نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

الوجه الأوّل : لو وقف الحجر بين حركتين لما كان رجوعه دائما ولا أكثريا ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أن الحجر لو وقف بين حركتيه الصاعدة والهابطة ولا شكّ في بقاء طبيعته المقتضية للهبوط ، وإلّا لم يهبط لعدم علّته فتتم الشرطية ، فتلك الطبيعة إمّا أن يكون لها ما يعاوقها عن مقتضاها أو لا يكون. فإن لم يكن وجب الهبوط لوجود المقتضي السالم عن معارضة العائق فلا يجب الوقوف وإلّا لم يجب وجود المعلول عند وجود علّته التامة ، فكان لا يجب الهبوط أيضا فتتم الشرطية. وإن كان لها معاوق يمنعها عن الهبوط فذلك المعاوق إمّا أن يكون محركا للجسم إلى جهة أو لا يكون. فإن كان فتلك الجهة غير الجهة التي تحركها الطبيعة إليها ، وإلّا كان معاونا للطبيعة على فعلها لا معاوقا لها عنه ، وكان لا يجب الوقوف لوجود المقتضي للهبوط السالم عن المعاوق المعتضد بالمعاون. ثمّ ذلك المحرك إن كان أقوى من الطبيعة كانت الحركة القسرية حاصلة فلا وقوف حينئذ. وإن كان أضعف كانت الحركة الطبيعية حاصلة لأنّها أقوى ، وإنّما تكون أقوى لو ظهر أثرها دون أثر الأضعف ، فلا وقوف. وإن تساويا وجب السكون ، لأنّ كلا من القوة الطبيعية والغريبة العائقة غير قاهر لصاحبه فيحصل الوقوف لعدم الترجيح من غير مرجّح. وهذا هو الذي جعله الشيخ علّة لهذا السكون في أحد جوانبه.

إذا تقرّر هذا فنقول : ذلك القدر من القوّة إن لم يعدم لم تجب الحركة إلى أسفل فتتم الشرطية. وإن عدم فإمّا لذاته وهو محال وإلّا امتنع حصوله فلا يجب الوقوف. وإمّا أن يعدم بسبب وليس سبب الإعدام هو القوّة الطبيعية ، ولا الجسم الحامل لها ، ولا شيئا وجد فيه ، وإلّا لما وجد هذا العائق فلا يجب الوقوف ، فلم يبق السبب إلّا أمرا خارجيا ، والسبب الضعيف (١) للميل الغريب هو مصادمة الهواء

__________________

(١) في المباحث : «المضعف».

٤٦١

المخروق وذلك إنّما يكون في حال الحركة. وأمّا عند السكون فلا مصادمة هناك ، فيجب أن لا يعدم ذلك القدر من الميل الغريب ، وإذا لم يعدم بقي الحجر هناك ولا يعود إلّا أن دفعة دافع من الفوق ، ولمّا لم يكن كذلك بطل هذا القسم.

وأمّا إن كان المعوق للطبيعة أمرا لا يقتضي حركة الجسم فذلك لا يكون طبيعيا لاستحالة أن يكون العائق للطبيعة عن فعلها أمرا طبيعيا فيكون قسريا ، وهو لا محالة يقتضي السكون في حدّ معيّن ، وإلّا عاوقت (١) الطبيعة عن فعلها.

فيرجع حاصل ذلك إلى أنّ القاسر أعطى الجسم قوة غريبة تسكنه في بعض الأحياز ، وهو الذي اختاره الشيخ سببا للسكون في الوجه الثاني.

فنقول : إنّه باطل :

أمّا أوّلا : فلأنّ القوّة المحركة الغريبة إن أمكن القاسر (٢) افادتها دون إفادة هذه القوة المسكنة لم يجب ذلك السكون ، وإن لم يكن فالضدّان متلازمان ، هذا خلف.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تلك القوّة في أوّل ما أفادها القاسر لم تكن مسكنة ثمّ صارت مسكنة ، فعدم كونها مسكنة إن كان لوجود مانع وجب أن لا تخلو عن ذلك المانع إلّا عند تكافؤ الطبيعة والميل الغريب فإنّ أي واحد منهما غلب كان الموجود فعله وكانت القوّة المسكنة مغلوبة ، فحينئذ لا تقتضي هذه القوّة التسكين إلّا عند تكافؤهما ، لكن لو ثبت ذلك كان مستقلا بالتأثير فأي حاجة إلى هذه القوّة المسكنة؟

وأيضا فانّ الالزام المذكور يعود بعينه في أنّ الميل الغريب إذا صار مساويا

__________________

(١) في النسخ : «عاقت» ، وفي المباحث : «وإلّا لما عاوقت».

(٢) ج : «للقاسر».

٤٦٢

للطبيعي وجب أن يبقى ذلك المساوي ولا يصير مغلوبا البتة وأن لا يرجع الحجر.

وإن كان لعدم المقتضي بأن يكون عدم تسكين تلك القوّة لعدم مقتضي التسكين ثمّ إنّها إذا وصلت إلى ذلك الحيز صارت مقتضية ، عاد السؤال في سبب تلك العلية والاقتضاء.

وأيضا لو كان سبب إعدام العائق أمرا خارجيا فإمّا أن يكون وصول السبب الخارجي المعدم لذلك العائق إلى الحجر واجبا أو لا يكون ، فإن كان واجبا لزم امتناع حصول هذا العائق ويلزم من امتناع حصوله امتناع حصول السكون ، وإن لم يجب لم يكن حصوله معه دائما ولا أكثريا.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون السكون المتخلل واجبا فاستغنى عن السبب؟ وذلك لأنّ الجسم في آخر حركته لما امتنع اتصافه بالحركة كان ذلك السكون ضروري الحصول فلا يستدعي علّة ، كما أنّ سائر اللوازم لا تستدعي علّة ، وعلى هذا لا يلزمنا بقاء الحجر في الفوق لأنّ القوّة القسرية ما دامت تقوى على التحريك كانت الحركة القسرية حاصلة ، فإذا لم تقو على التحريك عدمت وبقى الحجر هناك زمانا تنفصل به إحدى الحركتين عن الأخرى وإذا زالت تلك الضرورة عادت الطبيعة محركة.

سلّمنا أنّه لا بدّ من سبب لكن لم لا يجوز أن يقال : القوّة القسرية كانت في أوّل الأمر غالبة على القوّة الطبيعية فلا جرم كان حصول مقتضى القوّة القسرية أرجح من حصول مقتضى القوّة الطبيعية ، ثمّ إنّ القسرية لا تزال تضعف بسبب مصاكات الهواء المخروق إلى أن تعادل القوّة الطبيعية فتقف ثمّ تضعف القسرية فتستولي الطبيعية وينزل الحجر؟ أو يجوز أن يكون القاسر كما أفاد قوّة تحرك الجسم إلى فوق أفاد مع ذلك قوّة مسكنة في ذلك الموضع فلأجلها سكن هناك؟ كما اختاره الشيخ.

٤٦٣

لأنّا نقول : لو كان ذلك السكون واجبا لذاته لم يعدم ، ولامتناع كون وصف الممكن واجبا لذاته ، فبقى أن يكون ممكنا لذاته فله سبب.

ولأنّ كلّ سكون ففي زمان وكلّ زمان منقسم والذي يقع في نصف ذلك الزمان من السكون كاف في الفصل بين الحركتين فكلّ سكون يفرض حاصلا ففي أقلّ منه بلاغ فلا يكون وقوع ذلك القدر واجبا.

ولأنّ المقتضي لوجوب السكون لو كان هو الفصل لم يكن بعض أفراده التي لا تتناهى بحسب عدم تناهي قبول القسمة أولى من بعض ، وإذا لم يكن واجبا لم يوجد إذ كلّ موجود فهو واجب إمّا لذاته أو لغيره.

وقيل في جوابه : المتحرك جسم يختلف حاله باللطافة والكثافة وغير ذلك من الأسباب الخارجية وهي تكون أسبابا لمقادير السكنات وليس بجيد. (١)

والقدر الباقي من القوّة القسرية حال الاعتدال لا يعدم لذاته وإلّا لما وجد ، بل لا بدّ له من سبب وليس هناك سبب ضروري يوجب عدمه مثل أن يكون هناك دافع أو جاذب إلى أسفل ، والقوّة القسرية إنّما تضعف بمصاكات الهواء وإنّما تحصل المصاكات حال الحركة لا حال السكون ، وإذا انتفى السبب المبطل لتلك القوّة القسرية المعادلة للقوّة الطبيعية وجب أن يكون بقاؤها أكثريا فيكون وقوف الحجر في الجو أكثريا ، لكن رجوعه هو الدائم أو الأكثري ، هذا خلف.

والقوّة القسرية التي أفادها القاسر محال ، لأنّ تلك الإفادة اختيارية فلا تصدر إلّا عن علم ، لكن رامي الحجر لا يتصور سكونه فضلا عن القوّة الموجبة له وإنّما يتصوّر ويقصد إلى تحريكه إلى فوق. ولأنّ القوّة المسكنة حال ما تصير مسكنة يجب أن تستمر ، إلّا إذا وجد ما يعدمها وذلك المعدم ليس الطبيعة ، ولا

__________________

(١) قال الرازي بعد نقل هذا الجواب : «وليس هذا الجواب بمرض».

٤٦٤

الجسم ، ولا شيئا ممّا كان فيه ، وإلّا لما وجدت هذه القوة ، فلا بدّ وأن يكون أمرا خارجيا اتّفاقيا وحينئذ يعود الالزام.

والعجب أنّ الشيخ ذكر في الخلاء : أنّه لو لا مصادمات الهواء المخروق للقوّة القسرية وإلّا وصل الحجر المرمي إلى سطح الفلك (١) ، وهنا ذكر أنّ القاسر يفيد قوّة مسكنة في بعض الأحياز ، وهذا لا يخلو من تناقض.

الوجه الثاني : لو فرضنا صعود خردلة وحال سكونها نزل جبل عظيم من فوق لزم أن يقف ذلك الجبل في الهواء حتى تأخذ الخردلة ما تستحقه من السكون ، والضرورة قاضية ببطلانه.

وقد اعترفوا ببعده لو وقع ، لكنّه غير محال والبعيد غير الممتنع. ولأنّ الهواء المشايع للجبل في حركته يلقى الحصاة فتسكن قبل وصول الجبل إليها.

المسألة الثانية : في أنّ الحركة الدورية ، هل يجب أن تكون إرادية؟ (٢)

اتّفق الحكماء على أنّ الحركة الدورية يجب أن تكون إرادية ، لأنّ الحركات إمّا طبيعية أو قسرية أو إرادية ، والحركة الدورية لا يجوز أن تكون طبيعية ، لأنّ الحركة الطبيعية هرب عن حالة منافرة وطلب لحالة ملائمة وهذا لا يتحقّق في الدورية. أمّا أنّه لا يجوز أن يكون هربا عن حالة منافرة ، فلأنّ كل نقطة تفرض الطبيعة هاربة عنها فانّه يمتنع أن تكون الطبيعة طالبة لها بعين تلك الحركة ،

__________________

(١) راجع الثامن من ثانية الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي).

(٢) راجع التاسع من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٣٠٢ ، قوله : «فالحركة المستديرة المتصلة إذن لا تكون طبيعية ...» ؛ طبيعيات النجاة : ١٣٦ (فصل في أنّه لا يجوز أن يتحرك الشيء بالطبيعة وهو على حالته الطبيعية ...) وإلهيات النجاة : ٩٥ و ١١٥ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ١٠٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٣٩ ؛ نقد المحصل : ٢٢٦.

٤٦٥

لامتناع أن يكون مقتضى الطبيعة متنافيا ، لكن كلّ نقطة تفرض في الحركة الدورية مبدأ ومهربا فانّها بعينها تكون مقصدا ومطلبا لتلك الحركة ، فانّ المتحرك بالاستدارة ينتهي بحركته إلى حيث ابتدائها ، فالحركة عن كلّ نقطة عين الحركة إليها ، وهو محال.

لا يقال : الجسم المستقيم الحركة يطلب النقط والحدود التي في وسط المسافة بطبعه ثمّ إذا وصل إليها فارقها وهرب منها بطبعه وهكذا في كلّ حدّ يفرض بين مبدأ الحركة الطبيعية ومنتهاها ، فلا امتناع في أن يكون المطلوب بالطبع مهروبا عنه بالطبع.

لأنّا نقول : هربه عنها ليس بعينه توجها إليها بخلاف الدورية. ونحن لم نمنع من كون المهروب عنه مطلوبا إذا اختلفت الشرائط. وهنا الطبيعة وحدها ليست مبدأ للحركة بل إنّما هي مبدأ بمشاركة أحوال غير طبيعية ، فانّ الصادر عنها لذاتها لا غير هو السكون في المكان الطبيعي ، فإذا خرجت عنه اقتضت الحركة بهذا الاعتبار الغير الطبيعي والأحوال الغير الطبيعية متفاوتة الدرج في القرب والبعد. فالطبيعة إذا حرّكت جسما إلى نقطة معلومة وحدّ معين لم تكن لذاتها مقتضية لتلك الحركة ، بل مع حالة مخصوصة غير ملائمة ، وهي خروج الجسم عن حيزه الطبيعي وحصوله في حدّ قبل ذلك الحدّ ، فإذا وصل الجسم إلى تلك النقطة لم تبق تلك الحالة بل حصلت حالة أخرى وهي الحصول في حدّ آخر. ولمّا لم تبق أحد أجزاء تلك العلّة لم تبق العلّة ، فلم يكن الشيء الواحد مطلوبا ومهروبا لشيء واحد دفعة واحدة.

وأمّا أنّها لا تكون طلبا لحالة ملائمة فائتة ، لأنّ الطبيعة إذا أوصلت الجسم إلى الحالة المطلوبة انقطع تحريكها ، فلو كانت المستديرة طبيعية كانت منقطعة. وأيضا الطلب الطبيعي لكمال فائت فلا بدّ وأن يكون على أقرب الطرق ، وإلّا

٤٦٦

كانت الطبيعة صارفة عن ذلك الكمال فتكون متوجهة (١) إلى شيء ومنصرفة عنه وهو محال ، وأقرب الطرق هو المستقيم ، فإذن كلّ حركة طبيعية فهي مستقيمة وينعكس بالنقيض إلى أنّ كلّ ما لا يكون مستقيما فانّه غير طبيعي. فثبت أنّ المستديرة غير طبيعية فلا تكون قسرية ، لأنّ كلّ قسر فإنّه على خلاف الطبيعة بحيث إذا زال القاسر اقتضت الطبيعة مقتضاها لكن الحركة الدورية تمتنع أن تكون طبيعية فتمتنع أن تكون قسرية ؛ لأنّ القسري معاند للطبيعي فإذا امتنع أن تكون الدورية طبيعية امتنع أن يوجد ما يعاند الطبيعي فامتنعت القسرية. ولأنّه لا قسر دائم فكلّ قسر فلا بدّ وأن ينتهي إلى طبيعة أو إرادة ، ومستند الحركات كلّها المستديرة.

وفيه نظر ، فانّا لا نسلّم انحصار الحركات في الثلاث فجاز أن يكون بعض الأجسام لا يقتضي حركة ولا سكونا لتساوي نسبة الأوضاع إليه من حيث ماهيته. فإن اتّفقت حركته بسبب خارجي لم يمانعه ، وإن لم يحركه بقي على وضعه. بل هذا هو الواجب في الحركات الفلكية ، فإنّ طبائعها لا تقتضي وضعا معينا ولا ممانعة فيها. والإرادية لا يجب دوامها من حيث هي إرادية.

سلّمنا ، فلم لا تكون طبيعية وتكون فاقدة لكمال ما لا يمكن حصوله دفعة ، بل على التعاقب؟ وليس المبدأ من حيث هو مهروب عنه يكون مقصدا ، بل باعتبار آخر ولا امتناع في ذلك.

سلّمنا ، فلم لا يجوز أن تكون هاربة عن غير الملائم ، ولا يمكن إلّا بهذه الحركة؟ وذلك بأن يكون السكون غير ملائم لها أو غير ذلك.

وقد اعترض (٢) بأنّ الحركة الفلكية لو كانت اختيارية لاختلفت كالأفعال

__________________

(١) في النسخ : «متوجه» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

(٢) أنظر الاعتراض والجواب عليه في المباحث.

٤٦٧

الحيوانية.

وأجيب : بأنّ الفعل الذي يفعله الحيوان بالداعية الواحدة المستمرة لا يكون مختلفا بل يكون على طريقة واحدة مستمرة لا تتغير فانّه ما لم تتغير داعية الحيوان لا تتغير أفعاله ، فاختلاف الآثار لازم لاختلاف الاختيار لا أنّه لازم لنفس الاختيار ، إذ [لو] (١) أوجب الاختيار نفسه تغير الأفعال لاستحال استمرار الفعل الواحد ، إلّا أن يقال : كل فاعل بالداعي لا بدّ وأن يتغيّر داعيه فيتغير فعله. لكن ذلك باطل ، لأنّ الفعل لما استمر زمانا واستمراره لاستمرار الداعية الواحدة علمنا أنّ الداعية ممكنة البقاء ، وإذا كانت ممكنة البقاء فلتكن ممكنة البقاء دائما ، لأنّ الصحّة لا تتخصص بوقت دون وقت ، وإذا أمكن استمرار الداعية أزلا وأبدا أمكن استمرار الفعل الاختياري أزلا وأبدا. ولهذا قال بطلميوس : إنّ المختار إذا طلب الأفضل ولزمه لم يكن بينه وبين الطبيعي فرق.

وفيه نظر ، لأنّ الاختيار ينافي الأزلية على ما تقدّم فلا يمكن إسناد الحركة الأزلية إليه. وأيضا الحركة الدورية عندهم حافظة للزمان بل هي محلّه ، لأنّ الزمان عندهم مقدار الحركة الدورية والمقدار عرض حالّ في ذي المقدار فإذا كانت الحركة اختيارية لم تكن واجبة الحصول من حيث هي هي فلا يجوز أن يكون شرطا لما يجب وجوده ويمتنع عدمه.

المسألة الثالثة : في أنّ الحركة المستديرة أقدم (٢)

قد عرفت أنّ الحركة إنّما تقع في مقولات أربع. أمّا الحركة الكمية فتحصل

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المباحث.

(٢) راجع التاسع من رابعة الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٣٠٠ ؛ شرح الإشارات ٢ : ٢٤٢ ؛ التحصيل: ٤٥٠ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٤١.

قال بهمنيار بعد ذكر الأدلّة على ذلك : «فالدورية غنيّة عن سائر الحركات ، وسائر الحركات لا تستغني عن الحركة الدوريّة ، فهي إذن أقدم الحركات بالطبع».

٤٦٨

تارة بالنمو والذبول وأخرى بالتخلخل والتكاثف.

أمّا النمو والذبول فإنّ الحركة فيه لا تخلو عن الحركة المكانية في الكم ، لأنّ الحركة في الأقطار زيادة ونقصانا إنّما هي في المكان. وأيضا النمو إنّما يكون بورود الغذاء على النامي ونفوذه فيه على التناسب في الأقطار وذلك حركة مكانية.

وأمّا التخلخل والتكاثف فإنّما يحصلان بعد استحالة في جوهر المتحرك فيهما والاستحالة إنّما تكون بعد الحركة المكانية ، فإنّ الجسم لذاته لا يستحيل في الكيف بل لا بدّ له من ملاقاة غيره حارا أو (١) باردا أو محاذاته له بعد أن لم تكن ، وذلك يستدعي الحركة المكانية ، والحركة المكانية إنّما تكون في الجهات المتأخرة عن محددها ، فهي أقدم الحركات بالطبع ؛ والشرف أيضا لأنّها لا توجد إلّا بعد استكمال الجوهر بالفعل. ولا تكون سببا في فساد الجوهر ولا تزيل عنه شيئا من عوارضه الذاتية بل الزائل النسبة إلى الأمور الخارجية. وهي أيضا ثابتة ولا تقبل الشدّة والضعف بخلاف الطبيعية المشتدة أخيرا والقسرية المشتدة وسطا.

وفيه نظر ، فانّ تقدّم المحدد لو سلم على ذوات الجهة لم يلزم تقدّم حركته على حركتها ، لأنّ المحتاج إليه في تحدد الجهات وجود محيط ولا تشترط فيه الحركة.

المسألة الرابعة : في نسبة الحركة الدورية إلى الحوادث (٢)

كلّ حادث مستند إلى سبب موجب مؤثر ، فانّه يجب أن يكون حادثا إمّا في ذاته أو في شرطه ، إذ لو كان السبب التام قديما لوجب قدم معلوله ، فانّ السبب التام الموجب لو وجد مع عدم مسببه لكان وجود المعلول عند وجود ذلك السبب

__________________

(١) ق : «و».

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٤٢.

٤٦٩

ممكنا فيكون وجوده حين ما يوجد يستدعي علّة زائدة فلا يكون السبب التام سببا تاما ، هذا خلف. فعلّة الحادث الموجبة حادثة والكلام فيها كالكلام في الأوّل ويتسلسل.

فالحوادث العنصرية إن كانت مباديها عنصرية فامّا أن تكون نفس أجسامها أو قوى مركوزة فيها. والأوّل محال لما سبق من امتناع كون الجسم من حيث هو جسم علّة للحركة والسكون. والثاني إمّا أن يكون لتلك القوّة شعور بما يصدر عنها أو لا ، والأوّل هو القوّة الاختيارية ، والثاني إمّا أن تكون تلك القوّة ملائمة للجسم أو لا ، والأوّل هو القوّة الطبيعية ، والثاني القسرية. والقوّة الطبيعية إمّا أن تحصل للبسائط كالنارية والمائية ، أو للمركبات كقوّة المغناطيس الجاذبة للحديد ، فالقوى العنصرية هذه الأربع خاصة ولا شيء منها صالح لمبدئية حدوث الحوادث.

أمّا الاختيارية فلأنّها قوّة على الطرفين فلا بدّ لها من مرجّح فإن كان اختيارا لزم التسلسل أو الانتهاء إلى غيره فلا يكون هو مبدأ أوّل.

وأمّا الطبيعة البسيطة فليست أيضا مبادئ أول ، لأنّ كلّ عنصر يصحّ عليه الكون والفساد فاختصاص حامل تلك القوّة لها إن كان للجسمية ولوازمها عاد المحال في أنّها لا تكون متخالفة الطبيعة وإذا لم تكن متخالفة لم تكن متفاعلة ، فلا تكون القوّة مبدأ فضلا عن أن تكون مبدأ أوّل. وإن كان لأمر مفارق لم تكن القوّة الطبيعية مبدأ أوّل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الاختبار دلّ على أنّ شيئا من القوى الطبيعية لا تفعل آثارها إلّا عند تلاقي حواملها ، والأجسام المتفاعلة متخالفة بالطبع لأنّ الشيء لا ينفعل عن مثله ، والأجسام المتخالفة بالطبع متنازعة بالطبع إلى التباعد وما تكون كذلك فلا تكون متلاقية بالطبع. فإذن تلاقيها لأمر آخر وذلك الأمر إن كان جسما

٤٧٠

عنصريا عاد البحث فيه ، وإلّا توقّف حدوث الحوادث عن القوى الطبيعية على تفاعلها المتوقف على تلاقيها المتوقف على الجامع القاسر لها على الالتقاء. مع أنّ ذلك الجامع ليس من العناصر فالقوى الطبيعية ليست مبادئ أولى.

والقوى المركبة أولى أن لا تكون كذلك.

وأمّا القسرية فظاهر أنّه لا يستند كلّ قسر إلى قسر آخر بغير نهاية ، بل لا بدّ من الانتهاء بالآخرة إمّا إلى طبيعة أو إرادة ، فإذا لم يصلحا لتلك كانت القسرية بأن لا يصلح لها أولى.

فإذن الحوادث العنصرية لا بدّ من استنادها إلى أمور غير عنصرية وهي إمّا أن تكون حادثة أو قديمة. فإن كانت حادثة احتاج كلّ واحد منها إلى آخر لا إلى نهاية ، فتلك الأمور إن كانت معا لزم علل ومعلولات لا نهاية لها دفعة وهو محال ، وإن كان بعضها قبل البعض لم يكن السابق علّة موجدة للاحق. وإن كان قديما فإمّا أن يكون صدور الحوادث عنه موقوفا على تغير أو لا يكون. فإن كان الثاني لزم من قدمه قدم الحوادث ، هذا خلف. وإن كان الأوّل فتلك الأمور المتغيرة يستحيل أن تكون آنية لاستحالة تتالي الآنات. وبتقدير صحّته فكلّ واحد لا يكون متعلّقا بما بعده بل تكون متفاصلة فلا يكون واجب الانتهاء إليه فلا تكون علّة لما بعده ، وقد فرض كذلك. أو زمانية سيّالة وهي الحركة ؛ لأنّه إذا حدث في جسم أمر لم يكن بعد حصلت لعلّة ذلك الأمر إلى الجسم نسبة لم تكن ولا بدّ من حركة توجب قربا بعد بعد وبعدا بعد قرب أو موازاة أو مماسة ويحفظ (١) بذلك أيضا اتصال الحوادث.

والأصل فيه أنّ العلّة (٢) : إمّا معدة فيجوز تقدّمها على المعلول ، لأنّها غير

__________________

(١) في النسخ : «يحيط» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٢) راجع أيضا المصدر نفسه : ٦٠٨.

٤٧١

مؤثرة بل تقرب المعلول إلى حيث يمكن صدوره عن العلّة. وإمّا مؤثرة فإنّه يجب مقارنتها للأثر فلا بدّ من الحركة ، وهي إمّا مستقيمة وهو محال لانتهائها إلى السكون ، أو مستديرة وهو المطلوب.

مثلا : أنّ الثقيل في هويه لا ينتهي إلى حدّ من حدود المسافة إلّا ويصير ذلك الانتهاء سببا لاستعداده لأن يتحرك منه إلى الحدّ الذي يليه والمؤثر في تلك الحركة بالحقيقة هو الثقل. ولكن لو لا انتهاء الجسم بالحركة السابقة إلى ذلك الحدّ لاستحال وجود (١) تلك الحركة ، لأنّ قبل الانتهاء إلى ذلك الحدّ استحال أن يوجب الثقل تحريكه من هناك ولما تحرك إلى ذلك الحدّ صار الثقل بحيث يمكنه تحريكه منه ، فالحركة من ذلك الحدّ كانت ممتنعة الصدور عن الثقل وكانت بعيدة عن العلّة.

ثمّ لمّا صارت ممكنة صارت قريبة وهذا القرب بعد البعد إنّما حصل بسبب الحركة السابقة ، فالحركة السابقة قربت الثقل من تلك الحركة بعد بعده عنها.

ومن الحركات الإرادية أنّ إرادة الذهاب إلى الحجّ إرادة كلية وهي سبب لحصول إرادات جزئية مترتبة تكون كلّ واحدة منها مقرّبة للإرادة الكلية إلى ما بعده ، لأنّه لا ينتهي إلى حدّ من حدود المسافة إلّا وذلك القصد الكلي عند ذلك يقتضي حصول قصد جزئي إلى الانتقال من ذلك الحدّ إلى حدّ آخر ، والمؤثر في وجود تلك المقاصد الجزئية المتتالية المؤثرة في الحركات المتوالية هو القصد الكلي ، وفاعل مقارن لجميع تلك الحوادث.

وإذا تقرر هذا فنقول : لهذه الحوادث سبب قديم أزلي هو واهب الصور ، وفيضه موقوف على استعداد المادة لقبول ذلك الفيض وهذا الاستعداد حادث ـ بعد ما لم يكن ـ بواسطة الحركات والتغيرات حتى يكون كلّ سابق علّة لأن تستعد

__________________

(١) ج : + «أن يوجب» قبل «وجود».

٤٧٢

المادة لقبول اللاحق ، فلا يمكن حدوث شيء من الأشياء إلّا بواسطة حركة تقرّب العلّة إلى المعلول ، وتلك الحركة أيضا حادثة ، فلا بدّ قبلها من حركة أخرى فالحركات لا بداية لها والمستقيمة لها بداية ، فلا بدّ من حركة دورية. ولأنّ الزمان لا بداية له ولا نهاية وهو من لواحق الحركة فلا بداية لها ولا نهاية والمستقيمة متناهية ، فالحركة التي لا بداية لها هي الدورية.

والاعتراض : أنّ كلّ ما تقدّم مبني على أصل فاسد هو استناد الموجودات إلى علّة موجبة بالذات ، وسيأتي بطلانه وأنّ الفاعل قادر مختار ، فاندفع كلّ ما تقدّم.

سلّمنا ، لكن في جميع ما تقدّم نظر ، فانّا نقول : لم لا يجوز أن يكون وجود المعلول أولى ولا تنتهي الأولوية إلى حدّ الوجوب ولا تخرج عن حدّ الإمكان ولا تفتقر إلى علّة أخرى ، لأنّ تلك العلّة كافية في الرجحان؟

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز الاستناد إلى الجسم من حيث هو جسم ، لكن بشرط كما يقولون في القوى الطبيعية؟

سلّمنا ، فلم لا يستند إلى الاختيارية خصوصا ومن مذهبكم أنّ الحركات الدورية مستندة إلى الإرادة والاختيار دون الطبيعة والقسر؟

واستناد الاختيار إلى الغير لا يخرجه عن كونه مبدأ أوّلا ، فانّ الحركة التي جعلوها مبدأ لا بدّ لها من علّة فلا تكون هي المبدأ الأوّل.

وكونها غير متخالفة الطبيعة لا يقتضي عدم تفاعلها ، لأنّ اختلاف الأعراض كاف في التفاعل كما في الماء الحار والبارد. وإذا كان الجامع لتلك العناصر المتخالفة جسما عنصريا كيف يعود البحث فيه؟

وكما جاز استناد كلّ حركة إلى حركة سابقة معدّة ، أو إرادة إلى إرادة أخرى ،

٤٧٣

جاز استناد كلّ قسر إلى قسر آخر.

وقولهم : «لا قسر دائم» مقدّمة لم يقيموا عليها برهانا.

وكما لا يجوز أن يكون السابق علّة موجدة للاحق يمتنع أيضا أن يكون علّة معدّة ، لأنّه لو كان علّة معدّة وجب حصول معلوله وهو الإعداد وإلّا لزم تخلف المعلول عن علّته ، ولو جاز ذلك ، جاز أن تكون علّة موجدة ولا يلزم الوجود.

وإذا حصل الإعداد وجب الفيض لحصول القابل التام والفاعل.

وإنّما يجب من قدم المؤثر قدم الأثر لو كان التأثير على سبيل الإيجاب ، أمّا إذا كان على وجه الاختيار فلا.

والذي ألزمه في الآني يلزمه في الزماني ، لأنّ الزماني لا يجوز أن يكون علّة للآني. فهذه الحركة إذا كانت علّة في الإعداد والتقريب بعد البعد فذلك الإعداد والتقريب إن كان آنيا لزم إسناد الآني إلى الزماني وهو محال ، وإن كان زمانيا وجب أن يكون معلوله كذلك فلا تكون للحادث الآني علّة زمانية ، فبطل دليلهم.

وكما يمتنع بعدم العلّة المؤثرة يمتنع بعدم العلّة المعدّة ، لأنها مؤثرة في الإعداد فيجب وجوده معها ويجب وجود المعلول حينئذ.

وانتهاء الحركة المستقيمة إلى السكون ، ممنوع.

سلّمناه ، لكن حدوث الحادث يتوقّف على حدوث إعداد ما وذلك الإعداد لا يجب أن يستند إلى حركة معيّنة خاصّة ، فجاز أن تبتدئ حركة مع انقطاع غيرها.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ تلك الحركة يجب أن تكون مستديرة جسمانية ، فجاز أن تصدر عن نفس حركات اختيارية أو غيرها.

ثمّ نقول : انتهاء المتحرك إلى حدّ معيّن بحيث يستعد بذلك للوصول إلى

٤٧٤

غيره لا بدّ وأن يكون لاستعداد صادر عن قوّة ، فنقول : ذلك الاستعداد للوصول إلى ذلك الحدّ المعيّن كان موجودا قبل الوصول ، فإمّا أن يكون موجودا بالفعل أو بالقوّة. والثاني محال ، وإلّا لم يكن الوصول بعد ذلك حاصلا بالفعل. والأوّل باطل أيضا ، لأنّه إمّا أن يكون في الجسم استعداد بالفعل للوصول إلى كلّ حدّ من الحدود المتوسطة من المبدأ والمنتهى ، أو للوصول إلى بعض الحدود دون بعض. والأوّل يستلزم وجود ما لا يتناهى دفعة واحدة. والثاني يقتضي أولوية الرجحان لأحد المساويين دون الآخر من غير مرجّح وهو محال. ولا يمكن أن يقال : الاستعداد أيضا حاصل على التدريج ، لأنّ الوصول إلى الحدّ المعيّن آني الوجود ، فعلّته كذلك.

المسألة الخامسة : في أنّه لا يجتمع في الجسم مبدأ الاستقامة والاستدارة (١)

إنّه لا يمكن أن يجتمع في الجسم الواحد مبدءان : أحدهما يقتضي الحركة المستقيمة ، والآخر يقتضي الحركة المستديرة ؛ لأنّه إمّا أن يحصل الأثران معا ، أو يعدمان معا ، أو يوجد أحدهما دون الآخر ، أو توجد حالة متوسطة بينهما ، والكلّ محال.

أمّا الأوّل : فلأنّه يقتضي حصول المتضادين دفعة واحدة وهو محال ، لأنّه بالحركة المستقيمة يكون متوجها إلى تلك الجهة وبالحركة المستديرة يكون منصرفا عنها ، والجسم الواحد يستحيل أن يكون متوجها إلى جهة ومنصرفا عنها دفعة واحدة.

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٢ : ٢٣٨ ؛ الفصل الثاني عشر من رابعة الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء : ٣١٧ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ١٠٩ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٤٦.

٤٧٥

والثاني : محال ، لأنّ ذلك يقتضي أن لا يكون في الجسم مبدأ حركة مستقيمة ومستديرة معا ، مع أنّا قد فرضنا حصولهما فيه. أو يلزم حصول المبدأ مع تعذر حصول الأثر مطلقا ، وهو محال.

والثالث : محال ، لأنّه ترجيح من غير مرجّح. ولأنّ حصول أحدهما خاصّة هو المطلوب من امتناع اجتماعهما.

والرابع : محال ، لأنّ الاستقامة والاستدارة لا تقبلان الأشد والأضعف فيستحيل أن تحصل عند امتزاجهما حالة متوسطة.

اعترض (١) : بإمكان أن يجتمع فيه الميلان المستقيم والمستدير لكن عند حصول حالتين متضادتين ، وذلك بأن يقتضي ميله الحركة المستديرة إذا كان في مكانه الطبيعي وإذا كان خارجا عنه اقتضى الحركة المستقيمة ، كما أنّ عند كونه في المكان الطبيعي يقتضي السكون وإذا كان خارجا عنه يقتضي الحركة.

وأجيب : بأنّه عند كونه في غير حيزه الطبيعي يحصل فيه الميل المستقيم فإمّا أن يكون فيه مبدأ الميل المستدير أو لا ، فإن لم يكن فعند حصوله في ذلك الحيز الطبيعي يجب أن لا يحصل أيضا. إلّا إذا قيل : إنّه يحدث فيه ذلك الميل. لكنّه حينئذ لا يكون غريزيا له بل يكون تابعا لحصوله في مكانه الطبيعي ، وذلك لا يوجب ميلا عن حالة إلى حالة مثلها ولا هربا عن الشيء إلى مثله. ولا يمكن أن يقال : القوّة النفسانية هناك تأخذ في التحريك على الاستدارة ؛ لأنّ التحريك الخارجي ممّا لا يقبله الجسم إلّا وله بحسب طبعه مبدأ ميل لازم له. بخلاف اقتضاء الجسم السكون عند حصوله في مكانه الطبيعي والحركة عند خروجه عنه ، لأنّ اقتضاء الطبيعة السكون يجوز أن يتوقف على الحصول في الحيز الطبيعي ، وأمّا في اقتضاء الميل المستدير فلا يجوز أن يتوقّف على الحصول في الحيز الطبيعي ؛ لأنّ

__________________

(١) وهو اعتراض مشهور ، كما في شرح الإشارات.

٤٧٦

أجزاء المكان متشابهة ومن الممتنع أن يكون الحصول في المكان ممّا يقتضي زوالا عن حالة إلى حالة تشابههما من كلّ الوجوه. فظاهر أنّ الجسم الذي فيه مبدأ ميل مستدير لو كان فيه مبدأ ميل مستقيم لوجب أن يكون عند حركته المستقيمة متحركا على الاستدارة ، لكن الاستقامة والاستدارة لا تقبلان الزيادة والنقصان فيستحيل أن يحصل من امتزاجهما شيء متوسط بينهما. فإذن يكون الجسم متوجها بحركته المستقيمة إلى ذلك الحيز ومنصرفا عنه بحركته المستديرة دفعة واحدة ، وهو محال. فإذن كلّ ما فيه مبدأ ميل مستقيم يمتنع أن يكون فيه مبدأ ميل مستدير.

وفيه نظر ، لأنّه لا امتناع بين الحركة في الوضع وفي الأين ، وإذا أمكن اجتماعهما جاز اجتماع مبدأيهما.

ولا نسلّم أنّه بالحركة المستديرة يكون متوجها إلى ضدّ ما اقتضته الحركة المستقيمة.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن لا يحصل الأثران معا؟

ولا امتناع في وجود العلّة بدون المعلول لوجود مانع منع من التأثير.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز حصول أحدهما لمرجّح لا نعلمه؟

والمطلوب غير لازم ، لأنّ المطلوب عدم اجتماع الميلين لا عدم اجتماع الأثرين.

سلّمنا ، لكن تحصل حركة كوكبية لا يمتزجه من المستقيم والمستدير.

وفي جواب الاعتراض نظر ؛ لأنّا نمنع عدم كونه غريزيا إذا حدث عند حصول الجسم في مكانه الطبيعي ، لجواز أن تكون الطبيعة تقتضيه عند حصول الحالة الطبيعية. وجاز أن لا يكون المطلوب بالحركة الوضعية القرب عن حالة ، ولا الطلب الأخرى ، بل استخراجات الكمالات الممكنة من القوّة إلى الفعل كما هو

٤٧٧

معتقدهم.

سلّمنا ، لكن لم لا يكون نفسانيا؟ ولا يجب في النفساني الوضعي أن يقتضي الجسم بطبعه ميلا متضادا فجاز أن يقتضي السكون.

تذنيب : الحركة الكوكبية ليست بسيطة ، لامتناع قبول الاستقامة والاستدارة الأشد والأضعف حتى تحصل هناك حركة واحدة بسيطة متوسطة بينهما ، بل لا بدّ وأن تكون مركّبة من حركات مستقيمة ومستديرة لا يتميز في الحس انفصال بعضها من بعض.

٤٧٨

النوع السادس من التقسيم

التقسيم إلى ما يكون بالذات وبالعرض

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تحقيق هذه القسمة (١)

اعلم أنّ الشيء إذا وصف بالحركة فإمّا أن يكون باعتبار حصولها فيه بالحقيقة ، وهي الحركة الذاتية ، والموصوف بها يسمى متحركا بالذات ، كحركتي الحجر صعودا وهبوطا والإنسان يمنة ويسرة. وإمّا أن يكون باعتبار حصولها فيما يقارن ذلك الشيء لا باعتبار حصولها فيه بالاستقلال ، وتسمّى الحركة العرضية ، والموصوف بها يسمى متحركا بالعرض ، وذلك كحركة المحوى في الحاوي بحركة الحاوي كالجالس في السفينة يتحرك بحركة السفينة (٢) والراكب على الدابة يتحرك بحركتها. وقد يجتمعان معا كحركة الرجل في السفينة المتحركة يمنة ويسرة وقدام وخلف.

__________________

(١) راجع أرسطو طاليس ، الطبيعة ٢ : ٤٨٩ (المقالة الخامسة) ؛ الثالث عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) ١ : ٣٢٠ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٣٦ ؛ شرح حكمة العين : ٤٥٧ ؛ إيضاح المقاصد من حكمة عين القواعد (شرح حكمة العين) : ٢٩٣ ؛ مناهج اليقين للعلامة : ٥٩ ؛ مقاصد الفلاسفة : ٣٠٩ (قسمة ثانية للحركة باعتبار سببها) ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٤٩.

(٢) وفي شرح حكمة العين في هذا المثال نظر ، فراجع.

٤٧٩

والقسم الأوّل لا بدّ وأن تكون الحركة فيه لقوّة مودعة في الجسم المتحرك ، لامتناع صدورها عن الجسمية. فتلك القوّة إن حصلت لذلك الجسم من أمر خارجي عن ذاته لولاه لما وجدت ، وهي القوّة القسرية والحركة بها تكون قسرية كحركة الحجر إلى فوق. أو تكون بسبب موجود في ذات الجسم. فإمّا أن يكون له شعور بما يصدر عنه أو لا. والأوّل هو الحركة الإرادية ، كحركة الإنسان باختياره في جهة إرادية. والثاني هو الحركة الطبيعية ، كحركة الحجر إلى أسفل. فالحركات إذن هذه الأربع : الطبيعية والإرادية والقسرية والتي بالعرض. فلنبحث عن أحكامها.

المسألة الثانية : في أنّ الحركة ليست طبيعية مطلقا (١)

الطبيعة أمر ثابت باق قار الذات مستمر الوجود على نهج واحد والحركة ليست ثابتة قارة الذات مستمرة على نهج واحد ، فلا تكون صادرة عن الطبيعة وحدها لوجوب بقاء المعلول ببقاء علّته.

ولو كانت الحركة قارّة الوجود لم تكن حركة ، هذا خلف.

وأيضا لو كانت الطبيعة بانفرادها (٢) مقتضية للحركة امتنع سكونه في مكان أصلا ، وحينئذ لا يكون شيء من الأمكنة طبيعيا له فلا يكون شيء من الأمكنة مطلوبا له فلا يكون الجسم متوجها إلى شيء من الأمكنة فلا يكون متحركا ولا ساكنا ، هذا خلف.

__________________

(١) راجع التاسع من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) ؛ إلهيات النجاة : ١١٥ (فصل في أنّ الفاعل القريب للحركة الأولى نفس) ؛ شرح حكمة العين : ٤٢٦ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٣٧ ؛ مقاصد الفلاسفة : ٣١٠ ؛ كشف المراد : ٢٧٢ و ٢٧٣ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٢٤ (المقصد الرابع) ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٣٠.

(٢) في النسخ : «بأفرادها».

٤٨٠