نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

الطبائع ، بحيث إذا أخذنا جسما أرضيا في الحس أو مائيا أو هوائيا أو ناريا فانّه يشتمل على أجزاء على طبيعة اللحم وعلى أجزاء على طبيعة الخبز وأجزاء على طبيعة العنب إلى غير ذلك من جميع المركبات ، لكنّه يسمى باسم الغالب عليه ، فإذا لقيه جسم آخر يكون الغالب فيه غير الغالب الأوّل برز ذلك المغلوب من الكمون (١) وحاول مقاومة ما كان غالبا. ولا شكّ أنّها حال بروزها تختلط بالأجزاء التي كانت غالبة عليه فتحس بجملتها إحساسا لا يمكن التمييز بين آحادها فيتخيل الحس هناك أمرا ممتزجا منهما كالحار والبارد إذا امتزجا. وهؤلاء هم «أصحاب الخليط». (٢)

ثمّ من هؤلاء من يقول : إنّ الجسم فيه مثلا أجزاء حارة وباردة ، وليس واحد منهما كامنا ، لكنّه إذا صار باردا فارق الحار ظاهره وباطنه فبقي البارد وبالعكس.

الفرقة الثانية : زعموا أنّ الجسم البارد إذا صار حارا فذلك لأنّه تدخل فيه من الخارج أجزاء نارية ، وإذا اختلطت بالبارد أحس شيء متوسط بين الحار

__________________

(١) الكمون : «Immanence­ صفة ما هو كامن وهو مرادف للبطون. ويعرفه الخوارزمي بانّه : «استتار الشيء عن الحس كالزبد في اللبن قبل ظهوره ، وكالدهن في السمسم.» مفاتيح العلوم : ٨٤.

(٢) وهم انكساغورس وأصحابه. شرح الإشارات ٢ : ٢٧٨. وانكساغورس (٥٠٠ ـ ٤٢٨) أوّل من قال بالكمون والظهور. وكان يعتقد أنّ الأشياء موجودة بعضها في بعض على ما هي ، وأنّ الكلّ في الكلّ ، أي أنّ الوجود مكون من مبادئ لا متناهية عددا وصغرا هي طبائع أو جواهر مكيفة في أنفسها ، تجتمع في كلّ جسم بمقادير متفاوتة ، ويتعين لكلّ جسم نوعه بالطبيعة الغالبة فيه ، بحيث يكون كلّ جسم عالما لا متناهيا يجوي الطبائع على اختلافها كلا منها بمقدار ، فتخلف الظواهر والأسماء. فالكون ظهور عن كمون ، والفساد كمون بعد ظهور ، دون أي تغير في الكيفية. راجع الشهرستاني ، الملل والنحل (رأي انكساغورس) ؛ يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة اليونانية : ٤١ ؛ الفصل ٥ : ١٨٤. وعند الإسلاميين اشتهر بالقول بالكمون إبراهيم النظام. الفرق بين الفرق : ١٤٢.

٣٨١

والبارد. (١)

ويدل على الاستحالة أنّا نحس بحرارة الماء بعد برودته ، فتلك الحرارة إن حصلت بالتسخين لا بمداخلة النار وممازجتها فهو المطلوب ، فإنّ الماء قد كان باردا ثمّ لمّا سخناه بالنار خلع تلك الكيفية ولبس كيفية الحرارة وهذا هو معنى الاستحالة. وإن حصلت بمداخلة النار وممازجتها ، فتلك النار إمّا أن ترد عليه من الخارج أو لا من الخارج. وإن لم تكن من الخارج فإمّا أن تكون قد حدثت الآن بأن انقلب بعض أجزاء الماء نارا ، أو كانت موجودة فيه لكنّها كامنة فيه لا تظهر للحس إلّا عند مجاورة الحار.

فالمذاهب الباطلة ثلاثة :

المذهب الأوّل : الكمون ، ويدل على إبطاله وجهان : (٢)

الوجه الأوّل : الكمون إمّا أن نعني به المداخلة ، أو معنى آخر غيره. والأوّل باطل لما ثبت (٣) من استحالة تداخل الجسمين. ثمّ لو جوزنا ذلك فهاهنا إمّا أن يكون مع كلّ جزء من الماء جزء من النار مداخل فيه ، وإمّا أن لا يكون كذلك بل يكون البعض دون البعض. والثاني لا يخلو إمّا أن تكون الأجزاء الخالية عن مداخلة النار فيها قابلة للسخونة ، أو غير قابلة لها. والأوّل يقتضي وجود الاستحالة. والثاني يقتضي أن نحس ببعض أجزاء الماء في غاية البرد وبعضها في غاية السخونة. وأيضا فليس البعض بذلك أولى من البعض مع اتحاد طبيعة الأجزاء. وأمّا إن وجد مع كلّ جزء في الماء جزء من النار ، فلا يخلو إمّا أن تنكسر

__________________

(١) والمذهبان متقاربان ، فانّهما يشتركان في أنّ الماء مثلا لم يستحل حارّا لكن الحارّ نار تخالطه. ويفترقان بأنّ أحدهما يرى أنّ النار برزت من داخل الماء ، والثاني يرى أنّها وردت عليه من خارجه. راجع شرح الإشارات ٢ : ٢٧٩. والعبارة من الشيخ في الشفاء : ١٠٢.

(٢) راجع طبيعيات النجاة : ١٨٠ (فصل في فسخ ظنون قيلت في هذا الموضع).

(٣) في المجلد الثاني ، ص ٤٦١.

٣٨٢

صرافة كلّ واحد بصرافة الآخر أو لا تنكسر.

فإن انكسرت تثبت لا محالة ، وإن لم تنكسر فلا يخلو إمّا أن يكون الملاقي لأحد الجزءين ملاقيا للآخر أو لا يكون ، فإن لم يكن لم يكن الجزءان متداخلين وإن كان فإذا لمسنا الماء بأيدينا وجب أن نحس من سطح ذلك الجسم الملموس سخونة مثل سخونة النار سارية في كلّ ذلك السطح ، وبرودة مثل برودة الثلج سارية في كلّه ، لأنّه ليس في (١) ذلك السطح موضع إلّا وقد حصلت فيه هاتان الكيفيتان. ولمّا بطل ذلك بطل ما قالوه.

وأيضا فلأنّ الحار لمّا كان كامنا بالمداخلة وجب إذا تخلص البارد من الحار والحار من البارد أن يأخذ المجموع مكانا أعظم وليس كذلك ، فإنّ ظهور الحر قد يتبعه العظم فامّا عند غلبة البارد على الحار فذلك ممّا ينقص الحجم نقصا محسوسا. وليس ظهور البرد يوجب فرط مداخلة والمداخلة توجب زيادة الخفاء ونقصان الجسم ، لأنّ حكم كلّ واحد من المتداخلين كحكم الآخر في المقدار.

فأمّا إذا فسّروا الكمون بانحصار الأجزاء في باطن الجسم فيجب أن يكون باطن الماء البارد أسخن من الماء المتسخن ، لأنّه إذا تسخّن فقد تفرّقت النيران وقبل ذلك فقد كانت مجتمعة فتكون سخونتها أقوى ، لكنّا لا نحس بالحرارة لا في باطن الجسم ولا في ظاهره ، بل ربما نجد باطنه أبرد من ظاهره ، إلّا إذا قيل النار الباطنة لا تحرق ولا تسخن وإذا جاورتها النار الخارجية أبرزتها وجعلتها مسخنة وذلك اعتراف بالاستحالة.

الوجه الثاني : ظهور الكامن إمّا أن يكون بسبب خارجى أو لا بسبب خارجي. فإن لم يكن بسبب خارجي بل بطبيعته وذاته وجب أن يكون ظاهرا أبدا. وإن كان بسبب خارجي فذلك السبب إمّا أن يفيد تلك الأجزاء الكامنة قوّة بها

__________________

(١) في النسخ : + «كله» قبل «في» ، ولعلّها زيادة من الناسخ.

٣٨٣

يقوى على البروز أو ليس كذلك. والأوّل قول بالاستحالة. والثاني لا يخلو إمّا أن يكون تحريك ذلك السبب له يتوقف على مماسته له أو لا ، فإن توقّف وجب أن يكون كلّ مستحيل يعظم حجمه عند ما يستحيل لنفوذ الجاذب أو الدافع فيه. وإن لم يتوقف على المماسة بل يكفي فيه مجاورة المشابه وجب أن تتحرك الأجزاء المتجانسة بعضها إلى بعض بل هذا أولى ، لأنّ انجذاب الجسم إلى مجاورة الأقرب أولى من انجذابه إلى مجاورة الأبعد ، بل كان يلزم أن لا يكون انجذاب الكامن إلى الظاهر أولى من العكس.

ولا يقال : الأغلب أجذب.

لأنّا نقول : الذي يلي جسما من جهة واحدة هو ما يساويه من تلك الجهة ، فان فصل شيء فهو مباين لذلك ، إلّا إذا قلنا : بأنّه يشتد القوي عند ازدياد الجاذب وهو قول بالاستحالة. وإذا قربنا شعلة من جبل كبريت ونحيناها عنه بعجلة ظهرت نيران عظيمة كانت كامنة فيه عندهم ، فلو كان الأغلب أجذب لكان انجذاب الشعلة إلى تلك النيران الكامنة أولى من العكس.

لا يقال : نحن لا نقول بالكمون ، بل إنّ الجسم كان مخلوطا بضدّه وإنّما استحال إلى الحر لأنّ البارد فارق ظاهره وباطنه.

لأنّا نقول : إذا فارق البارد فإمّا أن ينضاف إليه من الأجسام الحارة ما يسدّ مسدّه ، أو لا ينضاف. فإن لم يكن وجب أن يكون كلّ مستحيل ينقص حجمه ، أو يكون كلّ مستحيل يتخلخل وينفش. وإن كان يسدّ ضدّه مسدّه على سبيل الورود من خارج فلم صار ما يبرد بعد الحرارة ينقص حجمه؟

إلّا أن يقال : الذي لا يبرد لا يرد عليه من الخارج شيء والذي يصير حارا يرد عليه من الخارج ، وذلك تحكم. وأيضا فالحار إذا صار باردا وجب أن لا يصير حارا مرّة أخرى ، لأنّه في أوّل الأمر صار صرفا فكيف يصير بعد صرافته صرفا مرّة

٣٨٤

أخرى؟

قال الشيخ : ما معناه النار الكثيرة التي تنفصل عن خشبة الغضا منها ما ينفصل وتبقى في ظاهر جمرها وباطنها ما يبقى لا يمكن أن تكون موجودة بالفعل في باطنها على سبيل الكمون غير محرقة إياها ، وكذلك الناريّة الفاشية في الزجاج الذائب لو كان قبل ذلك في الزجاج موجودا لكان مبصرا كما كان بعد البروز مبصرا إذ هو شفاف لا يمنع البصر عن النفوذ فيه والإحساس بما في باطنه ، لو (١) لم تكن في الغضا إلّا النارية الباقية بعد التجمّر لامتنع التصديق بوجودها بالفعل فيه وجودا لا يبرزه الرض والسحق ولا يدرك باللمس والنظر ، فكيف يمكن أن تصدق بوجود جميع تلك النارية التي انفصلت عنها حالة الاشتعال مع هذه الباقية؟ (٢)

واعترض أفضل المتأخرين بأنّ حرارة الأدوية الحارة كالفربيون (٣) إنّما تكون لكثرة الأجزاء النارية التي فيها مع أنّها غير ظاهرة للحس عند السحق والرض ، فلم لا يجوز أن يكون هاهنا مثله؟

فإن قيل : ليس فيها أجزاء نارية لكنّها تسخّن بدن الحيّ عند انفعالها عنه بالخاصية.

كان قولا بأنّها تسخّن بالخاصية لا بالكيفية ، وهو خلاف إجماع الأطباء. (٤)

وأجاب أفضل المحقّقين : بأنّ أجزاء النارية التي في الفربيون إنّما لا تظهر

__________________

(١) في المصدر : + «بل» قبل «لو».

(٢) شرح الإشارات ٢ : ٢٨٢.

(٣) الفربيون : نبات من فصيلة الفربيونيات. متعدد الأنواع وكثير الانتشار. تحوي سيقانه وأوراقه عصارة لبنيّة سامّة وخطرة إذا مسّت العين.

(٤) المصدر نفسه : ٢٨٣.

٣٨٥

للحس لكونها منكسرة الكيفية للمزاج ، فإن قالوا بمثله ناقضوا مذهبهم وإلّا لزمهم ما مرّ. (١)

وذهب مشايخ المعتزلة (٢) ـ إلّا الكعبي ـ (٣) إلى أنّ بعض الأجسام تكمن فيها النار كالحديد والحجر والخشب ولهذا تحصل النار فيها بالقدح. وكالأجسام التي يحصل الدفء منها كالقطن وغيره ، لأنّ فيها أجزاء نارية ولهذا تزداد النار بها اشتعالا كما تزداد بزيادة الحطب ، وكذا الأدهان التي تشتعل بها المصابيح. قالوا : لو لم تكن النار الخارجة بالقدح كامنة في هذه الأجسام لكان الله عزوجل يفعلها بالعادة فكان يصحّ في الحجر. وإن رقق وقدح تجديده مموّحة أن لا تخرج النار منه وأن تخرج في الجليد إذا حكّ بعضه فلما عرفنا فساد ذلك دلّ على كونها (٤) في هذه الأجسام. ولا يقدر أحدنا على الحرارة فيجعلها متولدة عن القدح الذي نفعله.

لا يقال : كان يجب أن يحترق الخشب لما فيه من النار. (٥) وأن يظهر لنا عند اللمس.

لأنّا نقول : لا نسلّم الملازمة فانّ أجزاء النار إذا كانت قليلة متفرقة في مواضع وفيها صلابة غالبة تمنعها من التأجج لم يجب ما ذكرتم. ولا نجدها عند اللمس لغلبة الأجزاء التي لا نار فيها على ذلك الجسم. ولا يجب أيضا ظهورها وإن سحقنا ذلك الجسم لأنّها تتبدّد لقلتها.

قال قاضي القضاة : لا يمتنع أن يكون سبب ذلك أنّ الله تعالى قد أجرى

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) منهم الاسكافي وأبو الهذيل وإبراهيم النظام ومعمّر وهشام بن الحكم وبشر بن المعتمر وأبو رشيد ، كما في مقالات الإسلاميين : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ ؛ مكدرموت ، الشيخ المفيد : ٢٨٧.

(٣) عدا ضرار بن عمرو ، كما في مقالات الإسلاميين : ٣٢٨.

(٤) ج : «كمونها».

(٥) والقائل بهذا ضرار بن عمرو ، كما في المصدر نفسه.

٣٨٦

العادة أن لا تنبت الشجرة إلّا عند وقوع الشمس عليها فتتشبث بذلك أجزاء نارية حتى لو صحّ ما يقال : إنّ هاهنا مواضع لا تطلع عليها الشمس جاز أن لا يشتعل الحطب. وبعضهم أوجب وجود النار في الهواء فقط دون غيره من الأجسام. وعند المشايخ يصحّ وجودها فيه ، لكن لا تكون مقصورة عليه دون غيره من الأجسام.

واعلم أنّه لو ادّعى في إبطال الكمون الضرورة أمكن. والملازمة في دليلهم ممنوعة ، لجواز أن يحدث بسبب القدح فإنّه يؤثر سخونة ويكون الجرم مستعدا للاشتعال بسبب دهنية فيه ، وكون بعض الأجسام يحصل منها الدفء لسخونة مزاجه أو لشدّة التصاقه لا باعتبار وجود نار فيه ، وإلّا لاحترق.

واعتذارهم بالصلابة فاسد ، فإنّ أوّل جزء من أجزاء النار إذا قرّب إلى خشب الكبريت فانّه يؤثر فيه ، ولا يتأتى هذا العذر في القطن.

المذهب الثاني : الورود وتدلّ على بطلانه وجوه : (١)

الوجه الأوّل : إذا ألقينا نارا يسيرة جدا في جبل من الكبريت عظيم جدّا ثمّ بعّدناها عنه بسرعة فانّ الجبل يشتعل كلّه نارا ولو كان ذلك بالورود من دون الاستحالة لم يكن أكثر من تلك الشعلة الملقاة من (٢) النار.

لا يقال : (٣) النار وإن كانت قليلة المقدار لكنّها شديدة القوة فجاز أن

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨١ ؛ الفصل الرابع من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء ؛ طبيعيات النجاة : ١٧٩ (فصل في فسخ ظنون قيلت في هذا الموضع) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٦٩٨ ـ ٧٠٠ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٢٠.

(٢) في النسخ : «في».

(٣) أنظر الإشكال والجواب عنه في الشفاء : ١٠٨ و ١٠٩.

٣٨٧

يستند إليها الأثر العظيم ، كالزعفران اليسير يصبغ الماء الكثير.

لأنّا نقول : فحينئذ يكون عوده إلى البرودة لأجل مفارقة تلك النارية القليلة فيجب أن لا يكون النقصان الحاصل عند البرد محسوسا. إلّا أن يقال : النارية لمّا انفصلت استصحبت (١) شيئا كثيرا من الجسم. فنقول : لم إذا صارت صرفة ليس معها الرقيق تعود إلى عظمها؟

الوجه الثاني : الجمد إذا وضع على شيء بردّه ، فإن كان لتخلل أجزاء جمدية نافذة في ذلك الجسم من غير أن يطرد شيئا من أجزاء الجسم الأوّل وجب أن يزداد حجمه عند البرودة ، وإن طرد مثل نفسه وجب أن لا ينتقص الحجم عمّا كان ، لكن الشيء إذا برد انتقص حجمه عمّا كان ، وإن طرد أكثر من نفسه لم يعد إلى الحجم الأوّل إلّا بمخالطة حار أكثر من البارد النافذ حتى يعود إلى الحجم الأوّل ، فيكون البارد أقوى في التأثير من الحار وهو باطل على مذهبهم.

الوجه الثالث : (٢) الأجزاء النارية إذا نفذت في الماء فلا بدّ لذلك النفوذ من سبب ، فإن كان لقوّة طبيعية وجب أن يكون ذلك في جهة واحدة. وإن كان سببا خارجيا فذلك الخارجي كيف يسبلها (٣) عن مجاورة مشاكلاتها ويخلطها بضدها؟

الوجه الرابع : السخونة قد تحدث عند الحركة العنيفة فيما يغلب عليه أحد العناصر الثلاثة الباقية من غير حضور نار غريبة يمكن نفوذها في المتسخّن ، كالجسم اليابس الصلب إذا ماس مثله (٤) مماسة عنيفة وحك أحدهما بصاحبه حكا شديدا فإنّ المحكوك يتسخّن وقد يحترق من غير وصول نار غريبة إليه.

__________________

(١) في النسخ : «استصحب» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٢) أنظر في الشفاء : ١١٠.

(٣) كذا.

(٤) كحجرين أو خشبتين يابستين.

٣٨٨

وكذا المخلخل (١) الذي يجعل قوامه بالقسر رقيقا متخلخلا ، كهواء الكير بإلحاح النفخ عليه ومنع الهواء الخارج من الدخول إليه ، فانّه يتسخن لا محالة ، لأنّ السخونة تستلزم التخلخل. فالحركة الشديدة المقتضية لرقة القوام تقتضي السخونة أيضا.

وكذا المخضخض (٢) وهو الجسم الرطب السيال إذا حرك قويا فانّه يتسخن أيضا من غير وصول نار غريبة إليه ، لانّه قبل هذه الأفعال غير متسخن وإذا تسخن بها مع أنّا لا نحس بوصول نار غريبة إليه في الحالين وجب اسناد ذلك إلى الاستحالة الحاصلة من هذه الأسباب.

الوجه الخامس : إذا وضعنا جسمين مائعين متشابهين في إناءين أحدهما مستحصف مستحكم الجرم كالنحاس ، والآخر متخلخل في الوضع مشتمل على فرج صغيرة ومسامّات ضيقة كالخزف ثمّ نسخّنهما بنار واحدة نسبتها إليهما في التأثير واحدة فانّ الذي في المستحصف يتسخّن قبل الذي في المتخلخل وأشدّ منه ، ولو كان التسخن بالنفوذ لانعكس الحال (٣) لسهولة النفوذ فيه دون الآخر ، وليس كذلك.

الوجه السادس : إذا ملأنا إناء ماء وصمّمنا (٤) رأسه جدّا وسخّناه لم يمتنع عن التسخن التام بواسطة شدّ رأسه المانع من خروج شيء منه بحيث تدخل عوضه الأجزاء النارية مع امتناع دخول شيء يعتد به فيه إلّا بعد خروج شيء عنه لامتناع التداخل ، وليس كذلك.

__________________

(١) راجع السادس من الكون والفساد من طبيعيات الشفاء : ١٢٣.

(٢) راجع المصدر نفسه ، الفصل الرابع : ١١٠.

(٣) بأن يتسخّن الذي في المتخلخل قبل الآخر. شرح الإشارات ٢ : ٢٨٠.

(٤) صمام القارورة : شدادها. المصدر نفسه : ٢٨١.

٣٨٩

الوجه السابع : القمقمة إذا ملئت ماء وشدّ رأسها شدا محكما ووضعت في نار قويّة فانّها تنشقّ بعد صيرورة أكثر ما فيها نارا وتصيح صيحة هائلة تنفر عنها الدواب ، وهي من حيل السحارين (١) ، فحدوث السخونة والنار داخلها مع امتناع دخول النار فيها وخروج الماء منها يدلّ على الاستحالة والكون معا.

الوجه الثامن : (٢) الجمد يبرّد ما يوضع فوقه ، والأجزاء الباردة لا تتصعد بالطبع وتنفر عن الحار فلا تتحرك إليه بالطبع ، ولا قاسر هناك ، فإذن هو للاستحالة.

اعترض أفضل المتأخرين بأنّ الجسم البارد بالطبع إذا وضع فوق الجمد فلعلّه يبرد بالطبع. (٣)

وأجاب أفضل المحقّقين : بأنّه يقتضي أن يبرد مثله من غير وضع على الجمد مثل تبرّده. (٤)

وفيه منع.

لا يقال : إنّ مجاورتهما سبب لحصول الاستعداد لذلك النفوذ.

لأنّا نقول : هذا اعتراف بالاستحالة.

الوجه التاسع : الإنسان يغضب فتتسخن بشرته من غير وصول نار إليه. (٥)

__________________

(١) في شرح الإشارات : «المتحاربين».

(٢) أنظره في الشفاء : ١٠٩.

(٣) شرح الإشارات : ٢ / ٢٨١.

(٤) شرح الإشارات : ٢ / ٢٨١.

(٥) وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري ، قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما صلاة العصر بنهار ثمّ قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلّا أخبرنا به. ومنه : «ألا وإنّ الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه.» رواه الترمذي في كتاب الفتن ، باب ٢٦ / ٢١٩١. راجع أيضا مجموعة ورّام ١ : ١٢٣.

٣٩٠

وممّا يدل على إبطال الكمون والنفوذ جميع ما يدلّ على وجود الكون والفساد.

واعلم أنّ هؤلاء إنّما صاروا إلى هذين المذهبين الفاسدين باعتبار حكمهم بامتناع كون شيء لا عن شيء ، وامتناع صيرورة شيء شيئا آخر. (١)

وأمّا المذهب الثالث : (٢) فيدل على إبطاله : أنّ الماء إذا سخن فانّ أجزاءه إن كانت متشابهة لم يتميّز بعضها عن البعض في استحقاق قبول الأثر ، إلّا (٣) لأجل أنّ القريب أولى لقبول الأثر من البعيد فكان يجب إذا ظهرت السخونة أن يظهر كلّ السخونة في بعض الماء حتى يصير بعضه كالنار ويبقى الباقي على كمال برودته ، لكن الأمر بخلافه فانّه يظهر بعض السخونة في كلّ الجسم على سبيل التشابه وتظهر في الكلّ ضعيفة ثمّ تشتد.

لا يقال : إنّ ذلك لتخلّل أجزاء عديمة السخونة بين الأجزاء النارية.

لأنّا نقول : يلزم أن يقال الحرارة تعدّت من الجزء الأوّل إلى الثالث في الإسخان وتركت الوسط ، وذلك محال مع فرض تساوي الأجزاء كلّها.

__________________

(١) راجع الفصل الثالث من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.

حكمهم بامتناع كون شيء لا عن شيء ، إنكار التغيير في الصورة ، فانّ اللحم مثلا كان معدوما فكيف يكون عن لا شيء؟ وحكمهم بامتناع صيرورة شيء شيئا آخر ، إنكار الاستحالة في الكيف ، فانّ الماء لم يكن حارا فكيف يصير حارا؟

والجواب عن الأوّل : بأنّ الهيولى مشتركة فيزول عنها صورة وتوجد فيها أخرى بحسب استعدادها ، وليس هذا وجود شيء عن لا شيء محض. وعن الثاني : بأنّ الماء كان باردا فاستعد بواسطة مجاورة النار لزوال البرودة عنها والتكيف بكيفية الحرارة ، وهذا ليس ببعيد. راجع شرح قطب الدين الرازي على شرح الإشارات ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) وهو قول من يقول : الماء إذا سخن فذلك لأنّه صار بعض أجزائه نارا. راجع المباحث المشرقية ١ : ٦٩٩.

(٣) ساقطة في المباحث.

٣٩١

وإن كانت أجزاؤه مختلفة فاختلافها إمّا أن يكون بحرّ أو برد وحينئذ يمتنع أن نستفيد السخونة مرّة أخرى. وإمّا أن يكون ضعيف السخونة (١) وتتزايد سخونته لأجل المسخن فحينئذ حصلت الشدة والضعف في الحرارة.

وأمّا إن كان اختلافهما بالكثافة واللطافة فليس يبلغ الفرق بين الكثيف واللطيف من النوع الواحد مبلغ القرب والبعد ، فانّ كلّ واحد من اللطيف والكثيف يبتدي الحرارة والإحراق فيما يقرب منه ثمّ فيما يبعد.

وحيث بطلت هذه المذاهب الثلاثة ثبت وجود الحركة في الكيف المحسوس.

قيل : الجمهور قنعوا في إثبات الاستحالة في هذا النوع من الكيف مطلقا بما ذكرناه ، وأنّه غير كاف ، لأنّ ذلك إنّما يدلّ على وقوع الاستحالة في حرارة بعض الأجسام وبرودتها ، فأمّا في الكلّ حتى يقال : النار مع بقاء ناريتها تبرد ، والأرض مع بقاء أرضيتها تصير رطبة لا على سبيل البلّ ، والماء مع بقاء مائيّته يصير يابسا كيبوسة الأرض لا على سبيل النشف ، والأسود يصير أبيض ، والحلو يصير مرّا ، إلى غير ذلك من الكيفيات المحسوسة ، فلم يشتغلوا به أصلا. نعم ربما حاولوا أنّ الأرض تنقلب ماء وبالعكس ، ولكن ذلك مبحث آخر ، لأنّه فرق بين إثبات أنّ الأرض هل يمكن زوال الصورة الأرضية عنها وتتصف بالصورة المائية؟ وبين أن يقال : الأرض مع بقاء صورتها الأرضية هل يمكن اتصافها بالرطوبة؟

الشرط الثاني : للحركة في الكيف (٢) : أن يكون تبدل هذه الكيفيات لا تقع

__________________

(١) في العبارة سقط وتشويش ، وهي في المباحث هكذا : «فاختلافها إمّا أن يكون بحرّ وبرد أو بكثافة ولطافة. والأوّل إمّا أن يكون الحار منها في غاية السخونة وحينئذ يمتنع أن تشتد السخونة مرّة أخرى. وإمّا أن يكون ضعيف السخونة ...».

(٢) ومرّ الشرط الأوّل في ص ٣٨٠.

٣٩٢

دفعة بل على التدريج يسيرا يسيرا. ولم يذكر الحكماء عليه دليلا ، بل قنعوا فيه بالإحساس بانتقال الماء من برودته إلى السخونة ، وانتقال الحصرم من حموضته إلى الحلاوة على التدريج. لكن ليس كلّ ما حدث في الحس دفعة كان في الحقيقة كذلك ولا بالعكس.

أمّا الأوّل : فلأنّ الشيخ حكى حجة في إفساد الشعاع البصري الخارج وهي : أنّه لو كان كذلك كان يجب أن تكون نسبة زمان حركة الشعاع إلى شيء على بعد ذراعين إلى زمان حركته إلى الثوابت نسبة المسافتين ، فيجب أن يظهر بين الزمانين تفاوت عظيم ، فكان يجب إذا فتحنا العين أن لا نرى الثوابت إلّا بعد زمان.

ثمّ زيّفها وقال : من الممكن أن يفرض زمان غير محسوس قصرا تحصل فيه حركة الشعاع إلى الثوابت ، ثمّ إنّه يمكن أن ينقسم ذلك الزمان إلى غير النهاية وحينئذ يحصل فيه جزء نسبته إليه كنسبة المسافة القصيرة إلى المسافة البعيدة ، فهذه النسبة تكون حاصلة مع أنّ الزمان العظيم لا يكون محسوسا. (١)

وهذا تصريح بأنّ ما يكون في الحس دفعة قد لا يكون في الحقيقة كذلك.

وأمّا العكس ، فلأنّ مذهبه : أنّ الصورة الحيوانية تحدث دفعة مع أنّا نرى المني يتكون حيوانا يسيرا يسيرا ، وليس ذلك إلّا أنّه وإن كان متدرجا في الحس لكنّه حاصل دفعة في الحقيقة. فظهر أنّه لا يمكن التعويل في وقوع الحركة في هذه الكيفيات على التدريج المحسوس.

ثمّ الذي يدلّ على فساده أنّ الكيفية إذا تغيرت فإمّا أن لا تبقى مع التغيّر أو تبقى فإن لم تبق فإمّا أن يكون عدمها على التدريج ، وهو محال لما مرّ من إبطال الحصول التدريجي ، أو دفعة واحدة فيكون آنيا ، وحينئذ إن استمر بعد ذلك لم تكن

__________________

(١) طبيعيات الشفاء ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة من كتاب النفس. نقله الرازي أيضا في المباحث المشرقية ١ : ٧٠٩.

٣٩٣

الحركة في الكيف مستمرة لأنّ استمرار الكيف ضدّ استمرار الحركة في الكيف ، أو لا يستمر فتحدث لا محالة كيفية أخرى حدوثا آنيا ، فإن لم يكن بين الآنين زمان تتاليا ، وهو محال. وإن كان لم يكن التغير مستمرا في الحقيقة.

وإن بقيت تلك الكيفية فإمّا أن يكون قد حدث حال تغيرها شيء أو زال شيء أو ما حدث شيء ولا زال شيء. والأوّل والثاني يرجع التقسيم فيهما بعينه ، والثالث يمنع من وقوع التغير أصلا. والمحقّقون لأجل هذه الدلالة اتّفقوا على استحالة بقاء الكيفية الواحدة بالشخص مع الاشتداد والنقصان ، بل زعموا أنّ المعنى منهما توالي أنواع متباينة بالماهية كلّ واحد منها آني الوجود ، وإذا كان كذلك فلا بدّ من تخلل تلك الأزمنة بين الآنات لئلا يلزم تتاليها. وذلك يقرر ما قلناه من أنّ هذا الحدوث وإن كان متدرجا في الحس لكنّه في الحقيقة ليس كذلك.

وأجاب الفارابي : بأنّ هذه الأنواع موجودة بالقوّة فالآنات المتتالية بالقوّة لا بالفعل ، وليس بشيء لأنّ التغير إذا كان هو عبارة عن تلك الأنواع المتتالية لزم من كون ذلك التغير بالفعل كون تلك الأنواع بالفعل. ومن أنكر الحصول على التدريج جعل بين ما منه الحركة وما إليه الحركة أنواع مختلفة كلّ واحد منها يوجد آنا ولا يظهر التفاوت بين كلّ نوعين لتقاربهما طبعا ، بل إذا تباعدت ظهر التفاوت للحس. فتظن النفس أنّ الحركة قد حصلت ، والحصول على التدريج قد وقع ، وفي الحقيقة ليس كذلك.

٣٩٤

القسم الثاني : في باقي أنواع الكيف

أمّا الحال والملكة (١) فقد أنكر بعضهم وجود الحركة فيه ، لأنّها كيفيات نفسانية والحركة على النفس محال. (٢)

قيل : إنّ العلم لا يمكن فيه الحركة ، لأنّ الذي يفرض علما إن حصل معه احتمال نقيضه ولو على أبعد الوجوه لم يكن علما. وإن لم يحصل ذلك الاحتمال البتة استحال أن يوجد ما هو أقوى منه.

وفيه نظر ، فانّ العلم طرف والطرف لا حركة فيه وإنّما الحركة فيما يقبل الشدة والضعف والزيادة والنقصان ويكون محبوسا بين طرفين. وكما أنّ الشكّ لا يقبل الحركة كذا العلم. وأمّا الظنون والإرادات والكراهات والآلام واللذات والشهوات والنفرات والصحّة والمرض والإحساس فممّا تقع فيه الحركة لقبول كلّ واحد منها الشدّة والضعف والزيادة والنقصان ، وأنّها تحدث على التدريج.

وأمّا القوّة واللاقوة (٣) فذهب قوم إلى أنّهما تابعان لأمزجة خاصة ويمتنع أن يوجد أحدهما مع المزاج الذي يوجد معه الآخر ، فموضوعهما غير مشترك فلا تضاد

__________________

(١) قال الشيخ : «وأمّا كون الحركة في الكيف فذلك ظاهر لكن في الناس من لم ير الحركة في أنواع الكيف كلّها إلّا في الصنف المنسوب إلى الحواس ، فقال : أمّا نوع الحال والملكة فهو متعلّق بالنفس ، وليس موضوعه الجسم الطبيعي.» الثالث من ثانية الأوّل من طبيعيات الشفاء. راجع أيضا المباحث المشرقية ١ : ٧٠٠.

(٢) أنظر جواب هذا الاستدلال في عبارات الشيخ.

(٣) قال الشيخ : «وأمّا القوّة واللاقوة والصلابة واللين وما أشبه ذلك فإنّها تتبع أعراضا تعرض للموضوع ، ويصير الموضوع مع بعض تلك الأعراض موضوعا لها ، فلا يكون حينئذ الموضوع للقوة هو بعينه الموضوع لعدم القوة.» المصدر نفسه.

٣٩٥

بينهما فلا حركة فيهما لأنّ الحركة إنّما تثبت من ضدّ إلى ضدّ.

وينتقض بالحركة في الكم مع عدم الضدّية فيه. وأيضا فانّهما وإن كانا تابعين لعرضين مختلفين لكنّهما كيف كانا متعاقبين على ذات الموضوع ويمتنع اجتماعهما فيه وبينهما تضاد.

وأمّا الكيفيات المختصّة بالكميات فلا تضادّ فيها فلا حركة فيها.

وينتقض بالكم ، بل الأولى أن يقال : الكيفيات المختصة بالكم المنفصل من الزوجية والفردية فانّها لا حركة فيها إذ لا يعقل فيها شدّة وضعف. وأمّا المختصة بالمتصل كالاستقامة والانحناء فانّه لا حركة فيها إذ لا يمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخر فانّ المستقيم لا يصير مستديرا عندهم ولا بالعكس.

٣٩٦

المقام الثالث : في الحركة في الأين والوضع (١)

أمّا مقولة الأين فانّ وقوع الحركة فيها ضروري. (٢)

وأمّا الوضع فقد ذكر الشيخ ما يوهم أنّه هو الذي وقف عليها دون من قبله. (٣) وليس كذلك ، فانّ أبا نصر الفارابي ذكره في مختصر له يعرف ب «عيون المسائل» في موضعين ، فقال : «وحركات الأفلاك وضعية دورية ، وعند المتكلمين انّ الجوهر الفرد جزء الجسم حاصل بالفعل ، وكلّ جسم إنّما يتحرك بالوضع بحركة أجزائه في المكان». (٤)

ويدلّ على هذه الحركة أنّ الجسم الذي لا مكان له ، كالفلك الأعظم أو له مكان لكن لا يفارقه كغيره من الأفلاك إذا تحرك على مركزه لا عن مكانه بل فيه وكالكرة وغيرها إذا حركناها على نفسها في مكانها حركة دورية لم تكن تلك الحركة مكانية ، لأنّ ذلك الجسم لم يفارق مكانه ولا شكّ في تغيره على التدريج وليس في كمه ولا كيفه ولا غيرهما من الأعراض ، بل إنّما تتغير نسبة أجزائه إلى أمور خارجة

__________________

(١) راجع نفس المصادر ؛ التحصيل : ٤٢٨ ؛ شرح حكمة العين : ٤٣٥ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ٣٠ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢١١ و ٢١٢ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤١٦.

(٢) كما في انتقالات الأجسام من مكان إلى مكان ، لكن كون الأين مقولة مستقلّة في نفسها لا يخلو من شكّ. وقيل بدخوله في الوضع. راجع الطباطبائي ، نهاية الحكمة : ٢٠٦.

(٣) وذلك لأنّه قال : «وأمّا الوضع فإنّ فيه حركة على رأينا خاصة.» طبيعيات النجاة ، فصل في الحركة : ١٣٢. وقال أيضا : «وعندي أنّ كلّ من يتأمّل ما قلناه ثمّ ينصف سيعتقد يقينا أنّ الوضع فيه حركة.» وقال أيضا : «فقد ظهر لك من هذه الجملة أن الحركة إنّما تقع في المقولات الأربع التي هي الكيف والكم والأين والوضع. فقد وقفت على نسبة الحركة إلى المقولات.» الثالث من ثانية الأول من طبيعيات الشفاء.

(٤) وقد أشار الكندي أيضا إلى الحركة في الوضع ومثّل لها بحركة الفلك ، وحركة الطاحون ، وحركة الرماة والمهرة في الصنائع. راجع الآلوسي ، فلسفة الكندي : ٢٠٢.

وانظر اعتراضات وأقول أخرى على ما قاله ابن سينا من أنّه أوّل من ذكر هذه الحركة ـ في كتاب : العراقي ، الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا : ٢٠٩ وحواشيها.

٣٩٧

عنها إمّا حاوية لها أو محوية ، وإذا تغيرت تلك النسبة تغيرت الهيئة الحاصلة بسببها وهي الوضع.

لا يقال : كلّ واحد من أجزاء الفلك متحرك حركة مكانية ، وكلّ ما كان كل واحد من أجزائه متحركا في المكان فهو أيضا متحرك في المكان ، فحركة الفلك مكانية.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ للفلك أجزاء حتى يقال : إنّها متحركة في المكان ، بل هو جسم واحد متصل لا تتحقق له أجزاء إلّا بالفرض فلا تكون له حركة فعلية. وأيضا حقيقة الكلّ مغايرة لحقيقة كلّ جزء فلا يجب أن يكون الحكم الثابت لكلّ جزء ثابتا للكل ، فانّ كلّ واحد من الأجزاء جزء وليس بكل والكلّ كل وليس بجزء ، فبطل ما قالوه. وليس من البعيد أن يكون شيء ذو أجزاء كثيرة بالفعل كالرمل وغيره ينتقل كلّ جزء منه إلى مكان الآخر مع أنّ الكلّ لا يفارق مكانه. ولأنّه بتقدير ثبوته فالمقصود حاصل ، لأنّ الأجزاء وإن تحركت في المكان لكن المجموع ليس كذلك لأنّه حافظ لمكانه ، ولا شكّ أنّ الهيئة الحاصلة له بسبب ما يفرض لأجزائه من النسب متغيرة عند تغيرها.

لا يقال : الوضع لا يقبل الاشتداد والتنقّص فلا يقبل الحركة.

لأنّا نقول : يصحّ أن يقال للشيء : إنّه أشدّ انتكاسا أو انتصابا من الآخر ، وهذا يدلّ على أنّه قابل لهما.

لا يقال : لا تضادّ في الوضع فلا تكون فيه حركة.

لأنّا نقول : لا يجب أن يكون ما منه ضدا لما إليه ، بل يكفي ثبوت ضرب ما من التقابل وإن لم يكن ذلك بالتضاد. (١)

__________________

(١) على أنّ الوضع لا يبعد أن يكون فيه تضاد ، حتى يكون المستلقي مضادا للمنبطح. المصدر نفسه من الشيخ.

٣٩٨

المقام الرابع : في امتناع وقوع الحركة في الجوهر (١)

اعلم أنّ الذي يقع الاشتباه فيه من الجواهر وأنّه متحرك في الجوهر إنّما هو الصور الجوهرية.

وقد عرفت أنّ الحدوث يقع على وجهين : الدفعي والتدريجي. والمدعى هنا بيان أنّ الصور الجوهرية إنّما يمكن حدوثها على الوجه الأوّل دون الثاني. وإنّما يمكننا بيان أنّ الصور الجوهرية تحدث دفعة إذا بيّنا إمكان تبدلها وتغيرها ؛ فإنّه قد نازع بعض القدماء في ذلك ومنع من الكون والفساد وسلّم الاستحالة. وهؤلاء هم الذين يجعلون العنصر واحدا ، إمّا النار وتكوّن الأشياء عنها بتزايد التكاثف ، أو الأرض وتتكون عنها البواقي بتزايد اللطافة ، أو شيئا متوسطا بينهما كالدخان أو البخار ويتكون منه البعض بتزايد اللطافة والبعض بتزايد الكثافة. ويزعمون أنّ ذلك العنصر مع اختلاف درجات التخلخل والتكاثف محفوظا الطبيعة. فالنظر في

__________________

(١) يستفاد من بعض كلمات القدماء وجود الحركة في الجوهر غير أنّهم لم ينصّوا عليه. وأوّل من ذهب إليه وأشبع الكلام في إثباته صدر المتألهين الشيرازي. وهو يقول : «فلم يبق من المقولات التي يتصوّر فيها الحركة إلّا أربع عند الجمهور وخمس عندنا : الجوهر ، والكيف ، والكم ، والأين ، والوضع.» ويعلق عليه العلّامة الطباطبائي بأنّ القول بوقوع الحركة في مقولة الجوهر يستتبع القول لوقوعها في جميع المقولات ، ثمّ يقول : «والتحقيق : أنّ القول بوقوع الحركة في الجوهر المادي مع القول بكون وجود العرض من مراتب الجوهر كما يصرح به المصنف رحمه‌الله في بعض ما أقامه من البراهين على حركة الجوهر يستلزم القول باستيعاب الحركة جميع المقولات العرضية التي هي من مراتب الجوهر.» الأسفار ٣ : ٧٨ و ٧٩. وقال في نهاية الحكمة : «فعالم المادة برمّتها حقيقة واحدة سيّالة متوجّهة من مرحلة القوّة المحضة إلى فعلية لا قوّة معها.» ص ٢١٠.

وانظر البحث في الطبيعة لأرسطوطاليس ٢ : ٥١١ (موضوعات الحركة) ، قال فيه : «فأمّا في الجواهر فليس حركة من قبل أنّه ليس شيء من الموجودات البتة ضدّ للجوهر». التحصيل : ٤٢٦ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٠١ ؛ كشف المراد : ٢٦٥ ؛ شرح حكمة العين : ٤٣٧ ؛ إيضاح المقاصد : ٢٨٣.

٣٩٩

هذا المقام يتعلّق بأمرين :

النظر الأوّل : في إثبات الكون والفساد. يدلّ على ذلك نوعان :

النوع الأوّل : الأدلّة العقلية ، وقد ذكر الشيخ منها وجهين : (١)

الوجه الأوّل : أنّا سنبين أنّ ما يصحّ عليه الكون والفساد (٢) تصحّ عليه الحركة المستقيمة ، وتنعكس (٣) إلى قولنا : بعض ما تصحّ عليه الحركة المستقيمة ، يصحّ عليه الكون والفساد. (٤)

الوجه الثاني : اختصاص جزء معين بجزء معيّن من حيّزه ليس لطبيعته ، لأنّا نشاهد انتقال الأجزاء المتساوية ، وحصولها بسبب ناقل نقله إلى ذلك الموضع ، وهو باطل لأنّ القسري بعد الطبيعي فلو قدّرنا عدم الناقل فلا بدّ من سبب لحصولها في الأحياز ، فبقي أنّ العمدة فيه أنّ الجزء المعين كان في ابتداء تكونه في حيز يختص حدوثه عن العلل واستمر بعد ذلك فيه وهذا إنّما يعقل إذا كانت صورها حادثة.

وهو ضعيف ، لجواز الاستناد إلى الفاعل المختار.

واستدل أفضل المتأخرين : بأنّ النار مثلا جسم ولا شكّ أنّ جسميتها مغايرة لناريتها فتشخص تلك النارية ليس لماهيتها ولوازم ماهيتها وإلّا كان نوعها في شخص واحد ، وهو محال. فإذن ذلك التشخص بسبب العوارض وذلك لا محالة يكون بسبب المادة كما عرفت.

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.

(٢) أي تبدل صورة بصورة أخرى.

(٣) الموجبة الكلية بالعكس المستوي.

(٤) أنظر الجواب على هذا الوجه في شرح المواقف ٦ : ٢١٥.

٤٠٠