نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

النوع الثاني

في الأعراض

وفيه فصول :

الفصل الأوّل

في الكون (١)

وفيه مطلبان :

__________________

(١) «Generation­. الكون بالمعنى العام هو الوجود بعد العدم ، وهو تغير دفعي ، لانّه لا وسط بين العدم والوجود ، كحدوث النور بعد الظلام دفعة. وقد قيد الحدوث بالدفعي ، لأنّه إذا كان على التدريج كان حركة لا كونا (تعريفات الجرجاني).

والكون بالمعنى الخاص هو حصول الصورة في المادة بعد أن لم تكن حاصلة فيها ، وهو عند أرسطو تحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى ، ويقابله الفساد (Corruption) ، لأنّ الفساد زوال الصورة عن المادة بعد أن كانت حاصلة.

والكون ، والثبوت ، والوجود ، والتحقق ، عند الأشاعرة ألفاظ مترادفة ، أمّا عند المعتزلة فالثبوت أعم من الوجود ، والثبوت والتحقّق عندهم مترادفان ، وكذا الكون والوجود. راجع صليبا ، المعجم الفلسفي ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

والمتكلّمون يعبرون عن الأين ـ أعني حصول الجوهر في الحيز ـ بالكون ويعترفون بوجوده ، وإن أنكروا وجود سائر الاعراض النسبية ، وقد حصروه في أربعة هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون. شرح المقاصد ٢ : ٣٩٦.

٢٦١

المطلب الأوّل

في ماهيته وأحكامه

وفيه مباحث :

البحث الأوّل

في ماهيته

اعلم أنّا إذا أردنا تحريك جسم أو تسكينه فعلنا فيه اعتمادات نحو الجذب أو الدفع فيحصل التحرّك والسكون. وهذا التحرك والسكون معلوم لكلّ عاقل لا يشكّ فيه أحد ، لكن هل نفعل شيئا آخر حتى يحصل التحرك أم لا؟

فذهب أبو هاشم وأصحابه إلى أنّه نفعل معنى زائدا نسميه حركة ، ذلك المعنى يوجب كون الجسم متحركا وانّه أمر زائد على الاعتماد وعلى التحرك. والتحرك والسكون ليسا صادرين عنا ، بل الصادر عنّا ذلك المعنى المسمى بالكون ، وذلك المعنى يوجب التحرك والسكون المعلومين عندنا.

وذهب سائر الشيوخ إلى نفي هذا الزائد وهو مذهب أبي الحسين البصري ، وهو الحقّ عندنا.

ومثبتوه رسموه بأنّه ما يوجب كون الجوهر كائنا في جهة. (١)

__________________

(١) قال أبو هاشم الجبائي : «إنّ الجوهر لا يوجد إلّا وهو متحيز ، ولا يكون متحيزا إلّا وهو كائن ، ثمّ لا يكون كائنا في جهة إلّا بكون». النيسابوري ، التوحيد : ٧٦. وقال القاضي عبد الجبار : «وفائدته (أي الكون) ما به يصير الجوهر في جهة دون جهة». المحيط بالتكليف : ٤١.

٢٦٢

وقيل : ما أوجب تخصيص الجوهر بمكان أو تقدير مكان. والكائنية ليس اختصاص الجوهر بمكان أو تقدير مكان.

والأسامي تختلف (١) عليه وإن كان الكل من هذا النوع ، فإن كان حاصلا عقيب ضده سمي حركة. وإن بقى به الجوهر كائنا في جهة أزيد من وقت واحد أو وجد عقيب مثله فهو سكون. ومتى كان مبتدأ لم يتقدمه غيره فهو كون فقط ، وهو الموجود في الجوهر حال حدوثه. فلفظة الكون إذن يقال بالاشتراك على المعنى الشامل للحركة ، والسكون ، والاجتماع ، والافتراق ، والتكون ، وعلى الكون الخاص وهو الذي يخلقه الله تعالى ابتداء في الجسم حالة حدوثه. وإن حصل بقرب هذا الجوهر جوهر آخر سمي ما فيهما مجاورة ، ومتى كان على بعد منه سمّى ما فيهما مفارقة.

__________________

(١) في النسخ : «مختلف» ، أصلحناها طبقا لعبارة «المحيط بالتكليف» ، حيث قال : «ثمّ الأسامي تختلف عليه والكلّ في الفائدة يرجع إلى هذا القبيل ، فتارة نسميه كونا مطلقا إذا وجد ابتداء لا بعد غيره ... ثمّ يصحّ أن نسميه سكونا إذا بقي ؛ وتارة يسمّى ذلك الكون تكونا ، وهو أن يحدث عقيب مثله ، أو يبقى به الجوهر في جهة واحدة وقتين فصاعدا ؛ وتارة نسميه حركة إذا حدث عقيب ضدّه أو أوجب كون الجسم كائنا في مكان بعد أن كان في غيره بلا فصل ؛ وتارة نسمّي بعضه مجاورة ومقاربة وقربا إذا كان بقرب هذا الجوهر جوهر آخر على وجه المماسة بينهما ؛ وتارة نسمّي بعضه مفارقة ومباعدة وافتراقا إذا وجد على البعد منه جوهر آخر». المصدر نفسه. راجع أيضا التوحيد : ٧٦.

هذا ، ولكن الإيجي جعل المجاورة من أقسام الافتراق ، حيث قال : «والافتراق مختلف ، فمنه قرب وبعد متفاوت ومجاورة». راجع شرح المواقف ٦ : ١٧١.

٢٦٣

البحث الثاني

في أنّ هذا المعنى ليس بثابت (١)

لنا على ذلك وجوه :

الوجه الأوّل : أنّه لو كان القادر منّا يفعل ذلك المعنى لوجب أن يعلمه إمّا إجمالا أو تفصيلا ، والتألي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ القادر هو الذي يستوي من حيث كونه قادرا أن يفعل وأن لا يفعل هذا الفعل أو ضده فلا بدّ من أن يترجح عنده اختيار أحدهما بالداعي فإذا دعاه الداعي وصار قاصدا له لا بدّ وأن يكون عالما به.

وأمّا بطلان التالي : فلأنّا نعلم من أنفسنا أنّه لا يخطر ببالنا حال التحريك والتسكين هذا المعنى الذي يثبته أبو هاشم خصوصا في حقّ العوام الذين لا يمكنهم فهمه لو تكلفنا افهامهم.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ القادر هو الذي يستوي عنده أن يفعل وأن لا يفعل ، فانّهما لو استويا عنده لم يؤثر فيهما.

__________________

(١) قال المصنف : «اختلف الإمامية في هذه المسألة ، فقال السيّد المرتضى : إنّ الحركة معنى يوجب انتقال الجسم ، والسكون معنى يوجب لبث الجسم في الحيز ، وهو مذهب أبي هاشم وأتباعه ، قالوا : وذلك المعنى هو الكون وهو يقتضي الحصول في الحيز ، والحصول يقتضي الكائنية. والمصنف (أبو إسحاق ابن نوبخت) نفى هذا المعنى ، وهو مذهب أبي الحسين وسائر النفاة.

ثمّ استدل على نفيه بوجهين ، فراجع أنوار الملكوت : ٢٥ ؛ مناهج اليقين : ٥٣.

٢٦٤

سلّمنا أنّه لا بدّ وأن يستوي الأمران عنده لكونه قادرا ، لكن نمنع المرجح ، كالعطشان والهارب والجائع ، فانّهم يختارون أحد الأمرين لا لمرجّح لفرض التساوي.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ المرجح هو الداعي ، فانّ الساهي والنائم يفعلان حالة السهو والنوم أنّه لا داعي لهما ولم يكن ذلك إلّا لوجود مرجّح آخر غير الداعي.

سلّمنا ، لكن يكفي الظن والتجويز ولا يشترط العلم.

سلّمنا ، لكن نمنع انتفاءه.

قوله : «لا يخطر ببال العوام ذلك».

قلنا : جملة أو تفصيلا؟ ع م. (١)

بيانه : أنّهم وإن لم يعلموا تفصيل ما يعلمون ولكنّهم يعملون على الجملة أنّهم يفعلون أمرا من الأمور ، وهذا علم إجمالي.

فالجواب : معنى القادر من استوى عنده الطرفان ولا يرجح أحدهما إلّا لداع ، حتى لو كان قد ترجح منه صدور الأثر إمّا لذاته أو لزائد غير الداعي سميناه موجبا ، ويحدّ القادر بأنّه الذي يصحّ منه أن يؤثر بحسب الداعي إذا لم يكن مانع. وقد ثبت القادر بالضرورة في الشاهد على الوجه الذي ذكرناه.

قوله : «لم قلتم : إنّه إذا استوى منه الأمران افتقر إلى المرجّح؟».

قلنا : لاستحالة ترجيح أحد المتساويين لا لمرجّح. وما ذكروه من الصور نمنع انتفاء المرجّح فيه ، بل يوجد فيه أدنى مرجّح ، وللطفه وقصر زمانه لا يتذكر ولو لم يحصل المرجح لتحير ووقف عن الفعل ولو دام سبب التحير دام التوقف.

__________________

(١) لعلّ المراد : إن أريد جملة فممنوع ، وإن أريد تفصيلا فمسلّم.

٢٦٥

ثمّ المرجّح قد يكون حقيقيا وقد يكون خياليا.

قوله : «المرجّح غير الداعي».

قلنا : كلّ مؤثر يستند ترجيح أثره إلى غير الداعي فانّه موجب وبهذا نفرق بين القادر والموجب.

قوله : «لم لا يكفي الظن؟»

قلنا : ظن المصلحة في الفعل يستدعي تصوّر حقيقة الفعل والمصلحة ، والظن لا يدخل في التصور ، بل إذا تصور الطرفان أمكن دخول الظن في النسبة. ولأنّا قد نحرك الأشياء ولا يكون لنا علم ولا ظن بل ولا تجويز لشيء آخر غير الاعتماد وغير التحريك ، ولكن نكون معتقدين لانتفائه ، فكيف يتصور لنا ظن أو تجويز لشيء نعتقد نفيه؟

قوله : «ليس لنا علم ، إجمالي أو تفصيلي؟».

قلنا : كلاهما.

قوله : «نحن نعلم أنّا فعلنا أمرا».

قلنا : نعم الاعتماد والتحريك ، أمّا غيرهما فلا.

الوجه الثاني : وهو يدلّ على نفي المعنى على الوجه الذي ذهب إليه أبو هاشم من أنّه يستحيل أن يوجد في الجسم إلّا وهو في الجهة التي يوجب كونه كائنا فيها ، وهو أنّ توقّف حصول الكائنية في الحيز على المعنى الذي لا يوجد في الحيز إلّا وهو في الجهة التي يوجب كونه كائنا فيها يؤدي إلى احتياج كلّ واحد منهما إلى نفسه ، وهو محال.

بيان الأوّل : أنّ المعنى الذي يوجب كون الجسم كائنا في الجهة إذا لم يتصور حصوله إلّا في الجسم الموصوف بصفة كونه كائنا في الجهة الثانية فقد احتاج في

٢٦٦

وجوده إلى كون الجسم كائنا في الجهة الثانية حسب احتياج المشروط إلى الشرط ، فإذا كان كونه كائنا في الجهة الثانية معلول هذا الكون فقد احتاج إلى هذا الكون حسب احتياج المعلول إلى العلّة ، فكان كل من الكون والكائنية محتاجا إلى الآخر ، فيلزم احتياج الشيء إلى نفسه.

فإن قيل : اقتصرتم في إبطال المعنى بإبطال أحد قسميه ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، فجاز أن يوجد في الجسم وهو في الجهة الأولى كما يعرض له عندكم.

ثمّ نقول : قولكم «فإن توقف حصول الكائنية بالكون يؤدي إلى احتياج الشيء إلى نفسه.» إن عنيتم بذلك أنّهما يوجدان معا في زمان واحد ، فلا نسلم امتناعه بل هو شرط تحقّق العلّية ؛ فانّ العلّة التامة إذا وجدت قارنها معلولها ، والسواد إذا طرأ على محلّ البياض فانّه ينفي البياض ، مع أنّ طريان السواد على محلّ البياض وزوال البياض متقارنان.

سلّمنا الزيادة على التقارن ، لكن لا نسلّم استحالة هذا الاحتياج ؛ فانّ الجسم محتاج إلى الكون حاجة المشروط إلى الشرط والكون يحتاج إلى الجسم حاجة المعلول إلى العلّة.

سلّمنا ، لكن كلّ منهما يحتاج إلى الآخر لا على سبيل التعين ، فإنّ كونه كائنا في الجهة الثانية يحتاج إلى كون ما لا بعينه حتى لو لم يكن هذا الكون قام كون آخر مقامه ، فلم يحتج إليه على التعيين.

ثمّ ما ذكرتم في إبطال الموجب ثابت في القادر ، فانّا نقول : إنّ القادر لا يقدر على تحصيله في الجهة الثانية إلّا بشرط أن يخرجه من الجهة الأولى ، ولا يخرجه من الجهة الأولى إلّا بشرط أن يحصله في الجهة الثانية ، فاحتاج في فعل كلّ منهما إلى الآخر.

٢٦٧

والجواب قوله : «لم اقتصرتم في إبطال الكون معنى موجبا على أحد قسميه؟».

قلنا : لأنّ هذا القسم هو المختلف فيه ، وما عداه مجمع على بطلانه.

قوله : «يعنون اقترانهما في زمان واحد».

قلنا : نعني معنى آخر زائد على التقارن في الزمان ، فانّا لو قدّرنا حصول الحياة والعلم وصفة العالمية ـ التي هي موجبة العلم عندهم ـ تقارنه في الزمان فانّا نعقل أمرا زائدا في حاجة العلم إلى الحياة ليست تلك الحاجة للعلم إلى معلوله الذي هو صفة العالمية وإن اشترك الكلّ في حصولها في زمان واحد ، حتى لو قدّرنا هذه الكائنية معللة بعلّة أخرى غير هذا الكون فما دلّ من الدليل الدال على حاجة هذا الكون إليه يقتضي أن لا يوجد الكون بدونها ، وإن لم يكن معلولا لها على هذا التقدير ، وهو الذي أردناه بقولنا : إنّ الكون محتاج في وجوده إلى كون محلّه كائنا في الجهة الثانية ، لأنّه كما استحال أن يوجد هذا الكون لا في محل ، لأنّه لا يكون له اختصاص بجسم دون جسم ، استحال أيضا أن يوجد فيه وهو في الجهة الأولى ، لأنّهم زعموا أنّه حينئذ لا يكون له اختصاص بجهة دون أخرى ، فإمّا أن يوجب حصوله في الجهات السبب أو لا يوجب حصوله في شيء من الجهات ، وإن استحال أن يوجد فيه إلّا وهو في الجهة الثانية صحّ ما ادّعيناه أنّ الكون على هذا التقدير يحتاج إلى كون الجسم كائنا في الجهة الثانية ؛ بخلاف السواد وزوال البياض ، فانّ ذلك مجرّد اقتران في الزمان بخلاف احتياج الكون إلى الكائنية في الجهة الثانية فانّه ليس بمجرّد التقارن.

قوله : «يبطل بالجسم مع الكون».

قلنا : الجسم يقتضي وجوب كونه كائنا في جهة ما والمقتضي إذا حصل وجب أن يقارنه مقتضاه ، ولهذا لم يتصور وجود الجسم إلّا مع الكون.

٢٦٨

ولا نسلم أنّ الجسم يحتاج في وجوده إلى الكون وإلى الكائنية. وكون الجسم يستحيل وجوده بدون كونه كائنا لا يقتضي احتياج الجسم إلى الكون ، فانّ العلّة يستحيل وجودها بدون وجود المعلول.

قوله : «متى يستحيل إذا احتاج إليه على التعيين ، أو لا على التعيين؟».

قلنا : سواء احتاج إليه على التعيين أو لا ؛ لأنّه إذا احتاج في كونه كائنا إلى كون ما ، لكن ذلك الكون إذا استحال حصوله إلّا في الجسم الموصوف بكونه كائنا في الجهة الثانية وكونه كائنا في الجهة الثانية معلول ذلك الكون ، فيلزم حاجة الشيء إلى نفسه.

ولا نسلّم أنّ القادر محتاج في تكوينه في الجهة الثانية إلى زوال كونه في الجهة الأولى.

الوجه الثالث : (١) ذلك المعنى الذي يوجب حصوله في ذلك الحيز إمّا أن يصحّ وجوده قبل حصوله في ذلك الحيز أو لا ، فإن صحّ فإمّا أن يقتضي اندفاع ذلك الجوهر إلى ذلك الحيز أو لا ، فإن كان الأوّل كان ذلك هو الاعتماد ولا نزاع فيه ، وإن كان الثاني لم يكن بأن يحصل بسبب ذلك المعنى في حيز أولى من حصوله في غيره. اللهم إلّا بسبب منفصل ، ثمّ يعود الكلام الأوّل فيه. وأمّا إن لم يصحّ وجوده إلّا بعد حصول الجوهر في ذلك الحيز كان وجوده متوقفا على حصول الجوهر فيه ، فلو كان حصول الجوهر فيه محتاجا إلى ذلك المعنى لزم الدور.

احتج أبو هاشم بوجوه : (٢)

__________________

(١) أنظره في نقد المحصل : ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢) راجع المصدر نفسه ، وقال الطوسي بعد ذكر الوجوه : «وضعف هذه الحجج غنيّ عن الشرح». راجع أيضا : أنوار الملكوت : ٢٦ ؛ المحيط بالتكليف : ٤١ ؛ التوحيد للنيسابوري : ٣٠ و ٤٤ ؛ نهاية العقول (الفصل التاسع في : العلّة والمعلول) ؛ مناهج اليقين : ٥٣.

٢٦٩

الوجه الأوّل : لو قدرنا على جعل الجسم كائنا من غير واسطة معنى لقدرنا على ذات الجسم وسائر صفاته كالحياة والقدرة والسواد والبياض وغير ذلك ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : وجهان :

الأوّل : القادر إذا قدر على أن يجعل الذات على بعض الصفات فقد صارت الذات مقدورة له يتصرف فيها كيف شاء.

الثاني : القياس على الكلام ، فانّ من قدر على أن يجعل الكلام على صفة الخبر والأمر قدر على ذاته ، ولمّا لم يقدر على كلام غيره لم يقدر على جعله على صفة الخبر (١) ، ولا علة لذلك إلّا كونه قادرا على بعض صفاته.

والاعتراض : لا نسلّم أنّ من قدر على بعض الصفات قدر على الذات وباقي الصفات.

وما تعنون بصيرورة الذات مقدورة؟ إن عنيتم انّها صارت مقدورة من هذه الجهة كان ذلك إلزاما للشيء بنفسه ، ويصير بمنزلة قولكم : من قدر على الشيء على أن يجعله على بعض الصفات قدر على ذلك الشيء أن يجعله على بعض الصفات. (٢) وإن عنيتم انّه تصير مقدورة من جميع الجهات ثم ألزمتم من ذلك أن يقدر على جميع الصفات ، كنتم قد عللتم الشيء بنفسه ، ثمّ نطالبكم بالدلالة عليه.

سلّمنا ، لكن لم قلتم : إنّ كون الجسم كائنا صفة وليس بذات؟

لا يقال : إذا سلمتم كونه ذاتا سلمتم المسألة ؛ لأنّا لا نعني بالكون إلّا ذاتا

__________________

(١) والعبارة في نهاية العقول هكذا : «ولما لم نقدر على جعل كلام غيرنا خبرا لم نقدر على ذات الكلام».

(٢) أي صار الموضوع والمحمول واحدا.

٢٧٠

ومقدورا للقادر ويوجد بالفاعل.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّه تسليم للمسألة ، فانّكم تثبتون الكون معنى موجبا لكون الجسم كائنا ، ونحن على هذا التقدير لا نسلّم لكم إلّا كونه كائنا من غير أن يكون موجبا لشيء أو موجبا عن شيء ، ولو سلم إطلاق اسم الذات عليه لكن هذا القدر لا يثبت لكم إثبات المعنى الموجب لكون الجسم كائنا.

لا يقال : لو كانت ذاتا لقبلت الاتصاف بالصفات.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّها لا تقبل الصفات ، فانّها توصف بالحسن والقبح وبكونها ثابتة للجسم. ولا نسلم أنّه ليس في الذوات ما يساوي الصفات في عدم قبول الصفات.

والقياس على الكلام باطل ، فانّا لا نسلّم أنّ الكلام ـ الذي هو الأصل (١) ـ ذات يصحّ أن يحدث على ما زعمتم أنّ الذات إذا حدثت ثبتت له صفة الوجود ، بخلاف الصفة إذا تجددت فانّه لا تثبت لها صفة الوجود.

لا يقال : الدليل لا يفتقر إلى أن يثبت للصوت معنى وذاتا ؛ لأنّ لنا أن نقول : إن كان الصوت صفة فانّه لا يقدر على جعله على حكم الخبر إلّا من قدر على تجديده ، والعلّة في ذلك انّه قدر على تجديد الأصل فلذلك قدر على تجديد الفرع. ولأنّه لو كان صفة فإمّا للذات وهو محال ، وإلّا لم يتجدد بحسب أحوال الفاعل ، ولو وجب اشتراك الأجسام كلّها فيها فسمع جميعها (٢) ، وإمّا للفاعل فكان لم يجز أن يتناول الإدراك للذات عليها ، لأنّ الإدراك يتناول الشيء على

__________________

(١) هكذا عبّر عنه النيسابوري ، حيث قال : «والأصل المردود إليه دلالتنا كلام الغير ...» التوحيد : ٣١.

(٢) لأنّ الصوت لو كان جسما لوجب أن يكون مثلا لسائر الأجسام ، لأنّ الأجسام كلّها متماثلة ، ولو كانت كذلك لوجب أن تكون الأجسام كلها مسموعة ، لأنّ تماثلها يقتضي اشتراكها في الصفة الأخص التي فيها الخلاف والوفاق. راجع المصدر نفسه : ٤٢.

٢٧١

أخص صفاته ، لأنّه طريق إلى تمييز الأجناس بعضها من بعض ، فلو تناول ما لا تتميز الأجناس به لم يكن طريقا إلى تميزها.

لأنّا نقول :

أمّا الأوّل : فباطل ، لأنّ شرط القياس وردّ الفرع إلى الأصل في الحكم المساواة في إثبات الحكم ، وإذا كان الحكم المطلوب في الفرع غير الحكم الثابت في الأصل لم يمكن ردّ ذلك إليه. ومن قدر أن يثبت حكما فيخبر فلو قدر على نفس الخبر الذي هو صفة لا يلزم فيمن قدر أن يجعل الذات على صفة أن يقدر على إحداث الذات قياسا عليه ، فإنّ إثبات الصفة غير إمكان إحداث الذات ، خصوصا على قولكم القدرة لا تتعلق على تجدد الصفة ، فانّ القادر لا يتعدى طريقه الاحداث وإنّما يتعلّق بالاحداث ، فإذا اختلف المتعلّق جاز أن يختلف ما يتعلّق به.

وأمّا الثاني : فانّا لا نسلم أنّه لو كانت صفة وكانت بالفاعل لم يصحّ أن يتعلق الإدراك به.

قولكم : «الإدراك يتعلق بأخص الصفات ليكون طريقا إلى التمييز».

قلنا : إن كان شرط (١) تمييز الشيء بالإدراك أن يتعلّق بأخص صفاته على هذا التفسير ، فبينوا أوّلا أنّه ليس بالفاعل حتى يكون طريقا إلى تمييزه. فلم قلتم بأنّه يلزم أن يكون الإدراك يتعلّق بأخص صفاته حتى يكون طريقا إلى تمييزه؟

سلّمنا أنّ الصوت ذات ، لكن قياس الفرع على الأصل لأجل إثبات ما ثبت في الأصل في الفرع للعلّة الجامعة يقتضي كون الحكم في الأصل معلوما بالعلّة التي بها ثبت الحكم ، وأن تعلم العلّة في الفرع حتى يمكن تعدية الحكم إليه ، وكلّ ذلك

__________________

(١) ق : «من» بدل «شرط».

٢٧٢

غير معلوم عندكم ، فإنّ كلّ هذه صفات ، فإنّ كون الكلام خبرا وحدوثه صفة وكون الجسم كائنا صفة وما يلزم من ذلك وهو القدرة على إحداث الذات أو إثبات سائر الصفات كلّها صفات ، فإذا لم تكن الصفة معلومة عندكم لم يعلم الدليل فكيف يعلم المدلول؟

لا يقال : الصفة وإن لم تكن معلومة لكن الذات مع الصفة تكون معلومة. (١)

لأنّا نقول : «قولكم الذات مع الصفة مجمل» ونحن نقسم فصول الدليل الدالّ على الحكم ، إمّا أن يكون هو الذات وحده وليست بدليل ، لأنّه ليس هو الذي يتحدد بالفاعل عندكم. وإمّا الصفة وحدها وليست معلومة عندكم خصوصا من يجعل الصفة ليست زائدة على الذات. وإمّا المجموع ويلزم منه أن تكون الصفة معلومة ، لأنّ العلم بالمركّب يستلزم كون كلّ جزء من أجزائه معلوما.

سلّمنا ، لكن نمنع ثبوت الحكم في الأصل ، فانّا نمنع أنّ كون الكلام خبرا أو أمرا صفة راجعة إلى الكلام حتى يصحّ أن يقال : إنّ قدرتنا على صفة الكلام توجب قدرتنا على أصل الكلام ؛ فانّ الخبرية والأمرية وغيرهما لو كانت صفات ، لم تعلم لكلّ واحد من آحاد الحروف ، ولا لواحد منها ، وإلّا لكان الحرف الواحد خبرا أو أمرا أو نهيا ، وهو محال. ولا لمجموع الحروف ، وإلّا لزم انقسام الخبرية والأمرية (٢) ، ولأنّه لا وجود لمجموع الحروف.

لا يقال : صيغة الخبر في الصدق والكذب واحدة ، وإذا كان صدقا تعلّق به المدح ، وإذا كان كذبا تعلّق به الذم ، فدلّ على الزائد.

لأنّا نقول : جاز أن يرجع بذلك إلى مجرّد إيقاع الصيغة لغرض مخصوص ،

__________________

(١) هذا هو الاعتراض المشهور عندهم. مناهج اليقين : ٥٥.

(٢) لانقسام المحل. مناهج اليقين : ٥٥.

٢٧٣

ويكون لأجل اختلاف الغرض والدواعي تختلف الأحكام.

سلّمنا أنّ الخبرية وجه يقع عليه الخبر ، لكن لم قلتم : إنّه يثبت بالقادر ، فانّ القادر لا يتعدى طريقه الاحداث وصفة الخبر غير صفة الحدوث؟

سلّمنا أنّه يثبت بالقادر ولكن ابتداء أو بواسطة؟ ع م. (١)

بيانه : أنّ كونه خبرا وإن كان يثبت بالقادر لكن بواسطة كونه مريدا ، ومن قدر على بعض الإرادات قدر على الجميع فلذلك وجب فيمن قدر أن يجعل الكلام على صفة كونه خبرا عن زيد أن يقدر على أن يجعله خبرا عن غيره ، لأنّ ذلك يحصل باقتران الإرادة وأي إرادة قرنها به صار على صفة أخرى ، بخلاف المتنازع من كون الجسم كائنا وكونه على سائر الصفات فإنّ ذلك لا يثبت بالإرادة حتى إذا رام كونه على تلك الصفة لا يحصل ذلك بإرادته ، ولو لزم ذلك فيمن يثبت للذات صفة بواسطة أن يقدر على تلك الذات للزم إذا تجدد له صفة كونه مدركا أو كونه مريدا بأي صفة كان أن تصير ذاته تعالى مقدورة.

سلّمنا أنّه يقدر على ذلك بدون واسطة ، لكن لا نسلّم أنّه يمكن أن يجعل القدرة على أحد الأمرين علّة للقدرة على الآخر ، فانّه لا يخلو إمّا أن تكون القدرة على جعله خبرا هي القدرة على الذات وعلى سائر الصفات أو غيرها ، فإن كان الأوّل وهو الأقرب لمذهبهم أنّ القدرة تتعلّق بالضدّين ، فنقول : كيف يمكن أن يجعل تعلّق القدرة على أحدهما علّة للتعلّق على الآخر ، فانّه ليس أولى من العكس؟ وكذا إن كان الثاني ، فانّه كيف يمكن جعل إحدى القدرتين علّة لوجود التأثير؟

سلّمنا أنّه يمكن جعل أحدهما علّة ، لكن لم قلتم : إنّ صحّة اقتدارنا على

__________________

(١) لعلّ المراد من ع انّ الأول (ابتداء) ممنوع ، ومن م أنّ الثاني (بواسطة) مسلم.

٢٧٤

صفة الكلام علّة اقتدارنا على ذات الكلام؟ بل الأمر بالعكس ، فانّ الذات أصل للصفات فجعل الاقتدار على الأصل علّة الاقتدار على الفرع.

سلّمنا ، لكن ما دليل ثبوت هذه العلّة.

قوله : «متى قدرنا على جعله خبرا قدرنا على ذاته وإذا لم نقدر على جعله خبرا لم نقدر على ذاته».

قلنا : الدوران لا يدل على العلية ، فانّه يجوز أن يقترن مع الشيء الذي دار معه الحكم أمر آخر هو العلّة.

أجابوا بأمور أربعة :

الأوّل : أنّه لا طريق إلى ذلك المقارن فوجب نفيه.

الثاني : أنّا متى علمنا هذا الشيء علمنا هذا الحكم وإن لم نعلم شيئا آخر ، ولو لم نعلم هذا الشيء لم نعلم الحكم وإن علمنا شيئا آخر.

الثالث : أنّه لو جاز ذلك جاز اسناد التحرك إلى غير الحركة وإن كانت تدور معها وجودا وعدما وذلك يقدح في باب التعليل ويفتح باب الشكّ في العلل والمعلولات.

الرابع : أنّ ذلك المقارن إن أمكن انفكاكه عن هذا الشيء ، أو أمكن انفكاك هذا الشيء عن ذلك المقارن لم يكن الحكم دائرا معه وجودا وعدما ، وإن لم يمكن انفكاك المقارن عن الشيء ولا انفكاك هذا الشيء عن المقارن فحيث حصل ذلك الشيء حصل ذلك المقارن علّة لذلك الحكم ، وذلك يفيد ما هو المطلوب.

والاعتراض من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل.

أمّا الإجمال فلوجوه :

الأوّل : تعليل الحكم بعلتين مختلفتين إن لم يكن جائزا كان الانعكاس في

٢٧٥

العلل واجبا وإذا كان كذلك دار المعلول مع العلّة والعلّة مع المعلول وجودا وعدما ، فلم يكن جعل أحدهما علّة أولى من العكس. وإن جاز لم يكن الانعكاس في العلل واجبا ، فلا يمكن توقيف معرفة علّية العلّة بالطرد والعكس.

الثاني : الحكم كما يدور مع العلّة كذا يدور مع الشرط وليس بعلّة.

الثالث : يجوز أن يكون حكمان لعلّة واحدة فيتلازمان وجودا وعدما ، فلا يكون أحدهما علّة.

وأمّا التفصيل :

فقوله في المقارن : «لا دليل عليه فيجب نفيه» ، سيأتي بطلانه.

قوله : «متى علمنا هذه الوجوه علمنا هذا الحكم وإن لم نعلم شيئا آخر ، ومتى لم نعلم هذه الوجوه لم نعلم الحكم وإن علمنا سائر الأشياء».

قلنا : يبطل بالأمور العادية ، فانّ كثيرا من العاديات نعلمها عند ما نعلم شيئا آخر وإذا لم نعلمه لم نعلم ذلك ، كما إذا علمنا تغير الفصول من الصيف إلى الشتاء علمنا تغير الهواء ، ونعلم الشبع الذي عند تناول الطعام والشراب. والإضافتان متى علم إحداهما علمت الأخرى وليس البعض علّة للبعض.

قوله : «إذا علمنا أشياء أخر لم نعلم الحكم».

قلنا : لأنّا لا نعلم كونها عللا وتجويز اسناد المحركية إلى غير الحركة لازم على القائلين بالمعاني مع الفرق فإنّا نعني فإنّا نعني بالحركة الشيء الذي تلزمه المتحركية. فإن قلتم بأنّه تحصل المتحركية بدون الحركة فكأنّكم قلتم : إنّه يكون المؤثر في المتحركية غير المؤثر في المحركية ، وهو محال.

قوله : «المقارن مع الشيء إمّا أن يتلازما أو لا».

٢٧٦

قلنا : يتلازمان كالعاديّات ، أو إن كان تلازمهما حقيقيا ، لكنّه يقتصر على محل الأصل دون سائر المحالّ بأن يكون ذلك المقارن الذي هو العلّة هو ما به امتاز الأصل عن الفرع ، أو يكون جزءا منها فلا يتعدى الحكم محل الأصل ، أو يكون ذلك المقارن مع ذلك الشيء معلولي علّة واحدة ، فانّهما يتلازمان إذا صدرا عن تلك العلّة ، فإذا كان علّة أخرى جاز أن يصدر عنها أحدهما دون الآخر فيوجد ذلك الوصف الذي هو العلة بدون ذلك الشيء فيثبت ذلك الحكم ويوجد هذا الشيء بدون ذلك الوصف ، فلا يميز ذلك الحكم.

سلّمنا دلالة الدوران على العلية ، لكن ثبوته ممنوع.

قوله : «إذا لم يقدر على جعل كلام غيره خبرا لم يقدر على إيجاده».

قلنا : لم قلتم : إنّه لا يحدث شيء آخر بحال الحكم عليه؟

بيانه : أنّ كلام غيرنا مقدور غيرنا فلا يكون مقدورا لنا ، لاستحالة تعلق القادرين بمقدور واحد عندكم. وأيضا لا يقدر على الكلام ابتداء ، بل بواسطة الآلات كاللسان واللهوات ، وإنّما يقدر على أن يفعل الكلام بهذه الآلات إذا كانت متصلة بنا. أمّا لو قلنا : نفعل الكلام في غيرنا كان ذلك اختراعا للفعل وهو غير مقدور للبشر.

سلّمنا أنّه لا معنى سوى ما ذكرتم ، وأنّ العلّة في وجوب اقتداره على ذات الكلام اقتداره على جعله على صفة الخبر ، لكن لم قلتم : بأنّه يلزم فعله في الجسم إذا قدر على كونه كائنا؟

قوله : «لأنّ العلّة تجمعهما».

قلنا : لا نسلّم.

بيانه : أنّ ذات الكلام وصفات الكلام غير ذات الجسم وغير صفاته التي هي كونه حيا قادرا أسود أبيض ، ومن الجائز أن تكون بعض الصفات مقدورة

٢٧٧

للقديم وبعضها لا تكون ، فانّكم قلتم : إنّ القدرة إذا تعلّقت على الذات يلزم أن تتعلّق بسائر الذوات ولكن بشرط أن تكون تلك الذوات من مقدورات البدن ، حتى قلتم بأنّه لا يقدر على الأكوان وإن قدر على الأكوان ، بل قلتم : إنّ المقدورات من جنس واحد بعضها يتعلّق بها ، فإذن الذات وبعضها تتعلّق به القدرة ، فإذا شرطتم في تعلّق القدرة على المقدورات أن يصحّ أن يتعلّق بهما (١) ثمّ يتعلّق به ، فلم لم تشترطوا ذلك في الصفات؟ ولهذا لم يلزم من ذلك أن يقدر على صفات الأجناس لما لم تتعلق بها القدرة ، كذا هنا.

سلّمنا أنّه يلزم من قدرته على الصفة قدرته على سائر الصفات ، لكن على ما تساوى تلك الصفة من الصفات ، أو على ما يخالفها؟ م ع. (٢) وإذا كان كذلك من أين يلزم إذا قدر على كونه كائنا أن يقدر على كونه حيا قادرا وهي غير متماثلة؟ فإنّ كونه كائنا يرجع إلى الاجزاء وكونه حيا قادرا عالما يرجع إلى الجمل ، فلم قلتم : إنّ من قدر على أن يجعل الجسم على صفة يرجع إلى الأجزاء يلزم أن يقدر على أن يجعله على صفات ترجع إلى الجملة لا إلى الأجزاء؟

سلّمنا أنّه يلزم أن يقدر على جميع الصفات وعلى نفس الذات ولكن متى إذا قدر على أن يجعل الذات على صفة تكون تلك الصفة وجها تقع الذات عليها أو مطلقا؟ م ع.(٣)

بيانه : أنّ صفة كون الكلام خبرا وجه يقع الكلام عليه حال حدوثه فلا جرم من قدر على إيقاعه على ذلك الوجه قدر على إحداثه. أمّا الكائنية فليست وجها لأنّ يقع الجوهر عليه إلّا حال حدوثه ، فلم قلتم بأنّه يلزم من الاقتدار عليها الاقتدار على أصل الجوهر؟

__________________

(١) ج : «بها».

(٢) و (٣) لعلّ المراد أنّ الأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع.

٢٧٨

سلّمنا أنّه لا بدّ من توسط المعنى ، فلم لا يجوز أن يكون هو الاعتماد؟ فانّه معنى أثبتموه.

الوجه الثاني : (١) الثقيل والخفيف سواء في صحّة تحريكهما ؛ لأنّ المصحح لذلك غيرهما وقد اشتركا فيه وحال القادر معهما على السواء ، فلو كان مقدوره هو التحريك فقط لما يقدر عليه تحريك الثقيل دون الخفيف ولما شقّ عليه أحدهما دون الآخر ، فوجب أن يكون قادرا على معان تكثر وتقل ، والثقيل يحتاج في تحريكه إلى معان كثيرة لا تفي قدرة الضعيف بها والخفيف لا يحتاج.

والاعتراض : سلّمنا استواء الثقيل والخفيف في صحّة تحريكهما والقادر معهما على السواء ، فلا بدّ في ثقل الثقيل من زائد في إيجاد القادر ، فلم قلتم : إنّه المعنى الذي أثبتموه؟

لا يقال : ذلك الزائد إمّا ذات وهو قولنا ، أو صفة فلا يصحّ فيه التزايد إلّا بواسطة المعاني ، كالأسود إذا زاد سواده ، فلا بدّ من كثرة السواد.

لأنّا نقول : يكون الزائد واقعا في الصفات.

قوله : «لا يعقل إلّا بتزايد المعاني».

قلنا : الزائد في الصفات إن كان مستحيلا في ذاته استحال أن يثبت بسبب من الأسباب وإن لم يكن مستحيلا وقع الشكّ في أنّ الزائد في الصفات والمعاني ، فلا بدّ عند ذلك من دليل زائد على أنّ ذلك معنى.

سلّمنا أنّه لا بدّ من معنى ، فلم لا يكون الاعتماد لا الكون؟ فانّ رفع الثقيل يحتاج إلى مدافعات أكثر ممّا يحتاج إليه الخفيف حتى تزيد على مدافعات الثقيل إلى أسفل. وبالاتّفاق الثقيل ليس ينتفل إلى العلو بالأكوان ، بل بالمحادثات.

__________________

(١) من الوجوه التي استدل بها أبو هاشم لإثبات المعنى. راجع المحيط بالتكليف : ٤٨ ؛ التوحيد : ٤٧.

٢٧٩

ثمّ نقول : قولكم بالأكوان الكثيرة محال ؛ لأنها توجب كائنات كثيرة فيزداد كون الجسم كائنا في الجهة ، وأنّه محال ؛ لأنّ معنى كونه كائنا في الجهة هو كونه شاغلا لها والشغل لا يعقل فيه التزايد.

الوجه الثالث (١) : صفة الكائنية يصحّ فيها التزايد وما يصحّ فيه التزايد لا يكون بالفاعل. (٢) أمّا الصغرى فلوجهين :

الأوّل : القوي إذا وضع يده على جسم واستفرغ جهده في تسكينه لم يقدر الضعيف على تحريكه ، ومتى لم يستفرغ جهده في تسكينه أمكنه تحريكه ، فعلمنا أنّه رام في الأوّل أزيد ممّا رامه في الثاني.

الثاني : الجزء الواحد إذا التصق بكفي قادرين فدفعه أحدهما حال جذب الآخر فانّه يتحرك بهما ، وليس فعلهما واحدا لاستحالة مقدور بين قادرين.

وأمّا الكبرى فلوجهين :

الأوّل : الفاعل كالعلّة (٣) وكما لا تؤثر العلّة في أزيد من صفة واحدة ، كذا الفاعل.

الثاني : الوجود لمّا كان بالفاعل امتنع فيه التزايد ، فكذا هنا.

والاعتراض : قوله : «صفة الكائنية يصحّ فيها التزايد».

قلنا : الضرورة تبطل ذلك ، فانّ الكائنية هي الحصول في الحيز وقد يعبر عنه بكونه محاذيا لجسم الآخر ومن المعلوم بالضرورة أنّ كون الجسم محاذيا لآخر أو في الجهة ممّا لا يصحّ فيه التزايد.

__________________

(١) من الوجوه التي استدل بها أبو هاشم لإثبات المعنى.

(٢) قال النيسابوري : «والصفات المتزايدة لا بدّ من أن تكون مستندة إلى علل متزايدة ولا يجوز أن تستند إلى فاعل». التوحيد : ٧٧.

(٣) في كونه مؤثرا.

٢٨٠