نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

من جهتيه مسامتا شيئا غير ما سامته بجهته (١) الأخرى ، وجهتاه لا بدّ وأن تكونا متساويتين في تمام الماهية ، وإلّا كان ذلك الحيز مركبا عن جزءين مختلفين بتمام الماهية فحينئذ ينتقل الكلام إلى كلّ واحد من جزئيه ، فإن كان كلّ واحد من جزئيه مركّبا من جزءين آخرين تسلسل ، وبتقدير تسليمه لا بدّ من الاعتراف بحيز غير مركّب ، لأنّ كلّ مركّب ففيه الواحد بالضرورة وحينئذ نتكلّم في إحدى جهتي ذلك الواحد ، وإذا كانا متساويين صحّ على كلّ واحد من جهتيه أن تصير مسامتة لما سامتته الأخرى ضرورة وجوب تساوي المتماثلات في جميع اللوازم ، وهو يقتضي صحّة حركة الجزء في مكان نفسه ، ومتى صحّ ذلك لزم أن يكون حصوله في ذلك الحيز واجبا.

الوجه الثالث : وهو إلزامي ، نقول : الجسم عند الفلاسفة إمّا فلكي أو عنصري ، والأفلاك وإن امتنع الحركة على كلياتها عندهم لكن أجزاؤها دائمة الحركة على الاستدارة ، والعناصر لا نزاع في صحّة الحركة على أجزائها بالاستقامة والاستدارة ، فكلّ جسم باتّفاق الخصم صحت الحركة عليه.

الوجه الرابع : لا نتعرض للكلية ، بل نقول : الأجسام التي نشاهدها متحركة ، فثبت حدوثها والأجسام متماثلة وحكم الشيء حكم مثله فحدوث بعض الأجسام يستلزم حدوث الكلّ. (٢)

وهذه الطريقة وإن كانت جيّدة لكن الطريقة التي قلناها أوّلا أقوى.

__________________

(١) ق : «بجهة».

(٢) قال الرازي بعد ذكر هذه الوجوه على صحّة خروج الجسم عن حيزه المعين : «واعلم أنّ المجسمة والكرّامية وكلّ من زعم أنّ الله مختص بحيز معين وحاصل في جهة معينة ، فانّه لا يمكنه تقرير هذه الدلائل البتة ؛ لأنها بأسرها تصير منقوضة على قوله بذات الله تعالى». المطالب العالية ٤ : ٢٩٥.

١٨١

التذنيب الثالث : القديم لا يصحّ عليه العدم لما تقدّم (١) ، وقد ذكروا فيه وجوها أخر: (٢)

الأوّل : القديم موجود لذاته فيمتنع العدم عليه.

الثاني : (٣) عدم القديم إن كان لذاته أو لوازم ذاته بحيث يجب عدمه عند عدمه ووجوده عند وجوده فلا بدّ لعدمه من مرجح ، وليس مختارا ، لأنّ الفاعل لا بدّ له من فعل والإعدام ليس بفعل ، لأنّه لو كان فعلا لكان ذلك الفعل إمّا أن يكون مقتضيا عدم القديم فيكون عدم القديم بذلك الفعل لا بالفاعل ، أو لا يكون مقتضيا فلا يحصل عند ذلك عدم القديم.

ولا موجبا عدميا ، لأنّ العدمي عدم شيء يتوقف عليه وجود ذلك القديم ، وذلك الشيء يمتنع أن يكون حادثا لأنّ القديم لا يكون مشروطا بالحادث فهو قديم ، والكلام فيه كالكلام في الأوّل ويتسلسل. ولا وجوديا ، لأنّه لو كان قديما لزم من قدمه قدم عدم ذلك القديم فلا يكون القديم قديما. وإن كان حادثا فهو محال ، لأنّ القديم أقوى من الحادث فاندفاع الحادث بالقديم أولى من ارتفاع القديم بالحادث.

وأيضا التضاد حاصل من الطرفين فليس انعدام أحدهما بالآخر أولى من العكس فيلزم أن ينعدم كلّ منهما بالآخر ، ولا شكّ أنّ علّة عدم كلّ واحد منهما بالآخر فلو عدم كلّ واحد منهما بالآخر لزم أن يكون كلّ واحد منهما موجودا حال صيرورته معدوما وهو محال ، فثبت أنّ القول بعدم القديم يفضي إلى أقسام فاسدة ، فيكون باطلا.

__________________

(١) في المجلد الأوّل ، ص ٢٣٢ من هذا الكتاب.

(٢) راجع المحيط بالتكليف : ٦٠ ؛ شرح الأصول الخمسة : ١٠٧ ؛ النيسابوري ، التوحيد : ٢٢٦ (فصل في أنّ القديم لا يجوز عليه العدم والبطلان). أيضا ص ١٩١ و ١٩٦ (دليل آخر) ؛ المطالب العالية ١ : ٣٢٤ و ٤ : ٢٢١ ؛ كشف المراد : ٨٤ ؛ مناهج اليقين : ٢١ ؛ شرح المقاصد ٢ : ١١.

(٣) وهي الحجّة التي عليها تعويل الأشعرية. المطالب العالية ١ : ٣٢٤.

١٨٢

التذنيب الرابع : استدل المتكلّمون على أنّه لمّا كان لكلّ واحد من الحوادث أوّل وجب أن يكون للمجموع أوّل (١) ، كما أنّه لمّا كان كلّ واحد من الزنج أسود وجب أن يكون الكل أسود.

ولا شكّ (٢) في أنّ إطلاق القول بأنّ المجموع لا بدّ وأن يكون مساويا لجميع أجزائه في كلّ الأحكام باطل ، وإلّا لكان كلّ واحد من العشرة عشرة ، وهو محال. والقياس على الزنج غير مستقيم ، لأنّ من عقل كون كلّ واحد من الزنج أسود اضطر إلى العلم بأنّ الكلّ كذلك ، بخلاف المتنازع ، وإذا فرقت البديهة بطل الإلحاق. ومع صحّته فانّه غير مفيد ، لأنّا لم نقل : إنّ حكم المجموع مخالف لحكم الآحاد لا محالة بل قد يكون مخالفا وقد لا يكون ، وهو موقوف على الدليل. والصورة الواحدة لا تقتضي ثبوت الحكم في كلّ الصور.

على أنّ هنا بحثا آخر ، وهو أنّا نقول : لا شكّ في جواز خلو كلّ واحد من الأجسام المعينة عن كلّ واحد من الأكوان المعيّنة وإلّا فحينئذ يجب اتصاف كلّ جسم بكون معيّن ، وحينئذ لا يمكن إثبات حدوث الأكوان ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إن لم يلزم من جواز خلو الجسم المعين عن كلّ واحد من الكائنيات المعينة جواز خلوه عن كلّ الكائنيات كان حكم المجموع مخالفا لحكم الآحاد هنا ، وإذا كان كذلك بطل قولهم في هذه المقدمة : إنّ حكم المجموع لا بدّ وأن يساوي حكم الآحاد. فظهر من هاتين المقدمتين نوع تناقض وربما أمكن تكلف إزالته ، لكن الذي قدّمنا يغني عن ذلك كلّه.

والحقّ أن نقول هنا : إذا كان كلّ واحد حادثا وجب أن يكون الكلّ حادثا لتقومه بآحاده.

__________________

(١) راجع المحيط بالتكليف : ٦٦ ـ ٦٧ ؛ المطالب العالية ٤ : ٢٧٧.

(٢) أنظر الاعتراضات على استدلال المتكلّمين في المطالب العالية ٤ : ٢٧٧ قوله : (اعترض الخصم).

١٨٣

البحث السابع

في إمكان فناء الأجسام (١)

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في نقل المذاهب في ذلك

اختلف الناس في أنّ الأجسام هل يصحّ فناؤها أم لا؟

وتقريره أن نقول : الأجسام إمّا أن تكون باقية أو لا (٢).

والثاني مذهب النظام من المعتزلة (٣) ، فانّه زعم أنّه يحدث الجسم حالا بعد حال ، وأنّه لا يمكن أن يحتمل الوجود إلّا وقتا واحدا كالصوت ، وأنّ الله تعالى يحدثه حالا بعد حال ، ولو لا ذلك لبقى معدوما بعد الوجود.

__________________

(١) الفناء (Annihilation (: فناء الشيء زوال وجوده. والفرق بينه وبين الفساد أنّ فناء الشيء عدمه ، على حين أنّ فساده تحوله إلى شيء آخر. صليبا ، المعجم الفلسفي ٢ : ١٦٧. وانظر البحث في الكتب التالية : الأشعري ، مقالات الإسلاميين : ٣٦٦ ؛ المفيد ، أوائل المقالات : ٩٦ ؛ عبد القاهر البغدادي ، أصول الدين : ٦٦ و ٢٢٩ ؛ نقد المحصل : ٢١٩ و ٣٩٦ ؛ قواعد المرام : ١٤٩ ؛ أنوار الملكوت : ٤١ ؛ الخياط ، الانتصار : ١٩ ؛ المطالب العالية ٤ : ٢٢١ ؛ كشف المراد : ٤٠١ ؛ مناهج اليقين : ١٣٠ ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٣١ ؛ شرح المقاصد ٥ : ٩٨.

(٢) وقد مرّ بحثه في ج ٢ ، ص ٥٧٨ من هذا الكتاب.

(٣) كما في نقد المحصل : ٢١١ ؛ كشف المراد : ١٦٩ ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٣١.

١٨٤

وربما يكون مراده ما اختاره الفلاسفة من احتياج الأجسام حال بقائها إلى المؤثر فظن الناقل عنه ما نقله.

والأوّل الأقوال فيه ثلاثة :

القول الأوّل : ينكر صحّة عدمها.

القول الثاني : أن يعترف بصحّة عدمها.

القول الثالث : أن يتوقّف فيهما.

أمّا المنكرون فامّا أن يقولوا بأزليتها وهم جماهير الفلاسفة (١) فانّهم اعتقدوا وجوب أزلية العالم وأبديته ، لكن لا لذاته بل لغيره. وإن كان بعضهم ذهب إلى أنّها واجبة الوجود لذاتها خصوصا الأجسام السماوية وهم الصابئة وقد تقدم.

وذهب بعضهم إلى أنّها تحدث حالا فحالا لا بمعنى أنّها تعدم ويتجدد لها وجود كلّ وقت ، بل عدمها على طريقة التفرق وعود ما كان من الهواء إليه ومن النار إليه ثمّ كذلك. وتكون الأجسام عندهم بمنزلة السيالات ، وشبهوا ذلك بالواقف في الماء الجاري فانّه يمرّ به في كلّ حال غير ما كان في الأوّل.

__________________

(١) قال الشيخ : «فإذا كان شيء من الأشياء لذاته سببا لوجود شيء آخر دائما كان سببا له دائما ما دامت ذاته موجودة. فإن كان دائم الوجود كان معلوله دائم الوجود ، فيكون مثل هذا من العلل أولى بالعلية ، لأنّه يمنع مطلق العدم للشيء ، فهو الذي يعطى الوجود التام للشيء ... والذي يكون للشيء في نفسه أقدم عند الذهن بالذات لا في الزمان من الذي يكون عن غيره ...» الفصل الثاني من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء : ٢٦٦.

وقال الرازي في شرحه عبارة الشيخ في الإشارات (وهذا سرّ تطّلع منه على أسرار أخرى) : «كون كلّ سابق علّة معدّة للّاحق سر عظيم تطّلع منه على أسرار هي اقتضاء ذلك أن لا تكون للحوادث بداية زمانية ، وأنّه لا بدّ من حركة سرمديّة لا بداية لها ولا نهاية لتكون تلك الحركة سببا لحصول تلك الاستعدادات المختلفة في المادة». ثمّ قال الطوسي : «ومن تلك الأسرار التنبيه بوجود مبدأ قديم يفيض وجود هذه الحوادث عند حصول الاستعدادات ...» شرح الإشارات ٢ : ١١٣ ـ ١١٤. راجع أيضا نفس المصدر ٣ : ٨٢ ؛ ابن رشد فيلسوف قرطبة : ١٦٧ (أزلية العالم).

١٨٥

وقال بعضهم : إنّ الجواهر لا تحدث في كلّ حال حتى يحدث في الثاني مثل ما حدث في الأوّل. ولكنّه يقول : الذات تكون واحدة والحدوث متجدد عليها في كلّ حال كتجدد الإرادات على أحدنا ، وحمل كلام النظام أيضا عليه.

وإمّا أن لا يقولوا بأزليتها ، بل يقولون بحدوثها ، لكنّها بعد أن دخلت في الوجود يستحيل عدمها وهو مذهب الجاحظ وجمع من الكرّامية. (١)

وأمّا المعترفون بصحّة فنائها فقد اختلفوا في موضعين :

الأوّل : هل في العقل طريق إلى معرفة هذه الصحّة؟ فجمهور المسلمين اعترفوا بذلك. وذهب أبو هاشم إلى أنّه لا طريق إلى معرفة هذه الصحّة إلّا بالسمع ؛ فانّ السمع لمّا دلّ على عدم العالم عرف بعد ذلك صحّة عدمه. (٢)

الثاني : في كيفية فناء العالم (٣) ، فانّه إمّا أن يكون فناء لا لأمر ، ولم يذهب إليه أحد. وإمّا أن يكون لأمر ، فإمّا أن يكون لاعدام معدم أو لحصول ضد أو لانقطاع شرط.

أمّا الأوّل : فيحتمل وجهين :

__________________

(١) راجع الشهرستاني ، الملل والنحل (الجاحظية) و (الكرامية).

(٢) أنظر كلامه في المجموع في المحيط بالتكليف ٢ : ٢٨٦. وذهب إليه البحراني أيضا حيث قال : «الطريق إلى الحكم بذلك ليس إلّا من جهة السمع ، لانّ العقل ليس له إلّا الحكم بجواز ذلك ، لكن ليس كلّ ما جاز وقع». قواعد المرام : ١٤٩. وقال أيضا القاضي عبد الجبار : «اعلم أنّ العقل يجوّز فيه أن يصحّ فناؤه ، ويجوّز أن يستحيل ذلك فيه. فطريقه من حيث العقل التجويز ؛ لأنّه لا دليل يقتضي القطع على أحد الأمرين. وما انتفى الدليل فيه وجب التوقف ، على ما نقوله في سائر المصالح الشرعية». واستدل لإثبات الفناء بالأدلّة السمعية ، فراجع المغني ١١ : ٤٣٢ (الكلام في الفناء والإعادة).

(٣) قال الخياط : «إنّ الكلام في فناء الشيء ، هل هو غيره أو ليس بغيره أو هل يحلّ فيه أو يحلّ في غيره؟ من غامض الكلام ولطيفه. وقد اختلف الناس فيه اختلافا شديدا». ثمّ ذكر الأقوال في هذه المسألة ، فراجع الانتصار : ١٩.

١٨٦

الوجه الأوّل : أن يعدم الله تعالى العالم فيصير معدوما ، كما أنّه لما أوجده في أوّل الأمر صار موجودا وهذا هو أحد قولي القاضي من الأشعرية وقول الجاحظ وقول محمود الخوارزمي من المعتزلة.

الوجه الثاني : أن يقول الله تعالى له «افن» فيفنى ، كما قال في الابتداء والاحداث «كن» فكان ، وهذا هو مذهب أبي الهذيل. (١)

وأمّا الثاني : وهو أن يكون فناء العالم لحدوث ضدّ له ، وهو مذهب جمهور المعتزلة (٢) ويسمون ذلك الضدّ فناء. ثمّ ذلك الفناء إمّا أن يكون له حصول في الحيز على طريق الاستقلال أو لا ، فإن لم يكن فإمّا أن يكون قائما بالمتحيز أو لا يكون ، فهاهنا احتمالات ثلاثة. ذهب إلى كلّ واحد منها قوم من المعتزلة.

الأوّل : مذهب ابن الاخشيد (٣) ، فانّه قال : إنّ الفناء وإن لم يكن متحيزا إلّا أنّه يكون حاصلا في جهة معيّنة فإذا أحدثه الله تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها.

الثاني : مذهب ابن شبيب ، فانّه زعم أنّ الله تعالى يحدث في كلّ جوهر فناء ثمّ إنّ ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الثاني. (٤)

__________________

(١) قال أبو الهذيل : «... والبقاء قول الله عزوجل للشيء ابق والفناء قوله افن». مقالات الإسلاميين : ٣٦٦ (واختلف المتكلّمون في البقاء والفناء). راجع أيضا شرح الأصول الخمسة : ٥٦٢.

(٢) قال القاضي عبد الجبار : «فعند مشايخنا أنّه ينتفي بضد». المجموع في المحيط بالتكليف : ٢٨٨.

(٣) سبق الترجمة له في الجزء الأوّل.

(٤) أي في الزمان الثاني. وقال محمد بن شبيب : المعنى الذي هو فناء ومن أجله يعدم الجسم لا يقال له فناء حتى يعدم الجسم وأنّه حالّ في الجسم في حال وجوده فيه ثمّ يعدم بعد وجوده. مقالات الإسلاميين : ٣٦٧. وهذا مثل قول القلانسي حيث يقول : إنّما يفني الله الجوهر ببقاء يخلقه فيه فيفنى الجوهر في الحال الثانية من حال حدوث الفناء فيه. غير أنّ القلانسي أثبت بقاء الجسم معنى غير الجسم وزعم ابن شبيب أنّ البقاء ليس غير الباقي. البغدادي ، أصول الدين : ٢٣٠ و ٢٣١.

١٨٧

الثالث : مذهب الجبائيين ، فانّهما زعما أنّ الله تعالى يحدث الفناء في محلّ فتنفى الجواهر بأسرها حال حدوث ذلك الفناء. ثمّ هذا القسم يحتمل وجهين :

الوجه الأوّل : أن يكون الفناء الواحد كافيا في عدم الجواهر ، وهو مذهب أبي هاشم وعبد الجبار بن أحمد. (١)

الوجه الثاني : أن لا يكون الفناء الواحد كافيا في عدم الجواهر بل لكلّ فان فناء يختص به ، وهو مذهب أبي علي. (٢)

وأمّا الثالث : وهو أن يكون فناء الجواهر لانقطاع شرط وجودها ، فذلك الشرط إمّا أن يكون قائما بذاته أو لا يكون. والثاني مذهب بشر فانّه زعم أنّ الجوهر تبقى ببقاء موجود لا في محلّ ، فإذا عدم ذلك البقاء وجب عدم الجوهر. والأوّل مذهب من يقول : الجوهر إنّما ينتفي لانتفاء الأعراض ، وذلك على قسمين فإنّه إمّا أن يقال : الجوهر ينتفي لانتفاء كلّ الأعراض أو لانتفاء بعضها على التعين ، والأوّل مذهب من أوجب اتصاف الجوهر بنوع من كلّ جنس من أجناس الأعراض إذا كان قابلا له ، وهو قول الجويني.

وأمّا الثاني ففيه مذهبان :

المذهب الأوّل : قول من يقول الجوهر انّما يبقى ببقاء قام به وذلك البقاء غير باق بل يخلقه الله تعالى حالا بعد حال فإذا لم يخلق الله تعالى البقاء وجب انتفاء الجواهر ، وهذا مذهب أكثر الأشعرية وقول أبي القاسم البلخي. (٣)

__________________

(١) المغني ١١ : ٤٤٤ (فصل : في أنّ الضد الواحد من ضدّ الجوهر يجب أن ينفي الجواهر أجمع).

(٢) وقد اختلف فيه كلام أبي علي فربّما قال : إنّ الذي به ينتفي بعض الأجسام هو الذي ينتفي به سائرها ، وربما قال بخلاف ذلك فلا يجعل فناء البعض فناء الجميع. وهذا القول هو الذي ربّما تشدّد في التمسك به كثير من أصحاب أبي علي. والقول الأوّل هو الذي يختاره أبو هاشم وأصحابه. راجع المجموع في المحيط بالتكليف ٢ : ٢٩٧.

(٣) وإلى هذا القول ذهب ضرار بن عمرو. البغدادي ، أصول الدين : ٢٣٠.

١٨٨

المذهب الثاني : قول من يقول شرط استمرار الجوهر حصول الأكوان فيه والأكوان غير باقية فمتى لم يخلق الله تعالى الأكوان في الجوهر (١) عدم الجوهر. وهو القول الثاني للقاضي أبي بكر.

فهذا تفصيل مذاهب القائلين بصحّة عدم (٢) العالم.

وأمّا المتوقفون في إثبات هذه الصحّة وعدمها فهم أصحاب أبي الحسين البصري.

فهذا ضبط المذاهب في هذه المسألة. والكلام فيها يقع في موضعين :

الموضع الأوّل : في إثبات صحّة عدم العالم.

الموضع الثاني : في بيان كيفية اعدامه. ونحن نستدل على الأول بحيث يندرج فيه الثاني بعون الله تعالى.

المسألة الثانية : في صحّة فناء العالم

لنا فيه وجهان :

الأوّل : العالم ممكن لأنّه مركب وكثير على ما مر تقريره ، (٣) وكلّ ممكن فإنّ وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السواء ، فالعالم من حيث هو هو يصحّ عليه العدم ، وهو المطلوب.

الثاني : العالم محدث على ما سبق (٤) ، وكلّ محدث فانّه يصحّ عليه العدم ،

__________________

(١) س : «الجواهر».

(٢) في النسخ : «بعدم صحّة» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

(٣) في ص ٩٦ (أمّا الصغرى).

(٤) في ص ١٠١ (وأمّا الكبرى).

١٨٩

فالعالم يصحّ عليه العدم.

والصغرى قد سلفت.

وأمّا الكبرى : فلأنّ المحدث هو الذي اتصفت ماهيته بالوجود بعد اتصافها بالعدم ، وكلّ موصوف بصفة فانّ ماهيته قابلة لها بالضرورة ، ولمّا اتصفت ماهية المحدث تارة بالوجود وتارة بالعدم وجب أن تكون ماهيته قابلة لهما وهذه القابلية من لوازم الماهية لاستحالة التسلسل ، فتكون الماهية قابلة للعدم أبدا.

وأيضا كلّ محدث فانّه حال بقائه يحتاج إلى المؤثر ، وكلّ ما كان كذلك كان العدم عليه ممكنا.

أمّا الصغرى ، فلأنّ المعقول من المحدث «الموجود المسبوق بالعدم» وهذا المفهوم مركب من أمور ثلاثة : الموجود والمعدوم ومسبوقية ذلك الموجود بالعدم ، فنقول : المحتاج إلى المؤثر لا يخلو إمّا أن يكون هو الوجود الحاضر أو العدم السابق أو مسبوقية ذلك الموجود بذلك العدم ، ومحال أن يكون المحتاج هو العدم ؛ لأنّ العدم السابق نفي محض فلو كان له بالفاعل تعلّق لكان تعلّقه إمّا أن يكون في أن يستمر ذلك النفي نفيا أو في أن ينقلب ثبوتا ، فإن كان الأوّل كان ذلك مانعا من دخوله في الوجود ، لأنّ الفاعل إذا كان مقتضيا استمرار عدم الشيء استحال أن يكون هو بعينه بذلك الاعتبار أيضا مقتضيا وجوده ، وإن كان الثاني كان ذلك قولا بأنّ الفاعل يقتضي أن يصير العدم وجودا ، وذلك محال لاستحالة أن يصير أحد النقيضين عين نقيض الآخر.

ومحال أن يكون المحتاج هو مسبوقية ذلك الوجود بذلك العدم ، لأنّ تلك المسبوقية حكم واجب الثبوت ، وما كان كذلك لا يكون محتاجا.

أمّا الأوّل : فهو ظاهر ، لأنّ من المعلوم بالضرورة أنّ المحدث يستحيل أن

١٩٠

يحصل له وجود إلّا ويكون ذلك الوجود مسبوقا بالعدم ، بل المحدث في نفسه ممكن الوجود ولكن كون وجوده مسبوقا بالعدم ليس من الممكنات بل من الواجبات ، ومن المحتمل أن يكون الشيء في نفسه ممكنا ثمّ إنّه يكون واجب الاتصاف ببعض الصفات بعد اتصافه بذلك الأمر الممكن ، كما أنّ الجوهر ممكن الوجود في ذاته ثمّ إنّه بعد وجوده يكون واجب الحصول في حيز ما وواجب الاتصاف بكون ما وأنّه إذا كان ذا لون وجب أن يكون مرئيا وأنّه يجب أن يكون ذا ظل إلى غير ذلك من اللوازم.

وأمّا أنّ الواجب لا تكون به حاجة إلى الفاعل فهو ضروري ، لأنّ المحتاج إلى الفاعل هو الذي لو لم يؤثر الفاعل فيه لم يوجد ، والواجب هو الذي يكون حاصلا سواء وجد الغير أو لم يوجد.

فإذن العدم السابق ومسبوقية ذلك الموجود بذلك العدم غير محتاجين إلى المؤثر ، فلم يبق إلّا أن يكون المحتاج إلى المؤثر هو وجود المحدث ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : حاجة ذلك الموجود إلى المؤثر إمّا أن تكون موقوفة على حدوثه أو لا تكون. والأوّل باطل ، لأنّ الحدوث كيفية في وجوده وكيفية وجود الشيء متأخرة عن وجود ذلك الشيء ووجود المحدث متأخر عن تأثير القادر فيه وتأثير القادر فيه متأخّر عن كونه بحيث يصحّ أن يؤثر فيه القادر وهذه الصحّة متأخرة عن حاجة المحدث إلى المؤثر ، فلو توقّفت هذه الحاجة على الحدوث لزم تأخر الشيء عن نفسه بمراتب ، وهو محال ، فثبت أنّ حاجة المحدث إلى المؤثر غير موقوفة على حدوثه ، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك الموجود محتاجا إلى المؤثر حال وجوده وحال عدمه.

وأمّا الكبرى ، وهو أنّ العالم لمّا كان محتاجا إلى المؤثر حال البقاء كان العدم عليه صحيحا ، لأنّا قد بيّنا أنّ المؤثر في العالم قادر لا موجب وأنّه سبحانه وتعالى

١٩١

إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، فإذا كان بقاء العالم متعلقا بإبقاء الله تعالى إيّاه وثبت أنّه يصحّ من الله تعالى أن لا يبقيه فبتقدير أن لا يبقيه وجب أن لا يبقى ، فثبت أنّ الفناء على العالم (١) ممكن.

لا يقال : لا نسلم أنّ المحتاج إلى المؤثر إمّا الوجود أو العدم أو مسبوقية الوجود بالعدم بل المحتاج هو خروج الشيء من العدم إلى الوجود ، فهذا قسم وراء ما ذكرتموه.

سلمنا أنّ الوجود هو المحتاج إلى المؤثر ، فلم قلتم : إنّه تبقى تلك الحاجة حال البقاء؟ بيانه هو : أن الشيء حال العدم كان العدم به أولى فلا جرم وجب أن لا يخرج من العدم إلى الوجود إلّا بمؤثر ، ثمّ إذا دخل في الوجود صار الوجودية أولى فتلك الأولوية تغني الباقي عن الحاجة إلى المؤثر.

سلّمنا أنّ الممكن حال البقاء محتاج إلى المقتضي ، ولكن لم قلتم : إنّ انقطاع تأثير القادر عنه بعد تعلّقه به ممكن؟ وما الدليل عليه؟

لأنّا نقول : لا يعقل قسما آخر مغايرا للثلاثة ، لأنّ كلّ معقول فإمّا أن يكون ثابتا أو منتفيا ، وإذا كان الثابت متجدد الثبوت كان ذلك الثبوت متأخّرا عن ذلك العدم ، وذلك يقتضي أن لا يعقل قسم زائد. والخروج الذي أثبتموه رابعا إن لم يكن إيجادا لم يكن محتاجا ، وإن كان فهو الذي اخترناه.

وأمّا الأولوية (٢) ، فالشيء حال بقائه إمّا يقال : إنّه بقى كما كان حال حدوثه أو ما بقي كذلك ، فإن كان الأوّل لزم من احتياجه إلى المؤثر حال حدوثه احتياجه إليه حال بقائه ، وإن كان الثاني فهو باطل ، لأنّ تلك الذات التي كانت حاصلة وقت الحدوث إن لم تكن هي بعينها حال البقاء حاصلة لم يكن هاهنا شيء باق ،

__________________

(١) ق : «البقاء على العدم» ، وهو خطأ.

(٢) وقد مرّ إبطال القول بالأولوية في المجلد الأوّل ، ص ١٤٦.

١٩٢

بل فنيت تلك الذات وحدثت ذات أخرى. وإن كانت هي بعينها الذات التي كانت حاصلة فتلك الذات بعينها باقية كما كانت ، بل ربما حدثت فيها صفة أو زالت عنها صفة ، وذلك لا يقتضي تغير تلك الذات في نفسها ، بل تلك الذات من حيث هي تكون باقية كما كانت فيلزم احتياجها إلى المؤثر في هذه الحالة كما كانت محتاجة إليه حال الحدوث. ثمّ بتقدير الصحّة فانّه لا يفيد المطلوب ، لأنّ كونه أولى بالوجود إن كان حاصلا حال الحدوث اقتضى إمّا الاستغناء عن المؤثر حال الحدوث كما اقتضاه حالة البقاء أو أن لا تنقطع الحاجة إلى المؤثر حال البقاء كما لم تنقطع حال الحدوث. والثاني يقتضي أن تكون تلك الأولوية حكما متجددا فلا بدّ له من مؤثر فلتلك الأولوية مؤثر ، ثمّ إنّ استغناء الباقي عن المؤثر إنّما كان لتلك الأولوية ، فرجع حاصل الكلام إلى أنّ الباقي إنّما بقى بحدوث أمر فيه يسمى بالأولوية ، وتلك الأولوية محتاجة إلى مؤثر آخر ، فيكون هذا قولا باحتياج الباقي إلى المؤثر ، وهو المطلوب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذه الأولوية لما كانت ممتنعة الحصول للذات حال حدوثها كان حصولها في الذات متوقفا على بقائها ، فإذن لو كان بقاؤها لأجل تلك الأولوية دار ، فإذن لا بدّ من مقتض يقتضي استمراره حتى تحصل تلك الأولوية مرتبا على ذلك الاستمرار.

وأمّا ثالثا : فلأنّ هذه الأولوية حكم غير مستقل في نفيها وفي ثبوتها بل هي محتاجة إلى الذات ، ولو احتاجت الذات إليها دار.

فثبت بما ذكرنا أنّ تلك الأولوية التي ذكروها ممنوعة ، لأنّ الحوادث إمّا جواهر أو أعراض ، والأعراض غير باقية عند الأشاعرة ، وإنّما يعتقدون بقاءها عندهم (١) لتوالي أمثالها على شيء واحد. والجواهر هي محل النزاع فكيف يستدل

__________________

(١) كذا.

١٩٣

بها عليها؟

قوله : «هب أنّ الجواهر حال بقائها محتاجة إلى الفاعل ، فلم قلتم : إنّه يجوز انقطاع المؤثر عنها؟».

قلنا : لأجل أنّ المختار لا بدّ وأن يكون متمكنا من الفعل والترك.

وفيه نظر ، لأنّ تعلّق النفي بالفاعل إذا كان في أن يستمر ذلك النفي نفيا لا نسلم أنّه يكون مانعا من دخوله (١) في الوجود ، لأنّ ذلك إنمّا يلزم لو كان ذلك التعلّق بذات الفاعل الموجب ، أمّا إذا كان متعلقا بذات الفاعل المختار فلا ، فإنّ عدمه مستند إلى اختيار العدم كما استند وجوده إلى اختيار الإيجاد.

سلّمنا ، لكن نمنع الحصر لجواز تعلّقه بالفاعل بأن يزيل ذلك النفي لا بأن يقلبه ثبوتا ، بل بأن يقلب المنفي ثابتا بأن يزيل عنه النفي بأن يوجد المنفي.

سلّمنا ، لكن نمنع استغناء المسبوقية فانّ مسبوقية الوجود بالعدم وصف لاحق بالوجود المحتاج إلى الفاعل والمحتاج محتاج. وبالجملة فاعل السبب فاعل المسبب والواجب لذاته مستغن عن الفاعل لا مطلق الواجب ، فانّ الواجب بالغير إنّما يجب بذلك الغير فهو محتاج إلى ذلك الغير ، وكما أنّ الحدوث كيفية للوجود كذا حاجة الوجود كيفية له ولا بعد في احتياج إحدى الكيفيتين إلى الأخرى.

سلّمنا ، لكن حاجة الوجود معلوم انّها غير مستندة إلى مطلق الوجود المشترك بين الواجب والممكن فجاز أن يستند إلى الوجود الذي ليس بأزلي ، وهذا وصف سلبي لا يتوقف على وجود الشيء في الخارج بل يكفي وجوده ذهنا. والخروج ليس هو الإيجاد ولا الوجود ولا العدم ولا المسبوقية. وكون الأولوية موجبة

__________________

(١) ق : «وصوله».

١٩٤

للاستغناء حالة البقاء لا يقتضي كونها موجبة له حالة الحدوث لأنّ الفاعل هو السبب الأصلي القوي في الايجاد (١) بخلاف الأولوية فانّها لم يكن أن تكون معطية للوجود لضعفها فجاز اسناد الأثر الضعيف وهو الحفظ إليها. والأولوية كالوجوب فانّه حكم غير مستقل بنفسه ، بل قائم بالذات مع احتياج الذات إليه فانّ الذات ما لم تجب لم توجد.

والتحقيق أن نقول : إن كان النزاع في الصحّة الذاتية والإمكان الراجع إلى الماهية فهو غلط إلّا عند من يعتقد وجوب العالم لذاته ، وذلك مذهب ساقط قد بيّنا بطلانه ، واتّفقت البراهين القطعية والقوانين الفلسفية على إبطاله. وإن كان هو المنافي للوجوب بالغير فهو في محلّ التوقف عند أبي الحسين.

أمّا النظام فسيأتي بطلان كلامه.

وأمّا الفلاسفة فقد احتجوا على امتناع عدم العالم بوجوه : (٢)

الأوّل : العالم قديم على ما تقدم (٣) فيمتنع عدمه لامتناع عدم القديم.

الثاني : المؤثر في العالم موجب بالذات على ما يأتي وهو دائم الوجود ، لأنّه واجب الوجود لذاته ، ويلزم من دوام العلّة دوام المعلول.

الثالث : واجب الوجود علّة في العالم فلا يجوز فناء العالم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ، وإمكان عدم اللازم إمكان عدم الملزوم ، لكن عدم واجب الوجود محال لذاته فعدم العالم محال لذاته.

الرابع : الزمان لا يمكن عدمه ، وإلّا لكان عدمه بعد وجوده بالزمان فيكون

__________________

(١) «في الايجاد» ساقطة في ق.

(٢) مرّ بعض الوجوه في ص ١٣٦ (المسألة الثالثة في إبطال شبه الفلاسفة). راجع أيضا المطالب العالية ٤ : ٢٢١.

(٣) في ص ١٣٦.

١٩٥

الزمان موجودا حال ما فرض معدوما هذا خلف. وباقي الوجوه الدالة على أزلية الزمان السابقة (١) تدلّ على أبديته.

الخامس : لو أمكن عدم العالم لكان إمكان (٢) عدمه سابقا على عدمه ولا بدّ لذلك الإمكان من محل ، أي من شيء يحكم عليه بأنّه ممكن الاتصاف بذلك العدم ، وليس هو وجود ذلك الشيء ، لأنّ الذي يمكن اتصافه بالشيء لا بدّ وأن يكون باقيا مع ذلك الشيء ووجود الشيء لا يتقرر مع عدمه ، فإذن لا بدّ من شيء آخر يقوم به إمكان عدمه وذلك هو الهيولى ، فإذن كلّ ما يصحّ عليه العدم فله هيولى فلو صحّ العدم على الهيولى لافتقرت إلى هيولى أخرى لا إلى نهاية وهو محال ، فالهيولى لا تقبل العدم. ثمّ ثبت أنّ الهيولى لا تخلو عن الصورة الجسمية ، فإذن عدم الجسم محال. ولأنّه لو أمكن عدمه لكان بعد عدمه ممكن الوجود ، وإلّا لزم انقلاب الممكن ممتنعا هذا خلف ، ولذلك الإمكان محلّ هو الهيولى.

السادس : أنّه سيأتي (٣) بيان امتناع الخرق على الأفلاك فلا يجوز عليها العدم.

السابع : (٤) سيأتي (٥) أن الفلك متحرك على الاستدارة وأنّ كلّ متحرك على الاستدارة لا يقبل الحركة على الاستقامة فلا يقبل الفساد. (٦)

__________________

(١) في المسألة الثالثة في إبطال شبه الفلاسفة.

(٢) ق : «إمكان» حذف سهوا.

(٣) في ص ٢٣٥ (المسألة الخامسة في جواز الخرق على الأفلاك).

(٤) استدل به برقلس كما في الملل والنحل للشهرستاني (شبه برقلس في قدم العالم).

(٥) في ص ٢٣٨.

(٦) قال الشيخ ابن سينا : «إنّ بعض هذه البسائط. [وهي الأجزاء الأوّلية للعالم] لا يقبل الكون والفساد ، وهي البسائط التي في جواهرها مبادئ حركات مستديرة ... انّ الأجسام التي في طباعها أن تقبل الكون والفساد في طباعها أن تتحرك على الاستقامة». الفصل الأوّل من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء : ٧٧ ـ ٧٨.

١٩٦

الثامن : احتج جالينوس بأنّ العالم لو كان مما يفنى في المستقبل لظهر النقصان فيه بعد تطاول مدّة بقائه ، ولو كان كذلك لصارت الأفلاك والنجوم أصغر ممّا شاهدها القدماء من المنجمين ، ولمّا لم يكن كذلك علمنا أنّ العالم لا يفنى.

والجواب : نمنع قدم العالم ، وقد بيّنا حدوثه. ونمنع كون المؤثر موجبا لما يأتي. ولا يمكن ادعاء وجوب وجود العالم لذاته مع الحكم بأنّه معلول للواجب لذاته فانّه متناقض. والعالم إذا أخذ من حيث إنّه معلول للواجب لم يبق عدمه ممكنا فانتفى المحذور ، وإن أخذ من حيث هو هو لم يلزم من عدمه محذور أيضا إذا الواجب هنا لم يوجد من حيث إنّه علّة. وقد سبق الجواب عن الزمان والمادة. وسيأتي جواز الخرق على الأفلاك وقبولها للحركة المستقيمة إن شاء الله تعالى.

وكلام جالينوس في غاية السقوط فما يدريه تقدر العالم قبل ذلك ، والمنجم كيف يعلم ذلك إلّا على جهة التخمين والظن ، فلو نقص جزء لا يتجزأ في كلّ وقت لم يعلم المنجم ولا غيره ذلك ، فانّه من المعلوم أنّ القطعة الصغيرة من الياقوت وشبهه من الأجسام الصلبة وإن بقيت مدّة مديدة فانّه لا يظهر فيها نقصان محسوس مع أنّ الخشب وغيره قد يظهر في أقل من تلك المدّة نقصان ظاهر. وإذا كان كذلك فمن الجائز أن تكون نسبة الفلك في الصلابة إلى الياقوت كنسبة الياقوت إلى الخشب ، فإذا لم يظهر لحسّنا ما حصل من النقصان في القطعة الصغيرة فلئن لا يظهر لناما يحصل في الفلك من النقصان في القطعة الصغيرة مع غاية صلابته وعظمه وبعده عن أعيننا كان أولى. ثمّ ليس المنجم معلوم الصدق بحيث تبتني على قوله هذه القاعدة الحكميّة.

سلّمنا ، لكن إنّما يلزم ذلك لو قلنا : إنّه يعدم على وجه الذبول أمّا إذا لم يكن

١٩٧

كذلك ، بل قلنا : إنّه سيعدم ، لم يلزم ما ذكره.

قال أفضل المحقّقين : (١) لا منافاة بين أدلّة الحكماء وما ادّعاه المسلمون من صحّة الفناء ، لأنّ أدلّة الحكماء بأسرها ترجع إلى أنّ العالم واجب لغيره (٢) ودعوى المسلمين أنّه ممكن لذاته ، وليس بين الأمرين منافاة تقتضي مخالفتهما ؛ لأنّ اسناد امتناع عدمه إلى مؤثره الموجب يدل على الامتناع نظرا إلى الغير. وكذا امتناع عدم الزمان بعد وجوده لا يدل على امتناعه لذاته. ودليل سبق الإمكان لم يفرّق بين الإمكان الذاتي فيه وبين الإمكان بمعنى الاستعداد ، والإمكان [الثاني] يقتضي الاحتياج إلى المادة دون الأوّل ، ولم يدع أحد الخصمين ذلك الإمكان. وامتناع العدم بهذا المعنى ليس لذات الممكن لذاته إنّما يكون عند من يقول به لاحتياج ما يعدم (٣) بعد وجوده إلى المادة السابقة.

واحتجّ المسلمون (٤) على امتناع العدم بالعقل والنقل.

أمّا العقل : فهو أن نقول : لو انتفى العالم فإمّا أن يكون انتفاؤه لمؤثر أو لا لمؤثر. والثاني باطل ، لأنّ اختصاص انتفائه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده لو وقع لا عن مرجّح مع تساوي الأوقات بالنسبة إليه لجاز وقوع الممكن لا عن المرجح لتساوي طرفي الوجود والعدم في استغناء الممكن عن المؤثر وحاجته إليه.

وإن كان لمؤثر فذلك المؤثر إمّا أن يكون عدميا أو وجوديا ، فإن كان عدميا فذلك لا بدّ وأن يكون عدما لشيء لا يوجد الجوهر إلّا عند وجوده حتى يكون عدمه مقتضيا لعدم الجوهر وهو انتفاء الشرط ، وهو باطل :

__________________

(١) نقد المحصل : ٢١٩ ـ ٢٢١. بتصرفات من المصنّف.

(٢) في المصدر : «بغيره».

(٣) في المصدر : «المنعدم».

(٤) في المصدر : «[الكرامية] المسلمون».

١٩٨

أمّا أوّلا : فلأنّ ذلك الشيء إمّا أن يكون باقيا أو لا ، فإن كان باقيا كان الكلام في كيفية انتفائه بعد استمرار وجوده كالكلام في الجوهر ، وإن لم يكن باقيا استحال احتياج الجوهر إليه ، لأنّه إمّا أن يحتاج إلى واحد معيّن أو إلى واحد غير معين. والأوّل باطل ، لأنّه لا واحد إلّا ويبقى الجوهر بعد عدمه فلا تكون به حاجة إليه. والثاني أيضا باطل ، لأنّ الواحد الذي لا يكون متعينا استحال دخوله في الموجود وما لا يكون موجودا استحال احتياج وجود غيره إلى وجوده.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك الشيء إمّا أن يكون حالا في الجوهر أو لا ، فإن كان حالا في الجوهر كان محتاجا إلى الجوهر ، وإذا كان كذلك استحال احتياج الجوهر إليه ، وإلّا دار. وإذا لم يكن الجوهر محتاجا إليه بل كان هو محتاجا إلى الجوهر فما كان محتاجا إلى الشيء يكون محتاجا إلى الشيء في وجوده وأيضا في عدمه ، فإذن عدم ذلك الشيء يكون محتاجا إلى عدم الجوهر فيستحيل أن يكون عدم الجوهر محتاجا إلى عدمه ، وإلّا دار.

وأمّا إن لم يكن ذلك الشيء حالا في الجوهر فإمّا أن يكون محلّا للجوهر أو لا ، والأوّل باطل. أمّا أوّلا : فلأنّا قد دللنا على استحالة حلول المتحيز في المحلّ. وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك المحل إن صحّ بقاؤه كان الكلام في عدمه كالكلام في الجوهر ، وإن لم يصح بقاؤه لزم من وجوب تجدده وجوب تجدد الجسم ، وهو باطل. وإن لم يكن حالا في الجوهر لا محالة كان شيئا قائما بنفسه ، والجوهر أيضا كذلك ، فإن لم تكن حاجة أحدهما إلى الآخر أولى من العكس فإمّا أن يحتاج كلّ واحد إلى الآخر أو يستغني كلّ واحد عن الآخر ، فلا يلزم من عدم واحد منهما عدم الآخر. وأيضا إذا كان عدمه لانتفاء الشرط لم يكن ذلك الشرط إلّا العرض ، لأنّ ما عدا الجوهر عرض ويستحيل أن يكون العرض شرطا للجوهر ، لأنّ العرض يحتاج إلى الجوهر والمشروط يحتاج إلى الشرط ، فيلزم الدور.

١٩٩

وأمّا إن كان عدم الجوهر لأمر وجودي فذلك الشيء إمّا موجب أو مختار. أمّا الموجب فهو أن يقال : إنّه ينتفي عند وجود ضده ، وهو باطل لوجهين :

الأوّل : أنّ التضاد حاصل من الجانبين وكلّ منهما قابل للعدم ، فليس انتفاء الجوهر بذلك الضد أولى من انتفاء ذلك الضدّ بوجود الجوهر ، فإمّا أن ينتفي كلّ واحد منهما بالآخر ، وهو محال ، لأنّ المؤثر في عدم كلّ واحد منهما وجود الآخر ، والمؤثر حاصل مع الأثر فلو حصل العدمان معا لحصل الواحدان معا فيكونان موجودين معدومين دفعة واحدة ، وهو محال : أو لا ينتفي أحدهما بالآخر فيلزم اجتماع الضدين.

لا يقال : انتفاء الجوهر بذلك الضد أولى لوجهين :

الوجه الأوّل : الجوهر باق والضدّ حادث والحادث أقوى من الباقي. أمّا أوّلا : فلأنّ الحادث يستحيل عدمه ، لأنّه لو عدم لكان عدمه مقارنا لوجوده ، وهو محال ، وأمّا الباقي فإنّه لا يستحيل عدمه ، لأنّه بتقدير عدمه لا يكون عدمه مقارنا لوجوده. وأمّا ثانيا : فلأنّ الحادث متعلّق السبب والباقي منقطع عن السبب ، فكون (١) الحادث مع السبب يفيده زيادة قوّة.

الوجه الثاني : أن يخلق الله تعالى من ذلك الضد أعدادا أكثر من أعداد الجوهر فلا جرم كانت باعدام الجوهر أولى.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ الحادث أقوى.

قوله : «لو عدم الحادث لكان عدمه مقارنا لوجوده».

قلنا : نحن لا نقول : إنّ الحادث يوجد و (٢) يعدم في وقت واحد بل الباقي

__________________

(١) ق : «فيكون».

(٢) ق : «وقد».

٢٠٠