نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

الوجه الأوّل : السرعة والبطء يقبلان الشدّة والضعف ولا شيء من الفصول يقبل ذلك (١) ، فلا شيء من السرعة والبطء بفصل.

وفيه نظر ، لانتقاضه بالكيف القابل لهما مع اختلاف أنواعه بالفصول.

الوجه الثاني : الجنس الواحد من الحركة المستقيمة تنقسم إلى الصاعدة والهابطة وتنقسم أيضا إلى السريعة والبطيئة وهاتان القسمتان ليستا مرتبتين حتى يكون عروض إحداهما لذلك الجنس بواسطة الأخرى ، بل هما تعرضان أوّلا لذلك الجنس ، والجنس الواحد لا يعرض له فصلان من غير ترتيب بل الفصل أحدهما ، فإذا كان الانقسام بالصعود والنزول انقساما بالفصول كان الانقسام بالسرعة والبطء انقساما بغير الفصول.

وفيه نظر ، لأنّ السرعة والبطء يقسمان مطلق الحركة ، والصعود والهبوط يقسمان نوعا منها ، ولا امتناع في ذلك إذا كان انقسام الحركة بهذين لا بالفصول.

المسألة الثالثة : في أنّ مقولية السرعة على المستديرة والمستقيمة بالاشتراك المعنوي (٢)

السريع هو الذي يقطع المثل في زمان أقلّ من زمان قطع الحركة الأخرى ، أو الذي يقطع مسافة أكثر في زمان مساو لزمان حركة الأخرى أو أقل ، وهذا القدر مشترك بين الحركة المستقيمة والمستديرة. نعم لا يمكن أن يقايس بينهما حتى يقال : إنّ إحداهما أسرع من الأخرى على ما يأتي.

__________________

(١) لعدم التشكيك في الذاتيات.

(٢) راجع الثالث من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٢٧١ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٢.

وقال في الشفاء : «قد ظنّ أنّ السرعة إذا قيلت على المستقيمة والمستديرة كانت باشتراك الاسم ، وليس كذلك ...».

٤٤١

المسألة الرابعة : في التقابل بين السرعة والبطء (١)

اعلم أنّ بين السرعة والبطء تقابلا ، لحكم العقل بامتناع الجمع بينهما بالنسبة لحركة واحدة إلى حركة واحدة ، فانّه لا يمكن أن تكون حركة أسرع من حركة وأبطأ منها مع اتحاد المسافة.

وليس هذا التقابل تقابل التضايف ، لأنّ المتضايفين متلازمان في الوجود الذهني والخارجي ، والسرعة لا تلازم البطء في واحد من الوجودين.

وفيه نظر ، لأنّ تصور السريع يستلزم تصور البطيء لأنّه عرفه بأنّه الذي يقطع المثل أو الأزيد. نعم لا يتلازمان في الخارج كالمتقدّم والمتأخّر.

وليس بينهما تقابل العدم والملكة ، لأنّه ليس جعل أحدهما عدما للآخر أولى من العكس ، لأنّ السريع والبطيء إن تساويا في الزمان كان السريع قد قطع مسافة أكثر لم يقطعها البطيء فكان البطيء مشتملا على عدم ، وإن تفاوتا في الزمان وتساويا في المسافة كانت السريعة زمانها أقلّ واشتملت البطيئة على ما لم تشتمل عليه السريعة من الزمان فاشتملت على عدم ما ، فلأحدهما نقصان المسافة وللآخر نقصان الزمان فليس جعل أحدهما عدميا والآخر وجوديا أولى من العكس.

وظاهر أنّه ليس بينهما تقابل السلب والإيجاب ، لأنّ ذلك عائد إلى القول والعقد.

فلم يبق بينهما إلّا تقابل التضاد.

وفيه نظر ، لجواز اشتمال إحداهما على أمر عدمي يكون جزءا والآخر يكون

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٢٢

٤٤٢

لازما. ولأنّهما يقبلان التفاوت بالشدة والضعف والعدم لا يقبلهما ، فهما وجوديان.

وهذه السرعة والبطء من الكيفيات المحسوسة وهذا يدل على أنّ الحركة ليست نفس الانفعال ، لأنّ الانفعال أمر نسبي والأمور النسبية لو كانت موجودة لم تكن محسوسة فلا تحل فيها الكيفية المحسوسة ، والحركة محلّ السرعة والبطء ، فليست نفس الانفعال كما توهّمه بعضهم.

المسألة الخامسة : في انحصار شدّة السرعة والبطء بين طرفين (١)

كلّ مسافة معينة محصورة بين مبدأ معيّن ومنتهى معيّن فانّه يمكن قطع تلك المسافة بحركات مختلفة السرعة والبطء.

قيل : (٢) ولا بدّ من انتهاء السرعة إلى حدّ يستحيل قطع تلك المسافة بأسرع منها وكذلك البطء ، لأنّ السرعة والبطء يقبلان الاشتداد والتنقص وكلّ ما كان كذلك فمن ضدّ إلى ضدّ والضدّان بينهما غاية الخلاف ، فلو لم توجد حركة سريعة فيما بين المبدأ والمنتهى المعينين بحيث يمتنع أن يوجد بينهما ما هو أسرع منها وكذا في جانب البطء لم تكن السرعة مضادة للبطء.

وأيضا فلو كان كلّ السرعة يمكن أن يوجد ما هو أسرع منها وقد بيّنا أن تجدد مراتب السرعة والبطء بحسب تجدد مراتب المعاوقات الخارجية والداخلية لكان كلّ زمان تحصل الحركة فانّها (٣) تحصل بسبب مقارنة أمور غريبة وهي تلك المعاوقات الداخلية والخارجية فلا تكون الحركة مستحقّة في نفسها للزمان ، وهو محال.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٢٣.

(٢) والقائل هو الرازي في المباحث.

(٣) والعبارة في المباحث هكذا : «كلّ زمان يحصل للحركة فإنّما يحصل ...».

٤٤٣

فإذن للسرعة والبطء في طرفي الاشتداد والتنقص طرفان محدودان. (١)

وفيه نظر ، فانّه لا يجب أن يكون الطرفان من نوع المسافة ، ولو كانا من نوعها لم يجب وجودهما عينا. وكيف يمكن على قواعدهم عدم التفاوت في السرعة إلى غير نهاية مع أنّ كلّ حركة فلها زمان وكلّ زمان يقبل القسمة إلى ما لا يتناهى؟ فللزمان المفروض لأسرع الحركات نصف يمكن وقوع تلك الحركة فيه فتكون أسرع ممّا فرض الغاية في السرعة.

__________________

(١) ثمّ قال : «فهذا هو الأغلب على ظني ولم أجد لهم نصا في ذلك وإن كان اللائق بأصولهم غير ذلك».

٤٤٤

النوع الثالث

التقسيم إلى المطابق وعدمه (١)

ونعني بالحركات المتطابقة التي تكون مسافاتها متطابقة. وقد عرفت أنّ السريع هو الذي يقطع من المسافة ما هو أطول في الزمان المساوي أو الذي يقطع المسافة المساوية في الزمان الأقل ، فإذا أردنا المقايسة بين الحركات في السرعة والبطء فلا بدّ من اعتبار ما فيه (٢) الحركة ، فإن أمكنت المقايسة بين المسافتين بالزيادة والنقصان أمكن ثبوت المقايسة بين الحركتين في السرعة والبطء ، وإلّا فلا.

فالحركات المكانية قد تتطابق مسافاتها بالفعل مثل خط لخط ، وارتفاع لارتفاع. وقد تكون غير متطابقة لكن يمكن وقوع التطابق فيها كالمثلث والمربع ، فانّهما لا يتطابقان ولكن يمكن وقوع التطابق فيهما بأن يقطع المثلث قطوعا وينعدم (٣) بحيث يرد (٤) إلى نظام يكون منه المربع. وقد لا يمكن فيها التطابق البتة كالمستقيم والمستدير ، فانّه يمتنع استحالة أحدهما إلى الآخر فيستحيل الانطباق ، لكن معلوم أنّ القوس لو أمكن استحالته إلى الاستقامة لكان أعظم من

__________________

(١) راجع الخامس من رابعة الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٧٦ ؛ طبيعيات النجاة : ١٣٩ (فصل في تضايف الحركات) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٤.

(٢) في النسخ : «منه» ، وما أثبتناه من الشفاء.

(٣) ق : «يتقدم». وهي ساقطة في الشفاء. وفي النجاة : «ينهدم».

(٤) في بعض نسخ الشفاء : «يؤدّى».

٤٤٥

الوتر ، فتكون هذه المقايسة وهمية. وإذا عرفت أنواع تقايس المسافات عرفت تقايس أنواع الحركات المكانية عليها.

وأمّا الحركة في الكيف فهذه المقايسة قد تكون قريبة وقد تكون بعيدة.

أمّا القريبة فالتي تتشابه مبدؤهما ومنتهاهما بأن يأخذ أحدهما من السواد الحالك إلى البياض اليقق (١) ويأخذ الآخر كذلك ، فإن تساويا زمانا أخذا ـ وتركا ـ تشابها في السرعة والبطء ، وإن تفاوتا كانت إحداهما أسرع.

وأمّا البعيدة فإن يكون الاعتبار بالضدّ مثل أن يأخذ أحدهما في السواد إلى البياض ويأخذ الآخر بالعكس أو إن أخذ أحدهما لا من السواد الطرف بل من شيء قريب منه وجب أن يكون الأمر في الجانب الآخر كذلك. وبالجملة تكون نسبة المبدأ والمنتهى في أحد الجانبين شبيهة بالجانب الآخر ، فإن تساوى زماناهما تساويا سرعة وبطءا ، وإلّا تفاوتا.

وأمّا الحركة في الكم فقد عرفت أنّ لكلّ واحد من أنواع الكائنات (٢) حدّا محدودا بالطبع في الصغر والكبر لا يتعدّاهما فالماء والهواء وغيرهما لها (٣) حدّان في التخلخل والتكاثف لا تتعداهما ، وحدّ كلّ واحد من الماء والهواء في طرفي الزيادة والنقصان مخالف بالطبع لحدّ الآخر ولمّا لم تكن بين حدّي أحدهما وحدّي الآخر مماثلة لم تكن بينهما مماثلة ومساواة ، فلا جرم لا يمكن اعتبار الزيادة والنقصان. فأمّا إذا اعتبرنا حال حديهما في مطلق الزيادة والنقصان وجدناهما مشتركين ، فللماء زيادة ونقصان وكذا الهواء والزيادات والنقصانات تشتركان في أصل مفهوم الزيادة والنقصان ، ولمّا تشابها من هذا الوجه صحّ اعتبار الزيادة والنقصان من

__________________

(١) اليقق : المتناهي في البياض. أبيض يقق : شديد البياض ناصعه. لسان العرب ، مادة يقق.

(٢) في المباحث : «الناميات».

(٣) في النسخ : «له» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٤٤٦

هذا الوجه.

وبالجملة فالحركات لا يقاس بعضها إلى بعض إلّا عند اتحاد طبائعها. فأمّا من حيث إنّها مختلفة فانّه لا تصحّ تلك المقايسة ، فطيران العصفور لا يقاس بطيران النسر باعتبار خصوصية كلّ واحد منهما بل باعتبار أصل الطيران وهو الأمر المشترك ، وكذلك صحّة العين الرّمدة لا تقاس بصحّة العين المفلوجة باعتبار خصوصية كلّ واحد منهما بل باعتبار أصل الصحّة ، ويكون ذلك مقايسة بين الحركات بحسب الحس.

٤٤٧

النوع الرابع

التقسيم إلى المتضاد وغيره

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تحقّق تضادها (١)

اعلم أنّ الحركتين إمّا أن تقعا في جنس واحد أو أجناس متغايرة مختلفة. فالثاني لا تضاد بينهما ؛ لأنّ التضاد إنّما يتحقّق بالتنافي بين الشيئين ولا منافاة بين الحركات المختلفة الأجناس ، فانّ الجسم الواحد قد يتحرك في الكيف من الحرارة إلى البرودة مثلا حال تحركه في الأين وتحركه في الكم من التخلخل إلى التكاثف وحال تحركه في الوضع ، وإذا أمكن اجتماع هذه الحركات امتنع وقوع التضاد بينها. نعم قد يمتنع اجتماعها في بعض الأوقات لأمور خارجة عن حقائقها لا لنفس ماهياتها.

وأمّا الداخلة تحت جنس واحد فانّها تتضاد ، كالتسوّد والتبيّض ، والصعود والنزول ، والتخلخل والتكاثف ، والحركة على التوالي وإلى خلافه ، إذ لا يمكن

__________________

(١) راجع أرسطو طاليس ، الطبيعة ٢ : ٥٧٥ (تضاد الحركات) ؛ السادس من رابعة الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٨٠ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ٩٣ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٥ ؛ مناهج اليقين : ٥٨ ؛ شرح حكمة العين : ٤٤٦ ؛ كشف المراد : ٢٦٩ ؛ العلّامة المصنف ، إيضاح المقاصد : ٢٨٩ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٣٦ (المقصد السابع).

٤٤٨

اجتماعهما في موضوع واحد مع اتحاد الوقت وهما أمران وجوديان وبينهما غاية الخلاف. فانّ الصعود إلى مقعر فلك القمر والنزول إلى المركز بينهما غاية الخلاف في الحركة المكانية ، فانّ الخلاف بينهما أكثر من الخلاف بين الحركة من كرة الهواء إلى كرة الماء. وكذا الخلاف بين التسود والتبيض أكثر من الخلاف بين التسود والتصفر (١) ، ولا معنى للتضاد إلّا أن يكون التقابل بين الأمور الوجودية في غاية لا مزيد عليها. والنمو والذبول قد عرفت أنّ لكلّ واحد منهما حدّا محدودا في الطبع يتوجهان إليه وبينهما غاية الخلاف فهما متضادان. وكذا المتخلخل والمتكاثف.

وأمّا المستقيمة فانّها لا تضاد المستديرة لما يأتي. (٢)

المسألة الثانية : في علّة تضادّ الحركات (٣)

قد عرفت أنّ الحركة تتعلق بأمور ستة فتضادها متعلّق بها لا غير ، فنقول : إنّ تضاد المحلّ وهو المتحرك لا مدخل له في تضاد الحركات ؛ فانّ الحجر والنار متضادان ويتحركان حركة واحدة إلى فوق أو إلى أسفل لكن أحدهما بالطبع والآخر بالقسر فالحركتان متفقتان والمتحرك مختلف ، وفي كونهما ضدّين نظر. ولو كان الاختلاف ليس إلّا بالطبع والقسر لما اختلفت حركتان قسريتان ولا طبيعيتان ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. وأيضا قد يكون المتحرك واحدا والحركتان متضادتان

__________________

(١) في شرح المواقف : «أكثر ممّا بين أحدهما وبين التصفر والتحمر وغيرهما».

(٢) في المسألة الخامسة.

(٣) راجع السادس من رابعة الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٨١ ؛ طبيعيات النجاة : ١٤٠ (فصل في تضاد الحركات) ؛ التحصيل : ٤٣٨ (الفصل الخامس عشر من المقالة الثانية من الكتاب الثاني من كتب التحصيل في الحركات المتضادة) تحقيق الشهيد مرتضى المطهري ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٦ ؛ شرح حكمة العين : ٤٤٧ ؛ إيضاح المقاصد من حكمة عين القواعد (شرح حكمة العين) : ٢٨٩ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٣٧ (المقصد الثامن) ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٣٩.

٤٤٩

كحجر رمي به إلى فوق قسرا ثمّ هبط طبعا فالحركتان متضادتان والمتحرك واحد ، فلما وجد التضاد منفكا عن تضاد المتحرك وبالعكس علم استناده إليه.

وليس علّة التضاد تضاد المحرك ، لتضادّ القوّة القسرية في الحجر والطبيعية في النار مع اتحاد حركتهما.

ولا للزمان ، لأنّه لا تضادّ فيه فلا يقتضي تضادّ غيره. ولأنّ الزمان عارض للحركة (١) فلو كان فيه تضادّ لم يوجب تضادّ الحركة ، لأنّ تضاد العارض لا يوجب تضادّ المعروض.

ولا لتضاد المسافة ، لأنّ المسافة بين السواد والبياض ، وبين الصعود والهبوط ، وبين التخلخل والتكاثف ، وبين التوالي وخلافه ، واحدة مع مضادة الحركة من السواد إلى البياض للحركة من البياض إلى السواد وكذا البواقي.

فلم يبق المقتضي إلّا تضاد ما منه وإليه.

لا يقال : مبدأ الحركة المكانية ومنتهاها نقطتان وحقيقتهما متماثلة فإن تضادا فلعارض ، وتضاد العوارض لا يوجب تضاد المعروضات فكيف ما يتعلّق بها؟

لأنّا نقول : الحركة لا تتعلّق بالنقطتين من حيث ماهيتها ولا تتعلّق بماهية المبتدأ وماهية المنتهى ، بل إنّما تتعلّق بوصف المبتدأ والمنتهى (٢) المتضادين ، فإذن التعلّق الذاتي بين هذه الحركات وبين هذه العوارض المتضادة حاصل وبسبب التعلق بهذه العوارض حصل التعلق بالمعروضات ، فإنّه لو لم يعرض لإحدى النقطتين أن كانت مبدأ لهذه الحركة وللأخرى أن كانت نهاية لها لم تتعلق بها الحركة أصلا ، وإذا كان التعلّق (٣) الذاتي لتلك الحركة بتلك العوارض المتضادة

__________________

(١) من حيث إنّ الزمان مقدار الحركة والمقدار عارض للمتقدر. إيضاح المقاصد : ٢٩٠.

(٢) أي مبدئية المبتدأ ومنتهائية المنتهى.

(٣) ق : «المتعلق».

٤٥٠

وجب من ذلك وقوع التضاد في الحركات ، كما يتضاد الجسم الحارّ والبارد لعرضيهما (١) ، لكن تعلّق الإسخان والتبريد لمّا كان أوّلا بتلك العوارض المتضادة لا جرم حصلت المضادة في تلك الأفعال فكذا هنا.

وفيه نظر ، فإنّ أجزاء الزمان وإن كانت متساوية لكن يعرض لها التقدم والتأخر وتتعلّق الحركة بهما وهما متقابلان مع عدم تقابل الحركة بسببهما. أو إن تقابلت فلم لا تتضاد بسببهما؟ ولأنّه ليس تعلّق الحركة بما منه وما إليه أعظم من تعلّق القدرة بالضدّين ، مع أنّ الشيء لا يضاد نفسه.

المسألة الثالثة : في أنّ تضادّ الحركات ليس للحصول في الأطراف بل للتوجه إليها(٢)

قد عرفت أنّ بين كلّ حركتين تضاد مبدأهما ومنتهاهما تضادا ، فنقول : ليس تضاد هاتين الحركتين للحصول في نهايتي الحركة بل للتوجه إليهما ؛ لأنّه لو كان التضاد في الحركات متعلّقا بنفس الطرفين والحصول فيهما لما حصل التضاد بين الحركات الموجودة ، والتالي باطل لما تقدّم من ثبوت التضاد بينها (٣) ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ عند حصول المتحرك في النهاية تنتهي حركته وتنقطع ولا يبقى لها وجود ، فلو كان التضاد إنّما يحصل عند الوصول إلى الغاية التي تنقطع عندها الحركة وتعدم لم يكن التضاد عارضا للموجود من الحركات بل للحركات المعدومة ، لكن لا يعقل التضاد في العدم. فإذن ليس التضاد في الحركات معللا

__________________

(١) في الشفاء : «بعرضيهما».

(٢) راجع طبيعيات النجاة : ١٤٢ (فصل في تضاد الحركات) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٧ ؛ شرح حكمة العين : ٤٤٩ ـ ٤٥٠ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٣٩.

(٣) ق : «بينهما».

٤٥١

بالحصول في الأطراف ، بل بالتوجه إليها. (١)

وفيه نظر ، فانّ الحركة إن أخذت بمعنى القطع لم تكن موجودة بالفعل فلا يكون التضاد عارضا لها. وإن أخذت بمعنى التوسط كانت آنية لا زمانية فلا يكون فيها توجّه إلى الطرف ، فلا يكون فيها تضاد لانتفاء سببه. وأيضا كما حكمنا بثبوت تقابل التضايف بين المتقدم والمتأخّر وبثبوت المعلومية وصحّة المقدورية على المعدومات ، فلم لا يعقل ثبوت التضاد فيها لا على المعنى المصطلح عليه ، بل على التقدير وثبوت اللازم وهو امتناع الاجتماع؟

المسألة الرابعة : في أنّ الحركتين الطبيعيتين المختلفتي المأخذ هل تختلفان أم لا؟(٢)

قال الشيخ في كتاب «السماء والعالم» من الشفاء (٣) : الماء إذا حصل في حيز النار أو (٤) الهواء بالقسر فإنّه يتحرك منهما (٥) إلى الوسط ولا يبلغه ، وإذا حصل في حيز الأرض بالحقيقة ـ وهو الوسط ـ تحرك عنه بالطبع ، ولا تكون تانك الحركتان متضادّتين كما ظنّه بعضهم ، لأنّهما تنتهيان إلى طرف واحد ونهاية واحدة.

وإنّما لم تجعلهما ضدّين ، لأنّ الضدّين يشترط فيهما غاية التباعد وليس حاصلا هنا لأنّ البعد بين حركة النار وحركة الأرض أكثر من البعد بين صعود

__________________

(١) قال في النجاة : «تضاد الحركات هو بتضاد الأطراف والجهات». وفي شرح حكمة العين : «والحاصل : انّ تضاد الحركات لتضاد ما منه وما إليه وهو الأطراف والجهات ، فيكون تضادها للتوجه إلى الأطراف والجهات.» ص ٤٥٠.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٢٧ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٤١.

(٣) في الفصل الثاني : ٨.

(٤) في الشفاء : «و».

(٥) في الشفاء : «بينهما».

٤٥٢

الماء عن المركز وهبوطه عن المحيط (١) وإذا انتفى شرط التضاد انتفى ، خصوصا والمطلوب بالحركتين هنا حالة واحدة وهي الكون فوق الأرض وتحت الهواء.

نعم لا شكّ في اختلافهما وامتناع اجتماعهما لذاتيهما في المحل. ولا استبعاد في صدور مثل هذين عن قوّة واحدة لاختلاف الشرائط ، لأنّ مطلوب الطبيعة كون الماء في حيزه الطبيعي فإن كان قسر بأن جعل فوقه طلب الهبوط وإن كان بأن جعل تحته طلب الصعود ، فالغاية واحدة والمأخذ مختلف ، كما أنّ الطبيعة تقتضي الحصول في الحيز المناسب لها فإن كان الجسم فيه اقتضت السكون وإن كان خارجا عنه اقتضت الحركة.

المسألة الخامسة : في عدم التضاد بين الحركات المستقيمة والمستديرة (٢)

قد عرفت فيما تقدّم (٣) أنّ الاستقامة والاستدارة لا تتضادان لعدم تعاقبهما على موضوع واحد ، فلو تضادت الحركة المستقيمة والمستديرة لم يكن ذلك بسبب الاستدارة والاستقامة فإنّ ما لا تضاد فيه كيف يوجب التضادّ لشيء آخر؟ بل إن كان فبسبب تضادّ أطراف المستقيمة المستديرة. وذلك أيضا باطل ، وإلّا لزم أن تكون للحركة الواحدة أضداد من الحركات غير متناهية ، والتالي باطل لما يأتي (٤)

__________________

(١) وعلى هذا لا يتحقّق التضاد في الحركات الأينية إلّا بين الصعود من المركز إلى المحيط ، والهبوط من المحيط إلى المركز ، إذ فيما سوى ذلك لا يتحقّق ما اعتبروه هاهنا في التضاد من غاية التباعد. شرح المقاصد ٢ : ٤٤٢.

(٢) راجع السادس من مقالة الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٨٥ ؛ طبيعيات النجاة : ١٤١ (فصل في تضاد الحركات) ؛ التحصيل : ٤٤١ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٨ ؛ مناهج اليقين : ٥٨ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٤٥.

(٣) في المجلد الأوّل ، ص ٦١٢.

(٤) وفي المباحث : «ثبت في باب الوحدة». وهو في الفصل السابع عشر منه ، الحكم الرابع : أنّ ضدّ الواحد واحد».

٤٥٣

من أنّ ضدّ الواحد واحد ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الخط المستقيم المعيّن المشار إليه الذي تقع عليه الحركة المستقيمة يمكن أن يكون وترا لقسيّ غير متشابهة لا نهاية لها بالقوة ، وتلك القسي مختلفة بالنوع فتكون للواحد بالشخص أضداد غير متناهية متخالفة بالنوع.

وفيه نظر ، فانّه لا يلزم من اختلاف القسي بالنوع اختلاف الحركات الواقعة عليها به.

وأيضا فكلّ قوس يفرض ضدا لذلك الخط فهناك قوس آخر أعظم تقعيرا منه فيكون هو أولى بالضدية ، وإذا كان لا قوس هناك في تلك القسي إلّا وهناك ما هو أبعد مخالفة منه لم يكن قوس من تلك القسي ضدا للمستقيم ، فلا يكون المستقيم ضدا لشيء منها لأنّ المضادة إنّما تتحقّق بين الطرفين.

لا يقال : المستديرات وإن كثرت إلّا أنّها مشتركة في طبيعة واحدة هي الاستدارة ، وهي من هذه الجهة تخالف المستقيمة وتضادها.

لانّا نقول : هذا محال فإنّ الاستدارة المجرّدة لا توجد في الخارج بل في الذهن ، وإنّما الموجود في الخارج منها مستدير معيّن ، وكلّ ما يوجد في الخارج منها فيوجد هناك ما هو أولى بالمضادة لكونه أبعد من الأوّل ، فإذن لا شيء ممّا يوجد في الخارج مضادا للمستقيم. وأمّا مجرّد الاستدارة فلمّا امتنع حصولها في الخارج امتنع أن يكون معاقبا للمستقيم على الموضوع الواحد فاستحال أن يكون ضدّا.

وفيه نظر ، فانّ الصاعد ضدّ الهابط وإن لم يشترط النهاية فيهما ، أي (١) المحيط والمركز فجاز في المستقيم والمستدير ذلك. ولأنّ شرط التضاد تضاد الأطراف فالمستدير والمستقيم إذا تضاد طرفاهما ثبت بينهما التضادّ.

__________________

(١) ق : «إلى».

٤٥٤

لا يقال : إنّما تضادتا باعتبار الأطراف لا باعتبار الاستقامة والاستدارة.

لأنّا نقول : مسلّم ذلك ، لكن المستقيم مخالف بالنوع للمستدير فليس الحكم على أحدهما حكما على الآخر.

المسألة السادسة : في أنّ الحركات المستديرة غير متضادة (١)

ربما توهم بعض الناس أنّ بين الحركات المستديرة تضادا ، فانّ الحركة إلى التوالي وإلى خلافه معنيان وجوديان بينهما غاية الخلاف وموضوعهما لا يمكن اجتماعهما فيه.

وهو باطل ، لإمكان اتفاق قسي غير متناهية في أطراف مشتركة. وأيضا الحركة من طرف قوس إلى طرف آخر لا تضاد الباقي منه ، لأنّ الدائرة لا يجب أن يكون فيها طرف بالفعل وإن وجد كان بعينه مبدأ ومنتهى. وقد عرفت أنّ تضاد الحركات إنّما هو بتضاد مبدئها ومنتهاها.

وأمّا الحركة إلى التوالي وخلافه فليستا ضدّين ، لأنّ كلّ واحد منهما يفعل فعل الآخر لكن في النصف الآخر من المدار ، فانّ المنحدر من السرطان إلى الجدي على التوالي تكون مسافته الأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس ، والمنحدر من السرطان إلى الجدي على خلاف التوالي تكون مسافته الجوزاء والثور والحمل والحوت والدّلو ، والصعود بالعكس ، فقد فعل كلّ منهما ما فعله الآخر لكن في النصف الآخر ، ولما كان الفلك متشابه الأجزاء تساوى النصفان في الماهية. والأطراف والنهايات أيضا متساوية فلا يكون شيء منها سببا لتضاد الحركات

__________________

(١) راجع السادس من مقالة الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٨٧ ؛ طبيعيات النجاة : ١٤١ (فصل في تضاد الحركات) ؛ التحصيل : ٤٤٢ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٨ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٤٦ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٤٢.

٤٥٥

فهي غير متضادة.

والتحقيق أن يقال : إن عنى بالضدين كلّ معنيين يمتنع اجتماعهما في المحل الواحد دفعة واحدة فالحركة المستقيمة تضاد المستديرة والمستديرات أيضا متضادة ، لامتناع اجتماعهما. وإن أريد بالضدّين منع ذلك أن يكون ما منه وما إليه أمورا موجودة بالفعل متضادة في الحقيقة فالمستقيم لا يضادّ المستدير ، وكذا المستديرات.

وفيه نظر ، فانّه لا بدّ في التضاد عندهم من التعاقب على الموضوع الواحد فعلا أو قوّة ومن غاية التباعد بينهما.

المسألة السابعة : في تضاد السكنات (١)

إنّ السكون يتعلّق بأمور أربعة ممّا تتعلق به الحركة ، ولا تعلّق له بما منه وما إليه فلا تضادّ له باعتبارهما ولا يتضادّ بتضادّ الساكن ولا المسكن ولا الزمان لما عرفت في الحركة ، فلم يبق سبب لتضاد الواقع فيه إلّا تضادّ ما فيه السكون ، مثل : أن يكون أحدهما فوق والآخر أسفل ، حتى يكون السكون في المكان الأعلى ضدا للسكون في المكان الأسفل. ولو تضاد المكانان بسبب العوارض لم يتضاد السكون ، مثل : أن يكون أحد المكانين حارا والآخر باردا ، بل لو كان الجسم مستقرا في آخر (٢) ثمّ تغيرت حاله إلى البرودة ومن السواد إلى البياض لم يتغير حال السكون.

واعترض : بأنّ السكون عندهم عدمي فلا يصحّ وصفه بالضدّية.

__________________

(١) راجع السابع من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٢٩ ؛ كشف المراد : ٢٧٢ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٥٨.

(٢) ج : «حار آخر» ، وفي المباحث : «جسم آخر» ، وفي الشفاء : «لو كان جسم يسكن فيه الجسم سكونا متصلا».

٤٥٦

النوع الخامس من التقسيم

التقسيم إلى المستديرة والمستقيمة (١)

واعلم أنّ الحركة إمّا مستقيمة أو مستديرة أو مركبة منهما كحركة العجلة والكرة المدحرجة وهي الكوكبية. فهنا مسائل :

المسألة الأولى : في أنّه هل يجب بين الحركات المستقيمة سكون أم لا؟ (٢)

اختلف الحكيمان في أنّه هل يجب أن يكون بين الحركتين المتضادتين وذات الزوايا والانعطاف سكون أم لا؟ فأوجبه أرسطو ومنعه أفلاطن. (٣)

__________________

(١) في شرح حكمة العين : «إمّا مستقيمة وهي الواقعة على خط مستقيم. وإمّا مستديرة وهي الواقعة على خط منحني لا على خط مستدير على ما قيل ، وإلّا لم ينحصر في هذه الأقسام ، لأنّ الخط المستدير في عرفهم ما يوجد في جهة تقعيره نقطة تتساوى جميع الخطوط المستقيمة الخارجة منها إليه بخلاف المنحني ، فإنّه قد يكون كذلك وقد لا يكون. ومنه يظهر أنّ الأصوب أن يقال : إمّا مستقيمة وإمّا منحنية.» شرح حكمة العين : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

(٢) راجع الثامن من رابعة الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٩٢ ؛ شرح الإشارات ٣ : ١٧٧ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ٩٤ (الفصل الرابع والعشرون) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٣٢ ؛ مناهج اليقين : ٥٨ ؛ شرح حكمة العين : ٤٥١ ؛ إيضاح المقاصد : ٢٩٠ ؛ كشف المراد : ٢٧٠ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٥٠.

(٣) وأكثر المتكلّمين من المعتزلة ، كما في شرح المواقف ٦ : ٢٥٦.

٤٥٧

وقد احتج المشّاءون عليه بوجوه :

الوجه الأوّل : الجسم إذا كان واصلا إلى غايته في الحركة وانتهى انتقاله عند غاية فانّه يصل إليها في آن ، ثمّ إذا فارق تلك الغاية وجب أن يفارقها في آن آخر لامتناع اتحاد آني الوصول والمباينة ، والآنان يستحيل تتاليهما بل لا بدّ بينهما من زمان ، فالجسم في ذلك الزمان ساكن لأنّه غير متحرك عن تلك الغاية ، وإلّا لم تكن تلك نهاية الحركة ، هذا خلف. ولا إليها لانّه واصل فيكون بالضرورة ساكنا. وهذه الحجّة في غاية الرداءة على أصلهم ؛ لأنّ الوصول وإن كان آنيا لكن المفارقة حركة لا توجد في آن بل إنّما توجد في زمان ولا يجب أن يكون طرف ذلك الزمان مشتملا على ما اشتمل عليه ذلك الزمان بل يمتنع ذلك ، فانّ طرف زمان الحركة لا يمكن أن توجد فيه حركة ، لأنّ الحركة إنّما توجد في الزمان لا في الآن ، فطرف زمان المباينة هو آن الملاقاة والاتصال ولا استحالة فيه.

الوجه الثاني : لو جاز اتصال الحركة الصاعدة بالهابطة لحدثت منهما حركة واحدة بالاتصال فتكون الحركتان المتضادتان واحدة ، وهو محال.

والجواب : المنع من استحالة الاتحاد ، فانّ المراد به اتحاد الأطراف وهو ثابت هنا. ولا استبعاد في عروض الوحدة للمتضادين فانّ السواد والبياض متضادّان وهما واحد بالحس. ولأنّ الخطين المحيطين بالزاوية لا يجب أن يكونا خطا واحدا لأجل وجود الحدّ المشترك فيهما بالفعل بل بالقوة ، فكذا الحركتان لا يجب وحدتهما لوجود الحدّ المشترك بالفعل.

الوجه الثالث : لو اتصلت الحركتان لكان غاية الصاعد العود إلى ما عنه صعد ، فيكون المهروب مقصودا من وجه واحد.

والجواب : أنّ هذا إنّما يلزم لو وجب من اتصال الحركتين وحدتهما ، فأمّا إذا لم يكن كذلك لم يلزم ما قالوه.

٤٥٨

سلّمنا ، لكنّه لا امتناع في ذلك إذا اختلف الاعتبار كحدود المسافة الواحدة وكالنقطة الواحدة في الحركة الدورية.

الوجه الرابع : لو أمكن أن يستمر التسود إلى التبيض من غير أن يقع بينهما زمان كانت القوة على التسود بعينها قوّة على التبيض ، فالأبيض إذا أخذ في التسود كانت قوّته على التسود قوّة على التبيض فتكون في الأبيض قوّة على البياض ، وهو محال.

والجواب : الجسم عند كونه طالبا للبياض لا يأخذ في التسود ، لأنّ التسود آخذ من طبيعة السواد وطلب له وذلك لا يوجد مع طلب البياض بل ذلك إنّما يوجد بعد الابيضاض وانتهاء طلبه. فلا يلزم من قول من يقول : القوّة على التسود بعينها قوّة على التبيض أن تكون في الأبيض قوّة على البياض.

سلّمنا أنّه حال كونه أبيض يأخذ في التسود حتى تكون فيه قوّة على البياض لكن لا على البياض الحاصل ، بل على بياض آخر منتظر موجود بالقوّة. على أنّا نمنع الملازمة الأولى. ولا يلزم من اتصال الحركتين وحدتهما في الماهية بحيث يكون المقتضي لإحداهما مقتضيا للأخرى.

ولما استضعف الشيخ (١) هذه الحجج سلك نهجا آخر في إثبات السكون وهو : أنّ العلّة في تحريك الجسم من حدّ إلى آخر إنّما هو الميل الطبيعي أو القسري أو الإرادي ، والشيء إذا كان محرّكا للجسم إلى حدّ فلا بدّ وأن يكون موصلا له إليه والموصل يجب وجوده عند الاتصال لوجوب وجود العلّة عند وجود المعلول ، ثمّ إذا رجع الجسم من ذلك فلذلك الرجوع علّة ، لما عرفت من استناد الحركة إلى الميل ، وتلك العلّة أيضا آنية الوجود ولا يمكن أن يكون هو الميل الأوّل ، لأنّ الميل

__________________

(١) في المصدر السابق.

٤٥٩

الواحد لا يمكن أن يكون علّة للوصول إلى حدّ معيّن وللمفارقة عنه ، فالآن الذي حدث فيه الميل الثاني لا يمكن أن يكون هو الآن الذي كان الميل الأوّل موصلا ، لامتناع أن يكون للجسم الواحد في آن واحد ميلان مختلفان يقتضيان التوجه في الآن الواحد إلى جهتين مختلفتين ، بل هو آن آخر غير الآن الأوّل ولا يمكن تعاقبهما ، فبين الآنين زمان يكون الجسم فيه ساكنا ، إذ لا ميل له عن ذلك المكان ولا إليه ، لوجوده فيه.

وهذه الحجّة مبنية على إثبات الميل وكونه آنيا وامتناع اجتماع الميلين ، وتلك مقدمات سلف البحث فيها.

وأشكل على ذلك أيضا بأنّ هذه الحجّة لا تتمشّى في الكم والكيف ، لأنّ تلك الحركات غنية عن الميول وهذه الحجّة إنّما تتم بإثبات الميل.

وأيضا لو فرضنا كرة مركبة على دولاب دائر وفوقها سطح بسيط يلقاها عند الصعود فانّها تماس ذلك السطح بنقطة ولا توجد تلك المماسة إلّا آنا واحدا ولا يحتاج إلى آن آخر تقع فيه اللامماسة ، فكذا هنا.

وأجيب بأنّ اللامماسة حاصلة في كلّ الزمان الذي طرفه آن المماسة ، فأمّا الميل الثاني فانّه يكون حدوثه في آن غير الآن الأوّل ، فلا بدّ هنا من اعتبار الآنين ولا محالة بينهما زمان.

ثمّ لو ثبت أنّ طرف زمان اللامماسة غير آن المماسة حكمنا بوجوب توقّف الدولاب عند تلك المماسة ، وأيّ مانع يمنع منه؟

ولا شكّ في أنّ هذا التجويز في غاية البعد.

احتج افلاطن (١). بوجهين :

__________________

(١) قال أفلاطن : من توهم أنّ بين حركة الحجر علوا المستكرهة بالتحليق وبين انحطاطه وقفة ، فقد أخطأ. وإنّما تضعف القوة المستكرهة له وتقوى قوة ثقله فتصغر الحركة وتخفى حركته على الطرف فيتوهم أنّه ساكن. المعتبر في الحكمة ٢ : ٩٤.

٤٦٠