نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

وليس امتناع تحريك الضعيف ما يسكنه القوي لزيادة صفة الكائنية ، بل لمعنى آخر وهو تزايد الاعتماد والمدافعة ، كما يمتنع عليه نقل الحجر لما فيه من الاعتماد لا من الكون ، لأنّ الكون الباقي لا حظ له في المنع عندهم.

ولا نسلّم امتناع مقدور بقادرين على ما يأتي.

ولا نسلّم أنّ الفاعل كالعلّة.

ولا نسلّم أنّ الوجود صفة وأنّها زائدة على الذات ، بل هو نفس الذات. وتزايد الشيء الواحد مع أنّه واحد مع أنّه محال سواء كان بالفاعل أو بالعلّة ، إلّا إذا أريد بتزايد الذات أن تصير أن تصير معها في الوجود ذات أخرى ، وذلك جائز ، وهو بالفاعل. (١)

سلّمنا زيادة الوجود ، فلم قلتم : إنّه لا يتزايد؟

اعتذروا بوجهين :

الأوّل : لو تزايد الوجود لصحّ أن تحصل صفتا وجود بقادرين ، وفي ذلك كون مقدور بقادرين.

الثاني : لو صحّ تزايد الوجود لصحّ من القادر أن يجدّد للفعل حال البقاء صفة وجود.

وهما ضعيفان.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه الدور ، لأنّهم ربما يعلمون استحالة كون مقدور بقادرين بعد أن يعلموا أنّه لا تزايد في صفة الوجود ، فإن جعلتم الطريق إلى نفي التزايد استحالة كون مقدور من قادرين دار.

لا يقال : نبين استحالة مقدور من قادرين ما لا يتوقف على نفي تزايد

__________________

(١) وهذا لا يمكنهم إقامة برهان عليه أكثر من الدوران الضعيف. مناهج اليقين : ٥٥.

٢٨١

الوجود ، فنقول : لو تعلّق قادران بمقدور واحد بأن يجددا له صفة وجود صحّ من أحدهما أن يوجده دون الثاني ، فيكون ذلك الشيء موجودا ومعدوما دفعة.

لأنّا نقول : إن أردتم بكونه معدوما موجودا أن تحصل له صفة وجود ولا يحصل له ما زاد عليها ، فمسلّم. وإن أردتم أن لا تكون له صفة وجود أصلا ، فكيف يلزم ذلك وقد فرضتم له صفة الوجود؟

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يتزايد الوجود بقادر واحد ويمتنع تزايده بقادرين؟ وإلّا لزم ما ذكرتم من وقوع مقدور بقادرين.

وأمّا الثاني : فلم لا يتجدد وجود حالة البقاء؟

لا يقال : لوجهين :

الأوّل : لو صحّ ذلك لصحّ منا.

الثاني : يكون باقيا مبتداء ، وهو محال.

لأنّا نجيب عن الأوّل : بأنّ الواحد منّا لا يوجد ذاتا ، وهل النزاع إلّا فيه؟ لأنّ أفعالنا في الشاهد ، أمّا الأكوان وهي صفات وأنتم لا تثبتون للصفات صفة وجود ، وأمّا غيرها نحو أفعال القلوب والاعتماد والتأليف والصوت وهي أيضا صفات وغير باقية ، فكيف لها صفة في البقاء؟

سلّمنا ، فلم لا يجدد الواحد منّا صفة الوجود؟ فانّ القوي إذا استفرغ جهده لإمساك جسم في محاذاة يجوز أن يجدد للكون فيه صفات الوجود بدلا من قولكم إنّه يجدد فيه ذوات الأكوان.

وعن الثاني : إن عنيتم بكونه باقيا مبتداء ، أنّه لم يكن له وجود من قبل مع الفرض بأنّه كان موجودا من قبل ، فهو متناقض. وإن أردتم أنّه تتجدد له صفة بعد ثبوت أخرى من قبل ، فهو المتنازع. وأنتم قد جوزتم فيما كان مستمر الحصول

٢٨٢

في الجهة أن يتجدد له حصول فيكون مستمرا متجددا ، فجاز مثله هنا.

سلّمنا استحالة التزايد في الوجود ، فلم قلتم : إنّ العلّة فيه كونه بالفاعل؟ ولم لا يكون الوجود هو العلّة في امتناع التزايد فيه أو جزء العلّة أو شرطها؟

لا يقال : هذا يبطل بصفات الأجناس فانّها ليست بصفة وجود ولا يصحّ فيه التزايد.

لأنّا نقول : هذا عكس العلّة وهو غير مبطل للعلّة وهو مبطل لتعليلكم أيضا ، لأنّ صفات الأجناس لا يصحّ فيها التزايد وليست عندكم بالفاعل.

الوجه الرابع : (١) كل ما يكون بالفاعل ممّا هو زائد على الوجود لا يتجدد في حال البقاء ، والكائنية تتجدد في حال البقاء ، فلا تكون بالفاعل.

أمّا الصغرى فلوجوه :

الأوّل : لمّا كان الحسن والقبح بالفاعل لم يتجدد بالفاعل حال البقاء ، ولا علّة لذلك إلّا انّهما بالفاعل وكلّ (٢) ما هو بالفاعل لا يتجدد في حال البقاء.

الثاني : الصوت وغيره إذا عدم لم يصحّ أن يحصل على وجه ، ولا علّة لذلك إلّا امتناع الحدوث عليه في حال عدمه وهذا قائم حال البقاء.

الثالث : الواحد منّا لا يصحّ منه أن يجعل كلام غيره خبرا ويصحّ أن يجعل كلام نفسه ، ولا فرق إلّا أنّ كلام غيره لم يحدث منه وكلامه حدث منه فيجب أن تكون الصفات الزائدة على الحدوث إذا كانت بالفاعل تختص حالة الحدوث.

وأمّا الكبرى فظاهرة.

والاعتراض : إن عنيتم بالحسن والقبح نفس الاستحقاق للمدح والذم

__________________

(١) من الوجوه التي استدل بها أبو هاشم لإثبات المعنى.

(٢) ج : «فكلّ».

٢٨٣

منعنا أنّه بالفاعل ؛ لأنّ ما بالفاعل يمكنه أن لا يفعله فكان يلزم صحّة أن يقدر القادر على فعل القبيح وإن لم يفعل كونه مستحقا للذم ، وهو باطل. وإن عنيتم به الوجه الذي لأجله يثبت الاستحقاق ، وهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون كذلك لما يرجع إليه ، وهو على ضربين أيضا :

أ. أن لا يعين (١) فيه إلّا ما يرجع إليه نحو كون الجهل جهلا (٢) ، فانّ ذلك عندهم ليس بالفاعل فانّ ذلك من صفات جنسه. وعندنا أنّ ذات الجهل يكون ذاتا بالفاعل فمتى تجدد كونه ذاتا وجهلا فقد تجدد حدوثها ، وليس تجدد كونها جهلا سوى حدوثها.

ب. أن تعين (٣) فيه أمور عدمية نحو كون الألم من غير جناية سابقة أو منفعة لاحقة ، فأمّا كون الألم ألما فذلك صفة جنسه ، وأمّا عدم الجناية والعوض فذلك أمور عدمية وذلك لا يمكن أن يكون بالفاعل.

وأمّا الثاني : وهو الذي يقبح لا لما يعود إلى الفعل بل لما يرجع إلى غرض الفاعل ، كالسجود للصنم ، فانّ جهة القبح كون هذا السجود أوجده الفاعل لأجل الصنم ، ومعناه أنّ غرض الفاعل في ذلك كان تعظيم الصنم ولا يفعل سوى ذلك.

فإن ادعيتم غيره فبيّنوه وأثبتوه بالدليل وكان غير معلل بالفاعل. فثبت أنّ وجه القبح غير معلل بالفاعل ، فلا يمكن قياس الكائنية عليه.

سلّمنا أنّ وجه القبح صفة للفعل ، ولكن لم قلتم : إنّها بالفاعل وأنّ ذلك ليس لكونه مريدا ، وإذا كان كذلك لم يمكن نسبة الكائنية التي هي بالفاعل ولا

__________________

(١) نهاية العقول : «يعتبر».

(٢) نهاية العقول : «الاعتقاد جهلا».

(٣) نهاية العقول : «تعتبر».

٢٨٤

قياسها عليه؟

لا يقال : إذا حصل بالفاعل وإن كان لكونه مريدا صحّ القياس عليه.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّه إن كان يحصل بكون الفاعل مريدا صحّ قياس الكائنية عليه للفرق ، فإنّ الإرادة إنّما تتعلّق بالفعل حال الحدوث دون حال البقاء ، وإنّما امتنع إثبات صفة القبح للفعل حال البقاء لامتناع المؤثر وهو تعلّق إرادة الاحداث. ثمّ على وجه القبح فأشبه تأثيره تأثير العلل ، فوجب أن يختصّ به نهاية ما يمكن من الاختصاص ، وللفعل بالفاعل في حال حدوثه من الاختصاص ما ليس له حال البقاء. ألا ترى أنّه بهذا التعلّق والاختصاص اختص المنع بحال الحدوث دون حال البقاء ، وإذا كان للفعل حالة الحدوث هذه الزيادة من الاختصاص جاز أن يكون ذلك شرطا لتعلّق الإرادة وإيجابها لوجه القبح ، وليس كذلك حال البقاء. ألا ترى أنّه قد انقطع عن الفاعل بخلاف صفة الكائنية فانّها ليست موجبة عن صفة من صفات القادر ، بل هي حاصلة بالفاعل لكونه واحدا.

سلّمنا أنّ صفة القبح بالفاعل من حيث كونه قادرا ، ولكن لم قلتم بأنّه إنّما اختص إحداثها له بحال الحدوث من حيث إنّها كانت بالفاعل؟

لا يقال : هذا الحكم دار معه وجودا وعدما فانّ هذا لما كان بالفاعل اختص بحال الحدوث ، ولمّا لم يكن بالفاعل بل بالمعنى لم يختص به.

لأنّا نقول : الدوران ضعيف. وأيضا لم قلتم : بأنّه قد ثبت صفة بالمعنى حتى يقال بأنّها لمّا كانت بالمعنى صحّ ثبوتها حال البقاء ، وإن كان الكلام فيه؟ وأيضا لم قلتم : إنّه لا معنى غير ما ذكرتم يكون هو العلّة ، بل هنا وجه آخر.

بيانه : أنّ كون القبح كيفية في الحدوث فانّه وجه يقع عليه الحدوث ، فانّ المستحق للذم يستحقّ الذم لأنّه أحدث القبيح على ذلك الوجه ، ومعلوم أنّ الحدوث وابتداء الوجود يتعذر حال البقاء فلهذا تعذر تحديد وجه القبح ، ولو

٢٨٥

قدرنا إثبات الوجه بالعلّة فانّه يتعذر ذلك كما يتعذر بالفاعل ، بخلاف الكائنية فانّها ليست كيفية في الحدوث فصحّ إثباتها للجسم بالفاعل في حالة البقاء كما صحّ إثباتها له عندكم بالمعنى.

٢٨٦

البحث الثالث

في التماثل والاختلاف في الأكوان (١)

اعلم انّا قد بيّنا أنّ الحق نفي هذا المعنى الذي أثبته أبو هاشم ، لكنّا نبحث في فروع مبنية على إثباته على مذهبهم ، فنقول : ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أنّ الأكوان منها متماثلة ومنها مختلفة ، والمختلف منها متضاد.

ثمّ اختلف الشيخان ، فقال أبو هاشم (٢) : الكونان المتماثلان هما اللذان يختصان بمحاذاة واحدة سواء كانا حركة أو سكونا وسواء اتحد المحلّ أو تغاير ، ولا يؤثر في تماثله أن يكون مرّة حركة يمنة والآخر حركة يسرة ، فانّ الواحد إذا مشى في جهة ثمّ رجع إلى ما ابتدأ منه كانت الأكوان الصادرة منه أوّلا متماثلة للصادرة عنه ثانيا ، لأنّ تحركه في الحالين في محاذاة واحدة. وأمّا الأكوان المتضادة فهي التي لا تختص بمحاذاة واحدة.

وبنوا ذلك على مقدمة هي : أنّ التماثل في المعلولات يستدعي تماثل العلل ، وهو باطل.

__________________

(١) راجع التوحيد للنيسابوري : ١٣٣ ؛ نقد المحصل : ١٥١ ؛ مناهج اليقين : ٦١.

(٢) قال النيسابوري : «إنّ على مذهب الشيخ أبي هاشم فإنّ تماثل الأكوان واختلافها إنّما يكون باتحاد الجهات وتغايرها. فكلّ كونين حصلا في محاذاة واحدة فهما مثلان ، سواء كانا حركتين أو سكونين أو كان أحدهما حركة والآخر سكونا. وكلّ كونين حصلا في محاذاتين فهما مختلفان». التوحيد : ١٣٢ ـ ١٣٣.

٢٨٧

وقال أبو علي : قد يجوز في الموجود في جهة واحدة أن يشتمل على المتماثل والمتضاد، لما اعتبر في ذلك بكونها حركة أو سكونا فأثبت التضاد بينهما على كلّ حال. وهو مذهب أبي القاسم الكعبي ، لكنّه اختص بإيجاب الخلاف بالقبح والحسن فجعل القبيح من الحركات مخالفا للحسن. وهو خطأ ، لأنّ الحسن والقبح قد يشتمل عليهما النوع الواحد ، والتماثل والاختلاف يثبتان لما عليه الشيء في ذاته.

وقال أبو يعقوب : لا تضاد في الأكوان أصلا ، بل تختلف وتتماثل من غير تضاد.

وعند جماعة من الأشاعرة كالقاضي أبي بكر وغيره من القائلين بأنّ المماسة ليست كونا قائما بالجوهر : أنّ الأكوان كلّها متضادة ، لأنّها إن اقتضت الحصول في حيز واحد كانا مثلين فكانا متضادين ، وإن اقتضت الحصول لا في حيز واحد فلا شكّ في تضادها (١) ، وقد تتعاقب وقد تمتنع ، وهو بعينه كلام المعتزلة ، لكن الفرق بينهما إمكان اجتماع الأمثال ، فالمعتزلة جوزوه والأشاعرة منعوه فلهذا حكموا بأنّ المثلين ضدّان ، لأنّ الضدّين عندهم هما اللّذان يمتنع اجتماعهما.

وإن قيل : المختلفان اللّذان لا يمكن اجتماعهما ، خرج المثلان. وإن زيد فيه : ويصحّ تعاقبهما على محل واحد ، لم تكن جميع المختلفات من الأكوان متضادة.

والمشهور عند المتكلّمين الأخير والحكماء زادوا قيدا آخر وهو أن يكون

__________________

(١) إنّ الكونين إن أوجبا تخصيص الجوهر بحيز واحد فهما متماثلان ، فلا يجتمعان كالحصول الأوّل والثاني في حيز واحد ، لأنّ كلا منهما يسدّ مسدّ الآخر في تخصيص الجوهر بذلك الحيز. وإن أوجب كلّ منهما تخصيصه بحيز آخر فمتضادان ضرورة امتناع اجتماع حصول الجوهرين في آن واحد في حيزين. راجع شرح المقاصد ٢ : ٤٠٢.

٢٨٨

بينهما غاية التباعد فلا يكون ضدّ الواحد إلّا واحدا.

ومن جوز قيام المماسات بالجوهر الواحد وجعلها إلزاما لأبي الحسن وأبي إسحاق لم يطلق القول بالتضاد عليهما ، لأنّ المماسّات عنده أكوان وليست أضداد لاجتماعها فهي أكوان مختلفة غير متضادة.

احتجّ المشايخ على التماثل أيضا فيما إذا اتحدت الجهة بأنّها لو كانت مختلفة لا فترقت في وجه يوجب الخلاف ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. والشرطية ظاهرة.

وبيان بطلان التالي : أنّه لا يمكن الإشارة إلى وجه يوجب المخالفة سوى الأسماء ، فيقال في بعضها حركة وفي البعض سكون. واختلاف العبارة لا يوجب اختلاف الحقيقة ، فانّ الحركة تصير سكونا إذا بقيت والبقاء لا يقلب الجنس ، ونفس ما هو سكون قد كان يجوز أن تقع حركة ، فانّه تعالى لو قدم خلق الجوهر في مكان لصحّ أن ينتقل بهذا الكون إلى هذا المكان فتكون حركة وإن كان الآن سكونا.

قال أبو علي : لو كانت الحركة في جهة والسكون فيها مثلين وجب صحّة اجتماعهما. وأبو هاشم التزم به ، لكن عند الاجتماع تخرج الحركة عن أن تسمى بذلك ، من حيث إنّ هذه التسمية تقتضي أن ينتقل بها إلى مكان سواه وقد بيّنا أنّ نفس ما هو حركة يصير سكونا بالبقاء ، ونفس ما هو سكون قد كان يصحّ أن يوجد حركة على ضرب من التقدير ، فأمّا في الوجود فالسكون محال أن يصير حركة من بعد ، لأنّه يقتضي قلب جنسه من حيث إنّ أخص ما عليه هو إيجابه لكون الجوهر كائنا في هذه المحاذاة فلو اقتضى انتقال الجوهر لانقلب جنسه. وعلى التضاد فيما إذا خرجت الأكوان عن الاختصاص بالجهة الواحدة بالعلم الضروري بامتناع حصول الجوهر الواحد في الوقت الواحد في مكانين ، ولا وجه لهذه الاستحالة إلّا تضاد الكونين اللذين بهما يحصل في الجهتين ، فلاستحالة اجتماعهما

٢٨٩

لتضادهما استحال حصوله في الجهتين.

لا يقال : التضاد في الحقيقة لا يثبت إلّا والجهة واحدة وإلّا لكان تضادا في الجنس وهو يوجب صحّة وجود الجوهر في جهتين.

لأنّا نقول : إذا اتحد المحل تضادا وإن تعددت الجهة على الحقيقة ، وإنّما يتضادان في الجنس لو تعدد المحلّ.

لا يقال : هلا كان المحيل لذلك تحيّزه؟

لأنّا نقول : تحيزه يصحح كونه في كلّ واحدة من الجهتين على البدل ، وما يصحح أمرا من الأمور لا يحيله.

لا يقال : التحيز عندكم يصحح في كلّ واحد من الجوهرين أن يحصل في جهة ، والتحيز بعينه يحيل اجتماع جوهرين في الجهة الواحدة ، فقد صار نفس ما صحح حكما محيلا له.

لأنّا نقول : انّا نجعل التحيز محيلا ، لحصوله (١) في غيره ولوجوده في جهة لا على وجه الشغل لها ، ونجعله مصححا ، لوجوده في الجهة على وجه الشغل لها ، فصارت هذه الصفة مصححة لأمر ومحيلة لما سواه. وليس كذلك ما قلتم ، لأنّكم جعلتم المصحح لأمر هو المحيل لذلك الأمر بعينه.

__________________

(١) «لحصوله» ساقطة في ق ، وهو خطأ ، وفي هامش نسخة ج : «لحلوله».

٢٩٠

البحث الرابع

في تفاريع التضاد والتماثل

وهي ستة :

الأوّل : قال مشايخ المعتزلة : متماثل الأكوان مختص بحكم من بين سائر المتماثلات ليس إلّا له وهو استحالة وجوده والوقت واحد في محالّ متغايرة. وإنّما يوجد في المحالّ على البدل مع اتحاد الوقت ، لاستحالة اجتماع الجواهر المتعددة في مكان واحد. أمّا غيره من المتماثلات فيمكن حصولها في وقت واحد لمحالّ متعددة كسوادين حلّا جوهرين دفعة. ويختص أيضا بحكم آخر وهو صحّة وقوع التمانع به (١) وذلك معقود في غيره ، لأنّه يقع بالأمور المتضادة أو الجارية مجراها ، فانّ الخط المركب من ثلاثة أجزاء لو أراد أحدنا نقل أحد طرفيه إلى الأوسط وأراد القديم تعالى نقل الآخر إليه فمراده هو الواقع وتقع الممانعة لا بنفس الجوهر ، بل بالأكوان.

الثاني : متضاد الأكوان إمّا أن تتنافى أو لا ، فالأوّل مثل الكون في المكان الثاني فانّه ينفي الكون في المكان الأوّل ، والثاني كالكون في المكان الثالث بالنسبة إلى الكون في المكان الأوّل فانّه لا ينفيه ، لأنّ نفيه حصل بالكون في المكان الثاني

__________________

(١) ق : «فيه».

٢٩١

وكلّ كون سابق فإنّه لا ينفي غيره من الأكوان.

الثالث : المتضاد من الأكوان إمّا أن يثبت ضدا في الجنس ، كالكون في يرد أحدهما على الآخر فينفيه (١) ، كالكون في المكان الثاني مع الكون في الأوّل. (٢)

ولا يكون كذلك إلّا مع اتحاد المحل ، فأمّا عند تغايره فهو مثل ما نقوله في المضادة بين الأكوان على هذين الوجهين. وجملة ذلك على ثلاثة أضرب :

أ. يصحّ فيه طريق البدل أو المعاقبة بأن تكون المحاذاتان قريبتين والكونان من فعل الله تعالى مبتداء ، فانّه يصحّ أن يوجد أحدهما بدلا من الآخر ويعاقب أحدهما صاحبه.

ب. يصحّ فيه التعاقب دون البدل بأن يكون الكونان من فعلنا أو من فعله تعالى متولدا في محاذاتين متجاورتين ، فانّ أحدهما يصحّ معاقبته للآخر ولا يجوز وجوده بدلا منه.

ج. يصحّ فيه البدل دون المعاقبة ، ولا يتأتى ذلك إلّا فيما هو من فعله تعالى خاصة حال حدوث الجوهر في مكانين متباعدين فيصحّ من الله تعالى إيجاد

__________________

(١) في النسخ : «فيفنيه» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) كذا قسّمه النيسابوري ، حيث قال : «والمتضاد على ضربين : منه ما يكون متضادا على الجنس. ومنه ما يكون متضادا على الحقيقة. فالأوّل : كلّ كونين موجودين في محلين متغايرين ، فانّهما متضادان على الجنس ، على معنى أنّ من جنسهما ما يجوز أن يطرأ على كلّ واحد منهما فينفيه. والثاني : هو كلّ ما يمتنع وجوده لأجل وجود صاحبه.» ثمّ قسّم الثاني على قسمين وهما الأوّل والثالث المذكورين في المتن. التوحيد : ١٣٣.

٢٩٢

الجوهر بالبصرة بدلا منه ببغداد (١) وهما كونان ضدان ، والتعاقب بينهما لا يصحّ لامتناع الطفرة. وإنّما استحال منا لامتناع أن يصدر منّا الكون في الأوّل منه في العاشر. (٢)

الرابع : قالوا : إذا صحّ لنا تضاد الحركتين في جهتين بطل قول الفلاسفة : إنّ الجسم يتحرك دفعة واحدة حركتين متضادتين إحداهما بالذات والأخرى بالعرض (٣) ، لأنّه يقتضي حصوله على حالتين متضادتين ، كفلك البروج المتحرك بذاته على التوالي وكحركة المحيط على خلاف التوالي ، وكذا الكواكب السيارة ، وكالمتحرك في السفينة على خلاف حركتها ، والنملة المتحركة على الرحى على خلاف جهتها.

وأجابوا بأنّ المتحرك في السفينة إنّما يتحرك حال وقوفها فإذا تحركت وقف. وكذا النملة تتحرك حال سكون الرحى ويسكن حال حركتها. والأصل فيه أنّ السكنات تتخلل الحركات.

الخامس : ومنعوا من وصف الحركة بالسرعة والبطء (٤) إلّا باعتبار تخلل

__________________

(١) فإنّ أحد الكونين لو كان قد أوجده الله في الجسم حال حدوثه وهو في المكان الأوّل ، لكان يصحّ بدلا منه أن يوجده وهو في المكان العاشر ، فقد تأتّى فيه ضرب من التقدير. ولو لا امتناع الطفر على الجواهر لكان يصحّ في حال البقاء منه مثل ما صحّ في حال الحدوث. ولو لا اختصاص مقدوراتنا بأوقات لتأتّى منّا مثل ما تأتّى منه جلّ وعزّ. المحيط بالتكليف : ١٤٨. راجع أيضا ص ٦٠ ؛ أوائل المقالات : ١٣١.

(٢) وقال النيسابوري : «إنّ الكون الذي يفعله الواحد منّا في الجسم فانّه يستحيل أن يوجد في المكان الثاني منه الكون المختص بالوقت العاشر.» التوحيد : ١٣٤.

(٣) راجع الفصل السادس من المقالة الرابعة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٤) راجع أوائل المقالات : ١٣٠ (القول في الحركات هل يكون بعضها أخفّ من بعض؟). وذهب إلى استحالته ، وجوزه في المتحرك وقال : «إنّما يصحّ القول في المتحرك بأنّه أخفّ من متحرك غيره وأسرع ، ولا يستحيل ذلك في الأجسام. وهذا أيضا مذهب أبي القاسم وأكثر أهل النظر ، وقد خالف فيه فريق من الدهريّة وغيرهم». وانظر بحث السرعة والبطء في شرح الإشارات ٢ : ٢١٦ وما يليها.

٢٩٣

السكنات ، وإنّما يكون مجموع ذلك في مجموع حركات ، أمّا الحركة الواحدة فيستحيل عندهم وصفها بالسرعة والبطء ، لأنّ كلّ حركة فانّه لا يصحّ أن يقطع بها إلّا مكان واحد ، إذ لو قطع بها مكانان لصارت على صفة ضدين. وإنّما تسرع الحركة عندهم بخلوها من السكنات أو قلتها. وأبطلوا دوام حركة الكواكب دائما والفلك دائما مع سرعة أحدهما وبطء الآخر. وليس لكثرة الحركات في الجسم تأثير في القطع ، ولهذا لو تحرك جسم أوقاتا بعشر حركات متوالية وتحرك آخر في خمسة أوقات بألوف حركات وسكن في خمسة أوقات لكان وصول الأوّل أسرع وإن كانت حركات الآخر أكثر. وليست الحركات ممّا تظهر للحس كأجزاء السواد وإنّما تؤثر كثرة الحركات في قوة المنع.

وقال أبو هاشم : العلّة في سرعة حركة أحد الجسمين وبطء الآخر أنّ أحد الجسمين يكون أثقل من الآخر فتكون الحركة الموجودة عن الثقل أكثر.

وهذا لا يتم على قول من يقول : إنّ كثرة الحركات كقلتها في أنّه لا يقطع بها والوقت واحد إلّا مكانا واحدا.

السادس : منع المشايخ حركة الجسم على الاستدارة ، لأنّ الأجزاء لا يصحّ تحريكها في سمت إلّا على الحدّ الذي يصحّ ملاقاتها لغيرها ، ومتى تحركت دورا كان هناك من الوجه ما يصغر قدره عن الجزء ولا شيء أصغر من الجزء.

٢٩٤

البحث الخامس

في بقاء الأكوان (١)

اختلف الشيخان هنا ، فقال أبو هاشم : إنّه يصحّ البقاء عليها أيّ شيء منها كان. وقال أبو علي : لا يجوز بقاء الحركة (٢) ، وهو مذهب الكعبي. وأمّا السكون فجوز أبو علي بقاءه إذا كان من فعل القادر منّا ثمّ صادف منعا أو عجزا ، ومنع جماعة من القائلين ببقاء الأعراض من بقائها. وأمّا الأشاعرة فمذهبهم في ذلك ظاهر فانّهم منعوا من بقاء كلّ الأعراض.

والدليل على البقاء أنّ الكائن في جهة لا يخرج عن كونه كائنا فيها إلّا عند طرو ضدّ على طريقة واحدة.

وأيضا إذا تشبّث أحدنا بجسم فمن دونه في القوة لا يتمكن من دفعه فإذا زال يده عنها أمكنه ذلك ، فكانت العلّة أنّه في الابتداء كان يجذب السكون حالا

__________________

(١) قال المصنف : «ذهب البصريّون إلى صحّة البقاء على الكون ، وكان المرتضى رحمه‌الله يشكّ في بقائه وبقاء كلّ ما يدعون بقاءه من الأعراض. وأبو الهذيل وأبو علي قالا : إنّ الحركة لا تجوز عليها البقاء». مناهج اليقين : ٦٢. راجع أيضا شرح المواقف ٦ : ١٨٣ (المقصد السابع : في اختلافات للمعتزلة).

(٢) راجع التوحيد : ١٣٢. وكان محمد بن شبيب يزعم انّ الحركات لا تبقى وكذلك السكون لا يبقى. وكان محمد بن عبد الوهاب الجبائي يقول : الحركات كلّها لا تبقى والسكون على ضربين ... وقال بشر بن المعتمر : السكون يبقى. مقالات الإسلاميين : ٣٥٩ و ٣٦٠.

٢٩٥

فحالا والحادث مانع وفي الثاني كف عن فعله فصار ما كان فيه باقيا ولا حظ للباقي في الأكوان في المنع ولو لا ذلك لتعذر عليه رفعه في الثاني على حدّ يعذره في الأوّل.

وأيضا لو لم تكن الأكوان باقية لزم أحد الأمرين وهو إمّا أن يمتنع علينا نقل الأجسام الثقيلة أصلا أو يتأتى منا نقلها بسهولة ، لأنّ القديم عزوجل إن أراد إيجاد السكون فيه حالا بعد حال فمراده بالحصول أحقّ فكان يمتنع ، وإن كان لا يريد ذلك فيجب أن يتأتى على سهولة ، فلما صعب دلّنا هذا على أنّ هناك ما يحتاج إلى إبطاله فهو باق.

احتجّ أبو علي بوجوه :

الوجه الأوّل : الحركة لو بقيت لصارت سكونا. (١)

والجواب : نلتزم ذلك ، فانّ الجنس واحد.

لا يقال : الحركة تدرك على خلاف ما يدرك السكون فلو بقيت لاقتضى أن تتغير في الإدراك.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ الأكوان مدركة.

الوجه الثاني : لو بقي السكون لانقلب الحسن قبيحا ، والتالي باطل لامتناع قلب الحقائق ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ من أذن لغيره في داره يكون الجلوس في داره يكون جلوسه حسنا فلو أمره بالخروج فلم يخرج صار ذلك السكون بعينه قبيحا ، أمّا على قولنا بعدم البقاء

__________________

(١) أمّا الملازمة ، فإذا لا معنى للسكون إلّا الكون المستمر في حيز واحد والحركة هي الكون في الحيز الأوّل فلو كانت باقية كانت في الزمن الثاني كونا مستمرا في الحيز الثاني ، فيكون عين السكون. راجع شرح المواقف ٦ : ١٨٣.

٢٩٦

فانّ الجالس يجدد السكون حالا فحالا فلذلك يستحقّ الذم.

والجواب : أنّه يستحق الذمّ لأنّه لم يفعل ما وجب عليه من الخروج متى نهاه ، والحسن لم ينقلب قبيحا. وقد يحتاج الجالس في دار غيره إلى تجدد أكوان في نفسه حتى لو لم يفعلها لسقط ممّا فيه من الثقل فيكون النهي والكراهية متناولين لذلك.

الوجه الثالث : لو بقيت الحركة لكانت قطعا للمكان في حال بقائها ، أو كانت تسمى حركة وهي باقية كما تسمى بذلك إذا كانت حادثة.

والجواب : لا عبرة بالعبارة. وأمّا المعنى فانّها وإن بقيت لم تخرج عن أن تكون كونا في هذا المكان ، لأنّ بقاء الشيء لا يقلب جنسه ، ولو قطع بها مكان آخر لاقتضى قلب جنسها فهو كالسواد في أنّه لا يصحّ أن يقال : لو بقي صار بياضا أو حمرة ، وهذا قول أبي هاشم في بعض كتبه.

وقال في الجامع : إذا بقيت لا يصحّ أن يقطع بها غير ذلك المكان ، كما إذا بقي السواد لا يجب أن يسود به غير ذلك المحل لما كان السواد يختص محلا معيّنا ، والحركة توجب كون الجوهر كائنا في جهة مخصوصة.

تذنيب : قالوا : لو سأل سائل عن وجود الحركة في الجسم أتوجد في الأوّل أو في الثاني من مكانيه؟ أجبنا بأنّه قد وجد فيه فينتقل به إلى الثاني فكان حال وجودها حال انتقاله إلى الثاني ، وتحقيقه أنّه يوجد في الثاني من مكانيه. (١)

__________________

(١) أنظر تفصيل هذا البحث في مقالات الإسلاميين : ٣٥٣ (واختلف المتكلّمون في معنى الحركة والسكون وأين محلّ ذلك في الجسم هل هو في المكان الأوّل أو الثاني؟) ؛ البغدادي ، أصول الدين : ٤٠.

٢٩٧

البحث السادس

في إدراك الأكوان

اختلف الشيخان هنا (١) ، فقال أبو علي : إنّ الأكوان أجمع تدرك رؤية ولمسا ، وهو قول الكعبي. ومنع أبو هاشم من ذلك ، وقال : الإدراك لا نتناولها البتة ، لكنّه تارة يقول : إنّها تعلم بالضرورة وإن لم تدرك ، وذلك حيث جعل العلم بالمتحرك علما بحركته ، وتارة رجع عن ذلك. وأبو علي قال أولا بقول أبي هاشم ثمّ رجع.

احتج أبو هاشم : بأنّ راكب السفينة لا يفصل بين كونها سائرة وكونها واقفة ، ولو كانت الأكوان مدركة لوجب أن يفصل بينهما ، لأنّ الإدراك للشيء إنّما

__________________

(١) فكان أبو علي يذهب إلى كونها مدركة بالعين مدركة بالعين وبغيرها من الحواس. وكان أبو هاشم يقول أوّلا : إنّها وإن لم تكن مدركة فهي معلومة باضطرار ، ثمّ رجع عن ذلك وقال بأنّ طريقها الاستدلال. المحيط بالتكليف : ٤٠. وقال أبو الهذيل : الأجسام ترى وكذلك الحركات والسكون والألوان والاجتماع والافتراق ... وانّ الإنسان يرى الحركة إذا رأى الشيء متحركا ويرى السكون إذا رأى الشيء ساكنا برؤيته له ساكنا ... وكان يزعم انّ الإنسان يلمس الحركة والسكون بلمسه للشيء متحركا أو ساكنا ، لأنّه قد يفرق بين الساكن والمتحرك بلمسه له ساكنا ومتحركا كما يفرق بين الساكن والمتحرك برؤيته لأحدهما ساكنا والآخر متحركا ... وأنكر (عباد بن سليمان) أن يرى أحد لونا أو حركة أو سكونا أو عرضا. مقالات الإسلاميين ٣٦١ ـ ٣٦٣. راجع أيضا مناهج اليقين : ٦٣ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٨٥.

٢٩٨

يتعلّق بخصوصه لا لمطلق الوجود. (١)

لا يقال : المانع من وقوع الفصل أنّه يحدث فيه مثل ما يحدث في السفينة من الأكوان فتصير كالمبرود الذي لا يدرك برد الماء.

لأنّا نقول : الحادث في السفينة ضدّ ما يحدث فيه. وأيضا فهو ينظر إلى الشط فلا يعرف حركته وسكونه وإن كان لا يحدث فيه شيء. وأيضا كان يلزم أن لا يقع له الفصل إذا ركب دابة بين سيره ووقوفه.

لا يقال : غير راكب السفينة يفصل بين كونها متحركة وواقفة فيجب أن يدلّ على أنّ الكون مرئي.

لأنّا نقول : لو كانت مرئية في نفسها لوقع لراكب السفينة الفصل ، وهو ممنوع. وأيضا لو كانت مدركة لوقع الفصل بين كثيرها وقليلها ، كاللون والطعم وغيرهما ، ونحن لا نفرّق بين أن يكون في الجسم حركة واحدة أو كثيرة. وأيضا لو كانت الأكوان مدركة لوقع العلم الضروري بها ، فكنا نستغني عن الاستدلال على سكون الأرض.

احتج أبو علي بأنّا ندركه بفرقة بين المتحرك والساكن.

والجواب : لا نسلم أنّ التفرقة باعتبار الإدراك.

ولأبي هاشم في الاعتذار عنه وجهان :

الأوّل : قال في العسكريات : إنّ التفرقة هي باعتبار أنّ الجسم إذا تحرك عن مكانه وشغل غيره فإنّا نشاهد الأوّل فارغا بعد أن كان غير مرئي لكون الجسم فيه ،

__________________

(١) واستدل به النيسابوري أيضا ، حيث قال : «إنّ الأكوان لو كانت مدركة لوجب في راكب السفينة أن يفصل بين أن تكون السفينة واقفة وسائرة ؛ لأنّ المرئي قد حصل على الوجه الذي يدرك والرائي قد حصل على الوجه الذي يرى ، والموانع مرتفعة ، فيجب أن يدرك ويفصل بينه وبين غيره إذا لم يكن هناك لبس». واستدل أيضا بأربعة وجوه أخرى ، فراجع التوحيد : ١٣٩ ـ ١٤١.

٢٩٩

ولا نرى ما كنا رائين له من المكان لتغطيته بالجسم المنتقل إليه ، فلأجل أنّه لا نرى ما كان رائيا ونرى ما لم يكن رائيا لم يقع الفصل.

الثاني : الجسم إذا تحرك انخرق شعاع الرائي بعد أن كان منفصلا عنه على حد الاستواء إذا تحرك يمنة ويسرة ويقصر شعاعه بعد استطالته إذا تحرك إلى خلف ، فالفصل بين حالات الجسم إنّما هو باعتبار اضطراب حال الشعاع ولا يجب في من لا يعرف الشعاع أن لا يقع له هذا الفرق ، فإنّ طريق الحكم غير الحكم.

لا يقال : يجب من هذا أن لا يعرف أبو علي الأكوان حيث اعتقد أنّها مرئية وهذا يقدح في علمه بحدوث الجسم ، لأنّ طريق الحدوث معرفة حدوث الأكوان المتوقفة على معرفتها.

لأنّا نقول : إذا عرف عند نظره أنّ الكون غير الجسم فقد عرف نفس المعنى ولا يمنعه ذلك الاعتقاد من هذا النظر.

٣٠٠