نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

المبدأ والمنتهى منتهى لذي المنتهى وبالعكس. وأمّا قياس كلّ واحد منهما إلى الآخر فليس قياس التضايف ، فانّه ليس من عقل مبدأ عقل منتهى ولا بالعكس ، إذ من الجائز فرض حركة ليس لها بداية ولا نهاية أو ليس لها أحدهما ، كما نتصوره في حركات أهل الجنة (١). والمتضايفان (٢) لا يوجدان بأحد الوجودين إلّا معا ، فإذن ليس التقابل بينهما تقابل التضايف ، للانفكاك المذكور. ولا تقابل السلب والإيجاب ، لأنّهما معا وجوديان. ولا تقابل العدم والملكة ، لذلك ؛ ولأنّه ليس أحدهما بأن يكون عدما للآخر أو سلبا له أولى من العكس. فلم يبق بينهما إلّا تقابل الضدية.

فالمبدئية والمنتهائية ضدّان لأجل أنّهما مبدأ ومنتهى حركة بصفة لا يكون مبدؤها هو بعينه منتهاها ، وذلك إنّما يكون حيث يكونان لحركة مستقيمة.

لا يقال : كيف يكون المبدأ ضدّ المنتهى وهما يجتمعان في جسم واحد والأضداد لا تجتمع في الجسم الواحد؟

لأنّا نقول : الأضداد قد تجتمع في الجسم الواحد إذا لم يكن الجسم موضوعا

__________________

(١) وأمّا تصوّره في هذه الدنيا فقد وقع فيه نزاع بين المتكلّمين وذكره الأشعري هكذا : «واختلف المتكلّمون في الجسم يكون ملازما لمكان ومكانه سائر متحرك هل الجسم الملازم لذلك المكان متحرك أم لا؟ على مقالتين : فزعم كثير من المتكلّمين منهم الجبائي وغيره أنّ الجسم إذا كان مكانه متحركا فهو متحرك وهذه حركة لا عن شيء ، وجوزوا أن يتحرك المتحرك لا عن شيء ولا إلى شيء وأن يحرّك الله سبحانه العالم لا في شيء.

وقد كان أبو الهذيل يقول : يجوز أن يتحرك الجسم لا عن شيء ولا إلى شيء.

وقال قائلون : إذا تحرك مكان الشيء والشيء لازم لمكان واحد فهو ساكن غير متحرك ، وأحال هؤلاء أن يتحرك المتحرك لا عن شيء ولا إلى شيء.

وكان النظام ممن يحيل أن يتحرك المتحرك لا في شيء ولا إلى شيء.» راجع مقالات الإسلاميين : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٢) في النسخ : «المضافان».

٣٦١

قريبا لهما ، وموضوع المبدئية والمنتهائية ليس هو الجسم بل الطرف ، ولا يجتمع في طرف بالفعل أن يكون مبدأ ومنتهى لحركة مستقيمة واحدة.

بقي هنا إشكال في تقابل ما منه وما إليه في الحركة الدورية ، فانّه لا يعقل فيه التضاد للوحدة.

المسألة الرابعة : في نسبة الحركة إلى المقولات (١)

والنظر في أمرين :

الأمر الأوّل : في مفهوم قولنا : في هذه المقولة حركة

اعلم أنّا إذا قلنا في مقولة كذا حركة احتمل أربعة أوجه :

الأوّل : أنّ المقولة موضوع حقيقي لها.

الثاني : أنّ الموضوع لها وإن كان هو الجوهر ، لكن بتوسط تلك المقولة. (٢)

الثالث : أنّ المقولة جنس لها ، وهي نوع لها.

الرابع : أن يتغير الجوهر من صنف من تلك المقولة إلى صنف آخر تغيرا على التدريج.

والثلاثة الأول باطلة. أمّا الأوّل فنقول : التسوّد ليس هو أنّ ذات السواد تشتد ، فانّ ذلك السواد عند اشتداده إن لم يكن موجودا لم يشتد بل عدم. وإن كان موجودا فإن لم يحدث فيه شيء فلا اشتداد بل هو كما كان ، وإن حدث فذات

__________________

(١) راجع الفصل الثاني والثالث من المقالة الثانية من طبيعيات الشفاء ١ : ٩٣ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٦٨٤ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٠٣.

(٢) كما أنّ الملاسة إنّما هي للجوهر بتوسط السطح. المصدر نفسه من الشفاء ، الفصل الثالث.

٣٦٢

السواد باقية وحدث فيه شيء آخر فلا يكون في ذات السواد تبدل بل في صفاته. لكنّا لا نعني بالسواد إلّا هذه الهيئة المحسوسة لنا فإن وقع التبدل فيها فذات السواد غير باقية ، وإن لم يقع التبدل فيها فالتبدل إن كان فهو شيء آخر لا يسمى سوادا إلّا باشتراك الاسم.

فظهر من هذا أنّ اشتداد السواد يخرجه عن نوعه وتكون للموضوع في كلّ آن كيفية واحدة بسيطة ، لكن الناس يسمون كلّ الحدود المقاربة من السواد سوادا وجميع الحدود المقاربة من البياض بياضا. والسواد المطلق واحد في الحقيقة وهو الطرف والغاية التي لا زيادة عليها ، وكذا البياض ، والمتوسط كالممتزج ، لكن يعرض لما يقرب من أحد الطرفين أن ينسب (١) إليه والحس لا يميز فيظن أنّهما نوع واحد.

قيل (٢) : الحركة المقدارية ، إمّا أن يكون هناك مقدار واحد باق في جميع زمان حركة التخلخل أو لا ، فإن كان فالزيادة إن داخلته كان قولا بالتداخل ، وبتقدير جوازه لا يزيد المقدار وكلامنا فيه. وإن لم تداخله بل انضمت الزيادة إليه من الخارج فيكون في الحقيقة كاتصال خطّ بخطّ ولم يكن ذلك من باب التخلخل. وإن كان المقدار الأوّل لا يبقى عند الزيادة فهناك مقادير متتالية على الجسم ويجب أن لا يبقى الواحد منها زمانا وإلّا صار ساكنا عند حركته (٣) التخلخلية وكلامنا فيه عند الاستمرار ، فهناك مقادير متتالية آنية (٤) الوجود بغير نهاية. وأمّا أنّها هل هي متخالفة بالنوع كالكيفيات المتتالية التي تخالفت بالنوع عند تتاليها؟

__________________

(١) في النسخ : «نسب» ، وما أثبتناه من الشفاء.

(٢) أنظر القول في المباحث ١ : ٦٨٤.

(٣) في النسخ : «حركة» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٤) في النسخ : «آنية آنية» ، حذفنا أحدهما طبقا للمعنى والمباحث.

٣٦٣

فالأقرب أنّه كذلك.

وأيضا القوّة المحركة قسرا تضعف عندهم بمصادمات الهواء المخروق لا يمكن أن يكون فيها شيء باق يتناقض ، بل الحاصل هناك أنواع من القوى آنية الوجود متتالية.

وإذا لم يوجد شيء من هذه الأمور المتتالية أكثر من آن واحد وهي متعاقبة لا يتخللها زمان ، لزم تتالي الآنات.

وأجاب الشيخ في التعليقات (١) بأنّ وجود تلك الأنواع بالقوة لا بالفعل.

ويضعّف بأنّ الأنواع إذا لم يكن لها وجود في الخارج لم يكن لحركة الجسم في كيفية واحدة وجود في الخارج ، لأنّ الحركة إن كانت عبارة عن وجود هذه الأنواع ولم يكن وجودها بالفعل بل بالقوة لم تكن حركتها بالفعل بل بالقوة ، فيكون الجسم غير متحرك بالفعل ، بل يمكن أن يتحرك. وإن كانت هذه الأنواع موجودة بالفعل وقد دلّ الدليل على تخالفها بالنوع وبالماهية وإن كان كلّ واحد منها لا يوجد أكثر من آن واحد وهي متتالية لا يتخللها زمان والأمور التي هذا شأنها كيف يقال : إنّ وجودها بالقوّة؟ فثبت أنّ الكيفية لا يجوز أن تكون موضوعا للحركة.

وبهذا يظهر أنّه لا يجوز أن تكون واسطة بينها وبين الموضوع. (٢)

وأمّا الاحتمال الثالث وهو أن تكون المقولة جنسا لها ، فقد ذهب إليه بعضهم ، وزعم أنّ من (٣) الأين منه ما هو قارّ ومنه ما هو سيّال هو الحركة المكانية. ومن الكيف قارّ ومنه سيّال هو الحركة في الكيف ، كالاستحالة. ومن

__________________

(١) ص ٤١ ، تحقيق د. عبد الرحمن البدوي.

(٢) وهو الاحتمال الثاني.

(٣) كذا ، ولعلّها زيادة من الناسخ ، ولا يخل بالمعنى.

٣٦٤

الكم قارّ ومنه سيّال هو النمو والذبول والتخلخل والتكاثف. (١) وبالجملة فالسيال من كلّ جنس هو الحركة.

ثمّ اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنّ المخالفة بالسيلان والثبات مخالفة نوعية ، لأنّ السيالية جزء ماهية السيال ، فيكون في ماهيته مخالفا لما ليس بسيال. ومنهم من جعل المخالفة عرضية ، كزيادة خطّ على خط. والقولان ضعيفان والحجّتان ساقطتان.

أمّا الأولى : فلأنّ البياض داخل في حقيقة الأبيض مع أنّ امتيازه عن الأسود قد يكون بعرض غريب لا بفصل مقوم ، فليس كلّ زيادة مميزة تكون منوعة.

وأمّا الثانية : فلأنّ كلّ واحد من مراتب الأعداد مخالفة بالنوع للمرتبة الأخرى مع أنّ ذلك ليس إلّا لزيادة الآحاد ونقصانها ، فكذا هنا لا يلزم من انضياف حقيقة السيلان إلى طبيعة الكيف أن لا يكون السيال مخالفا لغير السيال.

وبالجملة فالحجّة الأولى منقوضة بالفصول ، والثانية بالخواص. ومذهبهم باطل من الأصل ، لأنّا لا نعني بالحركة إلّا تغير الموضوع في صفاته تغيرا على التدريج ومعلوم أنّ هذا البدل ليس من جنس ما وقع فيه التبدل ، فانّ التبدل حالة نسبية وأمر إضافي والمتبدل ليس كذلك. ولأنّ التبدل لو كان من جنس المتبدل وهو لا يحصل إلّا عند المتبدل فهما إن كانا مثلين لزم اجتماع المثلين وإن كانا مختلفين كانا متضادين مع أنّهما يجتمعان فيلزم اجتماع الضدّين ، هذا خلف.

فتعين الاحتمال الرابع : وهو أن يكون معنى الحركة في المقولة تغير الموضوع

__________________

(١) وربما تمادى بعضهم في مذهبه حتى قال : والجوهر منه قار ومنه سيال هو الحركة في الجوهر أي الكون والفساد. الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٩٣.

٣٦٥

من نوع منها إلى نوع آخر. (١)

الأمر الثاني : في جنس الحركة (٢)

سألت شيخنا أفضل المحقّقين نصير الملّة والدين ـ قدّس الله روحه ـ عن الحركة تحت أيّ مقولة تقع من المقولات؟

فأجاب بأنّ الرئيس استشكل هذا الموضع (٣). وتحقيقه أن نقدّم له مقدمة ، فنقول :

من الناس من جعل لفظة الحركة واقعة على ما تحتها بالاشتراك البحت ، وهو خطأ ؛ فإنّ مفهوم التغير على التدريج أمر شامل لما تحته ولكلّ ما يقال له حركة.

ومنهم من قال : إنّها مقولة على ما تحتها بالتشكيك قول البياض على بياض الثلج والعاج ، فانّ من الخروج التدريجي ما هو سريع ومنه ما هو بطيء وللسريع طرفا قلة وهو البطء وكثرة هو الحصول الدفعي ، وللبطء طرفان أيضا هما السريع والسكون. وأيضا الحركة كمال أوّل لما بالقوة ومعنى الكمال هنا وجود ما لم يكن ، والوجود مقول بالتشكيك على أشخاصه.

وقد اعترض على الثاني (٤) بأنّ الشيء إنّما يكون مقولا على أقسامه بالتشكيك إذا كان ثبوته لأحدها قبل ثبوته للآخر وهنا ليس كذلك ، فانّه ليس

__________________

(١) وهو مختار الشيخ والرازي أيضا ، حيث قال في الشفاء : «والمعنى الذي نذهب إليه هو هذا الأخير.» وقال في المباحث : «والحقّ هو هذا القسم الأخير وما عداه باطل».

(٢) راجع أرسطوطاليس ، الطبيعة ٢ : ٧٨٠.

(٣) راجع الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٤) أنظر الاعتراض في الشفاء ، والمباحث المشرقية ١ : ٦٨٧. راجع أيضا شرح المقاصد ٢ : ٤٣٧.

٣٦٦

كون النقلة كمالا بسبب كون الاستحالة كمالا ولا بالعكس ، بل يجوز أن يكون وجود النقلة سببا لوجود الاستحالة ، وحينئذ يكون التقدم والتأخر عائدين إلى الوجود ، وهذا كما أنّ أنواع العدد لما لم يكن شيء منها علّة لكون الآخر عددا بل لكونه موجودا (١) لا جرم كان كون العدد مقولا عليها بالتواطؤ أو التشكيك عائدا إلى الوجود ، فكذا هنا.

وفيه نظر ، فانّه ليس أسباب المقولية بالتشكيك منحصرة في التقدّم السببي والتأخر ، فإنّ بياض الثلج ليس أولى بأن يكون متقدّما على بياض العاج من العكس بل لا تقدم لأحدهما على الآخر في البياضة ومع ذلك فالتشكيك ثابت فيه ، كذا هنا.

إذا ثبت هذا فنقول : اختلف الناس هنا فقال بعضهم : إنّ الحركة نفس مقولة أن ينفعل. وبعضهم منع من ذلك.

واحتج المانعون : بأنّ الحركة مقولة بالتشكيك على ما تقدّم ولا شيء من المقولات بمقول على ما تحته بالتشكيك ، فالحركة ليست بمقولة.

وقد سلف ضعف قولهم في مقوليّتها على ما تحتها بالتشكيك. ولأنّ مقوليتها على ما تحتها بالتشكيك لا يمنع من كونها مقولة ، فانّ الجدة وهي كون الشيء محاطا بغيره بحيث ينتقل بانتقاله مقولة على ما تحتها بالتشكيك ، فانّ جلد الحيوان أولى بذلك من قميصه ، فكذلك هنا.

وهو ضعيف ، لأنّهم يشترطون في مقولة الجدة الخروج عن الشيء احترازا من الجلد. نعم يمكنهم التمسّك بأنّ مقولة أن ينفعل ليست وجودية وإلّا تسلسل ، والحركة لا شكّ في أنّها وجودية ، فليست مقولة أن ينفعل.

__________________

(١) مثلا : الاثنينية قبل الثلاثية في الوجود لا في مفهوم العددية ، لأنّ العددية لهما معا.

٣٦٧

واحتج القائلون بأنّها مقولة «أن ينفعل» بوجهين : (١)

الوجه الأوّل : الحركة التغير على التدريج ، والتغير اتصاف الشيء بصفة بعد زوال صفة أخرى ، وذلك الاتصاف هو نفس الانفعال ، فإذن الحركة نفس مقولة أن ينفعل.

وهو ممنوع ، فانّ الحركة ليست نفس الانفعال ، بل أمر يلزمه ذلك.

الوجه الثاني : «أن ينفعل» إمّا أن يكون نفس الحركة أو نسبة الحركة ، فإن كان نفس الحركة فإمّا نفس الحركة المطلقة أو نفس حركة مخصوصة ، والأوّل يوجب أن تكون الحركة مقولة لأجل أنّ «أن ينفعل» مقولة ، والثاني يوجب أن تزيد المقولات على العشر (٢) ، لأنّه ليس بعض أقسام الحركة بأن يجعل مقولة أولى من بعض.

وإن كان «أن ينفعل» عبارة عن نسبة الحركة إلى المحلّ فامّا أن يكون عبارة عن نسبة الحركة المطلقة إلى المحلّ أو عن نسبة حركة خاصة إلى المحل ، والأوّل يوجب جنسية الحركة ، لأنّ نسبة الشيء إلى المحلّ لمّا كان جنسا فلأن يكون ذلك الشيء في نفسه جنسا أولى فتزيد المقولات على العشرة. وإن كان «أن ينفعل» عبارة عن نسبة حركة خاصة إلى المحل فليس نسبة بعض الحركات بأن تكون مقولة أولى من البعض. ولأنّه إذا كانت النسبة مقولة فالشيء الذي له النسبة أولى بأن تكون مقولة ، فالحركة ليست مقولة «أن ينفعل».

وفيه نظر ، فإنّ «أن ينفعل» هو تأثير الشيء عن غيره على التدريج ، فهو يستلزم الحركة ، وملزوم الشيء غيره. والقسمة في الثاني غير حاصرة. والزيادة على المقولات على تقدير كون أن ينفعل حركة خاصة حيث لا أولوية ، ممنوعة لجواز أن

__________________

(١) راجع نفس المصادر.

(٢) في النسخ : «عشرة».

٣٦٨

يكون بعض الحركات أولى ، ولا يلزم من كون النسبة جنسا كون ماله النسبة أولى بالجنسية ، وجاز أن تكون نسبة حركة خاصة أولى.

المسألة الخامسة : في المقولات التي تقع فيها الحركة

ذهب الأوائل إلى أنّ الحركة إنّما تقع في مقولات أربع : الكم والكيف والأين والوضع(١) ، فالكلام هنا يقع في مقامات خمسة :

المقام الأوّل : في وقوع الحركة في الكم

وهو على نوعين :

__________________

(١) هذا هو المشهور من قدماء الحكماء. قال الشيخ : «إنّ الحركة إنّما تقع في المقولات الأربع التي هي : الكيف والكم والأين والوضع.» الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ١٠٧ ؛ الفصل الأوّل من المقالة الثانية من طبيعيات النجاة. راجع أيضا الغزالي ، مقاصد الفلاسفة : ٣٠٥ ؛ الشهرستاني ، الملل والنحل (ابن سينا ـ في الطبيعيات).

وأمّا أرسطو فقد جعل أنواع الحركة ستة : «التكوّن ، والفساد ، والنمو ، والنقص ، والاستحالة ، والتغير بالمكان.» منطق أرسطو ١ : ٧٣. والظاهر من عباراته انّه يجعل الحركة في ثلاث مقولات وهي : الكيف والكم والأين ، بحيث تتلخص الست المذكورة في هذه الثلاث ، وأنّه لا يقول بوقوعها في مقولة الوضع. راجع أيضا المقالة الخامسة من طبيعياته ، تحقيق : عبد الرحمن البدوي. يقول فيه : «الحركة ... إنّما هي في الكيف والكم والحيث فقط» ، ويقول أيضا : «فواجب ضرورة أن تكون الحركات ثلاثا : حركة الكم ، وحركة الكيف ، والحركة في المكان.» ص ٥١١.

وعددها عند الكندي ست : الكون ، والفساد ، والاستحالة ، والربو ، والاضمحلال ، والنقلة من مكان إلى مكان. رسائل الكندي ٢ : ٢٢. ويفصل القول في هذا التقسيم في رسالته في «الجواهر الخمسة». ونجده في مكان آخر يصنّفها إلى قسمين رئيسيين : إمّا مكانية وإمّا غير مكانية ، والأخيرة إمّا ربو وإمّا نقص وإمّا كون وإمّا فساد وإمّا استحالة. المصدر نفسه ١ : ٢٥٩.

وهي عند صدر المتألهين خمس بإضافة الحركة في الجوهر إلى الأربع المشهورة من الحكماء. الأسفار ٣ : ٧٨.

٣٦٩

النوع الأوّل : التخلخل والتكاثف الحقيقيان.

وقد عرفتهما فيما سبق. (١) ولا شكّ في أنّ الأجسام تقبلهما فيصير الجسم أصغر ممّا كان ، من غير فصل جزء منه ويصير أكبر ممّا كان ، من غير انضياف جزء إليه. (٢) واستدلوا عليه بأمور : (٣)

الأمر الأوّل : الجسم مركب من المادة والصورة ، وليس للمادة حجم في ذاتها ولا مقدار مختص بها ، وإذا لم تكن مستحقة لمقدار معين كانت نسبة المقادير إليها واحدة ، وإلّا كان لها في خاص ذاتها مقدار معيّن حتى يكون قابلا لما يساويه وغير قابل لما يفضل عليه ، ولمّا لم تكن الهيولى كذلك كانت قابلة لجميع المقادير ، فأمكن أن تخلع المادة مقدارا وتتصف بأزيد منه أو بأنقص فأمكنت الحركة الكمية فيه.

الأمر الثاني : الجسم سواء قلنا : إنّه مركّب من المادة والصورة أو لا ، فانّ له مقدارا زائدا على حقيقته فيكون من حيث هو هو عديم المقدار فكانت نسبته إلى جميع المقادير واحدة. ولأنّ نصف الجسم البسيط وكلّه متساويان في الحقيقة متفقان في الطبع ومختلفان بالمقدار فمقدار النصف نصف مقدار الكل. والمتساويان في الطبيعة متساويان في قبول العوارض ، والمقدار من جملة العوارض ، فأمكن أن يتصف كلّ من النصف والكلّ بمقدار صاحبه من غير زيادة شيء إليه حتى يصير الجزء على مقدار الكل ولا نقصان شيء منه حتى يصير الكلّ على مقدار الجزء ، فأمكن التخلخل والتكاثف الحقيقيان.

__________________

(١) في المجلد الأوّل ، ص ٤٩٩ (الباب الثالث في اللطافة والكثافة).

(٢) كالطعام في البطن ينتفخ ويتبخر فيعظم مقداره فيكبر البطن بسببه منتفخا. مقاصد الفلاسفة : ٣٠٨.

(٣) راجع حكمة العين : ٤٣٢ (المبحث الرابع : في ما فيه الحركة) ؛ كشف المراد : ٢٦٦ ؛ إيضاح المقاصد : ٢٨١ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٠٥ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤١٧.

٣٧٠

الأمر الثالث : القارورة تمص فتكب على الماء فيدخلها الماء (١) ، فإمّا أن يكون قد وقع الخلاء وهو محال ، وإمّا أن يكون الجسم الكائن فيها تخلخل بالقسر الحامل إياه على تخلية المكان ، ثمّ كثّفه برد الماء أو تكاثف بطبعه (٢) فيرجع إلى

__________________

(١) وبهذا الطريق يملئون الرشاشات الطويلة الأعناق الضيقة المنافذ جدا بهاء الورد. شرح المواقف ٦ : ٢٠٥. وهذه التجربة عند القدماء تشابه ما توصلت إليه التجارب في القرون الأخيرة ، مثل تجربة انجليستا توريشلي (١٦٠٨ ـ ١٦٤٧) (Evangelista Torricelli) الذي أخذ انبوبة بطول متر واحد (١٠٠ سم) مملوءة بالزئبق ووضعها في إناء من الزئبق فشاهد أنّ الزئبق ينخفض في الانبوبة إلى ارتفاع ٧٦ سم وترك مسافة ٢٤ سم خالية من الزئبق. وبعده قام باسكال (١٦٢٣ ـ ١٦٦٢) (Pascal) بتجارب متممة لعمل توريشلي بالقرب من سطح البحر وعلى ارتفاعات مختلفة وقام بأخذ القياسات فيها وتوصل إلى هذه النتيجة ، وهي : انّ ضغط الهواء المحيط بالكرة الأرضية (atmospheric pressure) يساوى وزن عمود طوله ٧٦ سم من الزئبق على السنتيمتر المربع الواحد عند سطح البحر وكلما ارتفعنا أكثر عن مستوى سطح البحر ينخفض الضغط الجوي ، ولذا ففي كلّ عشرة أمتار ينزل عمود الزئبق مليمترا واحدا ويزداد الفراغ في الانبوبة.

وعلى أثر هذه التجارب يمكننا إثبات الخلاء وأنه ليس بمحال ، وأنّ صعود الماء في القارورة ليس بسبب السحب من الداخل وإنّما بسبب ضغط الهواء من الخارج.

وقد كان أرسطو يقول بعدم وجود الخلاء ، وحتّى بعد قرون فإنّ جون ديكارت كان يعتقد بذلك وكان السجال بين الفلاسفة لمدة ألفي سنة دائرا حول خوف الطبيعة من الفضاء الخالي (horror vacui) ، لذلك كانوا يقولون بأنّ الطبيعة فورا تملأ كلّ جو خالي يجاورها وأنّ ذلك يمنع من وجود الخلاء.

وعلى هذا فإنّ تجارب توريشلي وباسكال في القرن ١٧ م أثبتت وجود بعض المحدودية في قدرة الطبيعة من منع وجود الخلاء. وهما أطلقا سراح العلم من وحشة الخلاء وإن كانا مسبوقين في هذا القول ببعض الفلاسفة والعلماء الإسلاميين وغيرهم. والجدير بالذكر أنّ الخلاء المطلق والفضاء الخالي من كلّ شيء لا يمكن تحصيله بالأجهزة الموجودة في عصرنا الحالي ، وأنّ ما يمكن تحصيله في الحقيقة هو الخلاء النسبي.

راجع كتاب «الفيزياء» ، تأليف ديويد هاليدي ـ رابرت رزنيك ـ Physics ـ D.Halliday) (.R.Resnick

(٢) ق : «لطبعه».

٣٧١

حجمه الطبيعي عند زوال السبب المخلخل إيّاه خارجا عن طبعه ، وذلك هو المطلوب. (١)

الأمر الرابع : تصدّع الأواني عند غليان ما فيها إمّا أن يكون بسبب حركة ما فيها ، أو بسبب حركة ما هو خارج عنها.

والأوّل لا يخلو إمّا أن يكون بسبب حركة مكانية أو مقدارية ، والأوّل محال لأنّ تلك الحركة إن كانت إلى جهة واحدة وجب أن ينقل الإناء لأنّ نقل الإناء أسهل من تصدعه ، وإن كانت إلى جهات مختلفة ، صدر عن الطبيعة الواحدة أفعال متضادة وهو محال.

ولا يجوز أن تكون تلك الحركة بشيء من الخارج ، كما يظن أنّ النار تداخل الماء المغلي فيصير أكبر حجما فينصدع الإناء ، لأنّ ذلك الخارج إمّا أن يدخل ثقبا خالية ، أو يحدث ثقبا ويدخلها. والأوّل باطل لبطلان الخلاء. وبتقدير صحّته إذا امتلأت الثقب الخالية لم يجب زيادة حجم الجسم كلّه بل وجب أن يكون على ما هو عليه.

والثاني إمّا أن يزيد في الحجم قبل النفوذ في الثقب المستحدثة أو بعده ، والأوّل محال لأنّ نفس المماسة لا توجب زيادة الحجم. نعم ربما كان المماس يدفع ويضغط إلى جهة واحدة مخالفة لجهة حركته ويضطره إليها ، ولا يجب أن ينصدع الإناء. ولأنّ السخونة تحدث كثيرا لا بسبب نار واصلة إليه بل لتسخن المحوى من تلقاء نفسه. ومحال أن يحصل الانصداع بعد النفوذ ، لأنّ تلك الزيادة إن لم تكن حاصلة قبل الانصداع فهو محال ، لأنّ الزيادة إنّما حصلت بالنفوذ في الإناء

__________________

(١) وفي شرح المواقف : «فهذا الذي ذكرناه في إثبات التخلخل يعطي ويثبت انيّته وتحقّقه ولا يفيد العلم بعلّته» ثمّ يشرح لميته ومصحّحه ، فراجع ٦ : ٢٠٥. وأيضا مقاصد الفلاسفة : ٣٠٨ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤١٧.

٣٧٢

والنفوذ بالحركة ، وكلّ حركة منقسمة فكلّ آن يفرض النفوذ فيه حاصل يكون قد حصل (١) قبله فتكون الزيادة حاصلة قبل ذلك. (٢) وإن حصلت الزيادة بعد الانصداع فهو محال لوجهين :

الوجه الأوّل : الإناء إذا امتلأ بشيء لم يتسع لمالئ آخر حتى يثقبه ويشقه.

الوجه الثاني : إذا كان الانشقاق بسبب زيادة وقد حصلت قبله وجب أن يحصل الانشقاق قبل أن يحصل الانشقاق ، وهو محال. إلّا أن يقال : دخل شيء وخرج مثله فيكون الحجم في مقطع بحاله لم يزدد إلى وقت الانشقاق ، لكن يعود الإشكال بعينه في القدر الذي لما دخل لم يخرج مثله. وحيث بطلت هذه الأقسام ثبت أنّ الانشقاق إنّما عرض لانبساط الحجم الذي فيه وازدياده لا بمداخلة جسم آخر فيه ، بل بواسطة سخونة الموجبة لانتشار حجمه وزيادة مقداره ، وهو المطلوب.

واعترض على الأوّل والثاني بأنّه يلزم منه أن تصير العناصر بأجمعها على قدر الذرة ، وأن تصير الذرة على مقدار العناصر بجملتها ، والضرورة قاضية ببطلانه. وأن يجوز التخلخل والتكاثف على الأفلاك.

وقد فرق بينهما بأنّ الجزء ما دام يكون جزءا للكل امتنع قبوله لمقدار الكلّ ، وإذا انفصل أمكن أن يتصف بذلك المقدار ، والفلك يستحيل عليه الانفصال ، وإذا استحال أن ينفصل جزؤه عنه امتنع أن يقبل جزؤه مقدار كله ، وليس جسم آخر غير الفلك تساوي طبيعته طبيعة الفلك حتى يقبل الصغير منه مقدار الفلك. والعناصر يجوز عليه الانفصال ويوجد أيضا جسم غيره على طبيعته

__________________

(١) ق : «حصلت».

(٢) كذا ، والعبارة في المباحث هكذا : «وكلّ حركة منقسمة فلا يفرض آن في زمان النفوذ إلّا وقد كانت الزيادة حاصلة قبل ذلك.» ١ : ٦٩٠.

٣٧٣

فيصحّ الكلام فيه. (١) لكن هذا الفرق قد عرفت ضعفه.

ويلزمهم أيضا أن لا يكون شيء من المواد مستمرا على مقدار معين لعدم استحقاقها لذلك القدر ، لكن كثير من الأجسام تبقى مقاديرها دائما وأكثريا. على أنّ ذلك كلّه مبني على كون المقدار عرضا وهو ممنوع. وعلى نفي الجزء ، إذ لو ثبت لاستحال أن ينتقص مقدار عمّا كان عليه إلّا بواسطة زوال شيء عنه ، ولا يزيد إلّا بواسطة انضمام غيره ، فلا يتحقّق التخلخل والتكاثف.

وقد اعتذر عن صيرورة العناصر في قدر الذرة وبالعكس بأنّ لكلّ جسم حيزا معيّنا من المقدار يكون طبيعيا له والزائد عليه أو الناقص يكون قسريا ، ولذلك القسر أيضا حدّ محدود لا يمكن التجاوز عنه وذلك كما في الكيفيات ، فاندفع ما قالوه.

وكان ثابت بن قرّة ينكر هذه الحركة. واحتجّ عليه (٢) بأنّه لو قبلت المادة أيّ مقدار كان أمكن أن يقبل عنصر مقدار ذراع من الماء خمسة أذرع عند انقلابه هواء ، أو عنصر مقدار ذراعين من الماء مقدار ثلاثة أذرع حتى يكون عنصر المقدار الأعظم من الماء قد قبل في الهواء مقدار الأصغر وعنصر الماء الأصغر قبل عند صيرورته مقدارا أعظم. والحس يكذبه ، فانّا لو أخذنا مقدارين متساويين من الماء فقلبناهما هواء استويا في المقدار ، ولو كانا مختلفين في المقدار كان الهواءان أيضا مختلفين.

وجوابه ما تقدّم من أنّ لكلّ مادة حظا من المقدار تستحقه بطبعها (٣) وحظا آخر تستحقه عند وجود القاسر ، وأنّ لكلّ واحد حدودا معلومة لا يتعدّاها.

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٦٩١.

(٢) أنظر الاحتجاج والجواب عنه في شرح المقاصد ٢ : ٤١٨.

(٣) في النسخ : «بطبعه».

٣٧٤

النوع الثاني : النموّ والذّبول (١)

إذا ازداد الجسم بسبب اتصال جسم آخر ، فإمّا أن تكون تلك الزيادة مداخلة في أجزاء المزيد عليه مشتبهة بطبيعته ، وإمّا أن لا تكون كذلك. والأوّل هو النمو وضدّه الذبول.

وفرق بين النمو والسمن ، والذبول والهزال : أنّ الواقف في النمو قد يسمن كما أنّ المتزايد في النمو قد يهزل ؛ والأصل فيه أنّ الزيادة إن أحدثت المنافذ في الأصل ودخلت فيها واشتبهت بطبيعة الأصل واندفعت أجزاء الأصل إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة في نوعه ، فذلك هو النمو. وأمّا الشيخ (٢) إذا سمن فانّ أجزاءه الأصلية قد جفّت وتصلّبت فلا يقوى الغذاء على تفريقها والنفوذ فيها فلا تتحرك أجزاؤه الأصلية إلى الزيادة فلا يكون ناميا ، نعم لحمه قد يتحرك إلى الزيادة فيكون ذلك نموا فيه بالحقيقة ، لكن المخصوص باسم النمو حركة الأعضاء

__________________

(١) عرّف الجرجاني «النمو» بانّه : «ازدياد حجم الجسم بما ينضم إليه ويداخله في جميع الأقطار ، نسبة طبيعية ، بخلاف السمن والورم. أمّا السمن ، فإنّه ليس في جميع الأقطار ، إذ لا يزداد به الطول. وأمّا الورم فليس على نسبة طبيعية.» التعريفات : ٣١٦. وعرف الذبول بانّه : «انتقاص حجم الجسم بسبب ما ينفصل عنه في جميع الأقطار على نسبة طبيعية.» ص ١٤٣.

وانظر البحث في : الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن الأوّل ، والفصل الثامن من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء ؛ طبيعيات النجاة ، فصل في الحركة ؛ المباحث المشرقية ١ : ٦٩٢ ؛ شرح حكمة العين : ٤٣٤ ؛ مقاصد الفلاسفة : ٣٠٨ ؛ كشف المراد : ٢٦٧ ؛ إيضاح المقاصد : ٢٨٢ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٠٧ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤١٧.

(٢) وسن الشيخوخة من نحو ستين سنة إلى آخر العمر. شرح حكمة العين : ٤٣٤.

٣٧٥

الأصلية إلى الزيادة ، فهذا هو النمو. (١)

واعترض بوجوه :

الوجه الأوّل : الأجزاء الأصلية والزائدة باقية كلّ واحد على مقداره الذي كان ، نعم ربما تحرك كلّ واحد منها في أينه أو وضعه أو كيفه ، لكن ذلك في الحقيقة ليس حركة في الكم.

الوجه الثاني : النامي إمّا أن يكون فيه شيء ثابت أو لا ، فإن كان فالثابت إمّا أن يكون هو الصورة فقط ، أو المادة فقط ، أو المجموع.

والأوّل محال لاستحالة بقاء الصورة عند تبدل المادة ، لامتناع الانتقال على الصور. ومحال أن تكون المادة باقية ، لأنّ الباقي إن كان كلّ المادة فهو محال ، لأنّ البدن دائما يتصل به شيء وينفصل ، فهو دائما في التحلل والاستخلاف لشيء آخر.

وإن كان الباقي ما هو الأصل ، وأمّا الزائد عليه فيكون في التحلّل فهو محال ، لأنّ الغذاء إذا اتصل به تشبه بطبيعته فإن صار الكل متصلا واحدا ذا طبيعة واحدة امتنع أن يكون بعض الأجزاء المفترضة فيه ممكن الزوال والبعض ممتنع الزوال مع اتحاد الطبيعة والماهية ، لأنّ البدن ينتهي تحليل تركيبه إلى الأعضاء البسيطة ، وكلّ واحد من الأجزاء المفترضة في كلّ واحد منها على طبيعة واحدة ،

__________________

(١) وفي شرح المواقف نقلا عن الرازي أنّه قال : «والمشهور أنّ النمو والذبول من الحركات الكمية وهو بعيد عندي.» ونقل عنه الاعتراضات التالية المذكورة في المباحث المشرقية ، ثمّ قال : «فالقول ما قاله الإمام. واعلم أنّه إذا عدّ النمو والذبول من الحركات الكمية فالوجه أن يعد السمن والهزال منها أيضا.» ٦ : ٢٠٩. وفي شرح حكمة العين عدّ السمن والهزال أيضا كالنمو والذبول من أقسام الحركة في الكم. وأسند هذا القول إلى قطب الدين الشيرازي أيضا في شرحه للقانون. شرح حكمة العين : ٤٣٤.

٣٧٦

فلم يكن البعض بالبقاء الدائم والبعض بالتحلّل أولى من العكس. وإن لم يتصل الغذاء بالأصل ولم يتحده به فالوارد ما صار غذاء له وكلامنا فيه.

وإن لم تكن المادة باقية ولا الصورة فلا يكون المجموع باقيا ، بل يكون بقاؤه بحسب الحس. ثمّ هذا أيضا محال ، لأنّ زمان حركة النمو منقسم إلى غير نهاية ، فهناك مراتب في الزيادة كلّ واحد منها آني الوجود ، لأنّ المرتبة الواحدة منها (١) لو بقيت أكثر من آن واحد انقطعت الحركة. فثبت أنّ الشخص متبدل بحسب تلك الزيادة ، فإذن هناك أشخاص متتالية غير متناهية في زمان محصور ، وهو محال.

الوجه الثالث : سلّمنا أنّ في النامي شيئا محفوظا غير متبدل الذات ، لكن الحركة لا بدّ لها من متحرك باق في جميع زمان الحركة ولا بدّ من تغير حاله ، فالمتحرك هنا إمّا أن يكون هو الأصل وهو لم يتغير حاله ، لأنّه (٢) بعد النمو وقبله على حالة واحدة. وإمّا أن يكون هو الجملة والمجموع الحاصل ، فالجملة حصولها عند نهاية الحركة والمتحرك لا بدّ وأن يكون موجودا من ابتداء الحركة إلى انتهائها.

الوجه الرابع : سلّمنا وجود شيء محفوظ الذات متبدل الصفة ، لكن ذلك المتبدل (٣) ليس بحركة ، لأنّ الحركات إنّما تكون بين المتضادين والصغير والكبير ليسا بمتضادين.

والجواب عن الأوّل : أن يقال : الأصل والزيادة لا تنافي الحركة ، فإنّ انضمام الزيادة إلى الأصل يفيد الأصل مقدارا زائدا إذا اتحدت به ولا نعني بالحركة في النمو إلّا ذلك.

__________________

(١) ق : «فيها».

(٢) في النسخ : «إلّا» ، وما أثبتناه طبقا للمعنى والمباحث.

(٣) في المباحث : «التبدل».

٣٧٧

وعن الثاني : أنّ في النامي أجزاء أصلية غير متبدلة وهي الحافظة للصورة النوعية المتشخصة ، وأجزاء متبدلة وهي أسباب لظهور كمالات تلك الصورة.

واحتجّ الشيخ (١) على بقاء بعض الأجزاء ببقاء الشامات وأنداب (٢) القروح.

وهو ضعيف ، لاحتمال أنّ الأجزاء الغذائية لمّا وصلت إلى ذلك الموضع تشبهت به.

وقول المشكك : الزيادة لمّا اتّصلت بالأصل وتشبّهت بطبيعته لم يكن البعض أولى بالتحليل من البعض. ممنوع ، لأنّ التخصيص يجوز اسناده إلى الفاعل المختار. وأيضا الزيادة ربّما (٣) تتميز عن الأصل في الاستحكام والقوّة ، لأنّ الأجزاء الغذائية لمّا كان ورودها بعد تمام الخلقة كانت في معرض الزوال ولم تكن مستحكمة الخلقة ، والأصلية لما فيها من الصور النوعية مبدأ لاستزادة تلك الزيادات وتحليلها فتصير تلك الزيادات والنقصانات كالصفات المتعاقبة على ذلك الأصل الباقي وهو الحركة.

وعن الرابع : (٤) بما تقدّم من أنّ المبدأ والمنتهى لا يجب أن يكونا متضادين ، بل يكفي في ذلك نوع من التقابل.

ثمّ إن سلّمنا أنه لا بدّ من التضاد ، فالصغير والكبير الذين يتحرك بينهما النامي والذابل (٥) ليس الصغير والكبير الإضافي ، بل الطبيعة جعلت للأنواع

__________________

(١) راجع الفصل الثامن من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء : ١٤٣.

(٢) أنداب وندوب جمع الجمع أو جمع النّدبة ، وهي أثر الجرح الباقي على الجلد إذا لم يرتفع عنه.

القاموس المحيط ١ : ٢٩٤ ؛ تاج العروس ٤ : ٢٥٢.

(٣) ق : «إنّما».

(٤) ما أجاب المصنف عن الوجه الثالث.

(٥) في النسخ : «الزابل» غير منقوطة والزاء المعجمة ، وما أثبتناه هو الصحيح.

٣٧٨

حدودا في الصغر وحدودا في الكبر لا تتجاوزها (١) وتتحرك فيما بينهما (٢) ، فيكون العظيم هناك عظيما في ذاته ولا يصير صغيرا بالقياس إلى عظيم آخر في ذلك النوع. وكذلك القول في الصغير ، وإذا كان كذلك كانا متضادين.

__________________

(١) في الشفاء : «تتعداها».

(٢) في النسخ : «بينها» ، والصحيح ما أثبتناه.

٣٧٩

المقام الثاني : في وقوع الحركة في الكيف

قد عرفت أنّ أقسام الكيف أربعة فلنتكلم في كلّ واحد منها :

القسم الأول : الانفعالات والانفعاليات (١)

وإنّما تثبت فيها الحركة بشرطين :

الشرط الأوّل : (٢) أنّ حواملها قد تتغير فيها مع بقاء طبائعها النوعية ، فانّ التغير لو لم يثبت لم تتحقق الحركة التي هي عبارة عن تغير ما ، وبقاء الطبيعة لو لم يتحقق حالة التغير لم يكن ذلك حركة ، بل كونا وفسادا.

وقد اختلف الناس هنا ، فالمحقّقون على جواز التغير وثبوت الاستحالة (٣) في الكيفيات. وظن بعض من لا مزيد تحصل له أنّه لا يجوز أن تتغير كيفياتها المحسوسة ، وأنكر الاستحالة وزعم أنّ البارد لا يصير حارا ولا الحار يصير باردا.

ولمّا كذّبهم الحس في ذلك حيث يشاهد تسخن الماء ، افترقوا إلى فرقتين : (٤)

الفرقة الأولى : الذين أنكروا الاستحالة والكون (٥) معا فزعموا أنه لا يوجد شيء من الأجسام بسيطا على صرافته بل كلّ جسم يوجد فانّه يكون ممتزجا من كلّ

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٦٩٥ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٠٩ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٢٠.

(٢) ويأتي الشرط الثاني في ص ٣٩٢.

(٣) «Alteration­ الاستحالة هي التحوّل من حالة إلى أخرى ، وهي عند «أرسطو» تغير في الكيف ، أي صيرورة الشيء شيئا آخر ، وتستعمل في نظرية المعرفة بمعنى التبدل في الأعراض لا في الجواهر.

جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ١ : ٦٥.

(٤) راجع شرح الإشارات ٢ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ؛ الفصل الرابع من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء ؛ كشف المراد : ٢٦٧.

(٥) أنظر تفصيل مذهبهم في الفصل الأوّل من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.

٣٨٠