نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

بل الطبيعة إنّما تقتضي الحركة عند مقارنة حال غير طبيعية وحصول ما لا يلائم الجسم فحينئذ تحاول الطبيعة ردّه. إمّا في الأين فكالحجر المرمي إلى فوق ، فإنّه قد حصل له حالة غير ملائمة وهي حصوله في غير مكانه الطبيعي. وإمّا في الكيف فكالماء إذا سخن بالقسر ، فانّه قد حصل له حالة غير ملائمة فتطلب الطبيعة ردّه إلى الحالة الملائمة. وإمّا في الكم فكالذابل بالمرض ، فانّه قد حصل له كم قسري لأجل المرض وهو حال غير ملائم فتطلب الطبيعة رجوعه إلى كمه الطبيعي. وكذا الهواء إذا مصّ من القارورة ما دامت الحال الغير الملائمة باقية كانت الحركة الطبيعية حاصلة ، وتطلب الطبيعة بالحركة الردّ إلى ما يلائمها.

وتختلف أجزاء الحركة بحسب اختلاف القرب والبعد من تلك الحالة المطلوبة ، فإذا حصل الوصول إلى الحالة الملائمة المطلوبة بالحركة وقفت الحركة وانقطع التحريك وبطل الطلب لحصول المطلوب.

المسألة الثالثة : في غاية الحركة الطبيعية (١)

اعلم أنّ كلّ حال طبيعية إمّا أن يمكن إزالتها بالقسر أو لا يمكن. فإن لم يمكن لم تكن(٢) إليه حركة لحصوله فلا يتجدد طلب لحصوله ، وذلك مثل مقادير الأفلاك وأحيازها ونضدها (٣) في الترتيب عندهم. فإن أمكن فعند زوال القاسر يطلب الجسم العود إلى الحالة الطبيعية ويرجع إليها. لكن في الحركة المكانية بحث ، وهو أنّا إذا رمينا الحجر إلى فوق ثمّ شرع في الهبوط لم يكن طلبه في النزول

__________________

(١) راجع العاشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٣٧ ؛ كشف المراد : ٢٧٢.

(٢) ج : «يمكن».

(٣) كذا.

٤٨١

نفس المركز ، وإلّا لكانت النار الصاعدة طالبة لسطح الفلك والأرض السافلة طالبة لنفس المركز الحقيقي ، وذلك محال ، لأنّ المماس لسطح الفلك سطح واحد لطائفة من النار فتكون النار دائما خارجة عن حيّزها الطبيعي ، وهو محال. وفي الأرض أظهر إحالة لامتناع حصول الأرض بجملتها (١) في حيز النقطة.

ولأنّ الماء النازل لو طلب عين المركز لما طفا على الأرض. والهواء لو كان طالبا لمحيط الفلك لما يسفل بطبعه عن حيز النار.

لا يقال : النار والهواء يطلبان جهة واحدة لكن النار أغلب وأسبق إليه.

لأنّا نقول : لو كان كذلك لكان إذا وضعنا أيدينا على الهواء لأحسسنا باندفاعه إلى فوق ، كما إذا حبسناه في زق تحت الماء.

ولا يكون طلبه حالة النزول الحصول في المكان المطلق ، وإلّا لوقف في الهواء ولوقف الهواء تحت الماء.

ولا يجوز أن يكون طلبه القرب من العنصر الموافق له في الطبع ، وإلّا لوجب أن يلتصق الحجر المرسل من رأس النهر بشفيرها ، ولا يذهب في النزول ، فإنّ الاتصال بالكلية حاصل هناك. ولأنّا لو قدّرنا صعود كلية الأرض فإمّا أن يصعد ذلك الحجر أو لا ، فإن لم يصعد لم يكن مطلوبه القرب من الكلية ، وإن صعد فإمّا أن يكون لأنّه علم أنّ كلّه قد صعد وهو محال ، أو لأنّ كلّه جذبه إلى نفسه وهو محال ؛ لأنّ الشيء لا ينفعل عمّا يشاركه في نوعه. (٢)

فإذن الحركة الطبيعية تطلب الحيز الطبيعي وتهرب عن غير الطبيعي ، لا مطلقا بل مع ترتيب ـ بين أجزاء الكل ـ مخصوص ووضع مخصوص من الجسم

__________________

(١) ق : «بجلتها».

(٢) قال الرازي : «واعلم أنّ في هذين الوجهين كلاما طويلا نذكره في باب أنّ لكل جسم حيزا طبيعيا.» المصدر نفسه : ٧٣٨.

٤٨٢

الفاعل للجهات ، فإنّ عين الجهة غير مقصود إلّا لحصول ذلك المعنى فيها. فالطلب متوجه إلى هذه الغاية. وأمّا الهرب فيصحّ في مقابلاتها أيّها اتفق ، فلو كان المكان غير طبيعي والترتيب طبيعي هرب عنه ، كالهواء المنتشف (١) المحصور في جرّة (٢) مرفوعة في الهواء ، فإنّ الجرة (٣) تنشف الماء من أسفل لشدة هرب الهواء من محيط غريب واستحالة وقوع الخلاء ووجوب تلازم الصفائح فيخلفه الماء في مسام الجرّة (٤) متصعدا فيها لهرب الهواء عنها.

تنبيه : (٥) قد عرفت بالوجدان أنّ الجسم إذا كان خارجا عن مكانه الطبيعي فانّه يتحرك إليه ويطلبه ويهرب عن غير الطبيعي.

وإذا تقرر هذا فنقول : هنا أمران يصلحان لعلية الحركة أحدهما : الهرب عن غير الطبيعي ، والثاني : الطلب للأمر الطبيعي ، وكلّ واحد منهما إذا جعل غاية ذاتية للحركة كان الآخر تابعا له. فهل الحركة بسبب الأوّل أو الثاني؟

الحقّ هو الثاني ، لأنّه لو لم تكن الحركة إلّا للهرب عن غير الطبيعي لم يكن بأن يتحرك إلى جانب أولى من أن يتحرك إلى جانب آخر ، فإمّا أن لا يتحرك أصلا ، أو يتحرك إلى كلّ الجوانب.

وفيه نظر ، لجواز أن تكون الحركة للهرب عن غير الطبيعي بالذات وبالعرض للطلب للطبيعي ، فلا تلزم الحركة إلى كلّ الجوانب.

سلّمنا ، لكن قد عرفت أنّ الحركة الطبيعية تطلب الغاية على أقرب الطرق ولا شكّ أنّ أقرب الطرق جهة واحدة فيكون ما عداها أمرا غير طبيعي فلا يجوز أن تطلبه الطبيعة حالة الهرب عن غير الطبيعي ، لأنّ ذلك المغاير للأقرب أيضا غير

__________________

(١) في النسخ : «المكثف» ، وما أثبتناه من الشفاء : ٣٠٧.

(٢) و (٣) و (٤) في بعض نسخ الشفاء : «آجرة ـ الآجرة».

(٥) راجع المصدر نفسه.

٤٨٣

طبيعي فيكون مهروبا عنه والأقرب وإن كان غير طبيعي لكنّه أولى ، لأنّ غير الطبيعي فيه أقل.

المسألة الرابعة : في أقسام الحركة القسرية (١)

قد عرفت أنّا نريد بالحركة القسرية : الحركة الصادرة عن سبب خارج عن المتحرك ، كالحجر المرمي إلى فوق والمدحرج. وهي قد تكون خارجة عن الطبع فقط ، كجرّ الحجر على الأرض. وقد تكون مضادة للطبيعة ، كتحريك الحجر إلى فوق. وقد تكون بالجذب. وقد تكون بالدّفع. وأمّا الحمل فالحركة فيه عرضية (٢). والتدوير القسري مركب من جذب ودفع. وقد تكون بسبب تعارض الحركتين ، كما في السبيكة المذابة ، فانّ الجزء المستقر منها لغلبة الحر فيصعده بالإسخان فإذا علا (٣) برد فمال إلى حيّزه الطبيعي فطلب الهبوط ، وإنّما (٤) يشتد عند مقارنة المستقر ولأجل اشتداد القوة عند المقارنة ما كان منع الحجر النازل أضعف (٥) من إشالة المستقر وإذا حدث هذا الميل قاوم مقتضى التسخين ومال إلى أسفل ونحى مستقره ، وقد عرض لما كان أسفل مثل ما عرض من التصعد وتلك الأجزاء متلاصقة ، فحدثت حركة مستديرة تكون استدارتها لا على المستقر بل فيما بين العلو والمستقر. وأمّا الدّحرجة فربما كانت عن سببين خارجيّين. وربما كانت عن ميل طبيعي مع جذب أو دفع ، كالكرة التي ترمى من العلو. هذا في الحركة الأينية.

__________________

(١) راجع التاسع والرابع عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ١١٢ (الفصل السابع والعشرون) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٤٨ ؛ كشف المراد : ٢٧٣.

(٢) كالراكب على الفرس.

(٣) في المباحث : «غلى».

(٤) في النسخ : «أيّما» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٥) في المباحث : «أصعب».

٤٨٤

وأمّا الكمية فالزيادة في النمو على سبيل القسر ، كالعظم الكائن بالأورام ، والسمن المجتلب. (١) وفي التخلخل كانبساط الهواء الذي في القارورة إذا مصّت مصا شديدا. والنقصان كالذبول المرضي. وأمّا الذبول بسبب الشيخوخة فانّه بالقياس إلى طبيعة العالم طبيعي ، وبالقياس إلى ذلك الشخص خارج عن الطبيعي.

وأمّا في الكيف فالاستحالة الطبيعية في الحال والملكة مثل : الصحّة الحاصلة بالبحران. وفي المحسوسات مثل : الماء الحار إذا استحال لطبعه باردا. والقسرية في الانفعاليات والانفعالات ، فكتسخن الماء قسرا.

وأمّا في الوضع القسري ، فكما يحنّي الخشب المستقيم بالقسر ، فإنّه إذا خلى وطبعه من غير كسر أو رضّ رجع إلى الوضع الأوّل.

وأمّا الكون فقد يكون طبيعيا مثل : تكون الجنين والنبات من المني والبذر. وقد يكون قسريا ، كإحداث النار بالقدح.

والفساد قد يكون طبيعيا ، كالموت الهرمي. وقد يكون قسريا كالموت بالقتل بالسم.

المسألة الخامسة : في سبب الحركة القسرية (٢)

اختلف الناس في سبب هذه الحركة. وضبط الأقوال الممكنة فيه : أنّ الحجر المرمى إلى فوق مثلا إمّا أن يكون المحرك موجودا فيه أو خارجا عنه. والأوّل إمّا أن

__________________

(١) في الشفاء : «المجتلب بالدواء».

(٢) راجع الرابع عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٣٢٥ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ١١٢ (الفصل السابع والعشرون) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٤٧ ؛ كشف المراد : ٢٧٣.

٤٨٥

يكون باقيا إلى آخر الحركة أو لا يكون ، فإن كان غير باق فهو الذي يقال : إنّ المحرك يفعل حركة ثمّ تلك الحركة تولد حركة أخرى ، وهكذا إلى آخر المسافة. وإن كان باقيا فهو الذي يقال : إنّ القاسر أفاد الجسم قوّة بها يتحرك إلى جهة مخصوصة ، وتلك القوّة باقية إلى آخر الحركة لكنّها لا تزال تضعف بمصادمات الهواء المخروق إلى أن يصير في الضعف بحيث تغلبها الطبيعة (١) فحينئذ يتحرك الجسم إلى أسفل.

والثاني وهو أن يكون المحرّك خارجا عن المتحرك غير موجود فيه فلا محالة أنّه يكون جسما ، فإمّا أن يكون على سبيل أنّ جسما قدّامه يجذبه ، أو على سبيل أنّ جسما خلفه يدفعه. فهذه الأربعة هي المذاهب المشهورة :

الأوّل : قول من يقول : الهواء المتقدم ينعطف إلى الخلف فيدفع المرمي بقوة.

الثاني : قول من يقول : القاسر يدفع الهواء والمرمي معا ، لكن الهواء ألطف فيندفع أسرع فيجذب معه الجسم الموضوع فيه.

الثالث : قول من قال : المحرّك يفعل حركة وتلك الحركة تولد حركة أخرى ، وهلم جرّا.

الرابع : قول من قال : المحرك يفيد المتحرك قوّة محرّكة إلى جهة مخصوصة ، ثمّ إنّ تلك القوّة لا تزال تضعف لمصادمات الهواء المخروق إلى أن تصير مغلوبة (٢) للطبيعة فتستولي الطبيعة ويعود الجسم إلى حيزه الطبيعي.

والمذهبان الأوّلان (٣) باطلان ، لأنّ الحركة الجاذبة والدافعة إن لم تبقيا بعد

__________________

(١) ق : «الطبيعية».

(٢) في النسخ : «مغلوبا» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٣) وهما الدّفع والجذب.

٤٨٦

مفارقة المحرك القاسر فللحركة القسرية علّة غيرها (١) ، وإن بقيتا فالكلام في احتياجهما إلى العلّة كالكلام في نفس الحركة القسرية.

ومن قال الهواء للطافته يندفع أسرع فينجذب الجسم المدفوع فيه ، فقد أخطأ لوجهين:

الوجه الأوّل : أنّ حركة الهواء لو كانت أسرع من حركة السهم كان نفوذه في الحائط أشد من نفوذ السهم فيه ، والتالي باطل بالوجدان. ولأنّ الهواء تدفعه الأجسام القائمة في وجهها ، وأمّا السهم فقد نفذ.

لا يقال : السبب في ذلك النفوذ أنّ الذي يلي نصل السهم قد ضعف والذي يلي فوقه بعد على قوته.

لأنّا نقول : يلزم أن يكون السهم أسبق من الهواء ، لكن الهواء أسبق منه عندهم. وأيضا فلو كان السهم أسبق من الهواء لم يكن المنفذ له في الحائط الهواء الذي قدامه وهم لا يقولون بأنّ الهواء الذي خلفه يدفعه ، فلعلّ السبب فيه أنّ السهم يجذب الهواء الذي خلفه ثمّ ذلك الهواء المنجذب يدفعه دفعا أقوى من ذلك الجذب وحينئذ يكون المجذوب أشدّ انجذابا من الجاذب الملازم ، وهو محال.

الوجه الثاني : الهواء إنّما يمانع الثقال المحمولة (٢) فيه عن الرسوب بحركة شديدة يصير بها مقاوما لخرق الثقل ، والرياح إذا هبت على أغصان الشجرة هشّمتها مع أنّها (٣) لا تحمل السهم لو وضع فيها ، فالهواء الذي ينقل الحجر الكبير إذا كان اجتيازه (٤) بقرب الأجسام الصغار لزم أن يكسرها ، ولمّا لم يكن

__________________

(١) في المباحث : «غيرهما».

(٢) في النسخ : «المجموعة» ، وما أثبتناه من الشفاء : ٣٢٧.

(٣) في النسخ : «أنّه» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٤) في الشفاء : «اختباره».

٤٨٧

كذلك بطل ما قالوه.

وأمّا المذهب القائل بالتوليد فهو باطل ، لأنّه يقتضي كون الحركة الثانية معلولة للأولى والعلّة يجب وجودها عند وجود المعلول ولا يمكن اجتماع الحركتين فيلزم أن يكون المعدوم علّة في الموجود ، وهو محال.

وإذا بطلت المذاهب الثلاثة بقي الحقّ هو الرابع. وعليه شكّان :

الأوّل : القوّة المحركة إلى فوق هي صورة النار فلو وجدت في الحجر هذه القوّة لكانت عرضا في الجوهر وقد كانت جوهرا في النار فيكون الشيء الواحد عرضا وجوهرا ، وهو محال.

الثاني : لو أفاد المحرك قوّة لكان كمال فعلها في الابتداء ، والتالي باطل بالوجدان ، لأنّ الحركة القسرية تشتد في الوسط ، والشرطية ظاهرة.

والأوّل رديّ جدا ، لأنّ الميل الصاعد في النار مستند إلى قوّة طبيعية وصورة نوعية هي الصورة النارية وهي جوهر ، وأمّا مبدأ الميل الحجر الصاعد فانّها قوّة عرضية مخالفة للصورة النارية ولا يجب أن تكون صورة جوهرية مساوية للصورة النارية ، لأنّ الآثار المتساوية يجوز استنادها إلى علل مختلفة ، واشتداد الحركة القسرية لا يستلزم اشتداد القوّة التي أفادها القاسر لجواز استناد الشدّة في الوسط إلى سخونة المتحرك المستفادة من مصاكة الهواء على ما تقدّم.

وهنا إشكال صعب وهو : أنّ تلك القوّة المستندة إلى القاسر إمّا أن تضعف بمصادمات الهواء المخروق أو لا تضعف. والأوّل باطل ، لما سبق من أنّ الشيء الواحد لا يشتد ويضعف. وأنّه لا معنى للاشتداد والضعف إلّا تتالي أنواع مختلفة بالماهية ، وحينئذ يكون الكلام في علّة تلك القوة الجاذبة كالكلام في علّة الحركة

٤٨٨

الجاذبة فإن أسندنا حدوثها إلى القوّة السابقة عليها فليجز مثله في الحركة حتى تكون السابقة منها علّة للاحقة ، وحينئذ يستغنى عن إثبات هذه القوة. وإن أسندناها إلى قوّة أخرى فهي إن كانت بحيث يتطرق إليها الشدّة والضعف عاد الإشكال الأوّل.

وإن لم يتطرقا إليها ، فهذا هو القسم الثاني من القسمين المذكورين في أوّل الدلالة وهو باطل ، لأنّها إذا كانت باقية بحالها من غير تطرق ضعف ولا فتور إليها استحال عدمها ، ولو كان كذلك لوجب أن يصعد الحجر إلى سطح الفلك وهو محال. وأيضا القوّة ما دامت غالبة تقتضي الصعود ومتى لم تصير مغلوبة لا ينزل الحجر ، وبين الغالبية والمغلوبية لا بدّ من حالة متوسطة وهي المعادلة وذلك يقتضي وقوف الحجر. ثمّ حال الوقوف لا تكون مصاكات الهواء المخروق حاصلة فلا يكون سبب الضعف حاصلا فوجب أن لا تضعف تلك القوّة عن تلك الدرجة فوجب بقاء تلك المعادلة ، فوجب أن لا يرجع الحجر.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ ذات القوة وإن بقيت كما كانت ، لكن الهواء عند التموج ربما تلبّد فصار بحيث لا ينخرق بالسهولة ، كالماء إذا حاولنا تفريق اتصاله سريعا فانّه ربما عسر ذلك ، وحينئذ يرجع الحجر.

وعن الثاني : بمنع وجوب حصول المعادلة.

وفيه نظر ، لجواز أن تكون الحركة الأولى علّة معدّة للحركة الثانية ، والفاعل لها هو المبدأ الفياض ، وتلبد الهواء لا سبب له ، ثمّ لا موجب لاختصاصه بذلك المكان الذي رجع منه الحجر. والعلم الضروري حاصل بحصول المعادلة بين المتفاعلين على التدريج.

٤٨٩

المسألة السادسة : في بقايا مباحث هذا النوع (١)

الأوّل : ظاهر كلام الشيخ يدلّ على أنّ ماهية العلّة القسرية هو الميل ، فإنّه قال : «أصحّ المذاهب مذهب من يرى أنّ المتحرك يستفيد ميلا من المحرّك». (٢)

فإن عنى بالميل نفس المدافعة الحاصلة بالقاسر ، فإنّها لا تبقى بعد مفارقته. وإن عنى به علّة المدافعة ، فالأمر كما قال.

وتحقيق القول فيه : أنّه قد سبق في الإشكال وما تقدّم عليه امتناع اشتداد الشيء وضعفه. نعم المشتد والمتنقص هو الموضوع في ذلك العرض فالميل الغريب (٣) إن لم يضعف بقى حتى يصاكّ الحجر سطح الفلك ، وإن ضعف لم تبق ذاته مع الضعف فيعدم الميل الأوّل ويحدث آخر. فتكون هناك ميول متوالية ، فإن لم يكن لكلّ واحد منها وجود إلّا في الآن لزم تتالي الآنات. فإذن لا بدّ في كلّ واحد منها أن يبقى زمانا ثمّ يعدم في الآن الذي يوجد فيه الميل المعاقب له ، ولا حاجة إلى فرض آنين يعدم في الأوّل منهما الميل الأوّل ، ويوجد في الثاني الميل الثاني حتى يلزم السكون بينهما ، بل كما أنّ الصورة الكائنة (٤) تحدث في آن فساد الصورة الفاسدة ، فكذلك هنا.

لكن يبقى الإشكال الصعب في سبب حدوث الميل الثاني. فإن كان الأوّل كان المعدوم مؤثرا في الموجود ، كما قال أصحاب التولد (٥) ، فالأجود أن تثبت قوّة محفوظة الذات في جميع زمان الحركة من غير أن يقع فيها اشتداد ولا تنقّص وتكون

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٤٩ ؛ شرح حكمة العين : ٤٥٣.

(٢) الرابع عشر من رابعة الأول من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٢٢٦.

(٣) في المباحث : «القريب».

(٤) ق : «الكائنية».

(٥) في المباحث : «التوليد».

٤٩٠

الميول متبدلة وتكون القوّة في إعطاء الميول القسرية كالعلّة (١) في إعطاء الميول العرضية.

ثمّ تلك القوّة الباقية القارّة إنّما تكون قوّة إذا كان من شأنها التأثير فإذا بلغ الهواء عند الاندفاع إلى البداية في التلبد والتصلّب إلى حد لا يقبل تأثير تلك القوّة عدمت القوّة.

الثاني : اشتهر عند الحكماء أنّ للفلك طبيعة خامسة (٢) ، ثمّ نفوا بالدليل الطبيعة عنه ، فتأولوا الإطلاق بوجهين :

الوجه الأوّل : تلك الحركات ليست مخالفة لمقتضى طبيعة أخرى لتلك الأجسام ، فإنّ مبدأ تلك الحركة وإن لم تكن طبيعية لكنّه شيء غريب عن ذلك الجسم فكأنّه طبيعة.

الوجه الثاني : تحريك القوّة إنّما يكون بواسطة الميل على ما عرفت ، فمحرّك الحركة الأولى لا يزال يحدث في ذلك الجسم ميلا بعد ميل وذلك الميل لا يمتنع أن يسمّى طبيعة لأنّه ليس بقسر ولا إرادة ولا أمر حصل من الخارج ، ولا يمكنه أن لا يحرك أو يحرك إلى غير تلك الجهة ، ولا هو أيضا مضاد لمقتضى طبيعة ذلك الجسم فإن سميت هذا طبيعة كان لك أن تقول : إنّ الفلك لا يتحرك بالطبيعة.

الثالث : في الحركة التي من تلقاء المتحرك تفسيران : (٣)

__________________

(١) في المباحث : «كالطبيعة».

(٢) اختلف أصحاب الطبائع في أصول الأجسام ، فمنهم من قال إنّها أربعة : الأرض والماء والنار والهواء ومنهم من قال بجنس خامس وهو الفلك وأنّه طبيعة خامسة غير قابلة للكون والفساد. البغدادي ، أصول الدين : ٥٣ (المسألة الثامنة من الأصل الثاني في تجانس الأجسام). راجع أيضا الفصل الثاني من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء (السماء والعالم).

(٣) راجع الرابع عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٣٢٨ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٤٤.

٤٩١

التفسير الأوّل : قيل : إنّها الحركة الصادرة عن مبدأ في جسم المتحرك من شأنه أن يفعل أفعالا مختلفة. فالنبات على هذا التفسير متحرك من تلقاء نفسه. والفلك ليس كذلك، إذ ليس من شأنه أن يتحرك إلى جهات مختلفة.

ومنهم من اشترط فيه أن يكون له مع ذلك أن لا يتحرك. فإن أخذ هنا (١) مطلقا لم يكن الفلك كذلك ، وإن اعتبر أنّه إن شاء أن لا يتحرك لا يتحرك ولا يشترط من شأنه إن شاء أن لا يتحرك دخل فيه الفلك ؛ فإنّ الفلك وإن استحال عليه أن لا يشاء الحركة ، لكن يصدق عليه أنّه لو لم يشأ الحركة لا توجد.

وقيل : لا يشترط إلّا كون الحركة صادرة عن الإرادة. فعلى هذا التفسير النبات غير متحرك من تلقاء نفسه. وهذا بحث لفظي لا كثير فائدة فيه. (٢)

الرابع : (٣) كلّ جسم لا يكون فيه مبدأ ميل فإن حركته يجب أن تقع لا في زمان ؛ لأنّ كلّ جسم ميله إلى مكان أشدّ فتحريكه عن مكانه أصعب لامتناع أن يكون الشيء مع العائق كهو لا مع العائق ، فلو قدّر جسم لا ميل فيه وتحرك لم تقع حركته في زمان ، لأنّا لو حركنا جسما آخر ذا ميل إلى مكان وقعت حركته في زمان أطول من الأوّل بسبب الميل الذي هو معاوق ، فلو قدّرنا جسما فيه عشر الميل الأوّل وجب أن يكون زمان تلك الحركة عشر زمان الأولى ، لكن زمان حركة عديم الميل أيضا عشر زمان الأولى فيتساوى زمانا عديم الميل وواجده. بل لو

__________________

(١) في الشفاء : «هذا».

(٢) قال الشيخ : «فقد وقع في أمرها بين أهل النظر تخالف وتشاح ، ما كان من حقّ هذا المعنى أن يقع من التفتيش عنه والمناقشة فيه ما وقع بين طبقات أهل النظر. فإنّ معول ذلك على الاسم ، فقد جعله بعضهم لمعنى ، وبعضهم لمعنى آخر ، ولكلّ منهم أن يجعل ما يجعله ، وليس لأحد منهم أن يشاح فيه غيره.» ثمّ بعد ذكر الأقوال في تفسيرها قال : «وأنت غير مجبر على اختيار أي الاستعمالات شئت ، فإنّه ليس إلّا مشاجرة في التسمية فقط».

(٣) راجع الثاني عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٣١٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٤٤.

٤٩٢

فرضنا ميلا يكون نصف عشر الميل الأوّل كان زمان حركته نصف زمان حركة ذي الميل الأوّل ، فالحركة مع العائق أسرع منها لا معه ، هذا خلف. وإنّما يمكننا أن نقسم الزمان أي قسمة شئنا والمقاومة على أيّ مرتبة أردنا ، لما قد ثبت أنّ الزمان يقبل القسمة أبدا وأنّ المراتب القابلة للزيادة والنقصان غير متناهية.

ولمّا بطل ذلك لزم أن تكون حركة عديم الميل لا في زمان ، وذلك أيضا محال.

وأيضا فكلّ جسم له حيز طبيعي واقتضاؤه لذلك الحيز لقوّة موجودة فيه زائدة على جسميته فإذا أخرج عن ذلك الحيز فتلك القوّة لا بدّ وأن تحاول إعادة الجسم إليه ، ففي كلّ جسم مبدأ حركة.

وأيضا المقسور على الحركة المستقيمة والمستديرة يختلف عليه تأثير (١) الأقوى والأضعف من حيث إنّ القوي مطاوع والضعيف معاوق ، وليست المعاوقة للجسم بما هو جسم بل بمعنى (٢) فيه يطلب البقاء على حاله من المكان أو الوضع ، فكلّ جسم يقبل النقل القسري عن مكانه أو وضعه ففيه مبدأ ميل إليه.

الخامس : في الحركة التي بالعرض. (٣)

اعلم أنّ الشيء الذي لا تتبدل أحواله بل أحوال ما يقارنه ، إذا نسب تغيير مقارنه(٤) إليه قيل : إنّه حركة بالعرض.

__________________

(١) ج : + «بأمر» قبل «تأثير» ، وهو خطأ.

(٢) ق : «لمعنى».

(٣) راجع الثالث عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٣٢٠ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٥١ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٤٩.

(٤) في المباحث : «مقارنة».

٤٩٣

فالمتحرك بالعرض في الأين قد يكون بحال تصحّ عليه الحركة الأينية وقد لا تصحّ.

أمّا الأوّل : فكالجالس في السفينة أو في الصندوق المتحركين.

وأمّا في الوضع : فكالكرة التي تكون في جوف كرة أخرى كفلك الثوابت وما تحته في المحيط بحيث يمتنع تبدل النسبة التي بينهما ، فإذا تحركت المحيطة ولم يتبدل الوضع الذي لها بالقياس إلى المحيط لاستمرار تلك النسب وبقائها ، ويتبدل الوضع الذي لها بالقياس إلى غير تلك الكرة المحيطة لتبدل المحاذيات التي كانت لها إلى تلك الأشياء.

وأمّا المتحرك بالعرض الذي ليس من شأنه أن يتحرك فهو مثل الصور والأعراض الحالّة في الجسم ، فإنّها تكون مختصة بالأحياز تبعا لاختصاص الجسم بها وتصحّ الإشارة إليها تبعا للإشارة إلى الجسم ، فإذا تحرك الجسم وتبدلت الجهة المصابة (١) بالإشارة تبدلت الإشارة أيضا إلى تلك الأعراض ، فيقال عند ذلك : إنّها تحركت ، والمتحرك في الحقيقة هو الجسم.

وأمّا الشيء الذي لا يكون جسما ولا حالّا في الجسم كالنفس مع البدن فيستحيل أن يقال : إنّه متحرك بالعرض بحركة البدن.

وإذا عرفت ذلك في المكانية والوضعية فاعرفه في باقي الحركات ، فانّه قد يقال للشيء: إنّه يسوّد بالعرض ، إذا كان الموضوع للسواد ليس هو بل جسم آخر يقارنه وإن كان هو هو بالذات لكن يغايره بالاعتبار ، كقولنا : البناء أسود ، فانّ موضوع السواد ليس البناء ولا الجسم مع وصف البنائية ، بل نفس الجوهر. وقد يقال لموضوع الموضوع أيضا مثل: أنّ الجسم موضوع للسطح والسطح للّون ، فاتصاف الجسم بالسواد يكون بالعرض.

__________________

(١) ق : «المضافة».

٤٩٤

وأمّا الحركة في الكم فلم يعتبر فيها هذا الاعتبار.

وفيه نظر ، فانّه قد يقال : قد تحرك السواد وزاد مقداره ، ولا مقدار له إلّا بالعرض ، كما يقال : تحرك في أينه ولا أين له.

السادس : (١). ظن بعض القدماء من الحكماء أنّ التحريك عبارة عن نسبة الحركة إلى الفاعل ، والتحرك عبارة عن نسبتها إلى المنفعل ، وهو باطل ؛ لأنّ نسبتها إلى الشيء وصف لها لغيرها والتحريك وصف الفاعل. فإذن التحريك نسبة للفاعل إلى الحركة ، والتحرك نسبة المنفعل (٢) إليها وإن كانت نسبتهما إليها لا تنفك من نسبتها إليهما.

واختلاف هذه المباحث لفظية لا يعجبني. لكن يجب أن يعلم أنّ هنا أمورا ثلاثة : حركة ، وجسم تحل فيه الحركة ، وقوّة تصدر عنها تلك الحركة ، ولكلّ واحد من الجسم والمحرّك نسبة إلى الحركة ، ولها نسبتان إليهما.

السابع : في أحوال العلل المحركة (٣)

أقسام المحرّك قد عرفت أنّها ثلاثة : الطبيعة والإرادة والقسر. هذا في المتحرك بالذات. وأمّا المتحرك بالعرض فإنّه مغاير لها لكنّه تابع لأحدها. وكلّ واحد من هذه الأربعة قد تكون أسبابها بالذات وقد تكون بالعرض. وأيضا إمّا قريبة ، أو بعيدة. وأيضا إمّا كلّية ، أو جزئية. وأيضا إمّا عامة أو خاصة. وأيضا إمّا بالقوّة ، أو بالفعل. وأيضا إمّا بسيطة وإمّا مركّبة.

والمحرّك بالذات إمّا أن يكون بواسطة أو لا بواسطة ، والواسطة إمّا أن تكون متحركة من تلقاء نفسها أو لا تكون. فإن لم تكن فإمّا أن تتصل بالمحرك كيد

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٥٢.

(٢) في المباحث : «للمنفعل».

(٣) راجع الخامس عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٣٢٩ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ١١٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٥٢.

٤٩٥

الإنسان وتسمى أداة ، أو لا تتصل به وتسمى آلة. وربما لم يميز في الاستعمال بين مفهومي اللفظين. وإن كانت الواسطة تتحرك من تلقاء نفسها ثمّ يكون لها محرك فالأولى أن يكون ذلك المحرك غاية لها كالمحبوب ، أو ضد الغاية كالمخوف والمهروب.

وأيضا فالمحركات إمّا أن تكون متحركة أو لا. [فإن كانت متحركة] فلا بدّ من الانتهاء إلى ما لا يكون متحركا لاستحالة الدور والتسلسل.

والشيء الذي هو أوّل المحركات المتحركة (١) يجب الكلام فيه ، فنقول : كلّ متحرك فلا بدّ فيه من قوّة تكون مبدأ قريبا لتلك الحركة ، لامتناع إسناد الحركة الخاصة إلى نفس الجسمية المشتركة ؛ وإلى أمر خارج ، لأنّ ذلك الخارج إن كان جسما كان لأوّل المحركات المتحركة جسم آخر يحركه فلا يكون هو الأوّل بل الذي يحركه ، وإن كان ذلك المحرّك الخارجي مجرّدا لم يتخصص هو بقبول تلك الحركة عن ذلك المجرّد إلّا إذا تميّز عن سائر الأجسام بخصوصية ، لأنّ نسبة المجرد إلى جميع الأجسام بالسوية ، وتلك الخصوصية هي المبدأ القريب لتلك الحركة ، ويكون المفارق هو المبدأ البعيد. فالحركة بهذا المعنى دلّت على وجود المفارق.

الثامن : في التناسب بين المحرّكات والمتحرّكات (٢)

لنفرض محركا ومتحركا ومسافة وزمانا ولنفرض المحرك على أنّه مبدأ حركة طبيعية وعلى أنّه مبدأ جذب أو دفع أو حامل (٣) ، فإذا حرك محرك ما متحركا في

__________________

(١) ق : «المتحركية».

(٢) راجع أرسطو طاليس ، الطبيعة ٢ : ٧٤٦ (التعليم الثاني ـ المحرك مع المتحرك) ؛ الخامس عشر من رابعة الأوّل من الشفاء (السماع الطبيعي) : ٣٣١ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ١١٦ (وأمّا المناسبات بين المحركات والمتحركات) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٥٣.

(٣) قال أرسطو طاليس : «إنّ الحركات عن الغير أربع : دفع ، وجذب ، وحمل ، ودوران ؛ لأنّ الحركات الأخر كلّها قد يلزم أن ترجع إلى هذه ، فمن الدفع السّوق ، ومنه الزّجّ ...» ، ثمّ عرّف هذه الأقسام في الطبيعة ٢ : ٧٤٦.

٤٩٦

مسافة زمانا ما ثمّ قسم ذلك المحرك بنصفين فلننظر هل نصف المحرك يحرك المتحرك بعينه في ذلك الزمان نصف تلك الحركة أو أقل أو أكثر؟

فنقول : قد ذهب بعض الناس إلى أنّ التنصيف يؤدي بالمحرك إلى أن لا يحرك وبالمتحرك إلى أن لا يتحرك ، فحينئذ لا ننظر إلى هذه المناسبات ، لكن قد ظهر بطلان ذلك فصحّ النظر في هذا التناسب ، فنقول :

أمّا أوّلا : فإنّ من المحركات ما إذا نصّف لم تبق قوته ثابتة كالحيوان.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك لو كان ممكنا فإنّه لا يجب أن لا يكون نصف المحرك قويا على شيء من التحريك كالحجر العظيم الذي يحتاج في حركته مقدار فرسخ إلى مائة نفس فانّه لا يلزم أن يقدر الخمسون على نقله شيئا ما ، نعم يجب أن يكون لكلّ واحد من تلك الأشخاص أثر في الإعداد للحركة ، كالنقرة الحادثة في الصخرة عن مائة قطرة فانّه لا يجب أن يكون لكلّ قطرة أثر في النقرة بل يؤثر في إعداد الصخرة لأن تأخذ الصلابة التي فيها في الضعف ، فإذا تكامل الضعف بسبب القطرات حصلت النقرة من القطرة الأخيرة.

وإذا فرضنا التنصيف في المتحرك ، فالمشهور أنّ المحرك (١) يحرك نصف المتحرك في ذلك الزمان ضعف المسافة ، أو يحركه في تلك المسافة في نصف ذلك الزمان. والتحقيق يأباه.

أمّا في المحرك الطبيعي فإنّه متى ينصف المحرك وجب تنصيف القوّة المحركة ، لأنّ قوّة نصف الجسم نصف قوّة كلّ الجسم.

وأمّا في الحامل فيجوز أن لا تبقى قوّته بأن تقطع نصف تلك المسافة عند كونه فارغا فضلا عمّا إذا كان معه نصف المحمول.

__________________

(١) في النسخ : «المتحرك» ، وما أثبتناه من المباحث.

٤٩٧

وأمّا الدافع الرامي (١) فربما عرض أنّه يفعل في الأثقل أقوى ممّا يفعل في الأخف فيفعل في الضعف أشدّ ممّا يفعل في النصف ، كالريشة والحجر الصغير ، فلا تبقى تلك النسبة محفوظة ، لأنّ المرمي لا تتشابه السرعة والبطء في حدوده بل المتأخر منه أبطأ. ويقال : الوسط منه أقوى ، فلا تكون هذه النسبة محفوظة.

وكذا الجاذب ، فإنّ الجاذب إمّا أن يجذب بالجر للمجذوب أو يجذب بالقوة التي فيه ولتلك القوة حدّ ينتهي إليه تأثيرها في المجذوب ، فما خرج منه لا يلزم أن يؤثر فيه فلا يلزم أن يكون الأصغر أسهل انجذابا من المكان الأبعد.

وإن فرضنا التنصيف في الزمان ، فالمشهور أنّ ذلك المحرّك يحرك ذلك المتحرك في نصف ذلك الزمان نصف تلك المسافة. وليس بلازم ، فإنّه لا يلزم أن يتساوى المقطوع في نصف (٢) زمان الرمي لا في القسري ولا في الطبيعي لما علمت من اختلاف الحركة في السرعة والبطء.

وأمّا المحرّك في نصف المسافة ، فالمشهور والحقّ على قياس ما تقدم.

وأمّا اعتبار نصف المحرك مع نصف المتحرك ، فالمشهور حفظ النسبة. لكنّا بيّنا أنّ المحرك يحتمل أن لا يقبل التنصيف ، وبتقدير احتماله لذلك فيحتمل أن يكون تحريك النصف للنصف أبطأ من تحريك الكلّ بأن تزيد القوة بسبب من أسباب اشتدادها.

أمّا نصف المحرك في نصف الزمان ، فالمشهور حفظ النسبة. وقد عرفت ما فيه.

__________________

(١) وقبلها في الشفاء : «وأمّا الدافع اللازم فحكمه حكم الحامل.» الشفاء : ٣٣٢.

(٢) في الشفاء : «نصفي».

٤٩٨

وكذا القول في نصف المحرك في نصف المسافة.

وتعلم من التنصيف حال التضعيف.

وقد يقع اعتبار هذه المناسبات في المحرك والمتحرك والحركة والمسافة والزمان من حيث هي متناهية وغير متناهية أي هذه (١) إذا تناهى تناهى الآخر ، لأنّ هذه الخمسة متطابقة متقابلة ولو كان واحد منها متناهيا والآخر غير متناه انتفى التقابل.

خاتمة : تشتمل على بقايا مباحث الزمان. (٢)

الأوّل : قد عرفت الخلاف في ماهية الزمان (٣) ، وأنّ بعضهم جعله واجبا

__________________

(١) ق : «إذا قصده» بدل «أي هذه» ، والصحيح ما أثبتناه من ج.

(٢) انظر مباحث الزمان في هذه القائمة ، وهي في الحقيقة ببليوجرافيا الزمان ، أفلاطون المحاورات الكاملة ، ج ٢ ، محاورة بارميندس ؛ أرسطو ، الطبيعة ، ترجمة : إسحاق بن حنين ، تحقيق : الدكتور بدوي ١ : ٤٠٤ ؛ الكندي ، رسائل الكندي الفلسفية ١ : ٧٣ ، مارتن مكدرموت ، نظريات الشيخ المفيد : ٢٦٩ ؛ العاشر من ثانية الأوّلمن الشفاء (السماع الطبيعي) : ١٤٨ ؛ طبيعيات النجاة : ١٤٣ (القول في الزمان) ؛ شرح الإشارات ٣ : ٨٢ ؛ ابن سينا ، رسالة الحدود ؛ ابن سينا ، عيون الحكمة : ٢٦ (الفصل الثامن : في الزمان) ؛ الغزالي ، معيارالعلم : ٣٠٣ ؛ الكندي ، الخوارزمي ، الحدود الفلسفية : ٢١١ ؛ الآمدي ، المبين : ٣٤٩ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٥٥ ؛ المطالب العالية ٥ : ١٠٧ ـ ١٠٩ ؛ العلّامة الحلي ، إيضاح المقاصد (شرح حكمة العين): ٢٩٥ ؛ شرح المواقف ٥ : ١٠٢ ؛ شرح المقاصد ٢ : ١٨٧ ؛ الأسفار الأربعة ٣ : ١٤١ ؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل ١ : ٧٩ ؛ الجرجاني ، التعريفات : ١٥٢ ؛ أبو البقاء ، الكليات ٣ : ٤٠٥ ؛ د. ماجد فخري ، أرسطو : ٤٨ ؛ د. محمد عاطف العراقي ، الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا : ٢٣٢ ؛ د. الآلوسي ، الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم ؛ د. جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ١ : ٦٣٦ ؛ معجم لالاند (الفرنسي) النقدي والتقني للفلسفة : ١١١٠ ـ ١١١٤ ؛ د. جج ، مشكلة الزمان والمكان ؛ د. حسن حنفي ، من العقيدة إلى الثورة ١ : ٤٧٧ ؛ د. محمد علي الجندي ، اشكالية الزمان في فلسفة الكندي.

(٣) في المجلد الأوّل ، ص ٣٢٩ (البحث الخامس : في ماهية الزمان).

٤٩٩

لذاته (١) ، لأنّ الزمان يلزم من فرض عدمه لذاته محال ، لأنّا لو فرضنا عدمه لكان عدمه بعد وجوده وتلك بعدية زمانية فيكون موجودا عند ما فرض معدوما ففرض عدمه يوجب لذاته وجوده وهو محال فقد لزم من فرض عدمه لذاته المحال.

بل الموجود الذي يجب وجوده غير الزمان لو أردنا بيان امتناع عدمه احتجنا فيه إلى برهان منفصل ، والزمان لو طلبنا بيان امتناع عدمه كفى في بيانه مجرّد تصور حقيقته وحقيقة العدم ، لأنّ الزمان لا يعقل عدمه إلّا إذا عقل حصول عدمه بعد وجوده وتلك البعدية لا تقدّر إلّا بالزمان. فعدم الزمان لذاته يوجب وجود الزمان لتتحقق بسببه بعدية العدم ، فثبت أنّ تجويز العدم على الزمان متناقض في نفسه ، وأمّا تجويز العدم على سائر الأمور التي تفرض واجبة فانّه وإن كان محالا إلّا أنّه غير متناقض ، فإذا كان الذي يلزم من فرض عدمه محال واجبا وإن لم يلزم التناقض من فرض عدمه فالزمان الذي يلزم المحال من فرض عدمه ويلزم التناقض أولى بالوجوب.

وإذا كان واجبا لذاته فهو جوهر قائم بنفسه غني عن الموضوع. ثمّ إن حصلت فيه الحركة ووجدت (٢) لأجزائها إليه نسبة سمى زمانا وإن لم توجد الحركة فيه فهو الدّهر.

والجواب : استحالة عدم الزمان بعد وجوده لا يستلزم وجوبه الذاتي ، بل إنّما يستلزم الوجوب الذاتي استحالة عدمه مطلقا ، لكن الزمان ليس كذلك بل استحالة عدمه مشروطة بسبق وجوده بحيث تتحقق البعدية المتوقفة على الزمان. فالغلط نشأ لهؤلاء القوم من باب إغفال توابع الحمل. على أنّا نمنع توقف البعدية

__________________

(١) أسند الشيخ ابن سينا هذا الرأي إلى بعض القدماء وأجاب عنه ، كما في إيضاح المقاصد للمصنف : ٢٩٧.

(٢) في النسخ : «وجد».

٥٠٠