نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

لأنّا نقول : سيأتي في مسألة التحسين والتقبيح أنّ الكذب الذي يدعى فيه القبح ليس هو الخبر الذي مخبره بخلافه حتى إذا أخبر عن أنه سيفعل في الغد كذا أن يتوقف كونه كذبا على أن لا يفعل وكونه صدقا على أن يفعل ، بل إذا أخبر عن مخبر وعنده أنّ الخبر بخلافه فهو الكذب ، ولذا عدّ المنافقين كاذبين مع وجود المخبر لما لم يكن عندهم أنّ المخبر على ما أخبروا به ، فقال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ). (١) إذا صحّ ذلك علم أنّ المخبر به لا يتوقف عليه كونه صدقا غير كذب خبر يصلح داعيا إلى فعل كلّ المخبر به.

لا يقال : يفعل لتحصيل الانتفاع بالخبر.

لأنّا نقول : إذا كان تتوقف المنفعة بالخبر على الفعل وكذا الفعل يتوقف على الخبر فحينئذ يتوقف أحدهما على الآخر ، وهو دور.

وأمّا من يلقي البذر في الأرض فانّه يتوقع بفعله ـ القاء البذر ـ منفعة تحصل له بذلك لولاه لما حصل. وعلى هذا التخريج نسلّم جواز خلق الله تعالى لما فيه من قبل خلق العالم. فإذا صحّ هذا الجواب صارت الطرق متمشية على أصولنا.

والجواب : أنّا وإن سلّمنا جواز أن يفعل الله تعالى لمنفعة سابقة ولاحقة لكن ذلك لا يستقيم على أصولهم ، فانّ هؤلاء المشايخ الذين قالوا بالفناء منعوا من جواز أن يفعل الله تعالى فعلا لا لمنفعة مقارنة. وقالوا : إنّ الخبر عن إيجاد الشيء لا يجوز إلّا وأن يكون ذلك المخبر يقارن وجود منفعة ، ولو لا ذلك لم يجز الخبر عنه. وإذا تعلّق حسن الخبر بحسن المخبر وكونه نافعا فلو تعلّق حسن المخبر بحسن الخبر وكونه نافعا دار. ولذلك منعوا صحّة ما روي: أنّ الله تعالى يقول عند افناء

__________________

(١) والآية هكذا : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) المنافقون / ١.

٢٢١

الخلق : لمن الملك اليوم؟ (١) إلّا أنّه لا تقارنه منفعة وإن كان يجوز أن يتقدمه بخبره عنه ، ولذلك منعوا الروايات التي فيها : أنّ الله تعالى خلق شيئا ، قبل أن يخلق عالما ملكا (٢) أو يخبره وإن كان يمكن أن تحصل به المنفعة من بعد كما أنّه لم يقارنه. وإذا صحّ ذلك من أصولهم لم يصحّ قولهم بخلق الفناء مع استحالة مقارنة المنفعة به.

وأمّا المعارضة بالفناء فالجواب من وجهين :

الأوّل : أنّه يمكن فيه حصول منفعة الاعتبار أو منفعة اللذة ، فانّ تفريق أجزاء الحي إذا كانت مع الشهوة كان لذيذا ، فيجوز أن يكون موت أجزاء الأحياء كذلك. ويجوز أيضا أن يكون ألما فيكون عقابا ولوما.

الثاني : إنّما نمنع وجوب مقارنة المنفعة على ما شرطتم أنتم ، فيكون هذا الكلام لازما لكم.

__________________

(١) غافر / ١٦. وانظر ما روي بهذه التعابير في بحار الأنوار ٦ : ٣٢٤ ـ ٣٢٦. منها ما روي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في حديث ، حيث قال : «ينادي الجبّار جلّ جلاله : «لمن الملك اليوم؟» فلا يجيبه مجيب ، فعند ذلك ينادي الجبّار جلّ جلاله مجيبا لنفسه : «لله الواحد القهّار» وأنا قهرت الخلائق كلّهم وأمتّهم ، إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا وحدي ، لا شريك لي ولا وزير» الحديث ، وفي الوقت نفسه هو خبر واحد.

وينقل المجلسي رحمه‌الله احتمالات عن المفيد رحمه‌الله لخطابه عزوجل عند فناء الخلق وأنّه تعالى كيف يخاطب المعدوم؟

ثمّ يقول : هذه الأخبار دافعة لتلك الاحتمالات ، والشبهة مندفعة بأنّ الخطاب قد يصدر من الحكيم من غير أن يكون الغرض إفهام المخاطب أو استعلام شيء ، بل لحكمة أخرى كما هو الشائع بين العرب من خطاب التلال والأماكن والمواضع لإظهار الشوق أو الحزن أو غير ذلك ، فلعلّ الحكمة هاهنا اللّطف للمتكلّفين من حيث الإخبار به قبل وقوعه ليكون ادعى لهم إلى ترك الدنيا وعدم الاغترار بملكها ودولاتها ، وإلى العلم بتفرّد الصّانع بالتدبير وغير ذلك من المصالح للمكلّفين. المصدر نفسه.

(٢) العبارة كذا.

٢٢٢

المسألة الرابعة : في حجج مثبتي الإعدام

ذهب مشايخ المعتزلة إلى (١) إمكان افناء العالم وإعدامه ، وأنّه سيقع. ثمّ ادعوا على ذلك الإجماع ولم يذكر فيه خلاف (٢) ، إلّا ما شنّع به ابن الراوندي على الجاحظ ، فانّه زعم أنّه لا يقول بافناء العالم ، وأنكره جماعة (٣) وقالوا : لو كان مذهبا له لحكاه غيره وذكره. والله أعلم بحقيقة الحال.

واستدلوا على ذلك أيضا بأنّ العالم قد ثبت أنّه ممكن وكلّ ممكن فانّه يقضي العقل بإمكان عدمه كما يقضي بإمكان وجوده. والنبي عليه‌السلام قد أخبر بوقوع عدمه فوجب أن يثبت عدمه. وبينوا أخبار الصادق بوقوعه بوجوه :

الوجه الأوّل : ما ذكره قاضي القضاة في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٤) ،

__________________

(١) في النسخ : «على» ، وهو من إقحام الناسخ.

(٢) وادّعى المصنف أيضا الإجماع على ذلك حيث قال : «وقد وقع الإجماع على الفناء وإنّما الخلاف في كيفيته» كشف المراد : ٤٠٢.

(٣) منهم الخياط حيث قال بعد هذا الإسناد : «وهذا كذب على الجاحظ عظيم ، وذلك أنّ قول الرجل إنّما يعرف بحكاية أصحابه عنه أو بكتبه ، فهل وجد هذا القول في كتاب من كتبه؟ فانّ كتب عمرو الجاحظ معروفة مشهورة في أيدي الناس. أو هل حكاه عنه أحد من أصحابه؟» الانتصار : ٢٢.

والجدير بالذكر أنّ ابن الراوندي ليس وحيدا في هذا الاسناد ، بل ذكره كثير من المتكلمين وغيرهم ، منهم : ١. البغدادي في أصول الدين : ٦٦ (المسألة الخامسة عشرة من الأصل الثاني في إجازة الفناء على العالم). ٢. الشهرستاني في الملل والنحل في ترجمة الجاحظية. ٣. الطوسي في نقد المحصل : ٢٢٢.

(٤) الحديد / ٣. قال القاضي عبد الجبار : «فأمّا الذي يدلّ من السمع على أنّه تعالى يفني الجوهر ، فوجوه. منها قوله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) المغني ١١ : ٤٣٧. المجموع في المحيط بالتكليف ٢ : ٢٨٧. واستدل فيهما بالآية الرابعة والخامسة أيضا ، فراجع. وانظر أيضا الأدلّة السمعية في كشف المراد : ٤٠٢ ؛ شرح المقاصد ٥ : ١٠٠ وما يليها.

٢٢٣

فانّ الله تعالى كما حكم بكونه أوّلا حكم بكونه آخرا ، ثمّ إنّه لما كان أوّلا في الوجود يجب أن يكون آخرا في الوجود ولا يكون كذلك إلّا بعد عدم الموجودات ، ثمّ إنّها لا تعدم بعد يوم القيامة فيجب أن يكون ذلك قبل يوم القيامة.

الوجه الثاني : قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١) ، وإعادة الخلق لا يتصور إلّا بعد عدمهم.

الوجه الثالث : قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢) ، لمّا كان مبدأ الخلق هو الاحداث عن عدم محض لحدوث العالم كذا تكون الإعادة ، لأنّه تعالى شبّه الإعادة بالابتداء وساوى بينهما فكما كان الابتداء عن العدم وجب أن تكون الإعادة أيضا عن العدم وكذا قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (٣)

الوجه الرابع : قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٤) ، والفناء هو العدم فدلّ على فناء من على الأرض.

والمعتزلة لمّا قالوا بالفناء الموجود لا في محلّ قالوا : (٥) إنّه إنّما يمكن إفناء من على الأرض بخلق فناء لا في محل ، ومتى وجد فناء لا في محلّ وجب انتفاء جميع الجواهر ، فدلت هذه الآية على فناء كلّ الجوهر ويلزم انتفاء جميع الأعراض وليس العالم إلّا الجواهر والأعراض.

الوجه الخامس : قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٦) ، والهلاك يطلق تارة على الخروج عن كونه منتفعا به وتارة على العدم. والأوّل غير ممكن الإرادة هنا ، لأنّه لا يمكن خروج العالم عن كونه منتفعا به ، لأنّه سواء بقي موجودا أو صار

__________________

(١) الروم / ٢٧.

(٢) الأنبياء / ١٠٤.

(٣) الأعراف / ٢٩.

(٤) الرحمن / ٢٦. وقال الطبرسي : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) ، أي كلّ من على الأرض من حيوان فهو هالك يفنون ويخرجون من الوجود إلى العدم. مجمع البيان ، ذيل الآية.

(٥) «قالوا» ساقطة في ق.

(٦) القصص / ٨٨.

٢٢٤

معدوما فانّه يمكن الاستدلال به على وجود الصانع تعالى وذلك من أعظم المنافع. وإذا لم يمكن حمله على المعنى الأوّل وجب حمله على الثاني وإلّا لصار مهملا ، والكلام بالمهمل قبيح على الله تعالى.

وأيضا المراد من هذه الآية تمدحه تعالى بالدوام والبقاء وعدم تطرق الهلاك والعدم إليه ، فلو كان العالم باقيا بأجزائه أو (١) بجملته لم يكن هذا التمدح مختصا به تعالى ، وهو مناف للغرض من الآية.

وأيضا الهلاك في الحقيقة إنّما هو العدم والفناء ، وإنّما اطلق على غير المنتفع به أنّه هالك بنوع من المجاز والأصل عدمه ولهذا يصدق سلب الهلاك عن الذات الباقية وإن كانت غير منتفع بها.

الوجه السادس : الإجماع دالّ على أنّ العالم يفنى ويعدم. (٢)

والاعتراض (٣) على الأوّل من وجوه : (٤)

أ. الآية دلّت على كونه آخرا على الإطلاق ولم تدل على كونه آخرا لكلّ الذوات أو لبعضها ، والاخبار نحن نعمل بموجبها ونحملها على أنّه تعالى يبقى حيا بعد موت جميع الأحياء ، وإذا عملنا في هذه الصورة بمقتضى إطلاق اللفظ سقط أصل الاستدلال.

__________________

(١) ق : «و».

(٢) قال القاضي عبد الجبار : «قد اعتمد شيوخنا في ذلك أيضا على الإجماع وأنّه لا خلاف أنّه تعالى يفني العالم ثمّ يعيده. وقد حكى عن بعض العلماء في هذا الباب الخلاف. وهذا لو صحّ لم يعترض ما ذكرناه ؛ لأنّ الحال في ذلك في الصحابة والتابعين ومن بعدهم أظهر من أن يصحّ أن يدعى فيه الخلاف ؛ لأنّ الإجماع على ذلك من الأمور العامة الفاشية الظاهرة. وإنّما يمكن أن يتأول إجماعهم على أنّ المراد به الموت دون الفناء ، وهذا لا يسوغ في الإجماع ، كما لا يسوغ في إطلاق الكتاب». المغني ١١ : ٤٤١.

(٣) على خمسة من الوجوه ، وما ذكر المصنف اعتراضا على الوجه السادس.

(٤) راجع المصدر نفسه ؛ شرح المقاصد ٥ : ١٠٢.

٢٢٥

وفيه نظر ، لأنّا قد بيّنا أنّ المراد التمدح بوجوب البقاء والدوام والتخصص به من دون غيره. ولأنّ إطلاق الآخرية إنّما يحسن لو كان عامة.

ب. جاز أن يكون المراد هو الأوّل والآخر بحسب الاستحقاق لا بحسب الزمان.

وفيه نظر ، لأنّ الأوّلية والآخرية إضافتان أخذتا بمعنى واحد والمراد في الأوّل هنا بحسب الزمان لما ثبت من حدوث العالم ، فيكون الآخر كذلك.

ج. المراد ليس بحسب الزمان في الآخر ، لأنّ على تقدير الافناء إذا أعاد الخلق وأسكنهم الجنة لا يفنيهم بعد ذلك ، فلا يكون آخرا مطلقا كما كان أوّلا. فإذن لا بدّ فيه من تأويل ، وبه حمل الأوّل على كونه مبدأ لكلّ شيء والآخر على كونه غاية لكلّ شيء.

وفيه نظر ، فانّ العالم إذا عدم فقد صدق عليه تعالى أنّه آخر ، وأمّا المعاد فذلك لا يخرجه عن كونه آخرا على الإطلاق وقت الاعدام.

د. قولكم : «الآية اقتضت كونه تعالى أوّلا في الوجود فيجب أن تقتضي كونه آخرا فيه».

قلنا : الآية تقتضي كونه أوّلا في الوجود على معنى يتحقق كونه ذاتا وحقيقة ، أو على معنى اختصاص ذاته بصفة زائدة على ذاته. إن عنيتم الأوّل ، لم يصح على قولكم إنّ ذلك يقتضي ابتداء كون غيره ذاتا ، فيلزم منه أنّ المعدوم ليس بذات ، وكونه آخرا يقتضي أن تخرج الجواهر والأعراض عن كونها ذاتا ولزم من ذلك انتفاء الحقائق بعد تحقّقها ، وهذا لا يستقيم على قولكم. وإن عنيتم الثاني ، فلا نسلّم أنّ الآية تقتضي ذلك وإنّما يصحّ أن تقتضيه لو ثبت وجود على هذا التقدير وهو أن نثبت لها صفة زائدة على كونها ذاتا.

وفيه نظر ، فانّ المفهوم المتعارف ليس إلّا الأوّل في الوجود والآخر فيه.

٢٢٦

سلّمنا ، لكن هذا المذهب باطل عندنا فلا يتمشى هذا الجواب.

ه. سلّمنا أنّ للحقائق وجودا ، لكن لم قلتم بأنّ الآية تقتضي كونه أوّلا فيه؟

قوله : «لأنّا علمنا بأنّه أوّلا (١) في الوجود بدلالة حدوث غيره».

قلنا : هذه زيادة وصف عقلي واعتراف بأن النصّ وحده لا يكفي. ثمّ نقول على هذا : إنّه كما يمكن أن يكون أوّلا في الوجود لكون وجوده غير متجدد لكان يمكن كونه أوّلا في سائر صفاته من القدرة والعلم والحياة ، فلم كان حمله على ما ذكرتم أولى من حمله على غيره؟

لا يقال : يحمل على الجميع فيندرج كونه أوّلا في الوجود.

لأنّا نقول : لم قلتم بأنّ في النصّ ما يقتضي العموم حتى يحمل على الكل؟ فانّ أدنى درجات العام أن يكون مذكورا وأنّه ليس بمذكور ، فانّ النصّ لا ينافي كونه أوّلا في وصف ما على التعيين.

وفيه نظر ، فانّ الأوّل لمّا أمكن إضافته إلى الوجود وغيره وحصلت قرينة تدل على إرادة الوجود وهو تمام الآية في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ، فوجب الحمل عليه. ولا امتناع في دلالة الآية على مقدمة ودلالة غيرها على أخرى ليتم المطلوب ، ولا تخرج الآية حينئذ عن كونها جزء الدليل وأنّ الدليل إنّما يتم بها. والصفات كونه (٢) أوّلا فيها إنّما هو باعتبار الوجود في الزمان. والعموم مفهوم من الإطلاق ، لأنّا بيّنا أنّ الآية إنّما تدل على التمدح لو دلت على العموم. ولأنّ الأوليّة إنّما تطلق إذا كان عاما وإلّا لوجب التقييد.

و. سلّمنا اقتضاء النص كونه أوّلا في الوجود ، فلم قلتم : إنّه يقتضي كونه آخرا في الوجود؟ فانّ الآخر في وصف من الأوصاف إنّما يتحقّق كونه آخرا فيه إذا

__________________

(١) كذا.

(٢) ق : «كونها».

٢٢٧

لم يتوقع حصول مثله في ذلك الوصف بعده فإنّ الحالف بعتق عبد يشتريه أخيرا إنّما يعتق من يشتريه آخر عبيده ثمّ يموت قبل شراء غيره فبعد الموت يقع اليأس من شراء عبد فيكون ما اشتراه أخيرا أخيرا. وهذا (١) غير متحقّق هنا ، لأنّ الجنّة والنار موجودان أبدا ، فكيف يتحقّق كونه تعالى آخرا في الوجود؟

وفيه نظر ، لما بيّنا من رجوع ذلك إلى أحوال الدنيا لا إلى المعاد.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم دوام الجنة والنار بالشخص فجاز انقطاعهما وفناؤهما بالشخص لا بالنوع.

ز. سلّمنا الآخرية في الوجود بأن يعدمهما ولو ساعة ، ولكن الأوّلية والآخرية قد يستفاد من هاتين اللفظتين إذا استعمل كلّ منهما مفردة أو إذا استعملا معا في ذات واحدة على الجمع؟ م ع. (٢)

بيانه : أنّه إذا قيل في الشيء : إنّه الأوّل والآخر ، فانّه يستفاد منه توحد ذلك الشيء ، كما لو جاء إنسان واحد (٣) ثمّ سئل عنه أنّه الأوّل أم الآخر؟ فقيل : هو الأوّل والآخر ، فإنّه يراد به توحده وأنّه لم يجيء سواه. وكذلك هذه الآية وردت محاجة مع المشركين على تقدير الوحدانية في إلهيته ، فقال : هو الأوّل والآخر. وقد روي عن النبي عليه‌السلام أنّه قال: لو دليتم أحدا إلى الأرض السفلى لهبط على الله تعالى ، ثمّ تلا قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ). أنّه تعالى هو الإله في السماء وفي الأرض وفيما تحت الثرى.

أو يكون المراد ما ذهب إليه بعض المفسّرين : أنّه الأوّل خالقا والآخر رازقا ،

__________________

(١) ق : «هنا».

(٢) لعلّ المراد من «م» أنّ صورة استعمال كلّ منهما مفردة ، مسلم. ومن «ع» أنّ صورة استعمالهما معا ، ممنوع.

(٣) كما إذا قيل لك : أهذا أوّل من زارك أو آخرهم؟ فتقول : هو الأوّل والآخر ، وتريد أنّه لا زائر سواه. شرح المقاصد ٥ : ١٠٢.

٢٢٨

قال : (خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ). (١)

وفيه نظر ، فإنّ المراد هنا قد بيّنا أنّه الأوّل في الوجود والآخر فيه لتقوى الحجّة على المشركين الذين أثبتوا إلهية محدثة تعدم وتفنى والله تعالى قديم أزلي باق أبدي ، وليس المراد في الحديث لو سلم الأوّل والآخر في المكان ، فلم يبق إلّا في الوجود.

والاعتراض على الثاني بوجوه :

أ. الخلق هو المخلوق (٢) ، وذلك تارة يكون بالايجاد وتارة بالاحياء ، فلم قلتم : إنّ المراد هنا الإيجاد دون الإحياء؟

__________________

(١) الروم / ٤٠.

(٢) الخلق في اللغة : التقدير بمعنى المساواة بين شيئين. وأطلق على ايجاد شيء ، على تقدير. وأطلق على الجمع ، والقطع أيضا. وقد يطلق بمعنى الكذب والافتراء ، وعليه (وتخلقون إفكا) أي تكذبون كذبا. والخلق : مصدر مخالف لسائر المصادر ، فانّ معنى جميعها التأثير القائم بالفاعل المغاير له وللمفعول ، وأمّا الخلق فهو نفس المخلوق. راجع أبي البقاء ، الكليات ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ؛ لسان العرب ٤ : ١٩٤. وقد استعمل في القرآن لفظ الخلق بمعنى المخلوق ، مثل قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) إبراهيم / ١٩. وفي دعاء لمولانا أبي إبراهيم موسى بن جعفر الصادق عليهما‌السلام مخاطبا الخالق تعالى : «لا يبيد عزك ولا تموت وأنا خلق أموت وأزول وأفنى» ابن طاوس ، مهج الدعوات ومنهج العبادات : ٢٨٤ (دعاء لسعة الرزق).

وقد وقع الخلاف ـ بما لا طائل تحته ـ بين المتكلّمين في حقيقة الخلق ، هل هو نفس المخلوق أو غيره أو لا نفسه ولا غيره بل هو صفة له؟ فذهب إلى الأوّل إبراهيم النظام والجبائي ، وإلى الثاني أبو الهذيل العلاف ومعمّر وبشر بن المعتمر وأبو موسى المردار ، وإلى الثالث هشام بن الحكم على ما حكى عنه. وكان عباد بن سليمان إذا قيل له : أتقول انّ الخلق غير المخلوق؟ قال : خطأ أن يقال ذلك ، لأنّ المخلوق عبارة عن شيء وخلق ، وكان يقول : خلق الشيء غير الشيء ولا يقول الخلق غير المخلوق ، وكان يقول : إنّ خلق الشيء قول كما يقول أبو الهذيل ولا يقول إنّ الله قال له «كن» كما كان أبو الهذيل يقول. فمن أراد التفصيل في ذلك فليراجع مقالات الإسلاميين : ٣٦٣ ـ ٣٦٥.

٢٢٩

لا يقال : الألف واللام للاستغراق.

لأنّا نقول : متى إذا كان هناك معهود أو لا؟ ع م (١) ، لكن هنا معهود وهو قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٣) ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) (٤) ، والخلق الذي يمكننا أن نراه هو الاجزاء ، وإذا ثبت أنّ المراد من الخلق الجمع صارت الآية حجّة عليهم لقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٥) فيجب أن يكون العود هو الجمع بعد التفرق. (٦) وهو الجواب عن الثالث. ولأنّ تشبيه الشيء بغيره لا يستلزم مشابهتهما في كلّ الأمور ، بل تمتنع.

وفيه نظر ، لأنّ المراد بالخلق الإيجاد ، لأنّه أبلغ في القدرة التي يريد الله تعالى وصف نفسه بها مع أنّها في غاية الكمال. ويؤيده قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). (٧)

ب. الخلق يستعمل في التركيب ، لقوله تعالى لعيسى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٨) وأراد به التركيب ، وقال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٩) أي ركبكم. ويقال فلان يخلق الإفك أي يقول الكذب ويضم بعضه إلى بعض ، فلا

__________________

(١) أي الأوّل ممنوع ، والثاني مسلم.

(٢) الروم / ٢٠.

(٣) السجدة / ٧.

(٤) العنكبوت / ١٩.

(٥) الأعراف / ٢٩.

(٦) قال أبو البركات : «ليس المراد بالخلق في قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ، (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) غير الاحياء وتأليف الأجزاء. المصدر نفسه.

(٧) الروم / ٢٧.

(٨) المائدة / ١١٠.

(٩) الروم / ٢٠.

٢٣٠

يستعمل في غيره دفعا للاشتراك.

وفيه نظر ، لأنّ الخلق هو الإيجاد في المشهور ولهذا قال تعالى : (خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً). (١) وهيئة الطير لم تكن موجودة في الطين ، وكذا تركيب الإفك.

ج. سلّمنا أنّ الخلق يستعمل في الإيجاد فيكون مشتركا ، فلا بدّ له من دليل زائد على أنّ المراد به هذا دون ذلك والدليل معنا وهو أنّه تعالى ما ذكر في القرآن بدأ الخلق إلّا وقد أراد به الجمع والتركيب ، كما في قوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٢) ، (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) (٣) ، وبدء الخلق الذي نراه هو الجمع والتركيب دون إيجاد الجواهر.

لا يقال : إنّا نحمله على معنى الإيجاد مطلقا حتى يكون وقوعه على الكل بالتواطؤ دون الاشتراك المخالف للأصل.

لأنّا نقول : الإشكال من وجهين :

الوجه الأوّل : أنّه وضع للتركيب من حيث هو تركيب فإذا استعمل في الايجاد الذي التركيب فيه كان ذلك استعمالا (٤) في غير ما وضع له من التركيب.

الوجه الثاني : سلّمنا أنّه لمطلق الإيجاد ، ولكن لم يحمل على جميع أنواع الإيجاد؟

لا يقال : فانّه أدخل فيه الألف واللام وأنّه للاستغراق.

لأنّا نقول : متى يحمل على الاستغراق؟ إذا كان هناك معهود أو إذا لم يكن؟

__________________

(١) مريم / ٩.

(٢) السجدة / ٧.

(٣) العنكبوت / ١٩.

(٤) ق : «استعماله».

٢٣١

ع م (١) ، وهنا معهود وهو ما ذكرنا من أنّه تعالى ما ذكر في القرآن بدء الخلق إلّا وأراد منه التركيب من الجواهر الموجودة.

وفيه نظر ، فإنّ تعميم القدرة إنّما يكون بإرادة الجميع. على أنّ إرادة الإيجاد على تقدير الاشتراك أولى ، لأنّه المتبادر إلى الذهن. ولأنّ القدرة فيه أتم. وقد بيّنا أنّ الآيات التي ذكروها تدلّ على الايجاد إمّا للأجزاء أصولها أو للهيئة التركيبية. ولا نسلّم أنّه وضع للتركيب من حيث هو تركيب لتبادر الايجاد إلى الفهم. وحمله على جميع أنواع الإيجاد أولى لعموم تأثيره ، وقد بيّنا أنّ الآيات المراد منها الايجاد ابتداء.

د. سلّمنا أنّه لا معهود ، لكن متى يحمل على الايجاد إذا أمكن أو إذا لم يمكن؟ م ع. (٢)

بيان التعذر : أنّه تعالى ذكر بدء الخلق بلفظ المضارع فتعذر حمله على الايجاد ، فانّ الجواهر موجودة فلو حملناه على الايجاد اقتضى إيجاد الموجود وهو محال ، فتعين حمله على الجمع بعد التفريق.

وفيه نظر ، فإنّ صيغ المضارع وردت في القرآن للفعل المطلق أو الماضي كثيرا ، كقوله تعالى : «[إنّ](اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٣) ، (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) (٤) ، إلى غير ذلك. ولأنّ الجواهر لا نسلم أنّها موجودة حالة الاخبار بذلك ، وجاز أن يتقدم الاخبار على الانزال. والتشبيه يقتضي العموم إلّا في الخصوصية.

والاعتراض على الرابع : بالمنع من كون الفناء حقيقة في العدم بل الفناء

__________________

(١) أي الأوّل ممنوع ، والثاني مسلم.

(٢) أي الأوّل مسلم ، والثاني ممنوع.

(٣) الحج / ١٤. ومثلها البقرة / ٢٥٣. وفي النسخ : «والله يفعل ما يريد» ، وفي القرآن بدون «و».

(٤) آل عمران / ٤٧. ومثلها آل عمران / ٤٠ ؛ المائدة / ١٧ ؛ إبراهيم / ٢٧ ؛ النور / ٤٥. في النسخ : «والله يخلق ما يشاء» ، وفي القرآن بدون «و».

٢٣٢

خروج الشيء عن الصفة التي ينتفع به عندها ، ولهذا يستعمل الفناء في الموت ، يقال : افناهم الحرب ، وفنا (١) زاد القوم ، والأصل في الإطلاق الحقيقة. قال الكعبي : الفناء عند أهل اللغة الموت. وإذا ثبت كون الفناء حقيقة فيما ذكرناه وجب أن لا يكون حقيقة في العدم دفعا للاشتراك.

وقيل في التفسير : معنى الآية كلّ من على وجه الأرض من الاحياء فهو ميّت. وحمله على هذا أولى ، لأنّه خصّ الفناء بمن في الأرض وتخصيص الحكم بالشيء دلالة قصر الحكم عليه عند البعض وأمارة قصره عند الكل. ولأنّ الفناء الذي ادعيتموه يكون دفعة ويستحيل أن يكون على التدريج ، وقد ذكرنا أنّ الفناء يقتضي مفهومه حصوله شيئا فشيئا وذلك ممكن فيما ذكرناه.

وفيه نظر ، فانّ مفهوم الفناء العدم وهو المتبادر إلى الذهن عند سماعه والأمثلة التي ذكروها دالّة عليه ، فانّ الحرب أعدم الحياة ، وأكل الزاد أعدم كونه مأكولا. وسمّي الموت فناء لاشتماله على عدم الحياة. وحمل الفناء على الموت مع بقاء الأجزاء نوع مجاز ، ولهذا لا يقال للميت : إنّه قد فنى إلّا إذا صار رميما. والتخصيص بالذكر ضعيف. ومفهوم الفناء لا يشتمل على التدريج.

والاعتراض على الخامس : بأنّ الهلاك خروج الشيء عن كونه منتفعا به الانتفاع المخصوص فالإنسان من حيث هو إنسان والأجسام بعد تفرقها تصير كذلك ، ليس هو أن يستدل به على إثبات الصانع بل أمور أخر. وكذلك فانّ الميت إذا بلى وتمزّق قيل : إنّه خرج عن أن ينتفع به ، وإذا كان كذلك كان معنى الآية هلاك الموت ، كما قال تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ). (٢)

وقيل في التفسير : كلّ عمل لم يرد به وجه الله فهو هالك ، أي غير مثاب

__________________

(١) كذا في ق ، وفي ج مشوشة.

(٢) النساء / ١٧٦.

٢٣٣

عليه. (١) وإذا كان كذلك سقط ما قالوه. (٢)

سلّمنا أنّ الهالك المعدوم ، لكن الآية على هذا التقدير لا يمكن اجراؤها على ظاهرها ، لأنّ وصفها بكونها هالكة يقتضي أن تكون معدومة في الحال وهو باطل اتّفاقا ، فوجب تأويلها. وأنتم حملتموه على أنّ مآلها إلى الهلاك ونحن حملناه على أنّها قابلة للهلاك ، فلم كان تأويلكم أولى من تأويلنا؟ بل تأويلنا أولى ، لأنّا لو حملناه على العدم وقد أضيف الهلاك إلى الشيء ، فإمّا أن يكون الشيء هو الذي يعدم حتى يخرج عن كونه شيئا فيلزم أن يخرج الشيء عن كونه شيئا فلا يكون المعدوم شيئا ، وهو خلاف مذهبهم. وإمّا أن لا يعدم الشيء شمل (٣) أن يعدم عنه أمر زائد نحو ما يذكرونه من الوجود الذي هو صفة زائدة على الشيء فيكون ذلك حملا (٤) للنص على المجاز وحمله على الحقيقة أولى.

وفيه نظر ، فانّ الجواهر الأفراد المتفرقة منتفع بها. وإثبات الصانع من أعظم الانتفاعات وهو الغاية في الوجود ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥). والميت هالك باعتبار عدم معظم صفاته. والعمل الذي لا يراد

__________________

(١) قال الطبرسي صاحب التفسير القيم (مجمع البيان) : «قيل : معناه كلّ شيء هالك إلّا ما أريد به وجهه ، فانّ ذلك يبقى ثوابه. عن عطا ، وابن عباس ، وعن أبي العالية والكلبي وهو اختيار الفراء وانشد :

استغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

أي إليه أوجه العمل. وعلى هذا يكون وجه الله ما وجه إليه من الأعمال. مجمع البيان ، ذيل الآية ٨٨ ، سورة القصص. وقد فسر الوجه في الروايات عن علي بن الحسين عليهما‌السلام وجعفر بن محمد عليهما‌السلام بالأئمة الاثني عشر. وشرحها العلّامة الطباطبائي في الميزان ١٩ : ١٠٣.

(٢) قال البحراني : «لا يمكن حمل الهلاك على الفناء المحض ، لما ثبت من وجوب الحشر والنشر وامتناع إعادة المعدوم بعينه ، فوجب حمله على تفرق الأجزاء وتشذبها وخروج المركب عنها عن حدّ الانتفاع به ، وصدق الهلاك على ذلك ظاهر». قواعد المرام : ١٤٩.

(٣) كذا.

(٤) ق : «عملا».

(٥) الذاريات / ٥٦.

٢٣٤

به وجه الله تعالى هالك باعتبار عدم الغاية الذاتية فيه. والهالك هو المعدوم وهو الذي سلب(١) عنه الوجود ، فإذا سلب عن الشيء ذلك صدق أنّه هالك. ولا يلزم من الإطلاق الاتصاف في الحال ، لأنّ اسم الفاعل يصلح للحال والاستقبال ، كالأفعال المضارعة (٢). وثبوت الهلاك أولى من القبول هنا ، لأنّه أدخل في المدح بالبقاء لله تعالى. ولا مجاز إذا حملنا الهلاك على سلب الوجود ، لأنّ المعدوم أيضا كذلك. على انّا نمنع صحّة هذا المذهب ، فانّ الحقّ عندنا أنّ المعدوم ليس بشيء.

المسألة الخامسة : في جواز الخرق على الأفلاك

اتّفق الملّيّون على ذلك خلافا لأكثر الفلاسفة. (٣)

لنا وجوه : (٤)

الوجه الأوّل : الأجسام ممكنة بذواتها وأجزائها وكلّ ممكن فانّه يجوز عليه

__________________

(١) ق : «يسلب».

(٢) قال العلّامة الطباطبائي في تفسيره القيم (الميزان) : «وأمّا على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك والفناء بناء على ما قيل : إنّ اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال ، فظاهر الآية أنّ كلّ شيء سيستقبله الهلاك بعد وجوده إلّا وجهه. نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الأشياء فاستقباله في الزمانيات انتهاء أمد وجودها وبطلانها بعده وفي غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كلّ جانب. وهلاك الأشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي وخلوّ النشأة الأولى عنها بانتقالها إلى النشأة الأخرى ورجوعها إلى الله واستقرارها عنده ، وأمّا البطلان المطلق بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه ، فالآيات متتابعة في أنّ كلّ شيء مرجعه إلى الله وأنّه المنتهى وإليه الرّجعى وهو الذي يبدئ الخلق ثمّ يعيده». ١٦ : ٩٢.

(٣) وخلافا للرازي في المباحث المشرقية ٢ : ٨٨ ، حيث استدل على امتناع الخرق بوجهين ، فراجع. ولكنّه في المحصل عبر عن مذهب الفلاسفة بالزعم وأحال الجواب عن أدلّتهم إلى كتبه الكلامية والحكمية. راجع نقد المحصل : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٤) راجع قواعد المرام : ١٤٨ (البحث الرابع).

٢٣٥

العدم ، فيجوز على جميع الأجسام الفلكية عدم ذواتها وصورها وصفاتها العارضة واللازمة.

الوجه الثاني : الأجسام متساوية في الجسمية فلو وجب اتصاف جسم الفلك بصفة لكان ذلك الوجوب إمّا لكونه جسما فيلزم عموم تلك الأحكام. أو لما يكون حالا فيها ، وهو إن كان لازما عاد طلب لميّة ذلك الوجوب ويلزم منه إمّا الاشتراك المذكور وإمّا التسلسل ويلزم مع ذلك الاشتراك ، أو غير لازم فلا يكون الحاصل بسببه لازما. أو لما يكون محلا له ، وهو محال لما بيّنا أوّلا من استحالة حلول الجسمية في محل. أو لما لا يكون حالا ولا محلا وهو إن كان جسما أو جسمانيا عاد السؤال ، وإن لم يكن كذلك فإمّا أن تكون الأجسام بأسرها متساوية في قبول ذلك الأثر عنه فحينئذ يصحّ على كلّ واحد منها ما يصحّ على الباقي ، أو لا تكون متساوية فيعود السؤال عن لميّة ذلك التفاوت.

الوجه الثالث : الرقة لازمة للّطافة ، والصلابة للكثافة ، والأجرام الفلكية لطيفة فهي إذن رقيقة.

اعترض بأنّ اللطيف إن عنى به الشفاف منعنا الملازمة بين اللطافة والرقة ، كالبلور والزجاج. وإن أريد سرعة الانفعال منعناه.

سلّمنا ، لكن اشتراك اللوازم لا يقتضي اشتراك الملزومات.

الوجه الرابع : الدلائل السمعية من القرآن والأحاديث النبوية دلّت على انخراقها ، وهو أمر ممكن قد أخبر الصادق بوقوعه فيحكم بوقوعه.

احتجت الفلاسفة بوجوه : (١)

__________________

(١) راجع الفصل الرابع من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء ؛ المطالب العالية ٤ : ٢٢٧ ؛ شرح المقاصد ٥ : ١٠٩.

٢٣٦

الأوّل : الجهة (١) أمر يمكن الإشارة إليه فتكون موجودة في جانب الإشارة التي وقعت إليه وليست منقسمة لما مرّ. (٢) وليست في خلاء أو ملاء متشابه من غير محدد ، وهو (٣) باطل لعدم أولوية بعض الحدود المفترضة منهما بأن تكون جهة من الآخر. فلا بدّ من محدد، وليس غير جسم لافادته ما يتعلّق بالوضع. ولا جسما واحدا من حيث هو واحد ، لأنّ اقتضاءه لتحديد الجهات لو كان لانّه واحد لم يحدد سوى القرب منه دون البعد عنه. ولا اثنين ، لأنّ اختصاص أحدهما بقدر معيّن من القرب أو البعد إلّا لامتياز لا يكون إلّا لامتياز ذلك الحيز عن سائر الأحياز بخاصية يعود الكلام فيها والاحتياج إلى علّة تلك الخاصية. فهو إذن بجسم (٤) محيط بحيث يحصل بمحيطه غاية القرب وبمركزه غاية البعد. ولا تصحّ عليه المستقيمة وإلّا لكان ذا جهتين (٥) ينتقل من إحداهما إلى الأخرى وتكونان قبله لا به فلا يكون هو المحدد ، فلا يصحّ عليه الخرق والالتئام والكون والفساد (٦) ، لأنّ الخرق والالتئام إنما يعقلان عند الحركة المستقيمة ، والكون والفساد إنّما يصحّان على ما تصحّ عليه الحركة المستقيمة ، لأنّ تكوّنه إنّما يكون في مكان غريب

__________________

(١) أنظر حقيقة الجهة وأحكامها في عيون الحكمة لابن سينا : ٢٠.

(٢) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ، ص ٤٥٠ (البحث الخامس عشر : في الجهات ـ المسألة الأولى : في تحقيق الجهة).

(٣) كذا. وقال الشيخ : «ثمّ من المحال أن يتعيّن وضع الجهة في خلاء أو ملاء متشابه ، فانّه ليس حدّ من المتشابه أولى بأن يجعل جهة مخالفة لجهة أخرى من غيره ، فيجب إذن أن يقع بشيء خارج عنه ...». وقال قطب الدين الرازي في شرح قوله : «أو ملاء متشابه» : أي ملاء لا اختلاف فيه أصلا في الواقع. راجع شرح الإشارات ٢ : ١٧٥.

(٤) ق : «مجسم» ، وهو خطأ. قال الطوسي : «فإذن محدد الجهات جسم واحد محيط بالأجسام ذوات الجهات». المصدر نفسه : ١٨٠.

(٥) ما عنه وما إليه ، حاصلتان له لا به. نقدا المحصل : ٢٢٥.

(٦) قال الطوسي : «الكون والفساد هما حدوث صورة وزوال أخرى عند تبدل الصور المختلفة بالنوع على الهيولى الواحدة». شرح الإشارات ٢ : ٢٣٥.

٢٣٧

أو ملائم ، والمكان الواحد لا يستحقه جسمان طبعا.

الثاني : (١) دلّ الرصد على أنّ الحركة السماوية دورية فلا يكون فيها مبدأ ميل مستقيم ، لأنّ المستقيم يقتضي التوجيه إلى جهة والمستدير يقتضي الصرف عنها فلا يجتمعان (٢) ، وإذا لم يكن فيه مبدأ ميل مستقيم لم يكن قابلا للحركة المستقيمة ، لأنّ كلّ متحرك لا بدّ وأن يكون فيه مبدأ ميل إلى تلك الجهة ، ولهذا يضعف الميل القسري شدة الميل الطبيعي وبالعكس ، فلو خلا جسم عن الميل وقعت حركته لا في زمان ، فالجسم الذي هو عديم الميل لا يقبل الحركة وإذا امتنع وجود الميول المستقيمة في الأفلاك امتنع قبولها للحركة المستقيمة ، فلا تقبل الخرق والالتئام.

الثالث : الزمان أزلي أبدي وهو من لواحق الحركة فيلزم وجود حركة أزلية ، وتلك الحركة يمتنع أن تكون مستقيمة ، لوجوب انتهاء كلّ مستقيمة إلى سكون لتناهي الأبعاد وعدم اتصال الحركات ذوات الزوايا والانعطاف فالحافظة للزمان في الدورية ، والحركة لا بدّ لها من حامل يمتنع عليه الخرق والالتئام وإلّا لانقطعت الحركة عند ذلك الخرق وانقطع الزمان عنده.

الرابع : لو انخرق الفلك لتحركت الأجزاء المنخرقة عند نفوذ الخارق عن مواضعها وعند خروجه إليها خروجه بالاستقامة ، لكن الحركة المستقيمة ممتنعة ، فالخرق محال.

__________________

(١) استدل ابن سينا بهذا الوجه وشرحه الرازي والطوسي ، فراجع شرحي الإشارات : ٩٥ (النمط الثاني).

(٢) هكذا استدل الشيخ ابن سينا على أنّ الجسم البسيط يستحيل أن يجتمع في طباعه ميلان مستدير ومستقيم وقال : «الجسم الذي في طباعه ميل مستدير يستحيل أن يكون في طباعه ميل مستقيم ؛ لأنّ الطبيعة الواحدة لا تقتضي توجها إلى شيء وصرفا عنه» شرح الإشارات ٢ : ٢٣٧.

٢٣٨

الخامس : ثبت ـ لا بالبناء على امتناع الخرق على الفلك ـ أنّ حركة الكواكب ليست بنفسها (١) بل بحركة الفلك ، فالفلك يتحرك على الاستدارة ففيه ميل مستدير ، فلو انخرق لخرج ذلك الجزء عن موضعه الطبيعي ، فإذا زال الخارق فإن لم يعد كان المكان الغريب مطلوبا بالطبع والطبيعي متروكا بالطبع ، أو يعود فيكون ذلك بحركة مستقيمة ففيه ميل مستقيم ففي الجسم مبدأ ميل مستقيم ومستدير ، وهو محال.

السادس : انخراق الفلك إن كان لذاته لزم خروج جميع الانقسامات التي لا نهاية لها إلى الفعل ، ولم يكن ملتئما في وقت من الأوقات. وإن كان لسبب منفصل فإن كان جسما فإمّا أن يكون بسيطا أو مركّبا ، والبسيط ليس إلّا الأفلاك والكواكب والعناصر.

أمّا الأفلاك ، فلو اقتضى جانب من الكواكب انخراق جانب من فلك آخر لاقتضى كلّ جوانبه ذلك لبساطة الفلك الفاعل والقابل.

وأمّا الكواكب ، فإمّا أن يخرق الفلك بحركتها فيه وهو باطل بالأدلّة المبنية لا على الخرق ، انّ حركة الكواكب ليست لذاته بل لحركة الفلك أو لوجه آخر ، وهو غير معقول.

وأمّا العناصر ، فالأجسام لا تؤثر إلّا بالمماسة (٢) والمماس للفلك هو النار من جميع الجوانب ، فلو اقتضت انخراق بعض جوانب الفلك لاقتضت انخراق كلّ

__________________

(١) في النسخ : «بنفسه» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٢) قال ابن سينا : «الفعل والانفعال إنّما يجري بين الأجسام التي عندنا الفاعل بعضها في بعض ، إذا كانت بينهما مماسة ، ولأجل ذلك جرت العادة بأن يخص هذا المعنى في هذا الوضع بالمماسة ، حتى إذا التقى جسمان ولم يؤثر أحدهما في الآخر لم يسم في هذا الوضع مماسة ... فالفاعل من هذه الأجسام يفعل بالمماسة». الفصل السادس من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء : ١٢٦.

٢٣٩

جوانبها.

وأمّا المركبات فانّها لا تصل إلى الفلك ، لأنّ النار تحرقها قبل وصولها إلى الفلك.

وإن كان جسمانيا ، فتلك القوة إن كانت في الجسم المنخرق فإن كانت طبيعية لزم الانخراق في كلّ الجوانب لبساطة الفلك ، وإن كانت قسرية عاد الطلب في سبب حصولها. وإن كانت في جسم آخر عاد الكلام في أنّ ذلك الجسم إمّا أن يكون فلكيا أو عنصريا. وإن كان مجردا غير جسم ولا جسماني استحال أن يختص بعض جوانب الفلك بالانخراق دون البعض إلّا لأمر اختص به ذلك الجانب ، فيعود الكلام إلى القسم الثاني.

السابع : الآلات الرصدية شاهدة ببقاء الأجرام على مقاديرها وأشكالها وحركاتها ، وأنّه لم يتطرق إليها التغير في شيء من ذلك أصلا ولو كان ذلك التغير ممكنا لوقع.

الثامن : القرآن دلّ على امتناع الخرق عليها حيث قال تعالى : (سَبْعاً شِداداً) (١) وصفها بالشدة ، فالخرق ينافيها.

والاعتراض على الأوّل من وجوه :

الأوّل : عندكم الجهة طرف الامتداد وطرف الامتداد نقطة والنقطة عدمية ، وإلّا لزم الجزء.

الثاني : لو كانت النقطة وجودية لكانت عرضا فلا يشار إليها إلّا تبعا لغيرها فتكون للمشار إليه بالذات جهة سابقة ، هذا خلف.

__________________

(١) في النسخ : «سبع شداد» والآية هكذا : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) النبأ / ١٢.

٢٤٠