نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

والمعتمد أن نقول : هنا أكوان حادثة فالمدعى قدمه : إمّا أن يكون المجموع وهو باطل بالضرورة ، لأنّ المجموع متأخر عن آحاده الحادثة والمتأخر عن الحادث بالضرورة حادث. وإمّا أن يكون كلّ واحد وهو باطل بالضرورة ، لأنّا فرضناه حادثا. أو يكون واحدا منها وهو محال أيضا ، وإلّا لم يكن ذلك حادثا فلا يكون بعض آحاد مجموع الحوادث ، هذا خلف. ولا يكون مسبوقا بغيره فتنقطع الحوادث عنده فلا توصف باللانهاية ، ولا نوعها لما تقدم من أنّ النوع لا يوجد في الخارج منفكا عن شخص. (١)

الوجه الثاني : في الحدوث (٢)

أن نقول : لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل إمّا متحركة (٣) أو ساكنة (٤) ، والتالي بقسميه باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الجسم إن كان مستقرا في مكان واحد أكثر من زمان واحد فهو الساكن ، وإن لم يستقر كذلك كان متحركا (٥) ، لكنّه لا يجوز أن يكون متحركا في الأزل لوجوه :

__________________

(١) قد تمّ الوجه الأوّل في حدوث الأجسام الذي ابتدأ من ص ١٥.

(٢) أنظر الوجه الثاني في الكتب التالية : نقد المحصل : ١٩٥ ؛ المطالب العالية ٤ : ٢٤٥ (تقرير الدلالة المبنية على الحركة والسكون) و ٢٨١ ؛ معالم أصول الدين : ٤١ ؛ مناهج اليقين : ٣٧ ؛ كشف الفوائد : ١٤٣ ؛ قواعد المرام في علم الكلام : ٥٨ (الركن الأوّل من القاعدة الثالثة في حدوث العالم) ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٢٢ ـ ٢٢٧ ؛ إرشاد الطالبين : ٦٧ ؛ اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية : ٦٥.

(٣) وهو قول أرسطاطاليس وديمقراطيس وأتباعهما. راجع المطالب العالية ٤ : ٢٨١.

(٤) وهو قول أكثر الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطاطاليس. المصدر نفسه.

(٥) وهذا الحصر ضروري ، لأنّه دائر بين النفي والإثبات. راجع الرازي ، المسائل الخمسون في أصول الدين ، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا : ١٨ (المسألة الأولى).

٨١

الأوّل : ماهية الحركة : حصول الجسم في حيز بعد أن كان في آخر ، فماهيتها تستدعي المسبوقية بالغير (١) ، والأزلية تقتضي اللامسبوقية بالغير ، والجمع بينهما محال.

الثاني : كلّ واحد من الحركات محدث فهو مفتقر إلى موجد ، وكلّ ما كان كل واحد منه مفتقرا إلى الموجد كان كلّه مفتقرا إلى الموجد ، فلكلّ الحركات موجد مختار ، وكلّ فعل لفاعل مختار فهو محدث لا بدّ له (٢) من أوّل ، فلكل الحركات أوّل ، وهو المطلوب.

الثالث : إن حصل في الأزل حركة ما لم تكن مسبوقة بغيرها وكانت أول الحركات. وإن لم يحصل في الأزل شيء منها كانت حادثة.

الرابع : كلّ حركة مسبوقة بعدم قديم وليس معها حركة ولا تساوي السابق والمسبوق ، فللمجموع أوّل.

الخامس : كلّما تحرك زحل دورة تحركت الشمس ثلاثين دورة (٣) ، فعدد دورات زحل أقلّ من عدد دورات الشمس.

السادس : التطبيق دالّ على التناهي. (٤)

__________________

(١) لكونها تغيرا من حال إلى ، حال ، وكونا بعد كون وهذا سبق زماني حيث لم يجامع فيه السابق المسبوق ، والمسبوق بالغير سبقا زمانيا مسبوق بالعدم ، لأنّ معنى الحدوث هاهنا. شرح المقاصد ٣ : ١١١.

(٢) «له» ساقطة في ق.

(٣) وعند كلّ دورة من دورات الشمس يتحرك القمر اثنتي عشرة دورة ، فتكون دورات زحل أقلّ من دورات الشمس ، وأدوار الشمس أقل من أدوار القمر. وكلّ ما كان أقلّ من غيره فهو متناه. راجع الرازي ، المسائل الخمسون : ٢٠.

(٤) وقد شرح الايجي برهان التطبيق وجعله الوجه الرابع الدال على حدوث الأجسام. راجع شرح المواقف ٧ : ٢٢٤.

راجع أيضا أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٣٢ (المسألة الأولى من المقصد الثالث).

٨٢

السابع : لو كانت الأدوار الماضية غير متناهية لكان وجود اليوم موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له (١) وانقضاء ما لا نهاية له محال ، والموقوف على المحال محال.

وأمّا أنّه لا يجوز أن يكون ساكنا فلوجوه :

الوجه الأول : لو كانت ساكنة فإمّا أن تصحّ عليها الحركة أو لا. والأول محال ، لأن صحّة الحركة عليها تتوقف على صحّة وجود الحركة في نفسها ، وقد سبق أنّ وجود الحركة في الأزل محال ، فثبت أنّه لا تصحّ الحركة عليها.

فذلك الامتناع إن كان لازما للماهية وجب أن لا يزول البتة ، فوجب أن لا تصحّ الحركة على الأجسام فيما لا يزال ، هذا خلف. وإن لم يكن من لوازم الماهية أمكن زواله وتكون الحركة عليه جائزة ، وقد أبطلناه.

الوجه الثاني (٢) : السكون أمر ثبوتي على ما يأتي ، فلو كان ذلك السكون قديما امتنع زواله ، لأنّه (٣) إن كان واجبا لذاته فظاهر ، وإن كان ممكنا استند إلى واجب موجب دفعا للدور والتسلسل (٤) وقدم (٥) فعل المختار ، لكن التالي باطل ، لأنّا نشاهد عدم السكون في الفلكيات والعنصريات معا ولا جسم إلّا هذين.

ولأنّ الأجسام متماثلة (٦) ، فإذا صحّ على بعضها الحركة صحّ على الجميع.

__________________

(١) «له» ساقطة في ق.

(٢) أنظر الوجه الثاني في معالم أصول الدين : ٤٢.

(٣) «لأنّه» ساقطة في ق.

(٤) «والتسلسل» ساقطة في ق.

(٥) ق : «قد».

(٦) قال الرازي : «ومن أراد تعميم الدلالة فلا بدّ له من بيان تماثل الأجسام». واعترض عليه الطوسي وقال : «إنّ الدليل إن صحّ دلّ على امتناع وجود ما لا ينفك إمّا عن الحركة أو عن السكون ، سواء كان ذلك شيئا واحدا أو أشياء متماثلة أو مختلفة ، ولو ثبت اتّفاق الاتصاف بهما أزلا لشيء لا يخلو عنهما لثبت حدوث ذلك الشيء كيف ما كان». نقد المحصل : ١٩٦ و ٢٠٣.

٨٣

ولأنّ الجسم إمّا بسيط أو مركّب من البسائط ، وكلّ بسيط فانّ مقولة الوضع له غير واجبة ، لأنّه إذا لاقى بأحد طرفية جسما صحّ على طرفه الآخر تلك الملاقاة ، وإنّما يمكن ذلك بالحركة ، فصحّت الحركة عليه. (١) وكذا المركب من البسائط فانّه يصحّ على كلّ واحد منها ذلك ، والقديم لا يمكن عدمه ، فالسكون ليس بقديم.

الوجه الثالث (٢) : كما أنّ ماهية الحركة تستدعي المسبوقية بالغير ، كذا السكون يستدعي المسبوقية بالغير ، لأنّه عبارة عن الحصول الثاني في الحيز الأوّل ، فانّ أوّل حصول الجسم في المكان لا يكون سكونا فإذا لبث فيه آنا ثانيا سمي حينئذ سكونا. فماهية السكون تستدعي المسبوقية بالحصول الأوّل في المكان ؛ لأنّ الحصول الثاني مسبوق بالحصول الأوّل ، والأزلية تنافي المسبوقية بالغير ، فالسكون ليس بأزلي.

فثبت أنّ الجسم يمتنع أن يكون أزليا. وهذا الدليل قريب من الأوّل.

فإن قيل هذه الدعوى متناقضة (٣) ، لأنّه لا أوّل لإمكان العالم ، وإلّا لكان قبله إمّا واجبا أو ممتنعا ثمّ انقلب ممكنا ، وهو باطل ؛ لأنّ الإمكان للممكن ضروري ، فيكون العالم قد كان ممتنع الاتصاف بالإمكان ثمّ صار واجب الاتصاف به فجاز أن يكون العالم ممتنع الاتصاف بالوجود ثمّ اتصف بوجوبه ، فيلزم نفي الصانع.

__________________

(١) فالجسم الذي هو ممسوس يمينه ، وجب أن يصحّ كونه ممسوسا يساره ، وبالعكس. ولا يمكن حصول هذا المعنى ، إلّا بحركة تلك الأجزاء. راجع المطالب العالية ٤ : ٢٩٤.

(٢) ذكره الرازي في المطالب العالية ٤ : ٢٦٥. وقال أيضا : «واعلم أن بتقدير أن يكون السكون عبارة عن عدم الحركة ، فانّه لا يصحّ هذا الدليل ، لأنّ زوال العدم الأزلي جائز بالاتّفاق ، إذ لو لم يجز ذلك ، لبطل القول بحدوث الأجسام». نفس المصدر : ٢٨٢.

(٣) راجع نقد المحصل : ١٩٦ ؛ المطالب العالية ٤ : ٢٦٦.

٨٤

ولأنّه لو جاز الانتقال من الامتناع إلى الإمكان لجاز في شريك الباري ، والجمع بين الضدين ، وإذا لم تكن لإمكان العالم بداية كان القول بامتناعه في الأزل متناقضا لهذا.

وأيضا إن فسر الحدوث بالمسبوقية بالعدم وأريد السبق الذاتي لم يقتض الحدوث والسبق بالعلّة والمكان ، والشرف منفي هنا ، وبالزمان يقتضي قدمه ؛ لأنّ ذلك السبق إذا لم يكن له أوّل وكان مفهومه يقتضي تحقّق الزمان لم يكن للزمان أوّل ، فهو قديم فمحلّه وهو الحركة قديم فمحلّها وهو الجسم قديم (١) ، فتفسير الحدوث يوجب العدم ، وهو تناقض.

وإن فسر بالمسبوقية بوجوده تعالى ، فإن أريد السبق بالعلية أو بالطبع أو بالشرف فمسلّم ، والمكان منفي والزمان يقتضي قدمه.

سلمنا ، لكن لا نسلّم أنّ الجسم لو كان قديما لكان إمّا متحركا أو ساكنا ، لأنّ ذلك فرع حصول الجسم (٢) في المكان ، وهو منفي ، لأنّ المكان إن كان معدوما لزم حصول الموجود في المعدوم ، وهو محال. وإن كان موجودا لزم أن يكون له مكان إن كان جسما لصحّة الحركة عليه ويتسلسل ، ولو صحّ فالموجود حاصل ، لأنّ تلك أجسام فتقبل الحركة وهي الانتقال من مكان إلى مكان ، فلكلّ الأجسام مكان ليس بجسم لخروجه عن كلّ الأجسام ، وإن لم يكن مشارا إليه لم يكن مكانا ، لأنّ المكان هو الذي يتحرك عنه وإليه فإليه إشارة.

سلّمنا ، لكن لا نسلم أنّ الأزلية تنافي حركات بغير نهاية وإن نافت حركة حركة منها. ولأنّ كون ماهية الحركة مركّبة من جزء سابق وجزء لاحق ينافي دوامها في ضمن أفرادها المتعاقبة لا إلى أوّل ، وهو المعنى بكونها أزلية.

__________________

(١) ق : «القديم».

(٢) «الجسم» ساقطة في ق.

٨٥

ولا نسلّم أنّ المجموع فعل للمختار ، لأنّ الموجب قد يتخلّف عنه الأثر إمّا لفوات شرط أو لحضور مانع ، فلم لا يجوز أن يقال : المؤثر في وجود هذه الحوادث موجب بالذات، إلّا أنّ كلّ حادث يتقدم تقدمه (١) شرط لأن يصدر عن العلّة الموجبة حادث آخر بعده؟

سلّمنا أنّه فعل المختار ، لكن لا يجب حدوثه ، لأنّ وجود الحادث وصحّة تأثير المؤثر فيه ممكن أبدا ، لاستحالة انتقاله من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، وإذا كان كلّ منهما ممكنا (٢) أزلا كان تأثير القادر في الأثر أزلا جائزا. وليس في الأزل شيء من الحركات الجزئية بل القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها ، ولم يلزم أن يكون لكلّ الحركات الجزئية أوّل.

واجتماع العدمات إن عنيت به في حيز ما ، فهو ممنوع ؛ لأنّه ما من حيز يفرض إلّا وينتفي واحد منها فيه لوجود الحركة التي هي عدمها ضرورة تعاقب تلك الحركات لا إلى أوّل.

وإن عنيت به أنّه لا ترتب في بدايات تلك العدمات كما في بدايات الوجودات ، فلا يلزم من اجتماع بعض الموجودات معها محذور.

والجملة الناقصة لا تنقطع من المبدأ ، وإنّما يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره لو كانت أفراد الناقص مثل أفراد الزائد ، كما في مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى إذا أطبقنا إحدى الجملتين على الأخرى.

وانقضاء ما لا نهاية له محال ، أمّا انقضاء ما لا بداية له ففيه النزاع.

اعترضه الشيخ (٣) بسؤال واقع وهو أنّ توقّفه على انقضاء ما لا نهاية له يفهم

__________________

(١) كذا ، وفي نقد المحصل : «متقدم فتقدمه» ، ص ١٩٨.

(٢) «ممكنا» ساقطة في ق ، والصحيح ما أثبتناه من ج ونفس المصدر.

(٣) راجع شرح الإشارات ٣ : ١٣٦. ونقله الرازي بقوله : «اعترض الخصم فقال ...» المطالب العالية ٤ : ٢٧٥.

٨٦

منه أمران ، أحدهما : أن يفرض الحادث وما لا يتناهى معدومين في وقت من الأوقات ، ثمّ يفرض توقّف وجود الحادث بعد ذلك الوقت على وجود ما لا يتناهى بعده ولا شكّ في استحالته. والثاني : أن لا يفرض وقت يكون الحادث وما لا يتناهى معدومين فيه لكن لا يوجد الحادث إلّا إذا وجدت أفراد لا تتناهى على التعاقب قبله ، وهو نفس النزاع ؛ فإنّ ما لا يتناهى إنّما يستحيل وجوده بشرطين : وجود أفراده دفعة والترتب العقلي أو الوضعي بينهما ، وباعتبار الشرط الأوّل جاز ترتّب الحوادث إلى ما لا يتناهى ، وباعتبار الثاني جاز وجود نفوس غير متناهية.

سلّمنا انّها لم تكن متحركة ، فلم لا تكون (١) ساكنة؟

وامتناع الحركة عدمي لا يعلل.

ويرد عليكم في امتناع العالم أزلا ، فانّه إن كان لازما للماهية استمر الامتناع أبدا ، وإن لم يكن لازما اعترفتم بجواز أزلية العالم.

ولا نسلّم كون السكون ثبوتيا.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم افتقاره إلى المؤثر ، لأنّ علّة الحاجة الحدوث فلا يمكنكم بيان افتقار هذا السكون إلى المؤثر إلّا إذا بيّنتم حدوثه ، لكنّكم فرّعتم حدوثه على هذه المقدمة ، فدار.

سلّمنا ، لكن نمنع امتناع عدم القديم ؛ فانّ قدرته تعالى أزلية ، وبعد الايجاد عدمت لاستحالة تحصيل الحاصل. والقدرة (٢) على إعدامه ثمّ إيجاده غير مفيدة ، لأنّ كلامنا في تعلق القدرة بالايجاد ابتداء.

ولأنّه تعالى عالم في الأزل بأنّ العالم معدوم ، فإذا وجد زال العلم الأزلي.

__________________

(١) ق : «يجوز».

(٢) دفع دخل مقدّر وهو أن يقال : إنّه تعالى بعد الايجاد قادر أيضا بأن يعدم ثمّ يوجده مرّة أخرى. وأجاب عليه بانّ كلامنا في تعلّق القدرة ابتداء [وما ذكرتموه تعلّق آخر].

٨٧

والجواب : لا بداية لإمكان حدوث العالم ، ولا يلزم [منه] صحّة كونه أزليا ، كالحادث إذا أخذ مشروطا بكونه مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، فانّه لا أوّل لصحّة وجوده مع هذا الشرط ، وإلّا انتهى في فرض التقدم إلى حيث لو وجد قبله بآن كان أزليا ، وهو محال. ومع أنّه لا بداية لهذه الصحّة لا يلزم صحّة كونه أزليا ، للتنافي بين الأزلية وسبق العدم بالزمان ، فكذا هنا.

وتقدم عدم العالم على وجوده ، وتقدّم وجود الباري تعالى عليه (١) كتقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض.

ولا حاجة لنا أن نفسر (٢) المكان ، لأنّ السكون هو كون الجسم مماسا لغيره باقيا على تلك المماسة ، والحركة زوال تلك المماسة وحدوث مماسة أخرى لغير المماس الأوّل.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : العالم في الأزل كان جسما واحدا والحركة والسكون بالتفسير الذي ذكرتموه لا يفرض إلّا عند حصول الجسمين.

لأنّا نقول : بيّنا أنّ الواحد يستحيل انقسامه ، فلما صار منقسما علمنا عدم وحدته أزلا.

قوله : «الأزلي نوع الحركة لا شخصها».

قلنا : هذا باطل. أمّا أوّلا ، فلامتناع وجود النوع منفكا عن شخص. وأمّا ثانيا ، فلأنّ الحركة ماهيتها بحسب نوعها مركّبة من أمر تقضّى ومن أمر حصل ، فماهيتها متعلّقة بالمسبوقية بالغير ، وماهية الأزلية منافية له ، والجمع بينهما محال.

قوله : «لم لا يجوز أن يكون المؤثر موجبا ويكون كلّ سابق شرطا لوجود

__________________

(١) أي على وجود العالم.

(٢) ج : «إلى تفسير» بدل «أن نفسر».

٨٨

اللاحق عن ذلك الموجب». (١)

قلنا : سيأتي إبطاله عند إثبات القادر.

والقديم لا يجوز أن يستند إلى المختار ، لما تقدّم. (٢)

وقد بيّنا امتناع قدم الكلي ، وإلّا لكان جزئي ما قديما لامتناع تحقّقه إلّا في جزئياته ، ولا شيء من الجزئيات بقديم ، واجتماع العدمات أزلي بمعنى انّه لا أوّل له فإن لم يكن شيء من الحركات الجزئية كذلك فالجميع حادث.

والجملة الناقصة إنّما تنقطع من المبدأ ، لأنّا أخذنا الجملتين من المنتهى الواحد ، فيظهر التفاوت في الطرف الآخر بالضرورة.

والمراد من الانقضاء أنّه لا يوجد اليوم حتى توجد أمور غير متناهية على التعاقب وتنقضي ، وهذا محال ، فيكون وجود اليوم محالا.

وقول الرئيس باطل ، لاستحالة توقّف وجود الحادث على انقضاء ما لا يتناهى بالمعنيين معا ، والتسلسل باطل مطلقا على ما يأتي.

والمراد بامتناع الحركة وجوب السكون ؛ لأنّ كلّ ما امتنع على الجسم أن يصير مماسا لجسم آخر وجب أن يبقى مماسا للأوّل ، والسكون لما كان عبارة عن المماسة الباقية والمماسة ثبوتية ، لانّها مبصرة محسوسة ، ولا شيء من المحسوس بعدمي. ولأنّها نقيض اللامماسة العدمية. ولأنّه من نوع مقولة الوضع.

قوله : «يلزم في صحّة العالم». (٣)

قلنا : العالم معدوم فلا يصحّ عليه الحكم بالصفات الثبوتية ، والسكون هنا

__________________

(١) مرّ في ص ٨٦.

(٢) راجع ص ٢١.

(٣) في نقد المحصل : «يلزمكم هذا في صحّة العالم» : ٢٠٠.

٨٩

ثبوتي لما تقدم ؛ ولأنّه مساو للحركة في الحقيقة والحركة ثبوتية فالسكون ثبوتي.

قوله : «علّة الحاجة الحدوث».

قلنا : تقدّم بطلانه.

وقدرة الله تعالى وعلمه باقيان لا يعدمان ، بل التعلق الإضافي. (١)

قال أفضل المحقّقين : يجب بيان ماهية الأزل حتى يتصور (٢) معنى قوله : «لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل إمّا متحركا أو ساكنا».

وقد فسّر بعض المتكلّمين الأزل بنفي الأوّلية. وفسّره بعضهم باستمرار الوجود في أزمنة مقدّرة غير متناهية في جانب الماضي. ولا شكّ في أنّ كلّ واحدة من الحركات لا تكون أزلية على أيّ تفسير يفسّر به الأزل ، إنّما الكلام في مجموع الحركات التي لا أوّل لها ، فانّه يمتنع منافاة الأزلية لوجود حركة قبل حركة لا إلى أوّل.

والجواب : بأنّ «ماهية الحركة بحسب نوعها مركّبة من أمر تقضّى وأمر حصل ، فإذن ماهيتها متعلقة بالمسبوقية بالغير وماهية الأزلية منافية [لها]» ليس بمفيد ؛ لأنّ النوع باق مع الأمور المنقضية والأمور الحاصلة. ولا حجّة على أنّ ذلك النوع مسبوق (٣) بالعدم في كلامكم ، وماهية الحركة يمكن أن توصف بالدوام وأشخاصها لا تمكن ، وتبين من ذلك أنّ المركّب من أمر تقضّى ومن أمر حصل يرجع إلى أشخاصها لا إلى نوعها ، فإذن نوعها لا ينافي الأزلية. ويلزم (٤) شيء آخر ،

__________________

(١) جواب على قوله : «تعلّق قادريّة الله تعالى بإيجاد العالم ، وتعلّق علمه بانّ العالم سيوجد قديم ، وقد عدم بعد وجود العالم». راجع نقد المحصل : ٢٠٠.

(٢) في المصدر : «يتقرّر».

(٣) في المصدر : «مساوق».

(٤) في المصدر : «يلزمه».

٩٠

لأنّه فسر الحركة بالحصول في حيز بعد الحصول في حيز آخر ، فليس هو نفس الحصول وحده ، بل يجب أن يقترن به معنى بعدية الحصول السابق ، وهو إضافي ، والإضافيات غير ثبوتية عنده. وقد أطلق القول بوجود الحركة فلزم (١) كون أحد جزئي ماهيتها معدوما ، فلا يكون القول بوجودها على الإطلاق صحيحا.

قوله في بيان امتناع أزلية الحركة : «كلّ الحركات (٢) تحتاج إلى موجد مختار» فغير بيّن بنفسه ، ولم يذكر عليه دليلا. وقد يلوح من كلامه عند الاعتراض عليه أنّه إنّما قيد الموجد بالمختار ، لتخلّف الحركة عنه وامتناع تخلف المعلول عن العلّة الموجبة. لكن لو سلّم له هذا لسلّم في كلّ واحد من الحركات. أمّا المجموع أو النوع فلم يثبت كونهما متخلفين عن مؤثرهما حتى يمكن الاستدلال بالتخلف على كون الموجد مختارا.

وتعليل الوجود بالعدم وإن كان ممتنعا ، لكن اشتراط الوجود بالعدم غير ممتنع ، فإنّ عدم الغيم شرط في إضاءة وجه الأرض من الشمس ، وعدم الدسومة شرط في انصباغ الثوب من الصبغ.

وقوله : في امتناع كون الجسم في الأزل ساكنا : «إنّ صحّة الحركة تتوقف على صحّة وجود الحركة في نفسها وقد تقدّم استحالتها». يقال له قد تبيّن فيما مرّ إمكان استمرار نوع الحركة في الأزل ، فبطل أصل الدليل. وأيضا امتناع الحركة لا يكون لذاتها ، وهو عدمي ، والعدمي عنده لا يكون علّة ولا معلولا ولا مضافا ، لأنّ الإضافة عدمية عنده أيضا ، فلا تكون لازما ، لما مرّ ، وهو أنّ اللزوم من غير اعتبار العلية والمعلولية غير معقول.

__________________

(١) ق : «فلزمه».

(٢) ق : «حركة».

٩١

وقوله : «المماسة نقيض اللامماسة العدمية» فإنّ المماسة والمباينة (١) إضافتان (٢) ، ولا شيء من المضاف عنده بثابت ؛ والسكون ليس إضافيا ، فلا يصحّ تفسيره بالإضافيات.

وقوله : «السكون إن كان أزليا وكان ممكنا افتقر إلى مؤثر موجب ، إلى آخره» إنّما يتم بعد تسليم كون السكون ثبوتيا ، لو امتنع كون كلّ شرط مشروطا بشرط آخر قبله لا إلى نهاية.

ولا حاجة إلى تساوي الأجسام (٣) ؛ لأنّ الدليل إن صحّ دلّ على امتناع وجود ما لا ينفك ، إمّا عن الحركة أو عن السكون سواء كان ذلك واحدا أو أشياء متماثلة أو مختلفة. ولو ثبت امتناع (٤) الاتصاف بهما أوّلا (٥) لشيء لا يخلو عنهما ليثبت حدوث ذلك الشيء كيف كان.

وقوله : «إمكان وجود العالم لا أوّل له فامتناعه في الأزل مناقض له». وجوابه عنه: «إنّه لا بداية لإمكان حدوث العالم لكن أزليته مع فرض الحدوث محال». زاد في جواب لفظ الحدوث لتصحّ له المغالطة وكان من الصواب أن يقول : الإمكان الذاتي والامتناع بالغير لا يتناقضان. وإنّما يمتنع وجود العالم أزلا مع إمكانه ، لاستناده إلى فاعل مختار ، أو لغير ذلك ممّا يقتضي حدوثه.

وقوله في الجواب عن الوجه الثاني من المناقضة ، وهو أنّ سبق عدم الجسم على وجوده يقتضي قدم الزمان : «إنّ ذلك كتقدم بعض أجزاء الزمان على بعض». ليس بوارد عند خصمه ؛ لأنّه يقول : التقدّم والتأخّر يلحقان الزمان لذاته وغيره

__________________

(١) في المصدر : «المسامتة» : نقد المحصل : ٢٠٢.

(٢) في المصدر : «إضافيتان».

(٣) جواب على قوله : «من أراد تعميم الدلالة فلا بدّ له من بيان مماثلة الأجسام». نفس المصدر : ١٩٦.

(٤) في المصدر : «اتّفاق».

(٥) في المصدر : «أزلا».

٩٢

به ، فتقدم العدم على الوجود يحتاج إلى زمان يقعان فيه ، لعدم دخول الزمان المقتضي للتقدم والتأخر في مفهومهما. وأمّا بعض أجزاء الزمان يتقدم على البعض الآخر ، لكون التقدم والتأخّر داخلين في مفهومهما.

وقوله في جواب انّ العالم ليس في مكان ، فلا يكون متحركا ولا ساكنا : «فانّا (١) إذا فرضنا جوهرين متماسين عنينا بالسكون بقاءهما على ذلك الوجه ، وبالحركة زوالهما عنه». تفسير جديد للحركة والسكون بما لا يفيده ، فانّ ذلك القول يقتضي أنّ الجسم الواحد لا يكون متحركا ولا ساكنا. وأيضا أنّ الجسم إذا تحرك كانت أجزاؤه ساكنة لبقائها على المماسة. وأيضا لمّا كان العالم عنده عبارة عن جميع الأجسام ولا يمكن أن يكون معه جسم آخر فلا يكون متحركا ولا ساكنا وإن كانت أجزاؤه متحركة وساكنة ، وحينئذ يبطل أصل الدليل. ومن قبل فسّر الحركة والسكون بالحصول في الحيز.

و «كون المكان أمرا عدميا حتى يكون الجسم في أمر عدمي» (٢) غير ممتنع.

وأسقط (٣) كون المكان حالا في متحيز ، وكأنّه قال : يمتنع أن يكون ذلك المتحيز غير العالم ، لأنّه حينئذ لا يجوز أن يكون داخلا ، لامتناع كون المكان داخلا في المتمكن ؛ ولا يجوز أن يكون خارجا ، لأنّ خارج العالم لا متحيز ، ويمتنع أن يكون ذلك المتحيز هو العالم ، لاقتضائه الدور ، فانّ العالم يكون فيه ، وهو في العالم.

__________________

(١) في المصدر : «بانا».

(٢) قال الطوسي : «وادّعى [الرازي] أنّ ذلك محال ولم يأت فيه بحجّة. ولعلّه قال ذلك ، لأنّه تخيل أنّه قول بكون الموجود معدوما وذلك محال. واعتراضه ذلك باطل ، لأنّ ذلك يقتضي كون الجسم في مكان هو أمر عدمي ، وليس ذلك بممتنع». نقد المحصل : ٢٠٤.

(٣) قال الطوسي : «وقد وقع هاهنا ، في النسخ التي وقعت إلينا ، ترك ذكر امتناع كون المكان حالا في متحيز ...» نفس المصدر.

٩٣

وجوابه : أنّ الدور يلزم لو كانت لفظة «في» بمعنى واحد ، لكنّها هاهنا تدل بالاشتراك على شغل الحيز وعلى القيام بالمحل ، فلا دور.

ولا يلزم من كون المكان جسما افتقاره إلى مكان لصحة الحركة عليه ، فيلزم عدم نهاية الأجسام ؛ لأنّ اللازم منه إمّا الانتهاء إلى جسم لا تصحّ عليه الحركة ، أو وجود أجسام لا نهاية لها. (١)

وفيه نظر ، فانّ الأزل كما ينافي حركة شخصه كذا ينافي وجود حركة قبلها حركة إلى ما لا يتناهى ، لاستحالة استمرار شخص ما منها ، فاستحال استمرار الكلي لما عرفت من أنّ الكلي لا يوجد إلّا مشخصا.

ومنه يظهر أنّ النوع يجب أن يكون مسبوقا بالعدم ، ثمّ ماهية الحركة النوعية إذا تركبت من أمرين أحدهما سابق على الآخر لم يجز أن يقال : إنّ تلك الماهية باقية مع السابق واللاحق ، وليس المرجع في تركبها من أمر تقضّى وأمر حصل إلى تركب أشخاصها ، بل ماهية الحركة من حيث نوعها وشخصها إنّما تعقل مع التقدم والتأخر ، لأنّها ماهية إنّما تحصل يسيرا يسيرا لا دفعة.

وتفسير الحركة بالأمر الإضافي تفسير للشيء بلازمه وهو غير مستبعد ، كما يفسر الإنسان بأنّه الذي يمشي على قدميه.

ومجموع الحركة لا يجوز أزليا لتركبه من الحوادث ونمنع سبق المركّب على أجزائه وكذا النوع على ما عرفت ، فقد تخلفا عن مؤثرهما.

والشروط العدمية إنّما هي شروط لأمور اعتبارية هي العلية.

واستمرار نوع الحركة قد بيّنا امتناعه في الأزل ، فلم يبطل أصل الدليل.

والعدمي علّة لمثله.

__________________

(١) انتهى كلام الطوسي في نقد المحصل : ٢٠١ ـ ٢٠٥. مع تصرفات من المصنف.

٩٤

وقد تقدّم تفسير الغير الإضافي بالإضافي على معنى التفسير بالعوارض.

ووجود ما لا يتناهى من الشروط محال ، كما استحال وجود علل غير متناهية ، والمحال إنّما يلزم من فرض الحدوث لما سبق من إمكان العالم بالنظر إلى ذاته ، ولا مغالطة فيه.

وقد سبق امتناع تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض لذاته ، وإلّا يوجد ما لا يتناهى من الآنات واقتضى اختلاف أجزاء الزمان بالماهية ، أو عدم الأولوية مع ثبوتها.

وتفسير السكون والحركة تبعا للمماسة وعدمها ليس تفسيرا جديدا ، بل هو من لوازمهما على ما تقدم ، ويصحّ كون الجسم الواحد متحركا وساكنا بهذا التفسير ، على معنى أنّ الجسم لو ضامّه غيره لكان إمّا باقيا على مماسته أوّلا وأجزاء المتحرك الظاهرة متحركة وكذا الباطنة ، لأنّها لو كانت ظاهرة لخرجت عن المماسة للخارج. ومنه يظهر حركة العالم وسكونه ، على أنّ قولنا : العالم إمّا متحرك أو ساكن يشير بذلك إلى كلّ فرد من أفراده. والضرورة قاضية بأنّ الحركة عن الشيء وإليه وقبوله للإشارة يمنع من كون ذلك الشيء عدميا.

والدور ظاهر ، لأنّ قيام العرض بالمتحيز موقوف على حصول المتحيز في مكانه.

وكون المكان جسما مستلزم للمحال ، لاستلزامه كذب الكلية الصادقة ، وهي أنّ كلّ جسم في مكان وأنّه قابل للحركة وتناهي الأجسام.

٩٥

الوجه الثالث

في بيان الحدوث (١)

أن نقول : العالم ممكن ، وكلّ ممكن محدث ، فالعالم محدث. (٢)

أمّا الصغرى ، فلوجوه : (٣)

الوجه الأوّل : العالم إمّا أن يفسر بأنّه كلّ موجود سوى الله تعالى ، أو أنّه

__________________

(١) راجع الكتب التالية : الفارابي ، الجمع بين رأيى الحكمين : ٥٨ (العالم حادث عند أفلاطون وأرسطو ، ومن قال انّ أرسطو يقول بقدم العالم مخطئ) ؛ الرازي ، المسائل الخمسون : ٢٠ (الدليل الثاني على أنّ الأجسام محدثة) ؛ وهذا الوجه هو المسلك الثاني من أدلّة حدوث الأجسام في نهاية العقول للرازي ؛ المطالب العالية ٤ : ٣١٨ ؛ كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ١٤٥ ؛ قواعد المرام في علم الكلام : ٥٩ (البرهان الثالث من البحث الأوّل من الركن الثاني) ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٢٧ (المسلك الرابع) ؛ ميرداماد ، القبسات : ٢٧ (القبس الأوّل).

(٢) هذا هو الطريق الثالث من المتكلمين في إثبات الصانع. والطريقان الأوّلان (١. عدم خلو الجسم من الحوادث ٢. الجسم في الأزل إمّا متحرك وإمّا ساكن) يدلان بالذات على حدوث الأجسام ، ويستلزم حدوثها حدوث الأعراض ، فدلالتهما عليه بالعرض. ولم يدلّا على حدوث الجواهر المجردة ، لو قلنا بها. وهذا البرهان يدل على حدوث كلّ ممكن ، سواء أكان جسما أو عرضا أو جوهرا مجردا من النفوس والعقول. ولهذا البرهان عموم باعتبار كثرة نتائجه ، فانّ الأوّلين يدلّان على ثبوت الصانع تعالى ، وهذا البرهان يدل على ثبوته ووجوبه. كشف الفوائد : ١٤٦.

(٣) والرازي ذكر ثلاثة منها في المباحث المشرقية ، حيث قال : «ثمّ للذين احتجوا على أنّ العالم ممكن ثلاثة أمور ...» ٢ : ٤٦٩.

٩٦

عبارة عن السماء والأرض وما بينهما (١) ، وعلى كلا التفسيرين فانّه قد اشتمل على كثرة بالضرورة ، ولا شيء من واجب الوجود بمشتمل على كثرة ، وإلّا لكانت متشاركة في الوجوب ومتباينة بخصوصياتها وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فوجوب كلّ واحد منها مغاير لنفسه (٢) ، فإمّا أن تكون بين وجوبه وتعينه ملازمة أو لا ، فإن كان التعين مقتضيا للوجوب كان الوجوب معلولا ، فيكون ممكنا ، إنّما يوجد عند صيرورته واجبا بعلته ، فإذا كانت علّته واجبة ، فلو كان وجوب تلك الأشياء معلولا لتلك التعينات لكانت تلك التعينات واجبة قبل كونها واجبة ، ويتسلسل ، أو يكون الوجوب مقتضيا للتعين ، فكلّ واجب فهو ذلك المتعين فما ليس بذلك المتعين لا يكون واجبا ، فلا يتعدد الواجب. وإن لم تكن بينهما (٣) ملازمة لم يمكن اجتماعهما إلّا لعلّة مغايرة ، فكلّ واحد من تلك الأشياء متعلقة بآخر فيكون ممكنا ، فكلّ واحد منها ممكن. فالأمور الكثيرة لا تكون واجبة ، والعالم ليس بواجب لذاته ، فهو ممكن.

الوجه الثاني : وجود العالم زائد على ماهيته ، فهو ممكن.

أمّا الصغرى ، فلانفكاكهما في التصور. ولاشتراكها في الوجود وتباينتها بالماهية ، فتغايرا.

أمّا الاشتراك في الوجود :

__________________

(١) واختلفوا في التفسير الثاني ، فقال بعض : يراد به جملة ما يعقل وما لا يعقل في السماوات والأرض وما بينهما. وقال بعض آخر : يراد به ما يعقل خاصة ، فالعالمون هم الملائكة والجن والإنس ، واحدهم عالم.

وقد يطلق لفظ العالم بالمعنى العام على جميع ما هو موجود في الزمان والمكان ، أو على كلّ ما وجوده ليس بذاته من حيث هو كل. راجع الشرفي ، شرح الأساس الكبير ١ : ٢٨١ ؛ صليبا ، تاريخ الفلسفة العربية : ٢٢٩ (مسألة قدم العالم).

(٢) نهاية العقول : «لتعينه».

(٣) أي بين الوجوب والتعين.

٩٧

فلبقائه حال زوال اعتقاد الخصوصيات.

ولأنّ السلب واحد فمقابله كذلك (١) ، لانتفاء الواسطة بين النقيضين.

ولقبوله التقسيم إلى الواجب والممكن ، ومورد التقسيم مشترك. (٢)

ولأنّ الحاكم بعدم اشتراكه إنّما يحكم على وجود واحد ، فلولا اشتراكه لم يعم الحكم بعدم الاشتراك كل وجود.

ولأنّ العلم باشتراكه ضروري. ولهذا لو كرر الشاعر الوجود في جميع قوافيه حكم العقلاء بتكريره ، بخلاف اللفظ المشترك. وإذا كان مشتركا كان زائدا. (٣)

لا يقال : جاز أن يكون الوجود جنسا.

لأنّا نقول : (٤) إنّه باطل ، وإلّا لاستحال تعقل الماهية مع الذهول عن

__________________

(١) قال الرازي في إبطال القول بالاشتراك اللفظي في وجود الواجب والممكن : «إنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ الوجود لا يقابله إلّا العدم ، وإنّ العدم لا يقابله إلّا الوجود ، فوجب أن يكون الوجود مفهوما واحدا ، كما أنّ العدم مفهوم واحد ، حتى يصحّ ذلك التقابل بينهما». المطالب العالية ١ : ٢٩١ ؛ المباحث المشرقية ١ : ١١٣.

(٢) وقال أيضا : «إنّ الوجود يصحّ تقسيمه إلى الواجب وإلى الممكن والجوهر والعرض ، ومورد التقسيم مشترك بين كلّ الأقسام». المصدر نفسه. راجع أيضا مناهج اليقين : ١٠.

(٣) قال الرازي : «إنّ واحدا من الشعراء لو ذكر شعرا وجعل قافية أبياته الوجود أو الثبوت أو الحصول ، يقضي عقل جميع العقلاء بأنّ تلك القافية مكررة. ولو أنّه ذكر شعرا وجعل قافية أبياته لفظ العين إلّا أنّه أراد بهذا اللفظ في كلّ بيت معنى غير المعنى الذي أراده في البيت الآخر يقضي عقل كلّ عاقل بأنّ القافية غير مكررة في المعنى ، وذلك يدل على أنّ صريح عقول العقلاء قاضية بأنّ معنى الحصول والوجود والتحقّق معنى واحد في الكل». المطالب العالية ١ : ٢٩٢.

(٤) قال الرازي : «لا يجوز أن يكون [الوجود] جنسا لها» ثمّ استدل بستة أمور. المباحث المشرقية ١ : ١١٨.

وذكرها المصنف في المجلد الأوّل ، ص ٤١ ـ ٤٢. وقال ابن سينا : «الوجود لا يدخل في المفهومات البتة دخول مقوّم أيّ جزء ، فإن دخل في مفهوم شيء ففي مفهوم الأوّل فقط. والجنس لا يدخل في مفهوم ماهية واحدة فقط ، بل أقلّة في ماهيّتين». المباحثات : ٢٤٨ (الرقم : ٧٢٨).

٩٨

الوجود لكونه جزءا.

ولكان الباري تعالى مركّبا ، فيكون ممكنا. (١)

ولكان للوجود وجود آخر ؛ لأنّ الفصل مقوّم للجنس في وجوده.

ولانّ الوجود إن افتقرت طبيعته إلى المحل وهو جزء الجوهر فالجوهر مفتقر إلى المحل فيكون عرضا ، وإلّا كان العرض غنيا عن المحل لكون جزئه غنيا ، وهذه الملازمة ممنوعة.

ولأنّه مقول بالتشكيك ، ولا شيء من الجنس كذلك ، لأنّ ما به التفاوت إن كان معتبرا في تحقّق الماهية امتنع تحقّقها بدونه ، وإلّا لم يكن جزءا ، وبتقدير صحّته لا يقدح في المطلوب ؛ لأنّ الماهية وإن كانت مركّبة من الوجود وما به الامتياز إلّا أنّ الوجود خارج عمّا به الامتياز ، وهو كاف في بيان الإمكان.

ولأنّا ندرك تفرقة بين الجوهر موجود وبين الجوهر جوهر ، فالوجود زائد (٢) ، فهو إن استقل بذاته ولم يعرض لغيره لم يكن شيء من الوجودات عارضا لماهية ، فإمّا أن لا تكون ماهية ما موجودة البتة أو يكون وجودها عينها. وإن كان عارضا للمحل توقف تحققه عليه فيكون ممكنا فله مؤثر ، فإن كان نفس ماهيات الممكنات لزم التسلسل ؛ لأنّ الشيء إنّما يكون سببا لو كان موجودا ، فلو كانت ماهية علّة لوجودها كان لها وجود سابق ويتسلسل ، وبتقدير صحّته فالمقصود حاصل ، لأنّه إن كان هناك وجود لا واسطة بينه وبين الماهية لم يكن تأثير الماهية في ذلك الوجود بواسطة وجود آخر ، فيكون المؤثر في الوجود غير موجود ، وإن لم يكن كان ذلك

__________________

(١) قال المصنف : «وفيه نظر ؛ لأنّ البحث ليس إلّا في الوجود الممكن». المجلد الأوّل ، ص ٤١.

(٢) قال الرازي في الاستدلال على زيادة الوجود على ماهيات الممكنات : «لو كان الوجود نفس الماهية لكان قول القائل الجوهر موجود مثل قوله الجوهر جوهر ، وبالجملة لا يكون الحمل والوضع هاهنا إلّا في اللفظ ، ولما لم يكن كذلك علمنا أنّ الوجود مغاير للجوهرية». المباحث المشرقية ١ : ١١٢.

٩٩

اعترافا بأنّ تلك الماهية غير مقتضية لشيء من الوجودات ، ولمّا ثبت أنّ علّة وجود الماهية ليس نفس تلك الماهية فلا بدّ لها من علّة أخرى.

الوجه الثالث : من مشاهير الفلاسفة تركّب الجسم من المادة والصورة (١) ، وكلّ مركب مفتقر في تحققه إلى كلّ واحد من جزئية فيكون ممكنا ، فالجسم ممكن. ولأنّ كلّ واحد من جزئية ممكن ، لافتقار الصورة إلى المحلّ الذي هو الهيولى ، والهيولى لا يمكن انفكاكها عن الصورة ، وليست علّة لها لأنّها قابلة ، فنسبتها إليها بالإمكان ، فلو كانت مؤثرة لكانت نسبتها إليها بالوجوب ، فالواحد نسبته إلى الواحد بالوجوب والإمكان معا ، هذا خلف. وإذا لم تكن علّة للصورة وثبت امتناع خلوها عنها كانت محتاجة في وجودها إلى الصورة ، فهي ممكنة.

لا يقال : الصورة محتاجة إلى الهيولى المعينة ، والهيولى تحتاج إلى مطلق الصورة ، فلا دور. أو يقال : الهيولى حينما احتاجت الصورة إليها لا تكون محتاجة إلى تلك الصورة ، بل إلى صورة سابقة عليها ، فانّ الصورة لا تحتاج إلى الهيولى إلّا في حدوثها ، فانّه لو لا حدوث الاستعداد التام في الهيولى لم تحدث الصورة وحينما تصير الهيولى مستعدة لحدوث تلك الصورة لم تكن متقوّمة بتلك الصورة ، بل بصورة سابقة عليها ، فاندفع الدور.

الوجه الرابع : قد بيّنا أنّ الكائنية زائدة على الجسم وأنّه يمتنع أن يكون شيء من الأجسام المعينة يلزمه شيء من الكائنيات المعينة ، فالجسم والكائنية متلازمان ليس أحدهما علّة للآخر ؛ لأنّ الجسم لو كان علّة للكائنية لامتنع انفكاك ذلك الجسم عن تلك الكائنية ، وقد سبق بطلانه. وظاهر أنّ الكائنية ليست علّة للجسم ، وإذا ثبت ذلك فالجسم محتاج إلى الكائنية احتياجا لو قدرنا ارتفاعها ارتفع الجسم ، وكلّ ما كان كذلك كان ممكنا لذاته فالجسم ممكن لذاته ،

__________________

(١) هذا هو المتّفق عليه بين الحكماء. المباحث المشرقية ٢ : ٤٦.

١٠٠