نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

١
٢

البحث السادس

في حدوث الأجسام (١)

__________________

(١) وهي من أجلّ المسائل وأشرفها ، وهي محل النزاع والمعارك بين الفلاسفة والمتكلمين. كشف المراد : ١٧٠ ؛ أنوار الملكوت : ٢٨. وقال الرازي : يروى عن جالينوس أنّه قال في مرضه الذي توفي فيه لبعض تلامذته : «اكتب عني ، إنّي ما عرفت أنّ العالم محدث أو قديم ...؟» ومن الناس من جعل هذا طعنا فيه ، وقال : «إنّه خرج من الدنيا كما دخل حيث لم يعرف هذه الأشياء».

وإنّا نقول : هذا من أدلّ الدلائل على أنّ الرجل كان منصفا ، طالبا للحقّ. فانّ الكلام في هذه المسألة قد بلغ في العسر والصعوبة إلى حيث تضمحل أكثر العقول فيه. والله أعلم. المطالب العالية ٤ : ٢٧.

وقد اشتد الصراع في هذه المسألة في تاريخ الفكر الإسلامي ؛ وذلك لعدّة أسباب أهمها : ١ ـ غموض المسألة في حد ذاتها. ٢ ـ تشعب الأدلّة وتعارضها بحيث تاهت فيها العقول ، ٣ ـ مهاجمة كلّ فريق للفريق الآخر واتهامه بالكفر والإلحاد. وقد أشار أبو البركات البغدادي إلى هذا الصراع ، فقال : شنع بعضهم على بعض ، فسمّى أهل الحدوث الفريق الثاني القائل بالقدم دهرية ، وسمّى أهل القدم أهل الحدوث معطلة ، لأنّهم قالوا بتعطيل الله عن وجوده مدّة لا نهاية لها في البداية. المعتبر في الحكمة ٣ : ٤٣.

وقد كانت هذه المسألة من أهمّ الأسباب التي كفّر بها الغزالي الفلاسفة. راجع د. محمد رمضان عبد الله ، الباقلاني وآراؤه الكلامية : ٣٤٩ ـ ٣٥٠. ـ

٣

وفيه مسائل

المسألة الأولى : في نقل المذاهب في هذا المقام

إنّ القسمة العقلية منحصرة في أقسام أربعة (١) :

القسم الأوّل : أن يكون العالم محدث الذات والصفات (٢) ، وهو مذهب المسلمين وغيرهم من أرباب الملل (٣) وبعض قدماء الحكماء.

__________________

ـ ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ العلوم تثبيت بكلّ وضوح أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا ، فهناك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة ، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوّة ذاتية ، بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة ، ومعنى ذلك أنّ الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام ، وينضب فيها معين الطاقة ، ويومئذ لن تكون هنالك عمليات كيمياوية أو طبيعية ، ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون.

ولما كانت الحياة لا تزال قائمة ، ولا تزال العمليات الكيمياوية والطبيعية تسير في طريقها ، فإنّنا نستطيع أن نستنتج أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّا ، وإلّا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد ، وتوقف كلّ نشاط في الوجود ، وهكذا توصلت العلوم ـ دون قصد ـ إلى أنّ لهذا الكون بداية.

لاحظ كتاب «الله يتجلى في عصر العلم» : ٢٦ ـ ٢٧.

(١) قال الرازي : والوجوه الممكنة فيه لا تزيد على أربعة. وقد شرحها الطوسي في نقد المحصل : ١٨٩ وما يليها.

ولكن الرازي عدّ قسما خامسا في كتابه المطالب العالية ٤ : ٢٧ وقال : «إنّ الخامس : هو التوقف وعدم القطع» ونسب هذا القسم إلى جالينوس. وينقله العلّامة أيضا في نهاية هذه المسألة.

(٢) أي بمادته وصورته. المطالب العالية ٤ : ١٩. وفي شرح المواقف : «بذاتها الجوهرية وصفاتها العرضية» ، ٧: ٢٢٠.

(٣) من النصارى واليهود والمجوس ، كما في المصدرين السابقين.

٤

القسم الثاني : أن يكون قديم الذات والصفات ، وهو قول أرسطو وثاوفرسطس (١) وثامسطيوس (٢) وبرقلس (٣) ومن المتأخرين قول أبي نصر

__________________

ـ قال الشهرستاني : «مذهب أهل الحقّ من أهل الملل كلّها انّ العالم محدث ومخلوق أحدثه الباري تعالى وأبدعه وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء ووافقهم على ذلك جماعة من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة مثل : ثاليس وانكساغورس وانكسمانس ومن تابعهم من أهل ملطية ومثل : فيثاغورس وابنذقلس وسقراط وافلاطون من اثينية ويونان ... ومذهب أرسطاطاليس ومن شايعه مثل برقلس والاسكندر الافروديسي وثامسطيوس ومن نصر مذهبه من المتأخرين مثل أبي نصر الفارابي وأبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا وغيرهما من فلاسفة الإسلام انّ للعالم صانعا مبدعا وهو واجب الوجود بذاته والعالم ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بالواجب بذاته غير محدث حدوثا يسبقه عدم ، بل معنى حدوثه وجوبه به وصدوره عنه واحتياجه إليه ، فهو دائم الوجود لم يزل ولا يزال». نهاية الاقدام : ٥ ـ ٦ (القاعدة الأولى).

وقال الرازي : «مذهب جملة المسلمين : أنّ العالم محدث وليس بأزلي. ومذهب الدهريين والطبيعيّين : أنّ العالم قديم أزلي. وكما أنّ قرص الشمس لا يكون خاليا عن النور أبدا وإن كان جرم الشمس علّة لوجود النور ، كذلك ذات الباري تعالى ما كان خاليا عن وجود العالم أبدا وإن كان ذاته علّة مؤثرة في وجود العالم» ، المسائل الخمسون في أصول الدين : ١٨.

وانظر تفصيل المطالب وتوضيح المقاصد للحكماء والمتكلّمين في الأسفار ٥ : ٢٠٥ وما يليها (فصل ٣ في أنّ القول بحدوث العالم مجمع عليه بين الأنبياء عليهما‌السلام والحكماء).

(١)Theophrastus) نحو ٣٧١ ـ ٢٨٦ ق. م) : فيلسوف يوناني أخذ العلم في اثينا من أفلاطون وأرسطو وخليفته على رئاسة اللوقيين أو المدرسة المشائية. بلغ تلامذته الألف وكان له نفوذ عظيم في الأمور العامة. له تأليفات عدّة في السياسة والشريعة والقضاء والخطابة. راجع : الشهرستاني ، الملل والنحل : ٤٨٢ ؛ الحفني ، د. عبد المنعم ، الموسوعة الفلسفية : ١٤٧ ـ ١٤٨ ؛ طرابيشي ، جورج ، معجم الفلاسفة : ٢٢٨.

(٢)Themesteus , أفلاطوني محدث من شراح أرسطو ، مدير جامعة القسطنطينية ، لعب دورا سياسيا هاما ونال حظوة عند الامبراطور جوليان ، وبقيت من شروحه التحليلات الثانية والسماع الطبيعي والنفس والسماء ومقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة ، حاول فيها التوفيق بين أفلاطون وأرسطو. المصادر نفسها.

(٣)Proclus ويرد اسمه أيضا فرقلس أو فرقليس : فيلسوف يوناني أفلاطوني ولد في القسطنطينية ـ

٥

الفارابي (١) والرئيس ، قالوا السماوات قديمة بذواتها وصفاتها المعينة ، إلّا الحركات والأوضاع فإنّها قديمة بنوعها لا بشخصها. والعناصر الهيولى منها قديمة بشخصها ، والصور الجسمية قديمة بنوعها لا بشخصها ، والصور النوعية قديمة بجنسها لا بنوعها ولا بشخصها.

القسم الثالث : أن يكون قديم الذات محدث الصفات ، وهو قول من تقدّم أرسطو بالزمان كتاليس الملطي (٢) وانكساغورس (٣) وفيثاغورس وسقراط وجميع

__________________

ـ سنة ٤١٢ م ، تمسك بمذهب التزهد ، فامتنع عن الأطعمة الحيوانية ورفض الزواج. الشهرستاني ، الملل والنحل: ٤٨٢.

ويمثل حلقة اتصال مهمة جدا بين نهاية الفلسفة اليونانية وبداية فلسفة العصور الوسطى الاوربية والفلسفة الإسلامية ، جمع بين النزعة العقلية الدقيقة وبين الاعتقاد في الخوارق والسحر أي بين العقل والدين ، والمعقول واللامعقول. وقد لخص الدكتور عبد الرحمن بدوي الملامح الرئيسية لفلسفته. موسوعة الفلسفة ١ : ٣٤٥.

(١) راجع الفارابي ، الجمع بين رأيي الحكيمين : ١٠٣.

(٢) تاليس : (٦٤٠ ق. م) وهو أوّل من تفلسف في الملطية ، وكان لا يبني المعارف في الفلسفة إلّا على التجربة. الشهرستاني ، الملل والنحل : ٣٧٠.

(٣) انكساغورس : (٥٠٠ ق. م) ولد باليونان ووضع كتيبا في الطبيعة الكونية وله تأثير على فلسفة إبراهيم النظام. وهو أوّل من أدخل الفلسفة إلى اثينا.

ومن آرائه التي تميز بها انّه أرجع الحركة إلى علّة غير مادية وهي العقل ، ونقده أرسطو وأفلاطون في ذلك. وكان هذا العقل أوّل محاولة جريئة انتقل فيها الفلاسفة اليونانيون من التفسير المادي الخالص إلى تفسير ثنائي يجمع بين المادة واللامادة.

وأمّا نظريته في المعرفة ، فقال : انّ المعرفة الحسية معرفة وهمية خاطئة وانّ المعرفة العقلية هي وحدها المعرفة الصحيحة. راجع : الحفني ، د. عبد المنعم ، الموسوعة الفلسفية : ٧٢ ؛ بدوي ، د. عبد الرحمن ، موسوعة الفلسفة ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٨.

٦

الثنوية (١) ، كالمانوية (٢) والديصانية (٣) والمرقونية (٤) والماهانية (٥). ثمّ هؤلاء افترقوا فرقتين :

[الفرقة الأولى] : فذهب بعضهم إلى أنّ تلك الذات القديمة كانت جسما. ثمّ اختلف هؤلاء : فزعم تاليس أنّه الماء ؛ لأنّه قابل لكلّ الصور ، وزعم أنّه إذا انجمد صار أرضا ، وإذا لطف صار هواء ، ومن صفوة الماء (٦) تكوّنت النار ، ومن

__________________

(١) الثنوية : تعتقد بأنّ النور والظلمة مبدءان أو أصلان للعالم متضادان وأزليان وهما يزدان وأهرمن.

راجع : الملل والنحل ٢ : ٢٦٨ ؛ الموسوعة الفلسفية : ١٤٧.

(٢) المانوية : أصحاب ماني بن فاتك الثنوي الزنديق الهمداني الأصل ، وهو حكيم ظهر في زمان شابور ابن أردشير ملك الفرس ، وتزعم المانوية انّ العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة وانّهما أزليان. واستخرج ماني ، مذهبه من المجوسية والنصرانية وكتب كتبهم بقلم مستخرج من السرياني والفارسي. راجع الملل والنحل ٢ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ؛ النديم ، الفهرست : ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(٣) الديصانية : أصحاب ديصان ، وإنّما سموا بهذه التسمية لأنّ ديصان سمي باسم نهر ولد عليه وهو قبل ماني صاحب المانوية. وأثبتت الديصانية أصلين نورا وظلاما ، إلّا انّهم اختلفوا عن المانوية في اختلاط النور بالظلمة. راجع : الملل والنحل : ٢٧٨ ؛ الموسوعة الفلسفية : ١٨٩ ؛ النديم ، الفهرست : ٤٠٢.

(٤) المرقيونية : أصحاب مرقيون وهم طائفة من النصارى أقرب من المنانية والديصانية. أثبتوا قديمين أصلين متضادين ، أحدهما النور والآخر الظلمة ، وأثبتوا أصلا ثالثا هو المعدل الجامع ، وهو سبب المزاج. وقالوا : الجامع دون النور في الرتبة وفوق الظلمة ، وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم. راجع : الملل والنحل ، ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨١ ؛ الموسوعة الفلسفية : ١٤٧ ؛ الفهرست : ٤٠٢.

(٥) الماهانية : طائفة من المرقيونية ، يخالفونهم في شيء ويوافقونهم في شيء ، يوافقون المرقيونية في جميع الأحوال إلّا النكاح والذبائح ويزعمون انّ المعدل بين النور والظلمة هو المسيح. الفهرست : ٤٠٢.

(٦) وفي نقل الشهرستاني : «صفوة الهواء». الملل والنحل ٢ : ٣٧٢.

٧

الدخان تكوّنت السماء.

ويقال : إنّه أخذه من التوراة ؛ لأنّه جاء في السفر الأوّل منه (١) : «إنّ الله تعالى خلق جوهرا ، فنظر [إليه] نظرة الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ، ثمّ ارتفع [منه] بخار كالدخان فخلق منه السماوات ، وظهر على وجه الماء زبد فخلق منه الأرض ، ثمّ أرساها بالجبال».

ونقل صاحب الملل عن تاليس الملطي أنّه قال : إنّ المبدأ الأوّل أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والعدمات كلّها ، فانبعث من كلّ صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأوّل فحمل الصور ومنبع الموجودات هو ذات العنصر. وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسّي إلّا وفي ذات العنصر صورة ومثال عنه.

قال : ويتصوّر العامة أنّ صور المعدومات في ذات المبدأ الأوّل ، لا بل هي في مبدعه ، وهو تعالى بوحدانيته أن يوصف بما يوصف به مبدعه.

ثمّ قال : ومن العجب أنّه نقل عنه : المبدع الأوّل هو «الماء» ومنه ابدع الجواهر كلّها من السماء والأرض وما بينهما ؛ فذكر أنّ من جموده تكوّنت الأرض ، ومن انحلاله تكوّن الهواء ومن صفوة الهواء تكوّنت النار ، ومن الدخان والأبخرة تكوّنت السماء ، ومن الاشتغال الحاصل من الأثير تكوّنت الكواكب فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه.

__________________

(١) ما وجدنا العبارة في السفر الأوّل ولا في بقية الأسفار من التوراة وقد يعبّر الفارابي عن هذه الأقوال بالأعاجيب ، حيث قال في باب حدوث العالم : «ومن أحبّ الوقوف على ذلك فلينظر في الكتب المصنفة في المبدءات والأخبار المروية فيها والآثار المحكية عن قدمائهم ، ليرى الأعاجيب من قولهم بانّه كان في الأصل ماء فتحرك واجتمع زبد وانعقد منه الأرض وارتفع منه الدخان وانتظم منه السماء» ، الجمع بين رأيي الحكيمين : ١٠٣.

٨

وفي الأخير قال : وفي التوراة في المبدأ الأوّل : جوهر خلقه الله تعالى ثمّ نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه ، فصارت ماء ، ثمّ ارتفع منه بخار كالدخان فخلق منه السماوات ، وظهر على وجه الماء زبد فخلق منه الأرض ، ثمّ أرساها بالجبال.

قال : وكأنّ تاليس الملطي إنّما تلقّى مذهبه من هذه المشكاة النبويّة.

قال : والماء على القول الثاني ، شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش في قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١).

وأمّا انكسيمانس الملطي (٢) ، فانّه زعم أنّ ذلك الجسم هو الهواء ، والنار تكوّنت من لطافته ، والماء والأرض من كثافته.

ونقل عنه صاحب الملل : أنّ أوّل الأوائل من المبدعات هو الهواء ، وهذا أيضا مأخوذ من مشكاة النبوّة (٣).

وقال آخرون : إنّه الأرض وتكونت الأشياء عنها بالتلطيف.

وقال آخرون : إنّه البخار ، وتكون الهواء والنار عنه بالتلطيف ، والماء والأرض بالتكثيف.

وذهب ايرقليطيس (٤) : أنّه النار ، وكوّن الأشياء عنها بالتكاثف.

__________________

(١) سورة هود ، الآية ٧.

(٢)Anaximenes) نحو ٥٨٨ ـ ٥٢٤ ق. م) : من الملطيين المعروف بالحكمة المذكور بالخير عندهم. وهو ثالث وآخر فلاسفة مدرسة ملطية بدأها طاليس وواصلها تلميذه انكسمندر واختتمها انكسيمانس. ردّ العالم إلى مادة أولى هي الهواء ، لأنّه بدونه تموت الاحياء. الملل والنحل ٢ : ٣٧٧ ؛ الفهرست ٣٤٦ ؛ الموسوعة الفلسفية: ٧٢.

(٣) الشهرستاني ، الملل والنحل ٢ : ٣٧١ ـ ٣٧٣ و ٣٧٨ بتصرف في بعض العبارات وحذف بعضها.

(٤) إيرقليطس ، أو هرقليطس (نحو ٥٤٠ أو ٥٣٥ ق. م ـ ٤٧٥ ق. م) : ولد في أفسوس من أعمال آسيا الصغرى من أسرة نبيلة لها منزلتها العالية بين أهل المدينة. وقد ألف كتابا في علم الطبيعة. قصة الفلسفة اليونانية : ٥٦ ؛ ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة : ٦٤.

٩

وحكى فلوطرخس (١) : أنّ أيرقليطيس زعم أنّ الأشياء إنّما انتظمت بالبخت (٢) ، وجوهر «البخت» هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي.

وأمّا انكساغورس فانّه قال : إنّ ذلك الجسم هو الخليط الذي لا نهاية له ، وهو أجسام غير متناهية. وفيه من كلّ نوع أجزاء صغيرة متلاقية أجزاء على طبيعة الخبز وأجزاء على طبيعة اللحم ، فإذا اجتمع من تلك الأجزاء شيء كثير وصار بحيث يحس ويرى ، ظنّ أنّه حدث. وهذا القائل بنى مذهبه هذا على إنكار المزاج والاستحالة وقال بالكمون والظهور.

وزعم بعض هؤلاء : أنّ ذلك الخليط كان ساكنا في الأزل ، ثمّ إنّ الله تعالى حرّكه فتكوّن منه هذا العالم.

ونقل صاحب الملل عن انكساغورس : أنّ مبدأ الموجودات متشابه الأجزاء ، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس ولا يناله العقل. قال : وهو أوّل من قال بالكمون والظهور(٣). ولم ينقل عنه القول بالخليط.

وذهب ذيمقراطيس إلى أنّ أصل العالم أجزاء كثيرة كريّة الشكل ، قابلة للقسمة الوهمية دون القسمة الانفكاكية متحركة لذاتها حركات دائمة. ثمّ اتّفق في تلك الأجزاء أن تصادمت على وجه خاص ، فحصل من تصادمها على ذلك الوجه هذا العالم على هذا الشكل ، فحدثت السماوات والعناصر ، ثمّ حدثت من

__________________

(١) فلوطرخس (نحو ٤٦ ـ ١٢٧ م) : «مفكر ومؤرخ فلسفة وسياسة ، ولد في اليونان. كان خصما للخرافات والأساطير الرواقية والابيقورية. اهتم بمشكلة الشر فارجعها إلى المادة. له كتاب الانهار وخواصها وما فيها من العجائب. الملل والنحل ٢ : ٤١٦ ؛ موسوعة الفلسفة ٢ : ١٩٥ ؛ الفهرست : ٣١٤.

(٢) انظر تفسير البخت والاتفاق وأقسامه في الفصل الثالث عشر من المقالة الأولى من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٣) الملل والنحل : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ و ٣٧٦.

١٠

الحركات السماويّة امتزاجات هذه العناصر ، ومنها هذه المركبات (١).

ونقل الشيخ في الشفاء عنه أنّه قال : إنّ هذه الأجزاء إنّما تتخالف بالشكل وأنّ جوهرها جوهر واحد بالطبع وإنّما تصدر عنها أفعال مختلفة لأجل الأشكال المختلفة (٢).

وقالت الثنوية : أصل العالم هو النور والظلمة.

الفرقة الثانية : الذين قالوا : أصل العالم ليس بجسم وهم فريقان :

الفريق الأوّل : الحرنانية (٣) : وهم الذين أثبتوا القدماء الخمسة : الباري تعالى والنفس والهيولى والدهر والخلاء.

قالوا : الباري تعالى في غاية التمام في العلم والحكمة لا يعرض له سهو ولا غفلة ويفيض عنه العقل ، كفيض النور عن القرص ، وهو يعلم الأشياء علما تاما.

وأمّا النفس ، فانّه يفيض عنه الحياة فيض النور عن القرص ، لكنّها جاهلة لا تعلم الأشياء ما لم تمارسها. وكان الباري تعالى عالما بأنّ النفس ستميل إلى التعلق بالهيولى وتعشقها وتطلب اللّذة الجسمية وتكره مفارقة الأجسام وتنسى نفسها ، ولمّا كان من شأن الباري تعالى في الحكمة التامة عمد إلى الهيولى بعد تعلّق النفس بها ، فركّبها ضروبا من التراكيب ، مثل السماوات والعناصر ، وركّب أجسام

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤٢١ ؛ تلخيص المحصل : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) الفصل الأوّل من المقالة الواحدة من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.

(٣) بفتح الحاء وسكون الراء المهملتين وبالنون وذكر في الصحاح انّ حرنان اسم بلد والنسبة حرناني على غير قياس والقياس حرّاني بتشديد الراء. شرح المواقف ٧ : ٢٢١.

وهم مع اعتقادهم بوجود الله تعالى يقولون : وما يهلكنا إلّا الدهر ولا دار سوى هذه الدار وما تميتنا إلّا الأيام والليالي ومرور الزمان وطول العمر ، ويسندون الحوادث إلى الدهر.

وينسب الطوسي القول بالقدماء الخمسة إلى ابن زكريا الطبيب الرازي وكتاب له موسوما ب «القول في القدماء الخمسة». راجع تلخيص المحصل : ١٢٦.

١١

الحيوانات على الوجه الأكمل. والذي بقي فيها من الفساد غير ممكن الزوال.

ثمّ إنّ الله تعالى أفاض على النفس عقلا وإدراكا ، وصار ذلك سببا لتذكرها عالمها ، وسببا لعلمها بأنّها لا تنفك عن الآلام ما دامت في العالم الهيولاني. وإذا عرفت النفس هذا وعرفت أنّ لها في عالمها اللذات الخالية عن الألم اشتاقت إلى ذلك العالم وعرجت بعد المفارقة وبقيت هناك أبد الآباد في نهاية البهجة والسعادة.

قالوا : وبهذا الطريق زالت الشبهات الدائرة بين الفلاسفة القائلين بالقدم وبين المتكلّمين القائلين بالحدوث ؛ فإنّ القائلين بالقدم قالوا : لو كان العالم محدثا فلم أحدثه الله تعالى في هذا الوقت ، دون ما قبله وما بعده؟ وإذا كان الخالق تعالى حكيما فلم ملأ الدنيا من الآفات؟

والقائلون بالحدوث قالوا : لو كان العالم قديما لكان غنيا عن الفاعل ، وهو باطل قطعا لما نرى من آثار الحكمة وظهورها في العالم.

وتحير الفريقان في ذلك. وأمّا على الطريق الذي سلكناه فالإشكالات بأجمعها زائلة ؛ لأنّا لمّا اعترفنا بالصانع الحكيم لا جرم قلنا بحدوث العالم. فإذا قيل : فلم أحدث العالم في هذا الوقت؟ قلنا : لأنّ النفس إنّما تعلقت بالبدن (١) في ذلك الوقت ، وعلم الباري تعالى أنّ ذلك التعلق سبب الفساد ، إلّا أنّه بعد وقوع المحذور صرفه إلى الوجه الأكمل بحسب الإمكان. وأمّا الشرور الباقية ، فإنّما بقيت لعدم إمكان تجريد هذا المركب عنها.

بقي هنا سؤالان :

الأوّل : لم تعلقت النفس بالهيولى بعد تجردها؟ فإن حدث هذا التعلق بكلّيته لا عن سبب ، فجوزوا حدوث العالم بكليته لا عن سبب.

__________________

(١) في عبارة الرازي : «الهيولى». تلخيص المحصل : ١٩٣.

١٢

الثاني : أن يقال : فهلّا منع الباري تعالى النفس من التعلق بالهيولى؟

والجواب عن الأوّل : بأنّ هذا السؤال غير مقبول من المتكلمين ؛ لأنّهم يقولون : القادر المختار يرجّح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجّح ، فهلّا جوزوا ذلك في النفس؟ وغير مقبول من الفلاسفة أيضا ؛ لأنّهم جوزوا في السابق أن يكون علة معدّة للّاحق ، فهلّا جوزوا أن يقال : النفس قديمة ولها تصورات متجددة غير متناهية ولم يزل كل سابق علّة للاحق حتى انتهت إلى ذلك التصور الموجب لذلك التعلّق؟

والجواب عن الثاني : أنّ الباري تعالى علم أنّ الأصلح للنفس أن تصير عالمة بمضارّ هذا التعلق ، حتى أنّها بنفسها تمتنع عن تلك المخالطة. وأيضا فالنفس بمخالطتها الهيولى تكسب من الفضائل العقلية والكمالات ما لم تكن موجودة لها. فلهذين الغرضين لم يمنع الباري تعالى النفس عن التعلق بالهيولى.

ونقل صاحب الملل عن قاديمون (١) ـ الذي يقال إنّه شيث بن آدم ـ أنّه قال : المبادئ الأول خمسة : الباري تعالى ، والنفس ، والهيولى ، والزمان ، والخلاء. وبعدها وجود المركبات.

الفريق الثاني : أصحاب فيثاغورس (٢) ، وهم الذين قالوا : المبادئ هي

__________________

(١) كذا في المخطوطة وفي تلخيص المحصل : ١٩٤ : «غاديمون» وفي الملل والنحل ٢ : ٢٩٠ : «عاذيمون» وفي هامشه انّه شيث بن آدم عليهما‌السلام ومعنى شيث : عطية الله وهبة الله ، ويسميه الفرس منشأ ، وتسميه الصابئة اغناذيمون وهو استاذ إدريس عليه‌السلام وقد أخذ في أوّل عمره بعلم شيث ، وإلى شيث تنتهي أنساب بني آدم.

(٢)Pythagoras) نحو ٤٩٠ ـ ٤٩٧ ق. م) : اغريقي يوناني ، كان في النبي سليمان عليه‌السلام. قد أخذ الحكمة من معدن النبوّة. هرب من بلده إلى ايطاليا واسس بها فرقة سياسية دينية. وهو الذي وضع لفظة فلسفة وتعنى حب الحكمة. أمّا مدرسته وهي المدرسة الفيثاغورية ، فلم تكن مدرسة فلسفية فحسب ، بل دينية أخلاقية على نظام الطرق الصوفية. راجع : الملل والنحل : ٣٨٥ (رأي فيثاغورس) ؛ الموسوعة الفلسفية : ٣٥٣ ؛ موسوعة الفلسفة ٢ : ٢٢٨.

١٣

الأعداد المتولّدة عن الوحدات ؛ لأنّ قوام المركبات بالبسائط ، وهي أمور كلّ واحد منها واحد في نفسه ، ثمّ تلك الأمور إمّا أن تكون لها ماهيات وراء كونها وحدات أو لا تكون. فإن كان الأوّل كانت مركبة ، لأنّ هناك تلك الماهية مع تلك الوحدة ، وكلامنا ليس في المركبات ، بل في مبادئها. وإن كان الثاني كان مجرّد وحدات ، وهي لا بدّ وأن تكون مستقلة بأنفسها وإلّا لكانت مفتقرة إلى الغير ، فيكون ذلك الغير أقدم منها ، وكلامنا في المبادئ المطلقة ، هذا خلف.

فإذن الوحدات أمور قائمة بأنفسها ؛ فإن عرض الوضع للوحدة صارت نقطة ، وإن اجتمعت نقطتان حصل الخطّ ، فإن اجتمع خطان حصل السطح ، فإن اجتمع سطحان حصل الجسم. فظهر أنّ مبدأ الأجسام الوحدات.

ونقل أيضا عنه (١) : إنّ الوحدة تنقسم إلى وحدة بالذات غير مستفادة من الغير وهي التي لا تقابلها كثرة ، وهو المبدأ الأوّل ؛ وإلى وحدة مستفادة من الغير وهي مبدأ الكثرة وليست بداخلة فيها بل تقابلها الكثرة ، ثمّ تتألف منها الأعداد وهي مبادئ الموجودات. وإنّما اختلفت الموجودات في طبائعها ، لاختلاف الأعداد بخواصّها (٢).

القسم الرابع : أن يكون العالم قديم الصفات محدث الذات ، وهو محال لم يقل به أحد؛ لقضاء الضرورة ببطلانه.

وأمّا جالينوس فانّه كان متوقفا في الكل (٣). وللناس هنا اختلافات كثيرة أشهرها ما قدمناه.

__________________

(١) أي عن فيثاغورس.

(٢) راجع الملل والنحل : ٣٨٥ (رأي فيثاغورس) ؛ المطالب العالية ٤ : ٢٦ ؛ المواقف : ٢٤٥.

(٣) أراد به ما عدا الاحتمال الرابع إذ لا يتصور من عاقل أن يتردد ويتوقف فيه ، بل لا بدّ أن ينفيه ببديهته. شرح المواقف ٧ : ٢٢٢.

١٤

المسألة الثانية : في أدلّة الحدوث (١)

لنا وجوه :

الوجه الأوّل : الدليل المشهور للمتكلّمين (٢)

وتقريره : أنّ الأجسام لا تخلو عن الحوادث ، وكلّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فالأجسام حادثة.

بيان الصغرى : أنّ الأجسام لا تخلو عن الأكوان ، والأكوان حادثة (٣). وهذا البرهان يشتمل على دعاو أربعة (٤) :

__________________

(١) راجع المحيط بالتكليف : ٥٥ ؛ شرح الأصول الخمسة : ٩٤ ؛ الشهرستاني ، نهاية الاقدام : ١١ ؛ نقد المحصل : ١٩٥ ؛ كشف المراد : ١٧٠ ـ ١٧٥ ؛ مناهج اليقين : ٣٥ ؛ تهافت الفلاسفة : ١٩٠ ؛ شرح المقاصد ٣ : ١٠٩ ـ ١١٧ ؛ كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ١٣٥ ـ ١٤٧ وقد عدّ العلّامة فيه ثلاثة طرق للمتكلمين لاثبات الحدوث ، أشهرها الطريق الأوّل المذكور هنا أيضا ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٢٢ ؛ اللوامع الالهية في المباحث الكلامية : ٦٤ وما يليها ؛ الباقلاني وآراؤه الكلامية : ٣٥٩. والمباحث هنا كلّها على ترتيب المباحث في نهاية العقول للفخر الرازي.

وتشبه أدلّة المتكلمين على حدوث العالم حجج يحيى النحوي ، الملقب بالبطريق ، الفيلسوف الاسكندراني اليعقوبي الذي ألف كتابا في الردّ على برقلس القائل بقدم العالم ، كما يروي النديم في الفهرست : ٣١٥ ، والشهرستاني في الملل والنحل : ٢ / ٤٨٨.

(٢) ويأتي الوجه الثاني في ص ٨١. والوجه الثالث في ص ٩٦. والوجه الرابع في ص ١٢٨. والوجه الخامس والسادس في ص ١٣٤ و ١٣٥. وعبر الرازي في نهاية العقول عن الوجه الأوّل ب «الطريقة المبسوطة المشهورة».

(٣) والنتيجة هي : فالأجسام لا تخلو عن الحوادث.

(٤) راجع الدعاوي الأربعة في شرح الأصول الخمسة : ١١٢ ؛ التوحيد للنيسابوري : ٢٣١ (في أنّ ما لم يخل من المحدث يجب أن يكون محدثا) وذكر أدلة أخرى على حدوث الأجسام في ٢٧٥ و ٢٨٢ ؛ قواعد المرام في علم الكلام : ٥٧ ؛ كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ١٣٥ ـ ١٤٣. وقد دمج العلّامة هنا الدعوى الثالثة والرابعة في الدعوى الثانية.

١٥

الدعوى الأولى : إثبات أنّ الأكوان مغايرة للجسم.

الدعوى الثانية : بيان حدوث الأكوان.

الدعوى الثالثة : بيان أنّ الأجسام لا تخلو عنها. وهذه الدعاوى الثلاث اشتملت الصغرى عليها.

وأمّا الدعوى الرابعة : فإنّ الكبرى عبارة عنها.

أمّا الدعوى الأولى : فنحن فيها بين أمرين :

إمّا أن ندعي العلم الضروري بأنّ هنا أكوانا هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. وبالجملة حصول الجسم على وجه لو كان في الوجود جسم غيره كان بالنسبة إليه ، إمّا مقابلا له ميامنا أو مياسرا أو غيره من وجوه الأين ، وهي زائدة على حقيقة الجسم. ومعلوم ضرورة أنّ الجسم مع تحيّزه لا ينفك عن هذه الحالة ، فإنّا نعلم بالضرورة زيادتها على مفهوم الجسم وذاته ؛ لأنّ المفهوم من ذات المتحيز مغاير للمفهوم من حصوله في الحيز.

أو ندعي الاستدلال فيه ؛ لأنّ الجسم تتبدل عليه الحركة بالسكون ، والاجتماع بالافتراق ، وبالعكس منهما. فإنّ الجسم لم يكن متحركا ثمّ صار متحركا ، ولم يكن مجامعا لغيره ثمّ يصير مجامعا ، فتبدل الحالتين عليه مع بقائه معلوم مدرك بالحس (١) ، والمتبدل مغاير للمستمر الذي هو ذات الجسم. ولأنّ المرجع بالأكوان إلى الحركة والسكون مثلا ، وهي أمور راجعة إلى الأين ، وهو نسبة الشيء إلى مكانه بالحصول فيه ، والنسب والإضافات مغايرة للماهيات المتأصلة في الوجود ، الحقيقة التي لا إضافة فيها. ولأنّها نسبة بين الجسم والمكان ، والنسبة مغايرة للمنتسبين.

__________________

(١) استفاد الرازي من تبدل الحالتين (الحركة والسكون) في إثبات كون السكون صفة موجودة. راجع المطالب العالية ٤ : ٢٨٨.

١٦

وأمّا الدعوى الثانية (١) : فلأنّ كلّ يصحّ عليه العدم ، وكلّ ما صحّ عليه العدم امتنع عليه القدم.

أمّا الصغرى : فلأنّ كلّ متحيّز اختص بحيّز فإمّا أن يكون اختصاصه بذلك الحيّز جائز أو واجبا ، فإن كان واجبا فذلك الوجوب إمّا أن يكون لنفس الجسمية أو لأمر عارض للجسمية أو لمعروض الجسمية أو لأمر غير عارض للجسمية ولا الجسمية عارضة له.

فإن كان لنفس الجسمية (٢) وجب اشتراك الأجسام كلّها في وجوب الحصول في ذلك الحيّز ؛ لاشتراكها ، بأسرها في الجسمية ووجوب اشتراك المتماثلات في جميع اللوازم.

وإن كان لأمر عارض للجسمية (٣) ، فذلك العارض إمّا أن يكون ممتنع الزوال أو ممكن الزوال. فإن كان ممتنع الزوال فإمّا أن يكون ذلك الامتناع لنفس الجسمية فيعود الإلزام المذكور ، أو لغيرها فيكون الكلام فيه كالكلام في الأصل الأوّل ، فيفضى إلى التسلسل ، أو إلى المحال المذكور. وإن كان ممكن الزوال فهو المقصود.

وأمّا إن كان لمعروض الجسمية (٤) فهو محال ؛ المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات ، فلو كان ذلك حالّا في محلّ لكان ذلك المحل ، إمّا أن يكون له ذهاب في الجهات ، أو لا يكون. فإن كان الأوّل كان محل الجسمية جسما ، فجسمية ذات المحل إن اقتضت محلا آخر لزم التسلسل ، وإن لم يقتض محلا آخر

__________________

(١) راجع شرح الأصول الخمسة : ١١٠ (من الأدلة على حدوث الأكوان).

(٢) أي القسم الأوّل.

(٣) أي القسم الثاني.

(٤) وهو القسم الثالث.

١٧

فتكون الجسمية غير واجبة الحلول في محل ، فكلّ ما يعرض لها بسبب ذلك المحل الممكن الزوال يكون أيضا ممكن الزوال ، فحينئذ يكون حصول الجسم في حيّزه المعين أمرا ممكن الزوال وهو المقصود.

وإن لم يكن لمحلّه امتداد في الجهات لم يخل ، إمّا أن يكون لذلك المحل اختصاص بالجهة أو لا يكون ، فإن كان فإمّا أن يكون على سبيل الاستقلال أو على سبيل التبعية. والأوّل باطل بالضرورة ؛ لأنّا نعلم بالبديهة أنّ ما لا يكون متحيزا استحال أن يكون له حصول في الجهة على سبيل الاستقلال. وأمّا الثاني ، فانّه يقتضي كون ذلك الشيء حالّا في الجسمية ؛ لأنّ كلّ ما يكون حصوله في الحيّز تبعا لحصول الجسمية فيه كان لا محالة حالّا في الجسمية ، كالأعراض. وأمّا إن لم يكن لمحلّ الجسمية اختصاص بالحيز أصلا ؛ لم يكن لوجود الجسمية الممتدة في الجهات حلول في ذلك المحل ؛ لأنّ من المعلوم بالبديهة أنّ أحد الشيئين إذا كان أحدهما (١) واجب الحصول في الجهة والآخر ممتنع الحصول فيها ، فانّ أحدهما لا يكون حالّا في الآخر ولا مختصا به أصلا.

وأمّا القسم الرابع : وهو أن يكون وجوب حصول الجسم في الحيز لأمر غير حال في الجسمية ولا الجسمية حالة فيه ، فباطل أيضا ؛ لأنّ ذلك الشيء إن كان جسما أو مختصا به بالحالية أو المحلية عادت المحالات ، وإن لم يكن جسما ولا مختصا به كانت نسبته إلى جميع الأجسام المتساوية في صحّة الحلول في ذلك الجسم (٢) واحدة ، فلم يكن بأنّه يجب لأجله حصول بعض الأجسام في ذلك الحيّز أولى من البعض. فإمّا أن يجب حصول الكلّ فيه ، وهو محال. أو لا يجب حصول

__________________

(١) ساقطة في نهاية العقول.

(٢) نهاية العقول : «الحيز».

١٨

شيء منها فيه ، وهو المطلوب.

وبيان أنّ كلّ ما يصحّ عليه العدم امتنع عليه القدم ؛ فلأنّ القديم لا يخلو ، إمّا أن تكون حقيقته قابلة للعدم ، أو لا تكون ، فإن لم تكن امتنع العدم عليها ، وإن كانت قابلة للعدم وهي أيضا موجودة ، احتاجت في وجودها إلى مرجح ، وإلّا لم يكن الوجود أولى بها من العدم ، وذلك المرجح إن كان قابلا للعدم عادت الحاجة ولا ينقطع إلّا عند انتهائه إلى شيء واجب. وذلك الواجب إمّا أن يكون موجبا أو مختارا.

فإن كان موجبا فإمّا أن يتوقّف إيجابه لذلك القديم على شرط أو لا يتوقف ، فإن توقف فذلك الشرط إمّا أن يكون قديما أو حادثا. فإن كان قديما فإمّا أن يكون ممكنا أو واجبا ، فإن كان واجبا لزم من امتناعه زواله وامتناع زوال علّة ذلك القديم امتناع زوال ذلك القديم ، وإن كان ممكنا كان الكلام فيه كالكلام في الأوّل ، فيفضي إمّا إلى التسلسل وهو محال ، أو ينتهي إلى ما هو واجب لذاته فيعود المحال المذكور. وإن كان حادثا ، فإمّا أن يكون الشرط حادثا معينا وهو محال ، لسبق القديم على الحادث والسابق على الشيء يستحيل أن يكون مشروطا به لتقدّم الشرط على المشروط ، أو يكون الشرط حوادث لا نهاية لها وسيأتي بطلانه. ولأنّه في الحقيقة عائد إلى كون الشرط قديما ؛ لأنّ كلّ واحد من تلك الحوادث ليس شرطا ، بل الشرط أحدها لا بعينه وذلك أولى. وإن لم يتوقف لزم من إيجابه له وجوبه. ثمّ يلزم من امتناع زوال موجبه امتناع زواله. هذا إذا كان المؤثر في وجود ذلك القديم موجبا.

وإن كان مختارا ، وكلّ فعل لفاعل مختار فهو محدث فيكون القديم محدثا ، هذا خلف.

فثبت أنّ كلّ كون فانّه يصحّ عليه العدم وكلّ ما يصحّ عليه العدم فهو

١٩

حادث ، فإذن كلّ كون حادث. وثبت أنّ الجسم لا يخلو عن الكون (١) ، فالجسم لا يخلو عن الحوادث.

وأيضا لو كانت الأكوان قديمة ، فإمّا أن تكون واجبة لذاتها وهو محال. أمّا أوّلا ، فلأنّها تعدم ، وواجب الوجود يستحيل عليه العدم. وأمّا ثانيا : فلأنّ الكون على ما فسرناه صفة للجسم ، والصفة لا تستقل بنفسها في الوجود بدون الجسم ، وواجب الوجود مستقل بنفسه في الوجود.

وإمّا أن تكون جائزة الوجود فلها مؤثر إمّا موجب أو مختار ، وكلاهما محال.

أمّا الموجب ، فلأنّه لا بدّ وأن يكون واجبا لذاته أو منتهيا إلى الواجب لذاته ، وإلّا لزم التسلسل أو الدور ، وهما محالان. فذلك الواجب الموجب إن كان إيجابه بشرط فذلك الشرط إن كان جائزا فلا بدّ له من أمر فينتهي إلى الواجب لذاته ، وإلّا لزم الدور أو التسلسل. وإن كان واجبا ، أو كان الواجب الموجب لا بشرط امتنع زواله فيمتنع زوال الكون المعلول له. وقد ثبت أنّ كلّ كون فانّه يزول بمثله أو بضده ؛ لأنّ السكون يبطل بالحركة ، والحركة تبطل بالسكون.

ولأنّ ذلك الموجب لكون الجسم على وضع مخصوص ، لا يخلو إمّا أن يشترط في إيجابه خلوه عن سائر الأوضاع أو لا يشترط. فان شرط خلوه عنها ، ولا يصحّ ذلك إلّا وأن يكون حاصلا على هذا الوضع المعين لما علم من أنّ الجسم لا ينفك عن الأكوان ، صار ذلك متضمنا لكونه على هذا الوضع المعين ، وذلك حكم الموجب ، فيصير إيجاب الموجب حكمه مشروطا بحصول حكمه ، وهو محال.

وإن لم يكن مشروطا بذلك لم ينفك ، ولم يخرج من ذلك الوضع. وإن أخرج

__________________

(١) وهي الدعوى الثالثة. راجع شرح الأصول الخمسة : ١١١ (الكلام في الدعوى الثالثة ... في أنّ الأجسام لا يجوز خلوها من الأكوان) ؛ النيسابوري ، التوحيد : ٦١ (الكلام في أنّ الجسم لم يخل من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون).

٢٠