نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

يكون ساكنا في ذلك المكان ، وإن خالفه وجب أن لا ينتفي بالحركة بل ينتفي (١) السكون خاصة ، لأنّ الحركة تضاد السكون دون الكون ، وإنّ نفي السكون دونه فيجب أن يثبت كائنا في مكانه الذي كان فيه مع طرو الحركة ، وهذا باطل.

لا يقال : لم لا يوجد كون آخر مع الحركة يضاد السكون الأوّل؟

لأنّا نقول : كان يصحّ أن لا يوجد على بعض الوجوه ، وكان يقدح في تأثير المتضادات فكنّا نجوّز أنّ السواد لا ينفي البياض وإنّما يوجد معه سواه ينفيه.

وأيضا لو كان مخالفا للسكون وليس بينهما تعلّق لزم وجوده في الجوهر ويبقى فيه وقتين فصاعدا ولا يكون ساكنا ، بأن (٢) لا يوجد السكون. وإنّما قلنا : إنّه لا تعلّق بينهما ، لأنّه لو كان يحتاج إليه في الوجود لم يصحّ أن يوجد أوّلا ولا سكون ، وإذا لم يحتج إليه في وجوده لم يحتج في بقائه لأنّ الصفة واحدة ، وإذا حصلت حاجته إلى الحركة والسكون فهما ضدّان ولا يمكن حاجته إليهما ، وإلّا لما وجد لاستحالة اجتماعهما ، وإذا لم يحتج إليه في وجوده لم يحتج في بقائه لأنّ الصفة واحدة.

__________________

(١) ق : «ينفى».

(٢) ق : «وأن».

٣٢١

البحث الثاني

في الاجتماع والافتراق

لا خلاف أنّ الحركة والسكون والكون من قبيل الأكوان. وأمّا الاجتماع والافتراق فقد اختلف في أنهّما أمران مغايران للكون المخصّص للجوهر بالحيز. فذهب قدماء الأشاعرة إلى ذلك. وأبو الهذيل العلاف ذهب إلى أنّ للافتراق معنى مغايرا له. وبه قال أبو علي أوّلا ، ثمّ رجع عنه. (١) وعند باقي مشايخ المعتزلة أنّ الافتراق عبارة عن الكونين اللّذين يحصل بهما الجسمان في مكانين بعيدين. والمجاورة هي الكونان على وجه القرب ، ولا يحصل عند الافتراق معنى زائدا عليهما كما يحصل عند المجاورة معنى هو التأليف.

والتحقيق أن نقول : الكون جنس لهذه الخمسة على ما تقدّم (٢) ، وكلّ واحد من هذه الخمسة لا بدّ وأن يمتاز عن البواقي بفصول زائدة على المعنى المشترك ،

__________________

(١) اعلم أنّ الشيخ أبا الهذيل ذهب إلى أنّ الافتراق معنى زائد على كوني الجوهرين على سبيل البعد ، كما ذهب في التأليف إلى أنّه معنى زائد على كوني الجوهرين على سبيل القرب. وإليه ذهب الشيخ أبو علي أوّلا ، ثمّ رجع عنه في «مسائله» على أبي الهذيل ... ويقال إنّ الشيخ أبا علي لم يكن في عينه أحد أعظم من أبي الهذيل ، ومع هذا فقد خالفة في أربعين مسألة ، هذه إحداهنّ. التوحيد : ١١٩ و ١٠١ ؛ طبقات المعتزلة : ٨٤. واختار أبو رشيد ما ذهب إليه أبو علي آخرا وهو قول أبي هاشم وسائر المعتزلة أيضا واستدل عليه بوجوه ، فراجع.

(٢) آنفا في البحث الأوّل من النظر الأوّل.

٣٢٢

كما في الاجتماع إن لم يقترن حصول الجوهرين في حيزيهما بقيد أن لا يتخللهما ثالث لم يكن اجتماعا. وإن كان المعنى بمطلق الكلي مغايرا للمتميز (١) وجب مغايرة النوع لذلك الجنس ، وهو مراد من زعم المغايرة. أمّا إن قالوا : إنّ كون المطلق مغايرا للاجتماع والافتراق ليست مغايرة الجنس للنوع ، كان باطلا.

واحتجّ أبو هاشم على نفي هذا المعنى بأنّ ما ليس بمدرك لا يصحّ إثباته إلّا بحالة أو حكم صادرين عنه ، فإذا كان الإدراك لا طريق له في إثبات هذا المعنى ولا يعقل للمفترقين بكونهما مفترقين أكثر من أحدهما كائنا في هذا المكان وكون الآخر في مكان بعيد عنه ، فقد عرى هذا المعنى عن دليل يدلّ عليه فيجب نفيه. وهذا في غاية السقوط.

__________________

(١) ق : «المميز» ، وعبارة الطوسي هكذا : «تعقل الجوهرين في حيزيهما إن لم تقترن بقيد أن لا يتخلّلهما ثالث لم يكن اجتماعا ، والمعنى المطلق مغاير للمقيّد ، وهم لا يعنون بالزائد غير ذلك». نقد المحصل : ١٥١.

٣٢٣

البحث الثالث

في ما يتعلّق بألفاظ مستعملة هنا

اختار أبو هاشم لفظة الكون ، لأنّها أعمّ حالات الجسم وهو يجري عليه في العدم والوجود ، ويجري مجرى الكون وغيره في أنّه لا يقتضي إلّا إبانة نوع من نوع دون أن يفيد وجودا على وجه. وما عدا ذلك لا يقال إلّا عند الوجود ، كقولنا حركة وسكون واجتماع وافتراق ، لأنّه يقتضي أنّه كون واقع على وجه. وقد ذكر أبو علي هذه اللفظة أيضا وواصل بن عطاء وأحد الجعفريين.

وقال أبو علي : إنّه يوصف بأنّه حركة وهو معدوم ، وكذا ما يفيد فائدة الحركة ، كالنقلة والزوال. وقال : لا يوصف بأنّه سكون ، لأنّ عنده يقتضي بقاءه فكيف يجري عليه حالة عدمه؟ وقال : الحركة لا تكون إلّا كذلك فصار كقولنا كون. وجعل المشي والعدو كالسكون في أنّه لا يجري عليه حال العدم ، لأنّه يقتضي انضمام حركات.

وأبو هاشم منع ذلك ، لأنّ الحركة كون واقع على وجه ، وليست كما قال أبو علي : إنّها لا توجد إلّا حركة ، بل يصحّ وجودها ولا تسمى حركة ، وإنّما تسمى بذلك إذا وجدت عقيب ضدّها ، أو يحصل بها الجوهر في مكان بعد أن كان في غيره بلا فصل.

وأمّا السكون فقيل : يكون كونا باقيا ، وقد يكون حادثا عقيب مثله عند أبي هاشم. وقال أبو علي : السكون لا يسمّى به إلّا الباقي.

٣٢٤

النظر الثاني

في مباحث الحركة

البحث الأوّل

في تعريفها (١)

أمّا المتكلّمون فقالوا : الحركة هي حصول الجوهر في حيز بعد أن كان في حيز آخر. (٢) فالحصول المطلق عرض عام ، لأنّه نفس الوجود. وتقييده بكونه في

__________________

(١) الحركة «Move ,motion ,movement­ في العرف يطلق غالبا على الانتقال من مكان إلى مكان آخر وإليه ترجع الحركة في الوضع لتغيّر مكان الأجزاء ، لكن معناها المصطلح في عرف الفلاسفة أعمّ من ذلك ، فيشمل الحركة في الكيف والكم وغيرهما أيضا. ثمّ إنّ تعريف الحركة المصطلحة لا يمكن بالحد المنطقي ، سواء اعتبرت مقولة كما ذهب إليه في التلويحات ، ص ١١ ، أو اعتبرت نحوا من الوجود كما اختاره صدر المتألهين ومن تبعه لعدم وجود الجنس والفصل لا للمقولات وللمفاهيم الوجودية التي هي من المعقولات الثانية الفلسفية.

(٢) أنظر هذا التعريف في : مقالات الإسلاميين : ٣٥٤ ، المحيط بالتكليف : ٤١ ؛ النيسابوري ، التوحيد : ١٣١ ؛ الفرق بين الفرق : ١٥٨ ؛ البغدادي ، أصول الدين : ٤٠ ؛ بهمنيار ، التحصيل : ٤١٨ ؛ أنوار الملكوت : ٢٤ ؛ أبو البركات ، المعتبر في في الحكمة ٢ : ٢٨ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٦٦٩ ؛ الرازي ، معالم أصول الدين : ٣٤ ؛ قواعد المرام : ٤١ ؛ كشف المراد : ٢٦١ ؛ مناهج اليقين : ٥٧ ؛ أبو البقاء ، الكليات ٢ : ٢١٣ ؛ الجرجاني ، التعريفات : ١١٤.

٣٢٥

الحيز خصصه عن المجردات والأعراض. وقولنا : «بعد أن كان في حيز آخر» خصصه عن باقي أنواع الكون. وهو مبني على القول بالجوهر الفرد وتتالي الآنات وتتالي الحركات التي لا تتجزأ. (١)

وأمّا الحكماء فقالوا (٢) : الموجود يستحيل أن يكون بالقوة من كلّ وجه ، وإلّا لكان في وجوده أيضا بالقوة فلا يكون موجودا وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف. بل ويكون في كونه بالقوة بالقوة فتكون القوة حاصلة وغير حاصلة ، هذا خلف. ولأنّ نفي القوة ليس لنفي الإمكان لأنّا فرضناه موجودا بل لثبوت الوجود ، والقوة تقتضي العدم فيكون موجودا معدوما ، هذا خلف. وإذا كانت القوّة حاصلة بالفعل فهي صفة الشيء ، لامتناع بقائها بذاتها ، فذلك الشيء يكون بالفعل بالضرورة.

فإذن كلّ موجود إمّا أن يكون بالفعل من كلّ وجه ، أو يكون بالفعل من وجه وبالقوة من وجه ، وكلّ ما هو بالقوة فإمّا أن يكون خروجه إلى الفعل دفعة أو على التدريج ، والثاني هو الحركة. فحقيقتها هو الحدوث أو الحصول أو الخروج من القوّة إلى الفعل يسيرا يسيرا أو على التدريج أو لا دفعة. وبهذا عرفها قدماء الحكماء. (٣)

__________________

(١) قال الطوسي : «هذا الحدّ للحركة هو حدّها عند المتكلّمين ، وهو مبني على القول بالجوهر الفرد وتتالي الحركات الأفراد غير المتجزئة». نقد المحصل : ١٤٩. راجع أيضا المطالب العالية ٤ : ٢٨٩.

(٢) راجع الفصل الأول من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ مناهج اليقين : ٥٧.

(٣) أنظر هذا التعريف في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من طبيعيات النجاة ؛ مقاصد الفلاسفة : ٣٠٤ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٩٦ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٠٩ ؛ الجرجاني ، التعريفات : ١١٤.

٣٢٦

وأمّا المحقّقون ، كأرسطو وأتباعه فانّهم منعوا هذا التعريف لاستلزامه الدور ؛ فانّ قولنا : «لا دفعة» لا يمكن معرفته إلّا بالدفعة ، والدفعة هي الحصول في الآن ، والآن عبارة عن طرف الزمان ، والزمان عبارة عن مقدار الحركة ، فينتهي تعريف الدفعة إلى الحركة ، فلو أخذناها في حدّ الحركة لزم الدور.

وكذا قولنا «يسيرا يسيرا» أو «على التدريج» فانّ كلّ ذلك لا يعرف إلّا بالزمان(١) الذي لا يعرف إلّا بالحركة.

وأجيب : بأنّ تصور حقيقة الدفعة واللادفعة والتدريج ويسيرا يسيرا بديهي ، لإعانة الحسّ عليها ، فأمّا أنّ هذه الأمور إنّما تعرف بسبب الآن والزمان فذلك هو المحتاج إلى البرهان ، فمن الجائز أن تعرّف الحركة بهذه الأمور ، ثمّ تجعل الحركة معرّفة للزمان والآن اللّذين هما سببا هذه الأمور الأوّلية التصور ، ولا دور حينئذ.

وهذا جيد (٢) ، لأنّ كلّ عاقل يعرف هذه المعاني وإن لم يخطر بباله شيء من كلمات الحكماء في الآن والزمان.

ولمّا أرسطو تعريف القدماء سلك نهجا آخر في التعريف (٣) ، فقال : الحركة ممكن الحصول للجسم ، وكلّ ما يمكن حصوله للجسم أو لغيره فانّ حصوله كمال له ، فالحركة إذن كمال لما يتحرك ، لكنّها تفارق سائر الكمالات من حيث إنّه لا حقيقة لها إلّا التأدّي إلى الغير والسلوك (٤) إليه ، وما كان كذلك

__________________

(١) فيقال : التدريج هو وقوع الشيء في زمان بعد زمان.

(٢) واستحسن الرازي أيضا هذا الجواب في المباحث ١ : ٦٧٠.

(٣) قال الشيخ بعد بيان الدور في التعريف السابق : «فاضطر مفيدنا هذه الصناعة إلى أن سلك في ذلك نهجا آخر ...» نفس المصدر من الشيخ.

(٤) في النسخ : «السكون» وما أثبتناه من المباحث.

٣٢٧

فله خاصيّتان :

أ. أنّه لا بدّ هناك من مطلوب ممكن الحصول ، ليكون التوجه توجها إليه.

ب. أنّ ذلك التوجه ما دام كذلك فإنّه بقى منه شيء بالقوة ، فانّ المتحرك إنّما يكون متحركا بالفعل إذا لم يصل إلى المقصود ، فانّه إذا وصل إلى المقصود وقف ، وما دام هو متحرك فقد بقى منه شيء بالقوّة. فإذن هوية الحركة متعلّقة بأن يبقى منها شيء بالقوّة ، وبأن لا يكون المقصود من الحركة حاصلا بالفعل.

وسائر الكمالات لا يوجد فيها شيء من هاتين الخاصيتين ، فانّ الشيء إذا لم يكن مربعا فحصل أن صار مربعا فحصول المربعية من حيث هي هي لا يوجب أن ينقضي ويستعقب شيئا غيره. وأيضا إذا حصل لا يبقى منه شيء بالقوّة.

إذا ثبت هذا ، فالجسم إذا كان في مكان وهو ممكن الحصول في آخر ففيه إمكانان : إمكان الحصول في ذلك المكان ، وإمكان التوجه إليه. وقد عرفت أنّ كلّ ما يكون ممكن الحصول فانّ حصوله يكون كمالا له ، فالتوجه إلى ذلك المطلوب كمال ، وحصوله في المكان الثاني كمال أيضا ، لكن التوجه إلى المكان الثاني أسبق الكمالين ، وإلّا لم يكن الوصول إليه على التدريج.

فإذن التوجه كمال أوّل للشيء الذي بالقوة ، لكن لا من كلّ وجه ، فليست (١) الحركة كمالا للجسم في جسميته ، وإنّما هي كمال له من الجهة التي هو باعتبارها كان بالقوّة. ثمّ لمّا كانت كمالية الحركة بأن تستعقب شيئا مفقودا عن المتحرك إذ لو كانت كمالاته حاصلة بالفعل انتفت الحركة ، وجب أن يقال : في

__________________

(١) ق : «وليست».

٣٢٨

حدّها : إنّها كمال أوّل لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة. (١) هذا تفسير أرسطو.

واعترض عليه بوجوه : (٢)

الاعتراض الأوّل : تعريف الشيء بما هو أخفى منه ، فانّ كلّ أحد يتصور ماهية الحركة ويفرّق بينها وبين السكون ويميز بين كون الجسم متحركا وبين كونه ساكنا ، وما ذكر تموه في التعريف لا يفهمه إلّا الأذكياء.

الاعتراض الثاني : الكمال الأوّل لا يفرض إلّا لما يكون حدوثه على التدريج ، وسيأتي بطلانه. (٣)

الاعتراض الثالث : هب أنّ الحدوث يسيرا يسيرا غير ممتنع ، لكن الكمال الأوّل ممّا لا يمكن تصوّر ثبوته إلّا في الشيء الذي يفرض حدوثه على سبيل التدريج فإن كان تصوّر الحدوث على التدريج متوقفا على تصور الحركة على ما يعتقد أصحاب أرسطو ، فقد فسد هذا التعريف. وإن لم يكن متوقفا عليه كان تعريف الحركة ابتداء بأنّها الحدوث على التدريج أولى من هذه التطويلات.

__________________

(١) توضيحه : أنّ الجسم المتمكّن في مكان مثلا إذا قصد التمكن في مكان آخر ترك المكان الأوّل بالشروع في السلوك إلى المكان الثاني حتى يتمكن فيه. فللجسم وهو في المكان الأوّل ، كمالان هو بالنسبة إليهما بالقوة. وهما السلوك الذي هو كمال الأوّل والتمكن في المكان الثاني الذي هو كمال ثان. فالحركة وهي السلوك ، كمال أوّل للجسم الذي هو بالقوة بالنسبة إلى الكمالين ، لكن لا مطلقا بل من حيث إنّه بالقوة بالنسبة إلى الكمال الثاني ، لأنّ السلوك متعلّق الوجود به. راجع العلامة الطباطبائي ، نهاية الحكمة : ٢٠١. وانظر هذا التعريف في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الأول من طبيعيات الشفاء ؛ رسالة الحدود لابن سينا ؛ الآمدي ، المبين ؛ العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد : ١٢٩ ؛ التحصيل : ٤٢١ (الفصل الثاني عشر من المقالة الثانية من علم ما بعد الطبيعة) ؛ إيضاح المقاصد من حكمة عين القواعد : ٢٧٣.

(٢) راجع الملخص للرازي كما في شرح المواقف ٦ : ١٩٥ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤١١.

(٣) بعد قليل في : البحث الثاني في إمكان الحصول التدريجي.

٣٢٩

وفيه نظر ، لأنّا نمنع من معرفة حقيقة الحركة وتصوّر ذاتها ، بل المتصوّر لنا بعض عوارضها ، كما في النفس. وكون الشيء لا يتصوّر ثبوته إلّا في الشيء ، لا يستدعي توقّف تصوّره على تصوّر ذلك الشيء ، بل قولنا : «كمال أوّل» يتوقّف على معرفة الزمان ، لأنّ أقسام السبق قد عرفت عددها وليس المراد هنا إلّا الزماني ، فيدور.

والحقّ أن يقال : إنّ تصوّر الحركة ضروري وإن لزمها ما ذكرتم.

ونقل عن أفلاطون : إنّها خروج عن المساواة. وعنى بذلك كون الشيء بحيث لا يفرض آن من الآنات إلّا ويكون حاله فيه بخلاف حاله في الآن الذي يكون قبله أو بعده ، ولا يكون مساويا لحالته السابقة أو اللاحقة.

ورسمها فيثاغورس بالغيرية ، لأنّ حال الجسم في صفة من الصفات في كلّ آن مغايرة لحاله قبل ذلك الآن وبعده. (١)

__________________

(١) وقال الشيخ بعد نقل هذه التعاريف وتزييفها : «وهذه رسوم إنّما دعا إليها الاضطرار وضيق المجال ولا حاجة بنا إلى التطويل في إبطالها ومناقضتها ، فإنّ الذهن السليم يكفيه في تزييفها ما قلناه.» الفصل الأوّل من ثانية الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٨٣. راجع أيضا المباحث المشرقية ١ : ٦٧١ ؛ الأسفار ٣ : ٢٦.

٣٣٠

البحث الثاني

في إمكان الحصول التدريجي

نازع أفضل المتأخرين في ذلك (١) ، وذهب إلى امتناعه. واستدل عليه بأنّ : «الشيء إذا تغير فذلك التغيّر إنّما يكون لحصول شيء فيه أو لزوال شيء عنه ، إذ لو لم يحدث فيه شيء ما كان موجودا أو لم يزل عنه شيء ممّا يكون موجودا ، وجب أن يكون حاله في ذلك الآن كحاله قبله فلا يكون فيه تغير وقد فرض فيه تغيّر ، هذا خلف.

فإذن كلّ شيء متغير فلا بدّ له من حدوث شيء فيه أو زوال شيء عنه فليفرض أنّه حدث فيه شيء ، فذلك الحادث قد كان معدوما ثمّ صار موجودا ـ تحقيقا للحدوث ـ وكلّ ما كان كذلك فلوجوده ابتداء بالضرورة وذلك الابتداء غير منقسم ، وإلّا لكان أحد جزئيه هو الابتداء لا هو ، فذلك الذي حدث إمّا أن يكون في ابتداء وجوده موجودا أو لا يكون ، فإن لم يكن فهو بعد في عدمه لا في ابتداء وجوده ، وإن حصل له وجود فلا يخلو إمّا أن يكون قد بقى منه شيء بالقوّة أو لم يبق ، فإن لم يبق فالشيء قد حصل بتمامه في أوّل حدوثه ، فهو حاصل دفعة لا يسيرا يسيرا ، وإن بقي منه شيء بالقوّة فذلك الذي بقى إمّا أن يكون عين الذي وجد ، وهو محال ، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما دفعة واحدة ،

__________________

(١) وقد ذكر بهمنيار هذه الشبهة عمّن سبقه من الأقدمين وأبطلها ، كما في الأسفار ٣ : ٢٧.

٣٣١

وإمّا أن يكون غيره فحينئذ الذي حصل أوّلا فقد حصل بتمامه ، والذي لم يحصل فهو بتمامه معدوم ، فليس هناك شيء واحد له حصول على التدريج ، بل هناك أمور متتالية.

فالحاصل : أنّ الشيء الأحديّ الذات يمتنع أن يكون له حصول (١) إلّا دفعة ، بل الشيء الذي له أجزاء كثيرة أمكن أن يقال حصوله على التدريج ، على معنى أنّ كلّ واحد من تلك الأفراد الحقيقة إنّما يحصل في حين بعد حين حصول الآخر. وأمّا على التحقيق فكلّ ما حدث فقد حدث بتمامه دفعة ، وما لم يحدث فهو بتمامه دفعة لم يحدث بل هو معدوم». (٢)

والأوائل منعوا من كون الحادث ابتداء من نوعه ، فليس لابتداء الحركة آن فيه حركة ، ولا لابتداء الزمان زمان. وبالجملة فالأشياء عندهم تنقسم إلى ما يوجد في آن وهو ما يوجد دفعة كالجوهر والأعراض القارّة. ومنها ما لا يمكن وجوده إلّا في زمان فأيّ شيء فرضت منه لا بدّ وأن يطابقه زمان ، ولا يمكن أن يوجد فيه شيء يكون أقل ما يمكن ، وإلّا لزم الجزء الذي لا يتجزأ ، وهو عندهم محال. فالبحث معهم يقع في هذا أوّلا ، وقد أبطلنا قواعدهم فيه.

__________________

(١) ق : «حصوله».

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٦٧١ ـ ٦٧٢. راجع أيضا شرح الإشارات ٣ : ١٨٨.

٣٣٢

البحث الثالث

في تحقيق مفهوم الحركة

قال الرئيس : الحركة اسم لمعنيين : (١)

الأوّل : الأمر المتصل المعقول للمتحرك الممتد في أوّل المسافة إلى آخرها.

الثاني : كون الجسم متوسطا بين المبدأ والمنتهى للمسافة بحيث أيّ آن فرضته

__________________

(١) وفي شرح المواقف إسناد هذا القول إلى أرسطو ، فراجع ٦ : ١٩٧. وانظر كلام الرئيس في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء. ولخّصه بهمنيار في التحصيل : ٤١٩ ، والرازي في المباحث المشرقية ١ : ٦٧٢ ـ ٦٧٣ ، والمصنف في إيضاح المقاصد : ٢٧٤. ونقله صدر المتألهين في الأسفار ٣ : ٣١ ـ ٣٢. ومن هنا نشأ البحث حول الحركة التوسطيّة والقطعيّة ، فقيل بوجود الحركة بمعنى التوسط في الخارج دون القطع ، وقيل بالعكس ، وقيل بوجودهما معا. وذهب السيد مير الداماد إلى وجود كلتا الحركتين في الخارج وأقام عليه ثلاثة براهين ، وأنكر اسناد القول بنفي الحركة القطعية إلى كبار الفلاسفة ، وقال : «لا تحسبنّ أحدا من رؤساء الفلاسفة ومعلميهم وأتباعهم المحصلين ، مستنكرا ... ووجود الحركات القطعية المتصلة جميعا في ظرف الأعيان في وعاء وجودها ، وهو الزمان الممتد المتصل الموجود في الدهر.» ونسب القول بقصر الوجود في الخارج على الحركة التوسطية إلى شرذمة من المقلدين ، واستشهد بكلمات للشيخ لإثبات أنّه قائل بوجود الحركة القطعية في الخارج أيضا. راجع القبسات : ٢١١.

وقد فرّق بين الحركتين وذكر أمورا لتمييزهما ، منها : أنّ الحركة التوسطية راسمة للزمان ، والحركة القطعية واقعة في وعاء الزمان ، وأنّ الأولى تكال بالآن السيال ، والثانية تقدّر بالزمان. راجع المصدر نفسه : ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٣٣٣

يكون المتحرك فيه في حدّ من الحدود المفروضة للمسافة لا يكون قبله ولا بعده في ذلك الحدّ. (١)

أمّا الأوّل : فلا وجود له في الأعيان ، لأنّ المتحرك ما دام لم يصل إلى المنتهى فالحركة لم توجد بتمامها ، وإذا وصل فقد انقطعت الحركة وانتهت.

فإذن لا وجود له عينا ، بل في الذهن ، فانّ للمتحرك نسبتين : نسبة إلى المكان الذي تركه ونسبة إلى المكان الذي أدركه ، فإذا ارتسمت صورة كونه في المكان الأوّل في الخيال ثمّ ارتسمت صورة كونه في المكان الثاني قبل زوال الصورة الأولى عن الخيال ، اجتمعت الصورتان في الخيال ، فيشعر الذهن حينئذ بهما معا على أنّهما شيء واحد ، وأدرك أمرا ممتدا من أوّل المسافة إلى آخرها ، وليس في الخارج لهذه الحركة وجود البتة. (٢)

وأمّا الثاني : فهو أمر موجود في الخارج مستمر ما دام الشيء يكون متحركا ، ولا حصول له في شيء من حدود المسافة إلّا آنا واحدا ، فانّه لو استقر في حدّ واحد أكثر من ذلك لكان ذلك الحدّ منتهى حركته فيكون حاصلا في المنتهى لا في المتوسط بين المبدأ والمنتهى ، وليس في هذه الحالة تغيّر أصلا ، بل قد تتغير حدود المسافة بالعرض ، لكن ليس كون المتحرك متحركا لأنّه في حدّ معيّن من الوسط ، وإلّا لم يكن متحركا عند خروجه منه ولا بعد دخوله فيه بل هو متحرك ، لأنّه متوسط على الصفة المذكورة وتلك الحالة ثابتة في جميع حدود ذلك الوسط ، وهذه الصورة توجد في المتحرك وهو في آن ، لأنّه يصحّ أن يقال في كلّ آن يفرض أنّه في حدّ متوسط لا قبله ولا بعده فيه.

__________________

(١) هكذا عرفها التفتازاني في شرح المقاصد ٢ : ٤١١ ، والجرجاني في التعريفات : ١١٥.

(٢) وقال بهمنيار بعد ذكر هذا المعنى للحركة : «فذلك البتّة لا يحصل للمتحرك بالفعل ، بل إنما هو أمر يحصل في العقل.» التحصيل : ٤٢٢.

٣٣٤

وقولهم : «كلّ حركة في زمان» إن عنوا بها (١) الأمر المعقول المتصل فهو في الزمان ، ووجودها فيه على سبيل وجود الأمور في الماضي ، لكن يفارقها بأنّ الأمور الموجودة في الماضي قد كان لها وجود في آن من الماضي كان حاضرا فيه ، وهذا ليس كذلك ، لاستحالة تحقّقه في آن ما من آنات الماضي.

وإن عنوا به المعنى الثاني ـ وهو الحركة بمعنى التوسط ـ فكونه في الزمان لا على معنى أنّه تلزمه مطابقة الزمان ، بل على معنى أنّه لا تخلو من حصول قطع ذلك القطع مطابق للزمان فلا ينفك من حدوث زمان. ولأنّه (٢) ثابت في كلّ آن من ذلك الزمان فيكون ثابتا في هذا الزمان بواسطة.

واعلم أنّ الماهية إنّما تتشخص بأمور خارجية ، وتلك الأمور هنا : وحدة الموضوع والزمان وما فيه الحركة ، فإذا اتحدت هذه الثلاثة يتشخص الحصول الذي هو الحركة ، فتكون الحركة الواحدة بالعدد هي التوسط بين مبدأ بالشخص ومنتهى بالشخص لموضوع واحد بالشخص في زمان واحد في نوع واحد ، وهذا المعنى أمر واحد موجود في الآن مستمر باستمرار الزمان كسائر الأعراض. فإذا افترضت للمسافة حدود معينة فعند وصول المتحرك إليها يعرض لذلك الحصول في الوسط ان صار حصولا في ذلك الوسط ، لكن صيرورته حصولا في ذلك الوسط أمر زائد على ذاته الشخصية. فإذا خرج الجسم عن ذلك الحدّ فقد زال كونه حاصلا في ذلك الوسط ، وما زال كونه حاصلا في الوسط بين ذلك المبدأ وذلك المنتهى فلا جرم تلك الحركة باقية بالشخص لكن زال عنها عارض من عوارضها. ثمّ لا يمكن تعاقب آحاد هذه العوارض ، لأنّ تعاقبها إنّما يكون بتتالي النقط في المسافة والآنات في الزمان ، ولمّا امتنع ذلك امتنع تتالي هذه العوارض.

__________________

(١) أي بالحركة.

(٢) في بعض نسخ الشفاء : «لا أنه».

٣٣٥

فظهر أنّ الحركة كسائر الأعراض في أنّ لها وجودا في الآن وجودا في الزمان بالوجه الذي ذكرناه.

ففي قوله : «الحصول في الوسط كلّي ، وذلك لا يوجد في الأعيان» ، فنقول : ذلك التوسط إنّما تكون فيه كثرة عددية إذا كانت في المسافة كثرة عددية ، حتى يقال : الذي وجد في هذا الحدّ من المسافة غير الذي وجد في الحدّ الآخر لكن المسافة متصل واحد ، فلا تكون القطوع والحدود فيه واجبة الحصول ، فإذا لم تحصل لم تكن هناك إلّا مسافة واحدة ، فلا يكون ذلك التوسط بين ذلك المبدأ وذلك المنتهى لذلك المتحرك في ذلك الزمان في النوع الواحد إلّا أمرا واحدا بالعدد ، لأنّ الجزئي ما يمنع نفس مفهومه الشركة ، فهو إذن جزئي. (١) وإمكان فرض الأجزاء فيه لا يجعله كليا ، فإنّ إمكان فرض الأجزاء في الشيء لا يجعله كليا ، كالخط يمكن فرض أجزاء كثيرة فيه مع تشخصه ، بل المعتبر في كلية الشيء إمكان فرض الجزئيات.

واعلم أنّ هذا الكلام تصريح من الشيخ بأنّ الحركة المفتقرة إلى مطابقة الزمان ليس موجودة في الخارج ، بل في الذهن ، وأنّ الحركة الموجودة في الخارج آنية ، وإن كانت لا توجد إلّا في زمان لا على معنى مطابقتها للزمان ، بل انّها لا توجد إلّا وأن يسبقها زمان.

واعترض (٢) ، بأنّ ما لا وجود له في الخارج بل في الذهن كيف يتقدر بالزمان الموجود في الأعيان؟ بل الحركة عند الشيخ محلّ للزمان وعلّته ، وكيف يمكن أن يكون المعدوم محلا للموجود وعلّة له؟ اللهمّ إلّا أن يقال : الزمان لا وجود له في

__________________

(١) ونفس مفهوم التوسط المذكور مع وحدة الموضوع والزمان وما فيه وما إليه بالعدد يمنع من وقوع الشركة فيه ، فهو إذن أمر جزئي. المباحث المشرقية ١ : ٦٧٥.

(٢) ذكره الرازي في المباحث ١ : ٦٧٣ ـ ٦٧٤.

٣٣٦

الخارج بل في الذهن ، والشيخ غير قائل بهذا المذهب.

وأيضا كيف يكون وجود الحركة بالمعنى الأوّل في الزمان على سبيل الوجود في الماضي مع الاعتراف بأنّ حصول الشيء في الماضي هو أن يكون قد كان له حصول في آن الآنات الماضية مع أنّه ليس لهذه الحركة وجود أصلا؟

٣٣٧

البحث الرابع

في أنّ الحركة وجودية (١)

الضرورة قاضية بأنّ الحركة وجودية (٢). وقد نازع زينون الحكيم (٣) وبارمنيدس (٤) وغيرهما في وجودها ، واستدلوا بوجهين :

__________________

(١) راجع المعتبر في الحكمة ٢ : ٣٠ ؛ المطالب العالية ٤ : ٢٨٨ ؛ نقد المحصل : ١٨٤ ؛ إيضاح المقاصد:٢٧٣. ويقول ابن سينا : «فمن الناس من منع ... وجود الحركة. أما من أبطل الحركة المكانية والوضعية فلا كثير فائدة لنا في الاشتغال بمناقضته ، وإن كانت العادة قد جرت بها.» الفصل الأوّل من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.

(٢) قال أبو البركات البغدادي : «... إنّ هذه الحركة موجودة فإنّه من الأشياء الظاهرة المحسوسة. وأمّا كيف وجودها وعلى أيّ نحو هو وأيّ معنى يفهم منه ففيه نظر لطيف.» المعتبر في الحكمة ٢ : ٣٠.

(٣) زينون الإيلي (٤٩٠ ـ ٤٣٠) هو تلميذ بارمنيدس. وله أربع حجج ضد الحركة : الأولى تسمى حجّة القسمة ؛ الثانية وهي تمثيل للأولى تسمّى حجّة أخيل ، الثالثة تسمّى حجّة السهم ، الرابعة تسمّى حجّة الملعب. ويستنتج منها وهمية الحركة. راجع يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة اليونانية : ٣٠.

قال أرسطو : «وحجج زينون في الحركة ، التي يعسر حلّها أربع» وسمّى الثانية بحجة أخلوس. وقال الشارح : إنّه اسم رجل كان سريع الاحضار (العدو) ، وزينون يمثل به في حجته. راجع أرسطوطاليس ، الطبيعة ٢ : ٧١٣.

(٤) في النسخ : «برمانيدس» ، وما أثبتناه من تاريخ الفلسفة اليونانية.

ولد في إيليا ويقال إنّه تتلمذ لأكسانوفان. وضع كتابه «في الطبيعة» شعرا ، فكان أوّل من نظم الشعر في الفلسفة. وكتابه قسمان : الأوّل في الحقيقة ، أي الفلسفة. والثاني في الظن ، أي العلم الطبيعي. المصدر نفسه: ٢٨. وانظر آراءه في الحركة في كتاب أفلاطون المحاورات الكاملة ، ج ٢ ، محاورة بارمنيدس ، تعريب شوقي داود تمراز.

٣٣٨

الوجه الأوّل : لو كانت الحركة موجودة لكانت إمّا أن تقبل القسمة دائما أو لا تكون كذلك. والتالي بقسميه باطل ، فالمقدّم مثله ، والشرطية ظاهرة.

وأمّا بطلان الأوّل : فلأنّ الحركة إمّا أن لا يكون لها وجود في الحال أو يكون ، فإن لم يكن لم تكن الحركة موجودة مطلقا ، لأنّ ما لا وجود له في الحال لا وجود له في الماضي ولا في المستقبل ، لأنّ الماضي هو الذي كان موجودا في وقت كان حاضرا فيه ، والمستقبل هو الذي سيحضر في وقت ، فإن استحال أن يكون له وجود في الحال استحال أن يكون ماضيا ومستقبلا ، وهو نفي للحركة بالكلية.

وإن كان لها وجود في الحال فذلك القدر الحاضر منه في الحال إمّا أن يكون منقسما أو لا ، والأوّل محال ، لأنّ أحد نصفيه لا يكون سابقا على النصف الآخر ، لأنّ الأجزاء المفترضة في الحركة منقضية غير مستقرة فحينئذ لا يكون الحاضر حاضرا ، هذا خلف ، بل يكون بعضه ماضيا أو مستقبلا وبعضه حاضرا.

وأيضا فإمّا أن لا يحضر منه شيء أصلا وهو القسم الأوّل. أو يحضر بعضه ، فيعود الكلام في ذلك البعض أنّه منقسم.

فيثبت أنّ الحاضر من الحركة غير منقسم ، والذي يحصل عقيبه أيضا غير منقسم ، فتكون الحركة مركبة من أمور متتالية غير قابلة للقسمة ، وذلك أيضا محال لوجهين :

الأوّل : ذلك الجزء من الحركة يقع على مسافة منقسمة لما عرفت من بطلان الجوهر الفرد فتكون الحركة إلى نصفها نصف الحركة إلى كلّها ، فذلك الجزء من الحركة منقسم.

الثاني : لو قدرنا تركب المسافة من الأجزاء التي لا تتجزأ فإذا تحرك جزء من جزء إلى جزء آخر فالحركة إن حصلت حالة كونه ملاقيا لتمام الجزء المتحرك عنه ، فهو محال لأنّه حينئذ لأنّه لم يتحرك. أو عند كونه ملاقيا لتمام الجزء المتحرك إليه ، وهو

٣٣٩

محال لأنّه حينئذ قد انقطعت الحركة. أو فيما بينهما فتكون المسافة منقسمة أبدا والحركة عليها منقسمة.

وبهذا يبطل ما ظنّه بعض المتأخرين من أنّ الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة في حدود من المسافات متتالية ، لأنّ كلّ واحد من تلك الحصولات إن وجد أكثر من آن واحد كان لكلّ واحد منها حصولات مستقرة فلا يكون شيء منها حركة ، وإن لم يوجد الواحد منها أكثر من آن واحد فهناك أمور آنية متتالية فيلزم تتالي الآنات ، وهو باطل. ولأنّ كلّ واحد من تلك الحصولات ليس كمالا أوّلا بل هو الكمال الثاني ، لأنّ الحركة هي السلوك إلى الحصول في حدّ (١) معيّن لا أنّه نفس ذلك الحصول.

الوجه الثاني : الحركة إمّا أن تكون عبارة عن المماسة الأولى ، أو عن المماسة الثانية ، أو مجموع المماستين ، أو انتقال الجسم من أحدهما إلى الآخر.

والأوّل باطل ، لأنّه بعد لم يتحرك.

والثاني باطل أيضا ، لأنّ الحركة قد انتهت. وأيضا لو كانت الحركة هي المماسة لكان متى حصلت المماسة حصلت الحركة ، وليس كذلك.

والثالث باطل لوجهين :

الأوّل : أنهّما لا يوجدان معا ، فإذا كانت الحركة عبارة عنهما وجب أن لا يكون للحركة وجود أصلا.

الثاني : المماسة الأولى هي التي عنها الحركة ، والمماسة الثانية هي التي إليها الحركة ، والضرورة قاضية بأنّ الحركة ليست هي نفس ما عنه الحركة أو إليه الحركة. ولأنّه لو كان كذلك لزم تتالي الآنات وتشافع النقط.

__________________

(١) في المباحث : «حيّز».

٣٤٠