف المراد : ٤٠٠ ؛ مناهج اليقين : ٣٣٦ ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٤٤ ؛ شرح المقاصد ٥ : ١٠٨. وانظر دلائل الفلاسفة في : الفصل العاشر من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء ؛ ابن سينا ، المباحثات : ٢١٤ (الرقم ٦٣١) ؛ طبيعيات النجاة ١ : ١٦٨ (فصل في أنّ العالم واحد) ؛ المباحث المشرقية ٢ : ١٥١.

(٣) في النسخ : «في وجوب» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٤) قال قطب الدين النيسابوري : «وقد يعبّر عن اللطف بالصلاح والأصلح. وأمّا الأصلح في الدنيا فهو غير واجب على الله تعالى خلافا لما قاله البغداديون على ما هو مشروح في الكتب». الحدود : ١٠٢.

(٥) قال الرازي : «هذه المسألة (تماثيل الأجسام في الماهية والحقيقة) أصل عظيم في تقرير الأصول الإسلامية. وذلك لأنّ بهذا الطريق يمكن الاستدلال على وجود الإله الفاعل والمختار. وبه أيضا : يمكن إثبات معجزات الأنبياء. وبه أيضا : يمكن إثبات الحشر والنشر والقيامة ... فيجب الاهتمام بتقريره». ثمّ قرّر الأصل المذكور في المسائل الثلاث. راجع المطالب العالية ٦ : ١٨٩.

٢٤٧

الوجه الثاني : وجود الجسم وتعدده في الخارج يستدعي إمكانهما وأنّ حقيقة الجسم يصحّ عليها إيجاد شخص بعد شخص ، فذات كلّ جسم تفرض قابلة للإيجاد ، والله تعالى قادر على كلّ مقدور ، فيجب أن يقدر على خلق عوالم أخر.

الوجه الثالث : السمع ، قال الله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). (١)

احتجت الفلاسفة بوجوه :

الأوّل : لو وجد عالم آخر لحصلت لا محالة في ذلك العالم جهات مختلفة ، والجهات المختلفة لا تحدد إلّا بالمحيط والمركز ، والمحيط بسيط فيكون شكله الكرة ، فيكون العالم الثاني كريّا ، والكرتان إذا اجتمعتا حصل الخلاء المحال ، فيكون خلق عالم آخر محالا.

الثاني : العالم الثاني إن صدر عن الله تعالى لزم أن يكون الواحد مصدرا لأكثر من واحد ، وهو محال. وإن صدر عن إله آخر لزم القول باثنينية الواجب ، وهو محال.

الثالث : لو وجد عالم آخر لكان إمّا محيطا بهذا العالم فيكون العالم واحدا جزؤه هذا العالم ، وهذا غير منكر ؛ أو يكون غير محيط به فإمّا أن يكون محاطا بهذا العالم ، وهذا غير منكر ، لأنّ العالم على التقديرين يكون واحدا. وإمّا أن يكون خارجا عن هذا العالم غير محيط به ، فنقول : لا بدّ وأن يقع على جانب منه دون جانب ، وهو يستدعي امتياز ذلك الجانب عن سائر الجوانب فتكون خارج العالم أحياز مختلفة ، وإنّما تختلف الأحياز بواسطة جرم محيط فخارج المحيط لا توجد فيه أحياز مختلفة ، فلا يوجد خارج الجرم المحيط عالم آخر. وإنّما وجب الامتياز ، لأنّ

__________________

(١) يس / ٨١. وفي النسخ : «والأرض» ساقطة.

٢٤٨

حصوله في جانب دون جانب مع تساويهما لا بدّ له من مرجّح سواء كان حصوله في ذلك الجانب بسبب فاعل مختار أو لا.

الرابع : لو وجد عالم آخر وحصل فيه نار وهواء وماء وأرض لكانت قدر العناصر مساوية لهذه التي في عالمنا في الماهية ، والأجسام المتساوية في الطبيعة أمكنتها واحدة ، وكلّ جسم فانّه بالطبع متحرك إلى مكانه ، فإذن يجب أن تنحدر أرض كلّ واحد من العالمين إلى وسط العالم الثاني ، ثمّ إنّ وسط كلّ واحد من العالمين ملائم للأرض الحاصلة فيه فيلزم سكون كلّ واحد من الأرضين في موضعه لحصول حيزه الطبيعي وحركته عنه لخروجه عن وسط العالم الثاني الذي هو حيزه الطبيعي فيكون كلّ واحد من الأرضين ساكنة متحركة ، وهو محال.

الخامس : لو حصل عالم آخر مساو لهذا العالم في الطبيعة حتى تكون فيه أرض وماء وهواء ونار (١) ، وهي كما في عالمنا ، لزم أن تكون الأجسام المتفقة في الطبع تسكن أماكن طبيعية متباينة في الطبع ، وهو محال. ولو وجدت أرضون كثيرة لكانت متساوية في الماهية ، فانفصال بعضها عن بعض ليس بطباعها ، وإلّا لاستحال أن يوجد منها جزء متصل ؛ ولا للسماويات ، لانّها علّة تحدد أمكنة العنصريات لا علّة حصول تلك العنصريات في تلك الأمكنة. فإذن انفصال بعضها عن البعض ليس لذواتها ولا للسماويات ، فهو إذن لقاسر خارج ، وهو محال ؛ لما ثبت من امتناع الخرق على الفلك ، وامتناع انفصاله عن وضعه في موضعه إلى وضع آخر.

والاعتراض على الأوّل من وجوه :

الأوّل : لا نسلّم حصول جهات مختلفة بالطبع ، بل ولا متفقة. نعم تحصل هناك محاذاة بين العالمين مخصوصة وجهة بهذا المعنى.

__________________

(١) في الشفاء : + «وسماء».

٢٤٩

الثاني : حصول الجهات يوجد باعتبارين :

أ. أن تكون في الخارج جهات متمايزة ذوات أوضاع مشار إليها حاصلة في الأعيان ، وهو ممنوع هنا.

ب. أن يفرض الذهن محاذاة لبعض الكواكب خارج العالم (١) دون بعض ، وهذا المعنى لا يتوقف على وجود عالم آخر ، بل هو حاصل سواء وجد عالم على التحقيق أو على التقدير ، وهذا لا يستلزم محذورا. فإن أردتم بثبوت الجهات ـ لو وجد عالم آخر ـ المعنى الثاني ، فهو مسلّم غير مفيد لكم. وإن أردتم الأوّل ، فهو ممنوع.

الثالث : لا نسلّم أنّ الامتياز إنّما يكون بجسم محيط.

الرابع : لا نسلّم أنّ ذلك المحيط بسيط.

الخامس : لا نسلّم أنّ شكل البسيط الكرة.

لا يقال : البسيط طبيعة واحدة فلا تقتضي من الأشكال إلّا واحدا ولا واحد من الأشكال إلّا الكرة.

لأنّا نقول : لا نسلّم اسناد الشكل إلى طبيعة الجسم ، بل إلى الله تعالى.

السادس : لا نسلّم أنّ ما عدا الكرة من الأشكال ليس واحدا ، وحصول الزوايا والخطوط إنّما هو كحصول جزءين في الأبلق ، فانّ اشتمال الأبلق على جزءين أحدهما أسود والآخر أبيض لا يوجب كثرة حقيقة في الجسم ، ولا يخرج الجسم بذلك عن وحدته ، فكذا هنا.

السابع : لا نسلّم أنّ الطبيعة لا تفعل إلّا أمرا متشابها ، فإنّ طبيعة الفلك واحدة وقد اختلفت آثارها من المتممات وخوارج المركز وأفلاك التداوير بالرقة

__________________

(١) ق : «عن العالم».

٢٥٠

والغلظ ، مع أنّه لا قسر هناك ولا اختلاف في الطبيعة.

الثامن : ينتقض ما ذكرتم بالقوة المصورة في الحيوان ، فانّها إن كانت بسيطة لزم أن يكون الحيوان على شكل الكرة ، وإن كانت مركبة لزم أن يكون على شكل كرات ، ولمّا اقتضت القوة المصورة صورا مختلفة وخلقا متباينة جاز هنا مثله.

التاسع : نمنع امتناع الخلاء ، فقد سلف وقوعه. (١)

العاشر : لم لا يجوز أن يكون الفلك الأقصى بما فيه من الأفلاك والعناصر مركوزا في ثخن فلك آخر ، وأن يكون في ثخن ذلك الفلك ألف ألف كرة مثل الفلك الأقصى بما فيه من الأفلاك والكواكب (٢)؟ وجاز أن يكون ذلك الفلك الكبير مركوزا في عشر كرة أخرى وهكذا إلى ما شاء الله تعالى وإن كانت الأجسام بأسرها متناهية. (٣)

والاعتراض على الثاني من وجوه :

الأوّل : لا نسلّم امتناع صدور الكثير عن العلّة الواحدة ، وسيأتي.

الثاني : متى يمتنع صدور الكثير عن الواحد إذا لم يكن هناك شرط أو جزء علّة أو لحوظ أمر آخر أو (٤) إذا كان م ع. (٥) لكن بالاتفاق العالم الثاني يصدر عن الواجب تعالى بواسطة العالم الأوّل. و (٦) لا نزاع بين العقلاء أنّ الواحد لا يصدر

__________________

(١) في المجلد الأوّل ، ص ٤٠١ (البحث الثالث عشر : في الخلاء ـ المسألة الأولى : في أنّه هل هو ثابت أم لا؟).

(٢) ولا استبعاد في ذلك ، فانّهم قالوا : تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس بما فيها من الأفلاك الثلاثة والعناصر الأربعة ثلاث مرات. راجع شرح المواقف ٧ : ٢٤٤.

(٣) ومن الذي يمكنه أن يذكر في إبطال هذا الاحتمال خيالا إقناعيا ، فضلا عن البرهان اليقيني. المطالب العالية ٦ : ١٩٤.

(٤) ق : «و».

(٥) أي إذا كان الفرض الأوّل فهو مسلم ، وإذا كان الفرض الثاني فهو ممنوع.

(٦) ق : «إذ».

٢٥١

عنه بالاستقلال أكثر من واحد وأنّه يجوز عند اختلاف الاعتبارات تعدّد المعلولات.

الثالث : متى نمنع صدور الواحد عن أكثر من واحد إذا كان علّة موجبة أو قادرا مختارا م ع؟ (١) فانّ الاتفاق وقع على إمكان تعدد آثار المختار الواحد.

الرابع : لا امتناع في صدور الكثير عن الواحد بواسطة أو وسائط.

والاعتراض على الثالث : بأنّ اختصاص العالم الثاني بأحد الجوانب للقادر المختار ، وامتياز الجوانب خارج العالم بالإضافة إلى مسامتة جوانب العالم ، ولا نسلم أنّ الامتياز إنّما يكون بالمحيط. والفاعل المختار يرجح أحد الأمرين لا لمرجّح بالوجدان.

والاعتراض على الرابع : لا نسلّم أنّ لكلّ جسم حيزا طبيعيا.

سلّمنا ، لكن يجوز أن تكون هيولى أرض العالم الثاني تكون (٢) مخالفة لهيولى أرض هذا العالم فلا جرم لا تطلب أرض ذلك العالم وسط عالمنا ، كما في الأفلاك مع استوائها في الجسمية واختلافها في الهيولى حتى وجب اختصاص كلّ واحد منها بموضع معيّن ومقدار معيّن.

سلّمنا ، لكن وسط كلّ عالم مساو في الحقيقة لوسط العالم الآخر وكذا باقي الأحياز ، فمقتضى الأرضية واحد ، واختصاص أحدهما كاختصاص جزء من العنصر بمكان جزئي من مكان كلية ذلك العنصر فكما لا تنجذب قطعة من الأرض إلى مكان قطعة أخرى كذا لا تنجذب أرض كلّ عالم إلى وسط العالم الآخر. والأصل أنّ كليهما (٣) طبيعي إذا اتّفق حصول المتمكن في أحدهما وقف فيه وإلّا

__________________

(١) أي إذا كان الفرض الأوّل فهو مسلم ، وإذا كان الفرض الثاني فهو ممنوع.

(٢) كذا ، ولعلّها من زيادة الناسخ.

(٣) في النسخ : «كلاهما» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٢٥٢

طلب أحدهما.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم تساوي النارين في الطبيعة عند استوائهما في الحرارة واليبوسة والبعد من المركز والقرب من المحيط وتختلفان في الصور المقومة (١) ، فانّ الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في الملزومات.

والاعتراض على الخامس : (٢) أنّ الأرضين وإن تكثرت بالعدد إلّا أنّها مشتركة في الأرضية وأمكنتها مشتركة في كونها وسطا لتلك العوالم ، فالأرضية المطلقة تقتضي الوسط من العالم والأرض المعينة تقتضي الوسط من العالم المعين.

أجاب الشيخ بأنّه : «وإن كان لا نشكّ (٣) في أنّ الأجسام الكثيرة بالعدد لها أمكنة كثيرة بالعدد ، ولكن يجب أن تكون كثيرة (٤) على نحو يجعل (٥) الكل لو اجتمع كل (٦) المتمكن شيئا واحدا ومكانا واحدا بالعدد ، على (٧) ما بيّناه. وهذا الاجتماع ممّا لا مانع له في طبيعته (٨) ، فانّ الطبيعة الواحدة المتشابهة لا تقتضي الافتراق والتباين».

والاعتراض (٩) : الشيخ زعم أنّ الأجسام الفلكية والكواكب وإن كانت

__________________

(١) والذي يقرر هذا : أنّ مذهب الشيخ الرئيس : أنّ الصورة النارية صفة مغايرة للحرارة واليبوسة والإشراق والإحراق والصعود مقتضية للصفات. وتلك الصورة هي الطبيعة النارية. المطالب العالية ٦ : ١٩٥.

(٢) أنظر الاعتراض والجواب عنه في الفصل العاشر من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) في المصدر : «شك».

(٤) ج : «كثرة».

(٥) ق : «تحصل».

(٦) في المصدر : «كان».

(٧) ج : «وعلى» ، وهو خطأ.

(٨) في المصدر : «له عنه في طبعه».

(٩) أنظر الاعتراض في المباحث المشرقية ٢ : ١٥٣.

٢٥٣

مشتركة في الجسمية (١) والكوكبية والضّوء واللّون والمقدار ، فانّ كلّ واحد منها مخالف للآخر بنوعيته ؛ فإذا جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن تكون الأرضون الموجودة في العوالم متشابهة في الأرضية ، إلّا أنّه مع ذلك تكون لكلّ واحد منها حقيقة نوعية مخالفة لنوعية الأرض الأخرى ، وعلى هذا تلك الأرضون لأجل اشتراكها في مطلق الأرضية تكون طالبة لمطلق الوسط ، ثمّ إنّ كلّ أرض بحقيقتها المخصوصة ـ التي بها تخالف الأرض الأخرى ـ تكون طالبة للوسط المعيّن؟ وإذا كان الذي قلناه محتملا لم تكن حجّتكم برهانية.

لا يقال : (٢) لا يعقل من الأرض إلّا الجسم البارد اليابس لطبعه (٣) ، فإن كان هناك خصوصية وراء ذلك لم تكن تلك الخصوصية لازمة لهذا القدر المشترك ، وإذا لم تكن لازمة أمكن فرض الأرضين عارية عن تلك الخصوصية ، وعند ذلك الفرض تكون الأرضون تكون الأرضون متساوية في النوعية وتطلب كلّ واحدة منها ما تطلبه الأرض الأخرى.

لأنّا نقول : إن كان الأمر كذلك لزم أن تكون الأجرام الفلكية كلّها متحدة في النوع ، لأنّها مشتركة في مطلق الجسمية ، فإن كان هناك خصوصية لم [تكن] تلك الخصوصية لازمة لتلك الجسمية ، وإذا لم تكن لازمة أمكن فرض تلك الجسمية عارية عن الخصوصية ، وعند ذلك الفرض تكون الأجرام الفلكية متساوية في النوعية ، فيجب أن يطلب كلّ واحد منها ما يطلبه الفلك الآخر من الوضع والحيّز.

لا يقال : هذه الأجسام الفلكية اختلفت موادها فلذلك اختلفت أمكنتها

__________________

(١) في النسخ : «التسمية» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٢) أنظر الإشكالين والجواب عنهما في المصدر نفسه.

(٣) في المباحث : «بطبعه».

٢٥٤

وأوضاعها.

لأنّا نقول : فجوزوا هنا أن تختلف الأرضون في موادها حتى يكون لكلّ أرض بسيطة(١) عالم معيّن.

فإن ادعوا تماثل الأرضين في المادة ، قلنا : لا نزاع في أنّ أجزاء الأرض التي في عالمنا متشاركة في المادة ، لكن لم قلتم بأنّ مادة الأرض الموجودة في عالم آخر يجب أن تكون مساوية لمادة الأرض الموجودة في هذا العالم؟

وبالجملة فكلّ ما يذكرونه هنا ينتقض بالأجرام الفلكية.

والاعتراض على السادس : بأنّ تلك الحجّة مبنية أيضا على أنّها لو كانت موجودة لكانت متحدة في النوع ، وقد سبق البحث فيه. (٢)

واعلم أنّ بعض الناس (٣) احتج على إثبات عوالم كثيرة بأن قال : مفهوم قولنا «عالم» إن منع عن (٤) الشركة لم يكن علمنا بوحدة العالم كسبيا موقوفا على برهان ، بل كلّ من تصوّر العالم تصوّر كونه واحدا بالضرورة ، وليس كذلك بالضرورة فهو غير مانع من الشركة ، لكن العالم ليس من الأمور التي إذا فرضت له جزئيات كانت تلك الجزئيات على سبيل إنّ واحدا يكون بعد واحد لأنّ العالم أزلي ، بل لما ثبت إمكان وجود العالم فقد ثبت إمكان وجود أزليته ، والأمور الأزلية

__________________

(١) في المباحث : «وسط».

(٢) قال الرازي بعد ذكر الجواب عن دلائل الفلاسفة : «فقد ظهر بهذه البيانات : أنّ دلائل الفلاسفة في إثبات هذه المطالب أوهن من بيت العنكبوت. وأنّ الحقّ : أنّ العقول البشرية ضعيفة ، والعلوم الإنسانية حقيرة. وأنّ الحقّ الصريح ما جاء في الكتاب الإلهي ، حيث قال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) والله أعلم». المطالب العالية ٦ : ١٩٥.

(٣) انساق إلى كثرة العوالم من أصول فاسدة وغير متناسبة للعلم الطبيعي ، بل هي فلسفية ومنطقية ... الفصل العاشر من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء.

(٤) ج : «من».

٢٥٥

لو لم تكن موجودة في وقت استحال حصولها ، لأنّها إذا كانت معدومة فمن المستحيل أن توجد بعد عدمها بحيث تكون أزلية. فإذن لو كان العالم (١) ممكن الوجود لكان أزليا ، لكنّه ممكن الوجود فهو أزلي ، فالعوالم الكثيرة موجودة في الأزل.

والجواب (٢) : أنّ الكلي هو الذي لا يكون مفهومه سببا لامتناع الشركة فيه ، ولا يلزم من عدم تعليل امتناع الشركة بنفس ذلك المفهوم عدم امتناع الشركة ، إذ الممتنع لا يعقل أن يكون امتناعه معللا بكلّ شيء ، بل علّة الامتناع أمر واحد. ثمّ لا يلزم من سلب تعليل ذلك الامتناع بما عدا ذلك الواحد سلب الامتناع ، فكذا هنا لا يلزم من كون ذلك المفهوم غير موجب لذلك الامتناع أن يكون الامتناع حاصلا. مع أنّ القول بأزلية العالم محال.

المسألة السابعة : في حلّ شكوك الفلاسفة غير ما تقدّم (٣)

قالت الفلاسفة : كلّ محدث فله علل أربع : المادة ، والصورة ، والغاية ، والفاعل. وكلّ واحد من هذه الجهات يقتضي القدم.

أمّا بالنظر إلى الفاعل ، فلأنّه لو أحدث العالم لكان تخصيص وقت منه بالاحداث دون ما قبله وبعده مع تساوي النسب ترجيحا (٤) من غير مرجح. ولأنّ احداثه في الوقت الذي أحدثه فيه لا يكون لمرجح ، لأنّ النفي المحض لا يعقل فيه الامتياز ذاتا.

__________________

(١) في المباحث : «العالم الثاني».

(٢) أنظر الجواب في الشفاء ، والمباحث.

(٣) راجع نقد المحصل : ٢٠٥.

(٤) في النسخ : «ترجيح» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٢٥٦

وأمّا بالنظر إلى المادة ، فلأنّ كلّ محدث فهو مسبوق بمادة يحل فيها إمكانه السابق عليه ، فإن كانت حادثة تسلسل. وإن كانت قديمة افتقرت إلى صورة ومجموعهما الجسم ، فهو قديم.

وأمّا بالنظر إلى الصورة ، فلأنّ الزمان لا يقبل العدم ، وإلّا لافتقر سبق عدمه على وجوده إلى زمان وتسلسل.

وأمّا بالنظر إلى الغاية ، فلأنّ الفاعل لو كان مختارا فلا بدّ له من غاية في الإيجاد فكان مستكملا بذلك الإيجاد فكان ناقصا ، وإن لم يكن مختارا كان موجبا فيلزم من قدمه قدم الأثر.

والجواب عن الأوّل : ما ذكرناه من اختصاص الكوكب بالموضع المعيّن من الفلك مع كونه بسيطا ؛ واختصاص أحد جانبي المتمم بالثخن والآخر بالرقّة.

وأيضا (١) الاختصاص مستند إلى إرادة الله تعالى بإحداثه في ذلك الوقت وذلك التعلّق واجب ، فيستغني عن المرجح.

لا يقال : تخصيص الإحداث بوقت معيّن يستدعي امتيازه عن سائر الأوقات ، فتكون الأوقات موجودة قبل ذلك الحادث.

لأنّا نقول : كما يجوز امتياز وقت عن وقت بأن (٢) لم يكن للوقت وقت آخر ، فلم لا يجوز امتياز العدم عن الوجود من غير وجود الوقت؟

والجواب عن الثاني : أنّ الإمكان ليس وصفا وجوديا ، على ما مرّ. ولأنّ المادة ممكنة فيلزم أن يقوم إمكانها بمادة أخرى.

لا يقال : المادة قديمة فإمكانها قائم بها ، أمّا إمكان الحادث فلا يمكن قيامه به ، لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم.

__________________

(١) وصفه الرازي بالجواب الحقيقي. المصدر نفسه : ٢٠٦.

(٢) في المحصل : «وإن».

٢٥٧

لأنّا نقول : لو قام إمكان المادة بها لكان وجود المادة شرطا في إمكانها (١) ، لأنّ وجود المحلّ شرط في وجود الحالّ ، فلو كان إمكان المادة قائما بها لكان إمكانها مشروطا بوجودها ، لكن وجودها عرضي مفارق والموقوف على المفارق مفارق فالإمكان مفارق ، هذا خلف.

والجواب عن الثالث : انّكم لمّا قلتم «كل محدث فعدمه سابق على وجوده» ، فقد اعترفتم بكون العدم موصوفا بالسابقية ، ووصف العدم لا يجوز أن يكون موجودا لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم ، فثبت أنّ السابقية ليست صفة وجودية ، فيبطل (٢) دليلكم بالكلية.

والجواب عن الرابع : انّا سنبيّن أنّه تعالى فاعل مختار.

قال أفضل المحقّقين : «التشكيك الأوّل ـ بأنّ إحداث العالم في وقت دون وقت يقتضي ترجيح (٣) أحد المتساويين على الآخر من غير مرجّح. والجواب بأنّه كاختصاص الكوكب بموضع من الفلك دون موضع ؛ واختصاص ثخن المتمم بجانب دون جانب ـ فغير مفيد ؛ لأن الأمور الموجودة يمكن أن يقال : المرجح هناك موجود وليس بمعلوم ، أمّا في الأمور العدمية فلا يمكن ذلك.

وقوله في الجواب الحقيقي ـ بأنّ إرادة الله تعالى تتعلق بأحد الوقتين تعلقا واجبا من غير احتياج إلى مرجح ـ دعوى مجرّدة عن الحجّة.

والاعتراض عليه ـ بأنّ القول بالترجيح يستدعي وجود الأوقات ـ صحيح.

والجواب : ـ أنّ الامتياز هناك كما لا يقتضي أن يكون للوقت وقت ، كذلك لا يقتضي في امتياز العدم عن الوجود أن يكونه لهما وقت ـ ليس بجواب عنه ، وقد مرّ

__________________

(١) في النسخ : «إمكانه» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٢) ج : «فبطل».

(٣) في المصدر : «ترجح».

٢٥٨

أنّ الوقتين لا يحتاجان إلى وقت آخر ، فالعدم والوجود محتاجان إلى وقت غيرهما.

والجواب الصحيح أن يقال : الأوقات التي يطلب فيها الترجيح (١) معدومة ، ولا تمايز بينها إلّا في الوهم ، وأحكام الوهم في أمثال ذلك غير مقبولة ، إنّما يبتدئ وجود الزمان مع أوّل وجود العالم ، ولم يمكن وقوع ابتداء سائر الموجودات قبل ابتداء وجود الزمان أصلا.

وأمّا التشكيك الثاني ـ بأنّ كلّ محدث يحتاج إلى مادة تسبقه وتكون محلا لإمكانه ، والمادة إن حدثت احتاجت إلى مادة تسبقها. فالجواب عنه بأنّ الإمكان غير وجودي. وأيضا المادة ممكنة فيلزم أن يقوم إمكانها بمادة أخرى ـ ليس بوارد ؛ لأنّ الإمكان الذي محلّه الماهية غير الإمكان الذي محلّه المادة ، فانّ الأوّل منهما أمر عقلي يعقل عند انتساب الماهية إلى وجودها ، والثاني عبارة عن الاستعداد وهو استعداد وجود شيء يكون قبل وجود ذلك الشيء ويحتاج إلى محل ، لأنّه عندهم عرض موجود من جنس الكيف.

والجواب الصحيح : أنّ الأمور الإبداعية لا يتصور فيها استعداد يتقدم وجودها. وإمكانها إنّما يعقل عند وجودها وهو صفة لماهيتها التي لا توجد قبل وجودها.

والتشكيك الثالث ـ بأن سبق العدم على الوجود يقتضي وجود حادث قبل ذلك الحادث. والجواب بأنّ السابق ليس ثبوتيا أيضا ـ ليس بمفيد ؛ لأنّهم يعترفون بأنّ ذلك السبق ذهني يلزم من توهم العدم السابق ، إلّا أنّه يوجب وجود زمان عندهم يقع فيه العدم السابق والوجود المسبوق ، وهو لم يبطل ذلك.

والتشكيك الرابع ـ بأنّ فعل المختار يكون لغاية يستكمل بها الفاعل ، وذلك في حقّ الله تعالى محال ـ فلم يجب عنه إلّا بقوله : إنّا سنبيّن أنّ الفاعل مختار.

__________________

(١) في المصدر : «الترجح».

٢٥٩

والجواب الصحيح على رأي [بعض] المتكلّمين : أنّ الغاية هناك استكمال الفعل لا الفاعل. وعلى رأي لا بعضهم أنّه لا غاية هناك. وعند الفلاسفة أنّ الغاية هناك نفس الفاعل ، لأنّه تعالى إنّما يفعل لذاته ، ولأنّه فوق الكمال». (١)

وفيه نظر ، فانّه لا فرق بين تخصيص أحد الوقتين بالإحداث الثابت دون الوقت الآخر المعدوم وبين تخصيص ثخن معيّن ورقّة معيّنة دون غيرهما من الثخن والرقة المعدومين. والجوانب المساوية وإن كانت موجودة لكن مقادير الثخن والرقّة متفاوتة. والترجيح يثبت في المعدومات كالموجودات ، فانّ المعدوم الذي عدم بعدم جميع أسبابه وشرائطه وأجزاء علله أرجح في العدم من الذي عدم بعدم بعض شرائطه البعيدة ، وإذا جاز أن يقع فيه الترجيح جاز استناده إلى سبب غير معلوم. فالوجود وكون الإرادة موجبة لترجيح أحد المرادين ، غني عن البرهان ؛ ولا يحتاج إلى حجّة في ذلك ، لأنّها لذاتها مخصصة.

والترجيح إذا كان يصحّ دخوله في العدم لم يكن ترجيح بعض الأوقات يستدعي وجودها.

ولا فرق بين الإمكان الذاتي والاستعدادي في أنّهما ذهنيان ؛ لأنّ الاستعدادي لو كان موجودا تسلسل. ولأنّ الاستعداد عبارة عن ترجح الوجود أو العدم ، وهو قابل للشدة والضعف وأحد طرفيه الوجوب ، فإذا كان الاستعداد الذي لا يبلغ حدّ الوجوب مقتضيا للمادة فالبالغ حدّ الوجوب كذلك ، والمبتدعات لها هذا الإمكان ، وإلّا لما وجدت. والإمكان الذاتي لا شكّ في ثبوته للمبتدعات ، ولا شكّ في سبقه ، فقوله : «إنّما يعقل عند وجودها مشكل» ، لأنّه يقال : أمكن فوجد ، ولا يقال : وجد فأمكن على أن يكون الإمكان متأخرا عن الوجود ، وقد بيّن أوّلا أنّ السبق لا يستدعي الزمان ، وإلّا لكان للزمان زمان آخر.

__________________

(١) نقد المحصل : ٢٠٦ ـ ٢٠٨.

٢٦٠