نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

البحث السابع

في أنّ الأكوان مقدورة

البرهان على أنّا قادرون على الأكوان هو البرهان الدالّ على قدرتنا على جميع الأفعال الصادرة عنّا (١) من وجوب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا ، ووجوب انتفائها بحسب صوارفنا. ولأنّها موقوفة على ما نفعله من السبب الذي هو الاعتماد ، وفاعل السبب فاعل المسبب. ومن ثبوت الاتقان والاحكام فيها إلى ما شاكل ذلك.

ثمّ إنّ الكون يقع منّا على وجهين : الابتداء والتوليد ، إمّا في محلّ القدرة أو معدّى عنها ، وإن كان في كلا الحالين يكون الاعتماد هو الذي يولده.

ومن الأكوان ما لا يصحّ صدوره عنّا البتة وهو الموجود في الجوهر حالة الحدوث ، فانّ القديم تعالى هو المختص بالقدرة عليه. (٢) لأنّ الذي نفعله في غير محلّ القدرة من شأنه أن يكون هناك مماسة بين محل الاعتماد وبين محلّ السكون ، ومماسة المعدوم محال.

__________________

(١) قال القاضي عبد الجبار : «وأمّا قدرتنا عليه فظاهرة بمثل ما به نعلم قدرتنا على سائر الأفعال المقدورة لنا ، وهو وقوعه بدواعينا وقصودنا ، وحسن المدح والذم فيه ، ووقوعه بحسب ما نفعله من الأسباب التي هي الاعتمادات ... فإنّ الأكوان التي نجعلها مقدورة لنا يصحّ منا إيقاعها طاعات ويصحّ منّا إيقاعها معاص ، وكذلك القصود قد يصحّ أن نجعلها قربة إلى الله عزوجل وقد يصحّ خلافه ...» المحيط : ٤٧.

(٢) قال النيسابوري : «إنّ الكون في ابتداء وجود الجوهر من فعل الله تعالى ، ويكون مبتدأ.» التوحيد : ١٤٦.

٣٠١

البحث الثامن

في أنّ الكون يولّد غيره

اعلم أنّ الكون أحد الأسباب ، وإنّما يولّد التأليف بشرط تجاور المحلين (١). ويولّد الألم بشرط انتفاء الصحّة عن المحلّ. وإنّما علمنا الأوّل باعتبار حصول التأليف مناسبا للكون فانّ المجاورات إذا حصلت طولا حصل التأليف كذلك ، فإذا حصلت عرضا حصل التأليف في هذه الجهة ، فيختلف حاله بحسب اختلافها فيجب أن تكون مولدة له ، ولأجل هذا تكثر التأليفات في المحال عند كثرة المجاورات. وبهذا نعلم أنّه ليس يتولد التأليف عن الرطوبة ، لأنّه يحصل التأليف بحسب المجاورة دونها. (٢) وعلى أنّه كان يجب لو شاركت الرطوبة الكون في توليده التأليف لشاركته في توليد الألم. وإنّما علمنا الثاني بأنّه متى حصل التفريق وجد الألم بحسبه ، ولولاه لأمكن الانفكاك وهو محال. ولا بدّ من شرط انتفاء الصحّة ، وإلّا لوجب أن يتألّم أحدنا بانتقاله عن مكانه لحدوث كون فيه. والمجاورة كونان حاصلان في جوهرين لا يفعلان جزءا واحدا

__________________

(١) قال النيسابوري : «اعلم أنّ التأليف لا يوجد إلّا متولدا من الكون ، سواء كان ذلك من فعلنا أو من فعل القديم تعالى ، إذا كان محلّ الكون مجاورة لغيره». التوحيد : ٨٠.

(٢) قال القاضي عبد الجبار : «وأمّا ما يتولد عن الكون من نحو التأليف والألم ، فالشرط في وجود التأليف أن يكون المحلان متجاورين ، والشرط في توليده له أن يكون حادثا ـ أعني الكون ـ فانّه إذا كان باقيا ففيه خلاف هل يولّد أم لا يولّد؟» المحيط بالتكليف : ٣٩٤.

٣٠٢

من التأليف ، وإلّا لزم وقوع الفعل بفاعلين إذ من الجائز أن يكون أحد الكونين فعلا لفاعل والآخر فعلا لغيره ، بل كلّ واحد منهما يوجد جزءا من التأليف في محلّه على الانفراد.

٣٠٣

البحث التاسع

في التفريع على التوليد

وهو من وجوه :

الوجه الأوّل : اختلف الشيوخ في توليد الكون في حالتي الحدوث والبقاء. وكلام أبي هاشم دالّ على أنّه يولد في الحالين معا ، لكن شرط في توليده التأليف تجدد المجاورة ، وإلّا لازداد صعوبة التفكيك فيه على الأوقات لتزايد التأليف ، وإذا لم يكن كذلك فلأجل أنّ التجاور فيه مستمر غير متجدد ، ومتى كان الجسم ملتئما متجاورا فثقلت (١) فيه مجاورة زائدة فالمنع بتبعها ، لأنّ التأليف يزداد. وكذا في اعتبار تجدد انتفاء الصحّة ، لأنّ الكون لو وجد وكان انتفاء الصحّة مستمرا غير متجدد لم يزدد الألم على ما كان ، فانّ اليد المجروحة لو سكنت في الجو وانتفاء الصحّة على ما كان عليه لم يزد الألم فإن زاد فمنه تعالى.

وإنّما اختار ذلك لأنّ توليده لما يولده هو لأمر يرجع إلى ذاته فلا يجوز أن يختلف في حالتي الحدوث والبقاء.

وأمّا أبو علي فانّه لمّا لم يقل ببقاء الحركات ولم يجعل الاعتماد مولدا قال : إنّ التوليد يتبع الحادث دون الباقي.

__________________

(١) كذا.

٣٠٤

الوجه الثاني : لا يجوز مع تكامل شروط التوليد في الكون أن لا يقع مسببه ، لأنّ وجود عارض فيه لا يصحّ من حيث إنّ ما يولده الكون لا ضدّ له من تأليف وألم ، فإذا لم يوجد مسبب الكون فلفقد بعض الشروط بخلاف الاعتماد ، لأنّه إذا ولد الكون فله ضد يصحّ حصوله فيمنع الاعتماد من التوليد ولا يحصل مسببه مع تكامل الشروط وإن صحّ أن يجعل وجود هذا الضدّ ممّا لا تكمل معه الشروط ، بل الشرط يحصل بانتفائه ، وإذا وجدت أكوان كثيرة في المحلّ وانتفت الصحّة اشتركت في توليد الألم ، إذ ليس بعضها بالتوليد أحقّ من الآخر ، خلافا لأبي هاشم حيث قال : إنّه متى انتفت صحّة واحدة ولد بعضها دون بعض ، وإنّما تجتمع علّة التوليد إذا انتفت الصحّة عن محالّ كثيرة. وهو غلط ، لفقد الاختصاص ، والشرط حاصل في الكل ، فلا وجه للتخصيص.

الوجه الثالث : لا يولّد الكون شيئا من الأجناس سوى الألم والتأليف. أمّا المعاني التي يمكن مفارقة الكون لها على كلّ وجه فلا شبهة في أنّه لا يجري بينهما توليد. وإنّما اشتبه الحال فيما لا يوجد عاريا عنه كالجوهر ، وتوليده عنه غير صحيح ؛ لأنّا نقدر على الكون فلو ولده لقدرنا عليه ، لأنّ القادر على السبب قادر على المسبب.

وأيضا نازع أبو علي هنا فجوّز توليد الحركة للحركة ، وتوليد الحركة للصوت ، وأجاز في الحركة توليدها للسكون في محلّه ، ومنع في السكون أن يولد السكون. وأجاز أبو القاسم الكعبي ذلك كما أجاز في الحركة توليدها لأخرى. والمشهور أنّ الذي يولد جميع ذلك هو الاعتماد ؛ لأنّ الحركة (١) لو ولدت الحركة لم تكن بأن تولد الحركة يمنه أولى من يسرة لتساوي حالها مع الجهتين. ولهذا يفارق الاعتماد ، لأنّه يختص بجهة يتولد منها والحركة لا جهة لها وإلّا كانت مثلا

__________________

(١) ذكر النيسابوري خمسة وجوه لإبطال توليد الحركة حركة أخرى ، راجع التوحيد : ١٤٢ ـ ١٤٣.

٣٠٥

للاعتماد ؛ وكان يلزم في السكون أن يختص بجهة ، لأنّه قد يكون من جنس الحركة.

وأيضا الحركة الثانية تضاد الأولى ولا شيء من الأضداد يولّد ضدّه ، لأنّ مضادته تقتضي إحالة وجوده وتوليده له يقتضي تصحيحه ، فيؤدي إلى أن يكون محيلا ومصححا.

وأيضا كان يلزم أن لا يتراجع الحجر إذا رمى إلى فوق ، بل يذهب أبدا بأن (١) تولد الحركة الحركة. إلّا أنّ هذا الوجه إنّما يصحّ على قول أبي هاشم حيث يقول : بتكافؤ الاعتمادات ورجوع الحجر لتناقضها (٢) ، أمّا إذا جعلت العلّة أمرا يحدث في الجو فلقائل أن يقول : إنّ الحركة تولّد مثلها. ولكن نراجعه بالأمر الذي يقولونه ، وهذا هو الذي أدّى أبا هاشم إلى أن جعل علّة رجوع الحجر تناقض الاعتماد ، لنسلّم له هذا الدليل ، وإلّا انقلب عليه في الاعتماد حتى لا يجعل مولدا للحركة ، لعلمنا بتراجع الحجر.

وأمّا أنّ السكون لا يولد السكون فظاهر ، وإلّا لزم ما لا يتناهى. ولزم أن لا يفترق الحال بين تشبث القوى بالجسم وبين رفع يده عنه في تعذر رفعه على الضعيف ، لأنّه كان يجري مجرى ما كان الفاعل يحدثه فيه عند تشبثه به. وكان يلزم أن لا يسقط المعلّق في الهواء مع قطع الحبل بأن يولّد السكون الذي كان فيه قبل القطع سكونا آخر بعده ؛ وعلى مثل هذا يلزم فيمن سكّن نفسه ثمّ نام أن لا يسقط لتوليد سكونه ـ الذي فيه ـ غيره من السكنات. وبهذه الجملة الأخيرة يستدل على أنّ الحركة لا تولد السكون ، وإلّا لزم ما تقدم.

__________________

(١) في النسخ : «فان» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه طبقا للمعنى.

(٢) قال النيسابورى : «وهذا إنّما يمكن التعلق به على مذهب الشيخ أبي هاشم ، حيث قال : إنّ العلّة في رجوع الحجر هو ما في الحجر من الاعتماد اللازم ، فانّه يمنع بعض المجتلب من التوليد ويبطله ، وهو القدر الذي يقابله ، ثمّ كذلك في كلّ وقت بقدر ما يقبله حتى ينقضي المجتلب رأسا ، فيعود الحال إلى اللازم ، فيرجع.» التوحيد : ١٤٣.

٣٠٦

وأمّا السكون فلا يولّد الحركة ، لأنّه ليس توليدها في جهة أولى من غيرها. ومنه يعلم أنّه لا يولد الكون الاعتماد ، وإلّا لم يختص بجهة دون غيرها.

والحركة لا تولد الصوت ، لأنّ الحركة لا جهة لها فلا تولد في غير محلّها والصوت يحصل في غير محلّها ، فالمولّد له الاعتماد.

الوجه الرابع : المكان عند المشايخ هو ما منع من اعتماد الثقيل من النزول على وجه ثقله عند اعتماده عليه. وقال الكعبي : هو المحيط لغيره من جميع جوانبه. (١) وأبطلوه بأنّه ليس في المتعارف تسمية القميص مكانا.

إذا عرفت هذا فإنّه يمكن حركة جسم لا في مكان ، لأنّ الله تعالى لو خلق جسما ثقيلا لهوى عند فقد العائق ، وإن لم يكن مكان فقد تحرك لا في مكان. وقال النظام : الجسم لا تقع حركته إلّا في مكان ، وهو مذهب الكعبي (٢) ، فإنّه منع من

__________________

(١) كذا عرفه الشيخ المفيد ، حيث قال : «أقول : إنّ المكان ، ما أحاط بالشيء من جميع جهاته». وقال : «لا يصحّ تحرك الجواهر إلّا في الأماكن وهو مذهب أبي القاسم وغيره من البغداديين وجماعة من قدماء المتكلّمين ، ويخالف فيه الجبائي وابنه وبنو نوبخت والمنتمون إلى الكلام من أهل الجبر والتشبيه». أوائل المقالات : ١٠٠.

ويقول أبو رشيد بأنّ البصريين يرون بأنّ المكان هو «الشيء الذي يسند الجسم الثقيل وزنه إليه ، وحفظ هذا المكان يمنع من سقوط الجسم». ويستطرد أبو رشيد في بحثه قائلا بأنّه لا يمكن اعتبار الفضاء المحيط مكانا ، لانّه غير ثابت ومستقر. ولكن لو كان هناك جسم ثقيل واحد ، ليس له مكان يستقر عليه ، فليس له وجود في مكان معيّن ، عندها لا يكون هناك معنى لسقوطه.

إنّ أساس هذا الاختلاف هو اعتقاد البصريّين بوجود الخلاء ، وإنكار البلخي لوجوده. ولو لم يكن هناك شيء اسمه الخلاء ، فسوف يكون الجسم المماس لسطح الأجسام الأخرى دائما محيطا به. ولو كان الخلاء موجودا ، فلا يحتاج الجسم بأن يكون مماسا مع الأشياء الأخرى من جميع الجوانب ، وأفضل شيء يقال في جواب السؤال: أين هو؟ الإدلال على الشيء المستقر عليه إذا كان في حالة السكون. راجع مارتن مكدرموت ، نظريات علم الكلام عند الشيخ المفيد : ٢٥٩.

(٢) قال أبو رشيد بأنّ البلخي ينكر رأي البصريّين القائل بأنّ الجسم يمكن أن يتحرك بدون كونه في مكان. المصدر نفسه : ٢٥٨.

٣٠٧

صحّة حركة الجسم أو سكونه أو وجود كون فيه إذا لم يكن هناك مكان ، وقال : لو خلق الله تعالى الجوهر الواحد فقط الخلاء عن الكون.

واحتجا بأنّ الحركة لا تعقل إلّا مفرغا لمكان شاغلا لغيره ، وهو ممنوع ، بل الواجب أن تكون في جهة.

وقال الكعبي : إذا زال المكان عن تحت المتمكن عليه فهوى ، فهويه لأجل زوال المكان عن تحته ، وعند المشايخ لما فيه من الثقل لاختلاف الحال بحسب ثقله كالحجر والريشة ، وكان لا يجب اختصاص الجهة بالهوي دون غيرها ، فانحداره على وتيرة واحدة يدلّ على أنّه للثقل.

٣٠٨

البحث العاشر

في القدرة على التحريك والتسكين

لا خلاف بين الشيخين في أنّ الله تعالى يصحّ أن يسكن الساكن ، وأنّ ذلك السكون الذي كان فيه يبقى ، ثمّ يحدث مثله من جهته حالا فحالا على ما يقال في سكون الأرض. (١) وكذا لا خلاف في صحّة تحريك أحدنا أبعاضه وتسكينها أبدا.

واختلفا في أنّ أحدنا هل يصحّ منه تسكين الساكن أم لا؟ فمنع أبو علي منه وقال : ما نفعله في الأوّل يبطل فلا يمكن أن نسكن الجسم سكونا متواليا. وبناء ذلك على قوله أنّ المولّد هو الحركة فلا بدّ من أن تتخلل سكونين حركة. وجوزه أبو هاشم ، لأنّ الشيء لا يمنع عن مثله فصحّ اجتماعهما. وأيضا إذا تشبث أحدنا بجسم فلو لم يسكنه حالا بعد حال لكان من دونه في القوة لا يتعذر عليه تحريكه.

واختلف قول أبي هاشم في الجسم الذي لا يقدر أحدنا على تحريكه هل يقدر على تسكينه؟ قال في الجامع : لا يصحّ ، وهو ظاهر قول أبي القاسم الكعبي ، وحكي عنه أنّه رجع عمّا قاله في الجامع فجوزه. وأمّا أبو علي فالذي ذهب إليه هو المنع من تسكين ما لا نقدر على تحريكه ، حتى قال : لا يصحّ أن نفعل فيه الاعتماد ،

__________________

(١) سيأتي هذا القول في التذنيب الثامن ، ص ٣١٦.

٣٠٩

لأنّه ذهب إلى تضادّ الاعتمادات ، كما منع من فعل السكون.

واستدل من جوزه : بأنّ الاعتماد الذي هو سبب السكون حاصل والمحل محتمل ولا مانع فيجب وجود مسببه. ولا يصحّ أن يجعل ثقله مانعا ، لأنّ منعه هو بموجبه الذي هو السكون ، ولا منافاة بين السكونين ، ولهذا تجد الحمال إذا اعتمدنا على حمله مشقة ومدافعة زائدة فلا بدّ وأن يولّد اعتماده السكون فيه وإن لم يقدر على تحريكه.

لا يقال : إذا عجز عن تحريكه فقد عجز عن تسكينه.

لأنّا نقول : لا نسلّم الملازمة ، لأنّ في التحريك منعا ليس في التسكين ، هو امتناع أن يجتمع موجب الاعتمادين ، ولا يمتنع وجود السكونين. ولأنّه يجب أن يفعل بعدد ما في جميع أجزاء الحبل من الثقل وزائدا إذا أراد تحريكه ، وليس كذلك عند التسكين.

إذا عرفت هذا ، فإذا صحّ تسكين ما لا نقدر على تحريكه ، فالقدر الذي نسكنه ما هو؟ إذ لا يجوز أن يقال : إنّ جميع الجبل يسكن ، وإلّا لزم فيمن بعد عنه إذا أراد قلع شيء من الحجارة أن يحتاج إلى أن يفعل أزيد ممّا يفعله من الأكوان لو لم يكن هنا مسكن ، وخلافه معلوم ، فيجب أن يقال : هو القدر المسامت ليده إذا اعتمد بها حتى يبلغ إلى آخر تخوم الأرض على ما قاله أبو إسحاق ، بخلاف ما قاله أبو هاشم : إنّه يسكن القدر الذي لو انفصل لقدر على تحريكه ، لأنّ السبب الواحد قد صحّ توليده في المحال الكثيرة كالقدرة ولا يلزم الشناعة بأن يبلغ اعتماده آخر الأرضين السابعة ، لأنّه يجب ذلك إن ثبت الاتصال في الجميع ، ولا يكون من الباب الذي يدّعي الضرورة في خلافه.

لا يقال : إذا نقدر تحريك بعض الجبل من دون بعض فهلا نقدر مثله في التسكين؟

٣١٠

لأنّا نقول : الفرق ظاهر ، لأنّه بالالتصاق قد صار في حكم الشيء الواحد فلو حرك بعضه مع سكون الباقي لحصل افتراق ، وإذا كان ساكنا فليسكن بعضه زيادة سكون دون غيره فلا يحصل المانع ، فافترقا.

تذنيبات

الأوّل : قال بعض المشايخ : يجوز أن يتحرك الجسم حركات متوالية لا سكون فيها في جميع الأجسام. وجوزه الكعبي في الخفيف دون الثقيل. ولو قيل بالعكس كان أقرب ، فإنّا إذا رمينا الخفيف لم نجد سرعة حركته كسرعة حركة الثقيل ، والمانع في الجو يمنع الخفيف بأكثر من منعه للثقيل ، ولا وجه يمكن الإشارة إليه من منع توالي الحركات في الثقيل إذا كانت الأحوال سليمة ولا عارض في الجو ، والذي بسببه يقع الفرق بين نزول الخفيف والثقيل هو الهواء الذي في الجو ، وإلّا فلولاه لكان الحجر والريشة إلها بطان ينزلان معا ، إلّا أنّ الهواء مانع للخفيف من النزول والثقيل يخرقه. هذا هو الصحيح عند مشايخ المعتزلة وإن كان أبو هاشم قد استبعده.

الثاني : يصحّ من القديم تعالى تسكين الثقيل من دون قرار ولا علاقة بأن يخترع فيه سكونا فيقف. (١) وقال الكعبي : إنّه غير مقدور.

ويبطل قوله ، لأنّ السكون لا يحتاج إلى أكثر من المحل ومحله يحتمله لتحيزه فلا وجه للحاجة إلى قرار أو علاقة ، بل إذا فعل الله تعالى فيه السكون وقف كما

__________________

(١) ذهب الشيخ المفيد إلى استحالته حيث قال : «هل يصحّ وقوفه (أي الثقيل) في الهواء الرقيق بغير علاقة ولا عماد؟ وأقول : إنّ ذلك محال لا يصحّ ولا يثبت ، والقول به مؤدّ إلى اجتماع المضادات ، وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وجماعة من المعتزلة وأكثر الأوائل ، وخالفهم فيه البصريّون من المعتزلة ، وقد حكي انّه لم يخالف فيه أحد من المعتزلة إلّا الجبائي وابنه وأتباعهما». أوائل المقالات : ١٢٩.

٣١١

يقف إذا فعله على قرار. هذا ما دام السكون زائدا على موجب الثقل. ولأنّه تعالى يسكن السماوات والأرض ولا قرار لهما.

احتج بأنّه لو صحّ منه تعالى لصحّ منّا.

وهو ممنوع ، لتوقّف فعلنا على آلات وأسباب بخلاف فعله تعالى.

الثالث : منع الكعبي (١) من صحّة تحريك الله تعالى الثقيل بغير جاذب ولا دافع ، ومن صحّة إيجاد الحركة مخترعة من غير سبب. وهو خطأ لاستغنائه تعالى عن الآلات والأسباب. ولأنّ الحركة وجودها مقصور على وجود المحلّ فيجب صحّة وجودها من دون ما شرطه ، ولو لم يصحّ منه إيجاد الحركة مخترعة لما صحّ منه فعل الكون في حال حدوث الجوهر ، لأنّه لا يقع إلّا مخترعا.

الرابع : اختلف الشيخان ، فقال أبو هاشم : يصحّ أن نحرك جسما باعتمادنا عليه من دون تحرك محل الاعتماد ، لكن هذا في أوّل الحركات أمّا إذا توالت

__________________

(١) في كتاب «عيون المسائل» ، ومنعه الشيخ المفيد أيضا ، وخالفهما الجبائيان. راجع أوائل المقالات : ١٣٠.

والمسألة وما قبلها تدوران حول قدرة الله تعالى للتدخل مباشرة في السير الاعتيادي للعليّة الطبيعية. وأنّ ما نستنتجه من هذا كلّه هو أنّ البغداديين (من المعتزلة) والشيخ المفيد كانوا متشدّدين أكثر بشأن العليّة الميكانيكية الطبيعية ، في حين كان البصريّون يرون بأنّ الله قادر أن يفعل بالأجسام مباشرة دون استعمال آلات مادية. راجع مارتن مكدرموت ، نظريات علم الكلام عند الشيخ المفيد : ٢٨١ ـ ٢٨٢.

والحقّ أن نقول طبقا للأحاديث : «أبى الله أن يجري الأمور إلّا بأسبابها». وهذا لا يعني به الانتقاص من قدرة الله سبحانه ، كما أنّ عدم تعلّق قدرته بالمحالات لا يوجب نقصا في قدرته تعالى ، لانّه قادر على الممكنات لا الممتنعات. وقد روي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قيل : لأمير المؤمنين عليه‌السلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون». الصدوق ، التوحيد ، باب ٩ ، رواية ٩ ، ص ١٣٠. ومثلها رواية ١٠.

٣١٢

فلا بدّ من الحركة ، لأنّ المماسة شرط وهي تبطل في الثاني إذا تحرك عنه فلا بدّ من أن يتحرك إليه ليثبت شرطه ، وبناه على أنّ الذي يولد في الغير هو الاعتماد. ومنع أبو علي أن يتحرك حركة واحدة إلّا بعد حركة محلّ الاعتماد بناء منه على أنّ المولد في الغير هو الحركة أو أنّها شرط في توليد الاعتماد.

احتجّ أبو هاشم بوجهين :

الوجه الأوّل : لو جعل تحرك محلّ الاعتماد شرطا في توليده للحركة لوجب في حال حصول الاعتماد ثبوت الحركة ، فإنّ هذا واجب فيما هو شرط في التوليد ، ومعلوم أنّ محلّ الاعتماد لا يتحرك إلّا بعد تحرك ما ماسه فينتقل إلى مكانه ، وحركة ما ماسه إنّما تحصل عن الاعتماد في الثاني وحال حصولها يجوز أن يقدم الاعتماد بأن يكون مجتلبا ، فكيف يحتاج إليها؟

الوجه الثاني : لو خلق الله تعالى صفحة من أجزاء لا تتجزأ في الجو ولا ثقل فيها وخلق جبلا فوقها لكان يهوى الجبل لا محالة ، ولو كان الأمر بخلاف ما قلناه ، لكان الجبل لا يتحرك إلّا بتحرك هذه الصفحة حتى يحصل في مكانها وهي لا تتحرك إلّا بعد حركة الجبل ، لأنّ حركته شرط في توليد اعتماده التحريك في غيره فيقتضي أن لا يتحرك واحد منهما وأن يقفا ، وهو باطل.

الخامس : اختلف الشيوخ ، فقال أبو إسحاق وقاضي القضاة : يحتاج الواحد منّا في حمل الثقيل وتحريكه إلى أن يفعل في كلّ جزء منه بقدر ما فيه وفي جميع الأجزاء من الثقل وجزاء آخر زائدا ، فإذا كان المحمول عشرة أجزاء من الثقل يحتاج أن يفعل في كلّ جزء إحدى عشرة حركة ، وكذا في تسكين الثقيل المنحدر. ومنع أبو هاشم هذه الزيادة وقال : يكفي أن يفعل في كلّ جزء بعدد ما في جميعه.

وأمّا أبو علي فانّه لما لم يجعل الثقل معنى ورجع به إلى ذات الجوهر أوجب

٣١٣

أن يفعل في كلّ جزء بعدد أجزاء المحمول كلّها ، فصار قوله في نفس المحمول مثل قول أبي هاشم في المعاني التي نافته.

احتجّ الأوّلون بأنّ الثقل الحاصل في جميع الأجزاء يصير كأنّه موجود في هذا الجزء الواحد لمكان الاتصال ، فإذا فعلنا في كلّ جزء عشرة أجزاء من الحركة قابل ما فيه من الثقل فلا يكون وجود التحريك والحمل أولى من أن لا يوجدا ، بل صارا كالقادرين المتساويين قدرة إذا تجاذبا حبلا فإنّه إنّما يصير إلى جهة أحدهما بزيادة فعل.

واعلم أنّ التحريك أسهل من الحمل ، ولهذا صحّ من أحدنا تحريك الحجر الكبير دون حمله لمساعدة الأرض لفاعل التحريك دون الحمل ، فيحتاج الحمل إلى زيادة. ولأنّ الحمل يوجب ضعفا في محلّ القدرة وتفريقا فلا يمكنه الاستمرار عليه.

أمّا فكّ بعض الجسم عن بعض فانّه يحتاج فيه إلى أزيد ممّا يحتاج في حمله ولهذا يمكن من حمل ما يعجز عن فكه ، لكن القدر الذي يحتاج إليه في التفكيك غير محصور بعدد.

وأمّا المتمانعان فتكفي زيادة يسيرة من جهة أحدهما في حصول الجسم في جانبه.

السادس : إذا حركنا جسما كالحجر وغيره فكلّ أجزائه تتحرك (١) ، خلافا للكعبي فإنّه قال : إذا حرك لا تتحرك إلّا الصفحة العليا منه دون ما بطن ، وذلك أنّ الكل من أجزائه يحصل في جهة سوى ما كانت فيه ، وإلّا لشوهدت الأجزاء

__________________

(١) ذهب إليه الجبائي أيضا حيث قال : «إنّ الجسم إذا تحرك ففيه من الحركات بعدد أجزاء المتحرك في كلّ جزء حركة» مقالات الإسلاميين : ٣٢٠. وخالفه الشيخ المفيد وفاقا للكعبي وغيره من المتقدّمين. أوائل المقالات : ١٢٨.

٣١٤

الباطنة ساكنة في الأوّل.

وأيضا لو لا حركة ما فيه لم تتفاوت حركة الزق المملوء هواء وزيبقا ، لأنّه في الحالين لا تحرك إلّا الصفحة العليا.

قال أبو هاشم : هذا القول يقتضي أنّ أحدنا إذا أطلي بدهن وانتقل من بلد إلى آخر أن لا يكون متحركا بل يوصف الدهن بذلك وكان لا يجد مشقة وتعبا ، وهذا ضروري البطلان ، فانّ حركة الدهن تابعة لحركته في نفسه.

والكعبي بنى ذلك على قوله : إنّ المتحرك إنّما يتحرك في مكان ، وعنده المكان ما أحاط لغيره. (١) ولا شكّ أنّ المفارق هو الصفحة العليا للهواء المحيط لها دون الأجزاء الباطنة من حيث إنّها لم تفارق ما أحاط بها ، بل هي بحالها.

والتحقيق هنا أن نقول : إن أريد بالمكان السطح الحاوي كما ذهب إليه الكعبي وأرسطو طاليس ، والحركة عبارة عن مفارقة مكان إلى مكان ، فلا شكّ أنّ الباطن ليس بمتحرك بهذا المعنى. وإن جعلنا الحركة عبارة عن مفارقة جهة إلى جهة ، فلا شكّ في أنّه متحرك.

وبالجملة فالمحوى يتحرك بحركة الحاوي بالعرض لا بالذات بالنسبة إلى المحاذيات والجهات.

السابع : قال الكعبي : القادران إذا تعاونا على حركة جسم فهما محرك واحد

__________________

(١) تصوّر الكعبي المكان بأنّه سطح خارجي للجسم ، وكان يعتقد بأنّ المكان هو السطح المحيط المباشر ، على خلاف البصريّين الذين كانوا يرون بأنّ المكان هو المحل الذي يستقر عليه الجسم ، ويقول : إنّ الحركة تغيير في المكان ، ثمّ يستنتج بأنّ السطح الخارجي للجسم المتحرّك يتحرّك فقط ، وأنّ السطح المحيط بداخل الجسم هو السطح الخارجي الذي يظلّ على حاله طوال الحركة الكليّة للجسم. ولذلك لا يتطلّب أن تتحرك جميع أجزاء المتحرك. راجع المصدر من مكدرموت : ٢٧٧.

٣١٥

وما فعلاه حركة واحدة. (١) فأداه هذا إلى امتناع اجتماع الميلين بأن منع من إيجاب فعل كلّ واحد من القادرين كون الجوهر كائنا ، وعلّق ذلك باجتماع فعلهما. فهو مخالف للمشايخ في المعنى حيث قالوا بفساده.

واعلم أنّ من جوز اجتماع الميلين قال : كلّ واحد من القادرين فعل حركة مساوية لحركة صاحبه. وأمّا القدماء فانّهم جعلوا السرعة كيفية قائمة بالحركة ، فكانت الصادرين (٢) أسرع من غيرها. (٣)

الثامن : قالت الثنوية : إنّ الأرض ليست ساكنة بل هي هابطة دائما. (٤) وهو باطل ، وإلّا لما وصل الخفيف إليها فكنا إذا رمينا سهما أو حجرا خفيفا لا يصل إلى الأرض ، لأنّها أثقل فحركتها تكون أسرع. (٥)

__________________

(١) واتّفق الشيخ لمفيد مع الكعبي وخالف البصريّين في هذه المسألة ، وقال : «هذا مذهب أبي القاسم وجماعة كثيرة من أهل النظر. وقد خالف فيه فريق من المعتزلة وجماعة من أصحاب الجهالات». أوائل المقالات : ١٢٩ (القول في الجزء الواحد هل يصحّ أن توجد فيه حركتان في وقت واحد؟).

ونقل أبو رشيد اختلاف البلخي مع أبي هاشم في هذا المجال ، وينقل كلامهما ، ثمّ يقول : «وهذا الكلام نزاع لفظي فقط. كلّ محرّك إذا كان وحده فلا يحرّك الشيء ، لذلك فانّ الحركة المولّدة واحدة». نقلا عن مارتن مكدر موت.

(٢) كذا وفي هامش ج : «الصادر عن».

(٣) وأبطله المفيد بقوله : «إنّ السرعة إنّما تكون في توالي قطع الأماكن دون القطع الواحد للمكان الواحد».

(٤) هذا مذهب بعض السمنية أيضا كما في أصول الدين للبغدادي : ٦٠ (المسألة الثانية عشرة من الأصل الثاني).

(٥) استدل البغدادي بهذا الوجه وبوجهين آخرين هما : ١. «ولو كانت للأرض حركة دورية لا حسسنا بذلك كما نحسّ بحركتها عند الزلزلة. ٢. أنّا لو جعلنا قطعة من الأرض على طبق لم تدر عليه ولو رمينا بها في الهواء لنزلت على الاستواء ولم تدر على نفسها ، فإذا كانت كلّ قطعة منها لا تدور فكيف دارت جملتها؟» المصدر نفسه : ٦٢.

٣١٦

واختلف الشيوخ في علّة سكونها (١) واتّفقوا على وجه منها ، وهو أنّ الله تعالى يسكنها حالا بعد حال قدراً يوفى على ما فيها من الثقل.

وذهب أبو هاشم إلى آخر وهو أنّ النصف الأسفل يطلب الصعود ، والأعلى الهبوط.(٢)

وقال بعضهم : إنّ الله تعالى يسكن الصفائح التي هي تحت القرار على وجه لا يخرقها ثقل ما فوقها ، لأنّ وجه الأرض لو كان ساكنا لامتنع حفر الآبار من حيث كان مراد القديم أحقّ بالوجود.

وليس بمعتمد ، لجواز أن يكون السكون الذي في وجه الأرض دون ما يقدر عليه وإن حدث حالا فحالا ، فلهذا يتأتى منا الحفر. وأيضا يجوز أن يكون سكونه باقيا ولا يثبت له حظ في المنع.

__________________

(١) وقد ذكر الأشعري آراء الشيوخ في علّة سكون الأرض ، حيث قال : «واختلفوا في وقوف الأرض ، فقال قائلون من أهل التوحيد منهم «أبو الهذيل» وغيره : إنّ الله سبحانه سكّنها وسكّن العالم وجعلها واقفة لا على شيء.

وقال قائلون : خلق الله سبحانه تحت العالم جسما صعّادا من طبعه الصعود فعمل ذلك الجسم في الصعود كعمل العالم في الهبوط فلما اعتدل ذلك وتقاوم وقف العالم ووقفت الأرض.

وقال قائلون : إنّ الله سبحانه يخلق تحت الأرض في كلّ وقت جسما ثمّ يفنيه في الوقت الثاني ويخلق في حال فنائه جسما آخر فتكون الأرض واقفة على ذلك الجسم وليس يجوز أن يهوى ذلك الجسم في حال حدوثه ولا يحتاج إلى مكان يقلّه ، لأنّ الشيء يستحيل أن يتحرك في حال حدوثه ويسكن.

وقال قائلون : إنّ الله سبحانه خلق الأرض من جسمين أحدهما ثقيل والآخر خفيف على الاعتدال وقفت الأرض لذلك». مقالات الإسلاميين : ٣٢٦ (اختلفوا في وقوف الأرض). راجع أيضا أوائل المقالات للشيخ المفيد : ٩٩ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ١١٦ ؛ شرح المواقف ٧ : ١٤٧.

(٢) قال البغدادي : «وزعم آخرون أنّ الأرض مركّبة من جسمين أحدهما منحدر والآخر مصعد فاعتدلا فيها ، فلذلك وقفت». المصدر نفسه : ٦٢.

٣١٧

وقال النظام : علّة سكونها أنّها لم تجد مكانا تتحرك فيه. وكان عنده أنّ المتحرك لا يتحرك إلّا في مكان.

وأمّا كلمات الأوائل (١) في هذا الباب فستأتي إن شاء الله تعالى.

التاسع : قال الكعبي : الأرض خفيفة ، لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) (٢) ، فأثبتت الجبال مؤثرة في وقوف الأرض فهي بأن تعيّنها على النزول أولى لو لا أنّها خفيفة.

__________________

(١) من الفلاسفة ، فذهب جماعة منهم : أفلاطون وأرسطو طاليس وبطلميوس واقليدس إلى وقوف الأرض وقال أرسطوطاليس : إنّ علّة وقوفها أنّها تطلب مركزها الذي في وسطها. وقال قوم من الفلاسفة : إنّ علّة وقوفها سرعة دوران الفلك حولها. وقال آخرون : علّة وقوفها جذب الفلك لها من كلّ جانب إلى نفسه. وقال آخرون : علّة وقوفها دفع الفلك لها عن نفسه من كلّ جانب.

وحكى أرسطو في كتاب السماء والعالم عن قوم من الفلاسفة : أنّ الفلك ساكن وأنّ الأرض هي التي تدور بما عليها من المشرق والمغرب في كلّ يوم وليلة دورة واحدة. راجع البغدادي ، أصول الدين : ٦٠ ـ ٦١ ؛ الفصل السابع والثامن من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء ؛ مناهج اليقين : ١٣٥.

(٢) الأنبياء / ٣١. وأيضا قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) النحل / ١٥ ، لقمان / ١٠.

٣١٨

المطلب الثاني

في أنواع الكون

والنظر في أمرين :

النظر الأول

ما يتعلّق بأنواعه على الوجه الكلي

وفيه مباحث

البحث الأوّل

في أعدادها

الكون جنس يندرج تحته أمور خمسة :

الأوّل : الكون المبتدأ (١) حال حدوث الجسم.

الثاني : الحركة.

الثالث : السكون.

الرابع : الاجتماع.

الخامس : الافتراق.

__________________

(١) وهو إذا وجد ابتداء لا بعد غيره ، وليس هذا إلّا في الموجود حال حدوث الجوهر. المحيط بالتكليف : ٤١.

٣١٩

والكون المبتدأ لا يخالف الحركة والسكون في جنسه ، بل هو في معناهما ، ولكن لا يسمّى حركة لأنّها الحصول الأوّل في الحيز الثاني ، ولا سكونا لأنّه الحصول الثاني في الحيز الأوّل. وحكي عن الوراق أنّه حركة ، والمحل متحرك به. وعن الأشعري أنّه سكون (١) ، والمحل ساكن به. وذهب أبو الهذيل العلاف وأبو علي وأبو القاسم الكعبي إلى أنّ ذلك المعنى غير الحركة والسكون. والتحقيق أنّه في معناهما. (٢) ثمّ رجع أبو علي عن مقالته هذه وجعله من جنس السكون وأثبت الحركة مخالفة له. والمشهور ما تقدّم من اتحاد الحقائق ، وإنّما تتغير العبارات لوقوعها على وجوه ؛ لأنّه لا حال للساكن ولا للمتحرك أزيد من كونهما كائنين في المكان الذي هما فيه ، كما نقول : الباقي لا حال له بكونه باقيا أزيد من الوجود المستمر فيجب فيما يوجب هذه الحالة أن يكون جنسا واحدا سواء سمي حركة أو سكونا أو كونا ، لأنّ تساوي المعلومات يستلزم تساوي العلل.

وأيضا إن ضادّ هذا الكون السكون (٣) وجب أن لا يصح في الكائن أن

__________________

(١) قال الطوسي : «وأمّا من قال هو السكون ، فإنّما قاله لأنّه يقول : الأكوان في الأحياز كلّها سكونات ، ويكون بعضها حركات باعتبارات أخر ؛ وذلك لأنّه قد روي عن أبي الحسن الأشعري أنّه قال : الجوهر إذا كان في مكان فالكون الذي فيه سكون. وإذا تحرك إلى مكان آخر فأوّل كونه في المكان الثاني سكونه فيه وحركته إليه». نقد المحصل : ١٥٠.

(٢) قال به أبو رشيد المعتزلي أيضا حيث قال : «اعلم أنّ الجسم في ابتداء خلق الله تعالى لا يخلو من الكون الذي من جنس الحركة والسكون ، لأنّه لو بقى صار سكونا ولو كان موجودا عقيب ضدّه على سبيل التقريب كان حركة ، إلّا أنّه لا يسمى ذلك الكون لا بحركة ولا بسكون وإن كان من جنسهما ، لأنّ معنى السكون هو أن يوجد كون عقيب ضدّه أو يبقى كون واحد وقتين ، والحركة عبارة عن كون واقع عقيب ضدّه ... وذهب الشيخ أبو هذيل إلى القول بأنّ ذلك الكون ليس من قبيل الحركات والسكنات ، بل هو جنس برأسه وهو قول الشيخ أبي علي أوّلا ، ثمّ رجع ، فقال : إنّه من جنس السكون ولا يكون من جنس الحركة». التوحيد : ١٣١. أيضا ص ٦٣ و ٧٥.

(٣) استدل أبو رشيد بوجوه ثلاثة على بطلان ما ذهب إليه أبو الهذيل من تخالف هذا الكون مع الحركة والسكون. فراجع التوحيد : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٣٢٠