نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

والرابع باطل ، لأنّ انتقال الجسم من مماسة إلى أخرى معناه اتصافه بإحداهما بعد اتصافه بالأخرى ، وقد بيّنا أنّ اتصاف الجسم بما يحل فيه ليس أمرا ثبوتيا بل هو ذهني اعتباري. وبتقدير كونه ثبوتيا إلّا أنّه لا يكون ذلك الثبوتي الذي حصل حركة ، لأنّه نهاية الحركة ونهاية الحركة ليست حركة.

والجواب : أنّ هذا استدلال في مقابلة الضرورة ، فلا يكون مسموعا.

وأيضا جاز أن ينقسم إلى أجزاء لا تتجزأ ، كما هو الحقّ من إبطال أدلّة الحكماء في نفي الجوهر.

سلّمنا ، لكن الحركة ليست موجودة إلّا في الماضي أو المستقبل ، أمّا الحال فهو نهاية الماضي وبداية المستقبل وليس بزمان ، وما ليس بزمان لا تكون فيه حركة ، لأنّ كلّ حركة في زمان. والمماسة لا يمكن أن يقال : إنّها عدمية. فالحركة عبارة عن الانتقال من المماسة الأولى إلى الثانية ، وكلّ ما يفرض ثانيا فانّه مسبوق بمماسة قبلها ، وهكذا إلى ما لا يتناهى عندهم.

٣٤١

البحث الخامس

في وجود السكون وباقي الأنواع

ذهب المتكلّمون إلى أنّ السكون أمر ثبوتي في الأعيان كالحركة ، لأنّه عبارة عن : حصول الجسم في المكان أكثر من زمان واحد ، والحركة حصوله في المكان زمانا واحدا عقيب حصوله في مكان آخر. فالماهية واحدة وإنّما افترقا بالبقاء وعدمه وليس البقاء معنى زائدا ، ولو كان لم يؤثر في تماثل الحقيقة ، كالصبي والرجل. (١)

قال أفضل المتأخّرين (٢) : «السكون عند المتكلّمين حصوله في الحيز الواحد أكثر من زمان واحد». (٣)

قال أفضل المحقّقين : «هذا يقتضي أن تكون الحركة التي تكون قبل السكون سكونا بعينه. والصواب أن يقال : هو الحصول في حيز بعد حصوله في ذلك الحيز

__________________

(١) قال النيسابوري : «إنّ الكون إن بقى وقتين سمّي سكونا ، وإن طرأ عليه ضد فنفاه وانتقل به الجوهر إلى جهة ثانية ، فهذا الثاني يكون حركة ، ويكون الأوّل من جنسها أيضا.» التوحيد : ٧٦ ؛ راجع أيضا مقالات الإسلاميين : ٣٤٦ ؛ ابن حزم ، الفصل ٥ : ١٧٥ ؛ الفرق بين الفرق ، ذكر النظامية : ١٣٨ ؛ البغدادي ، أصول الدين : ٤٠ و ٤٦.

واستدل الرازي بهذا الوجه ووجوه أخرى لإثبات أنّ السكون صفة موجودة بعد إبطال حجج المتكلّمين وبيان ضعفها لإثبات المدعى. راجع المطالب العالية ٤ : ٢٨٣ وما يليها

(٢) أنظر كلام الرازي والطوسي في نقد المحصل : ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٣) قال الطوسي : «وقد قال هو ذلك بعينه في آخر هذا الفصل.» المصدر نفسه.

٣٤٢

بعينه ، حتى تخرج منه الحركة». (١)

ومعناه أنّا إذا أخذنا الحصول في المكان أكثر من زمان تعتبر البداية من الآن الثاني كان الحصول الأوّل يصدق عليه أنّه حصول الجسم في المكان الواحد أكثر من زمان واحد فكان سكونا.

«وأمّا الاجتماع فهو : حصول الجوهرين في حيّزين ولا يمكن أن يتخلّلهما ثالث. والافتراق كونهما بحيث يتخلّلهما ثالث».

قال أفضل المحقّقين : «ينبغي أن يحدّ الاجتماع بحيث يختص بجوهر واحد ، والذي قاله يفهم منه أن يكون لجوهرين حصول واحد ، لأنّه قال : حصول الجوهرين. والصواب أن يقال : هو حصول الجوهر في الحيز بحيث لا يمكن أن يتخلل بينه وبين جوهر (٢) آخر ثالث».

وإذا عرفت مفهومات هذه المعاني ، فنقول : إنّها وجودية. إمّا لما سبق من أنّ الحصول في المكان أمر واحد في الجميع ثبوتي ولا تختلف الأنواع التي تحته إلّا بالعدد ، إذ المميزات فيها أمور عارضة ، كالثبات وعدمه في الحركة والسكون ومماسة الجسم لغيره وعدمها. أو نقول : إنّ الجسم لم يكن على حال من هذه الأحوال ثمّ يصير عليها ، فيكون غير متحرك ثمّ يصير متحركا ، ويكون غير ساكن ثمّ يصير ساكنا ، ويكون غير مجتمع ثمّ يصير مجتمعا ، ويكون غير متفرق ثمّ يصير متفرقا ، والتغير من أمر إلى أمر يستدعي وجود الصفة.

لا يقال : هذا ينتقض بأنّ الباري تعالى كان عالما بأنّ العالم سيوجد ثمّ صار عالما بأنّه موجود. وكذا لم يكن رائيا للعالم لاستحالة رؤية العدم ثمّ صار رائيا. ولم يكن فاعلا للعالم ثمّ صار فاعلا ؛ والفاعلية تمتنع أن تكون صفة حادثة ،

__________________

(١) في بعض نسخ المحصل : «حيز واحد».

(٢) في المصدر : + [حيّزه] قبل «جوهر».

٣٤٣

وإلّا لافتقرت إلى احداث آخر ويلزم التسلسل.

وأيضا التغيّر يكفي في تحقّقه كون إحدى الحالتين ثبوتية ، وأنتم ادعيتم أنّ الحركة والسكون كلاهما ثبوتيان.

لأنّا نقول : تغيّر الإضافات لا يوجب تغيّر الذات والصفات. والحركة والسكون نوع واحد ، لأنّ المرجع بهما إلى الحصول في الحيّز ، إلّا أنّ الحصول إن كان مسبوقا بحصول آخر كان حركة ، وإن كان مسبوقا بالحصول في ذلك الحيز كان سكونا ، وإذا اتحدا في الماهية وكان أحدهما ثبوتيا كان الآخر كذلك بالضرورة. وبهذا الطريق ثبت أنّ الكون المبتدأ ثبوتي.

وإنّما احتاج المتكلّمون إلى أنّ السكون ثبوتي لبناء مسألة الحدوث عليه.

والأوائل جعلوا السكون أمرا عدميا هو عدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرك (١) ، فالتقابل بينه وبين الحركة تقابل العدم والملكة عندهم. (٢) وعند المتكلمين تقابل الضدية. (٣)

واعلم أنّ التحقيق منا : أن نقول للساكن حالتان : إحداهما حفظ النسب إلى الأمور الثابتة وبقاؤها على وتيرة واحدة ، والثانية عدم الحركة عنه مع أنّه من شأنه أن يتحرك. فإن جعلنا السكون عبارة عن الأوّل فهو أمر ثبوتي ، وإليه أشار المتكلّمون (٤) ، وجعلنا الثاني لازما للأوّل. وإن جعلناه عبارة عن الثاني كان أمرا

__________________

(١) راجع طبيعيات النجاة ، فصل في الحركة : ١٣٤ ؛ الفصل الرابع من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ التحصيل : ٤٢٩. وكذا عرفها أبو البركات في المعتبر ٢ : ٣٠ و ٤٠.

(٢) قال الشيخ : «إنّ المشهور من مذهب الطبيعيين أنّ السكون مقابلته للحركة هي مقابلة العدم للقنية ، لا مقابلة الضد.» المصدر نفسه.

(٣) راجع النيسابوري ، التوحيد : ١٣٢ ؛ أنوار الملكوت : ٢٤ (في تعريف السكون).

(٤) وهو مختار الطوسي أيضا في تجريد الاعتقاد ، حيث قال : «والسكون حفظ النّسب فهو ضد.» كشف المراد : ٢٧١.

٣٤٤

عدميا. فتصير المنازعة هنا لفظية ، لاعتراف الفريقين بثبوت هاتين الحالتين. (١) فلكلّ أحد أن يطلق السكون على أيّهما شاء ، لكن الحكماء جعلوه عبارة عن الثاني لوجهين : (٢)

الوجه الأوّل : لا شكّ في التقابل بين الحركة والسكون ، وهذا التقابل إنّما يكون لو فهمنا من لفظ السكون الأمر العدمي لا الوجودي ، وذلك لأنّ المتقابلات يجب أن تكون حدودها متقابلة. فلا يخلو إمّا أن نحدّ الحركة أوّلا ثمّ نطلب للسكون حدّا يقابل حدّها أو بالعكس.

فإن كان الأوّل فقد حددنا الحركة بأنّها كمال أوّل لما بالقوة ، فهنا ألفاظ ثلاثة : الكمال ، والأوّل ، والقوة ، فلا بدّ أن نأخذ في حدّ السكون ما يقابل أحدها. فإذا جعلنا السكون أمرا ثبوتيا وجب حفظ الكمال على حاله. ثمّ إمّا أن نأخذ مقابل الأوّل ، فنقول : السكون كمال ثان لما بالقوة فيلزم أن تكون قبل كلّ سكون حركة ، وإلّا لم يكن السكون ثانيا. أو نأخذ مقابل الثاني ، فنقول : السكون كمال أوّل لما بالفعل فيلزم أن تكون بعد كلّ سكون حركة ، وإلّا لم يكن السكون أوّلا. ولمّا لم يقتض مفهوم السكون أحد الأمرين بطل الحدّان المذكوران وبقي أن يورد في رسم السكون مقابل الكمال ، وهو الأمر العدمي.

وإن رسمنا السكون أوّلا وعنينا به الأمر الثبوتي وهو حصوله في الحيز لم يمكننا أن نرسمه إلّا بما يشعر باستمرار ذلك الحصول ، وذلك غير ممكن إلّا بذكر الزمان أو لواحقه ، مثل أن نقول : إنّه الحصول في المكان الواحد زمانا وأكثر من

__________________

(١) قال المصنف في مناهج اليقين : «والأوائل وإن قالوا بكون السكون عدميا لكنّهم يثبتون صفة أخرى هي الوضع ويجعلونها وجودية. ونحن لا نعني بالسكون إلّا هذا.» ص ٦٠ (المطلب الثالث : في السكون).

(٢) راجع المصدر نفسه ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧١٢.

٣٤٥

آن ، أو الحصول في المكان بحيث يكون قبله وبعده فيه ، وكلّ ذلك ممّا لا يعرف إلّا بالزمان الذي لا يعرف [إلّا] بالحركة التي وصفنا أنّها لا تعرف إلّا بعد معرفة السكون ، فيدور. ولمّا بطل ذلك تعين جعل رسم الحركة أوّلا ثمّ يطلب منه رسم السكون بحيث يكون مقابلا له ، وذلك لا يمكن إلّا إذا كان السكون عدميا.

الوجه الثاني : لكلّ حركة من الحركات سكون يقابلها ، فللنمو سكون يقابله وللاستحالة سكون يقابلها ، وكما أنّ السكون المقابل للاستحالة ليس هو الكيف المستمر بل عدم ذلك التغير ، فكذلك السكون المقابل للانتقال ليس هو الأين المستمر بل عدم التغير في الأين. (١)

وفيه نظر ، لأنّ التعريف الذي ذكروه للحركة ليس تعريفا حديا بل رسميا ، ولا يجب التطابق بين الرسم والمرسوم في الثبوت والانتفاء.

سلّمنا ، لكن لم لا يعرف السكون بأنّه كمال ثان؟ ولا يستلزم سبق حركة ، بل سبق حصوله في المكان ، ونحن نقول بموجبه فانّ السكون هو الحصول الثاني ولا شكّ في سبقه بالحصول الأوّل.

سلّمنا لكن لم لا نقول في تعريفه : إنّه كمال أوّل لما بالفعل؟ وذلك لا يستلزم عين الحركة ، بل يستلزم تعقب كمال بعده إمّا حركة أو سكون ولا شكّ فيه.

سلّمنا ، لكن التقابل المأخوذ لا يجب أن يكون بالعدم والوجود ، بل يكفي تقابل الضدية.

والزمان ضروري التصور.

سلّمنا ، لكن لا نعرف الحركة من الجهة التي بها عرفنا السكون ، وإذا اختلفت الجهتان فلا دور.

__________________

(١) وبالجملة فهذا بحث لفظي. المباحث المشرقية ١ : ٧١٣.

٣٤٦

ولا نجعل عدم التغير في الأين هو السكون ، بل استمرار الأين ، وهو غير الأين المستمر.

والتحقيق في هذا ما قدّمناه نحن أوّلا.

٣٤٧

البحث السادس

في الأمور التي تتعلّق بها الحركة (١)

اعلم أنّ الحركة تتعلّق بأمور ستة :

الأوّل : المتحرك. (٢)

الثاني : المحرك. (٣)

الثالث : ما فيه الحركة. (٤)

الرابع : ما منه الحركة. (٥)

الخامس : ما إليه الحركة. (٦)

السادس : الزمان. (٧)

__________________

(١) راجع أرسطوطاليس ، الطبيعة ، تحقيق عبد الرحمن البدوي ، ٢ : ٤٩٢ ؛ الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٨٧ ؛ التحصيل : ٤٢٣ ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ٣٣ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٦٧٦ ؛ كشف المراد : ٢٦٢ ؛ مناهج اليقين : ٥٧ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٢٩ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤١٤.

(٢) وهي العلّة القابلية والموضوع الذي له الحركة ، أو المحل الذي تقوم به الحركة.

(٣) وهي العلّة الفاعلية والفاعل الذي به الحركة.

(٤) وهي المسافة وهي المقولة.

(٥) وهو مبدؤها.

(٦) وهو منتهاها.

(٧) وهو المقدار الذي تتقدر به الحركة.

٣٤٨

فهنا مسائل :

المسألة الأولى : في المتحرك

الحركة عرض من الأعراض لا توجد إلّا في محلّ يقوّمها كغيرها من الأعراض ، فذلك المحلّ هو المتحرك فلا بدّ منه في كلّ حركة. وقد سبق البحث في أنّ الحالّ في المتحرك هل هو متحرك أم لا؟ الحقّ أنّه متحرك بالعرض لا بالذات.

ثمّ إن جعلت الحركة ما تكون مبدأ المفارقة منه فليس بمتحرك. وإن جعلت أعمّ وهي المباينة للأمور الثابتة فهو متحرك.

والحاوي في الفلكيات كالمحيط يحرك ما تحته كفلك البروج ، إمّا لتشبث أجزاء أحدهما بأجزاء الآخر ، أو لأنّ كلّ واحد من أجزاء المحوى له مكان خاص في الحاوي إذا تحرك يتبعه. والعذران قالهما الحكماء مع أنّهما لا يستقيمان على مذهبهم.

وأجزاء المتحرك المتصل عند المتكلّمين متحركة ، لأنّها موجودة فيه بالفعل ، أمّا عند الأوائل فانّها غير موجودة بالفعل ، وإنّما توجد بالفرض فقبل الفرض لا حركة لها البتة ، إذ لا وجود لها أصلا. والحركة وصف يستحيل ثبوته بدون ثبوت الموصوف ، وإذا فرضها العقل فرض لها حركة لا عن جميع مكانها للاتصال بالكل ، بل عن بعضه وهو الجانب المحاط بالهواء ، أمّا باقي الأجزاء فإنّما تفرض لها حركة وتنمية بمعنى حركة المحوى في الحاوي ، وإذا تحرك على نفسه حركة دورية وجب وجود نقطة في وسطه لا تتحرك هي المركز يتحرك المتحرك عليها ، ولا يلزم وجودها بالفعل ، بل بالفرض أيضا.

٣٤٩

المسألة الثانية : في المحرك

لا يمكن أن يكون المحرك هو نفس المتحرك ، فلا يتحرك الجسم لذاته من حيث هو جسم وإنّما يكون متحركا بقوّة مودعة فيه أو في غيره. واستدلوا عليه بوجوه :

الأوّل : لو كان الجسم متحركا لذاته لامتنع عليه السكون ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ معلول الذات من حيث هي ذات ـ من غير اعتبار حصول شرط أو زوال مانع ـ يبقى ببقاء الذات.

الثاني : لو تحرّك الجسم لذاته لكان كلّ جزء من أجزاء الحركة ثابتا ، لأنّ كلّ جزء معلول الجسم والجسم ثابت ومعلول الثابت ثابت ، فكلّ جزء مفروض في الحركة يكون ثابتا ، وإذا كان ثابتا لم يكن للجزء الآخر حصول ، فلا تكون الحركة موجودة ، فلو كان متحركا لذاته لم يكن متحركا.

الثالث : لو كان الجسم متحركا لذاته فإمّا أن يكون له مكان يلائمه أو لا يكون ، فإن كان الأوّل وجب سكونه إذا حصل فيه ، وإلّا لكان المطلوب بالذات مهروبا عنه بالذات ، هذا خلف ، وإذا سكن بطلت الحركة وذاته موجودة فلا تكون الحركة ذاتية ، لأنّ الذاتي يدوم بدوام الذات. وإن لم يكن له مكان ملائم لم يكن طالبا لشيء منها ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح ، فلا يتوجه نحو شيء منها لذلك ، فلا يكون متحركا.

ولأنّه إذا لم يطلب مكانا بعينه لم تكن حركته إلى جهة وجانب أولى من حركته إلى جميع الجوانب والجهات ، فإمّا أن يتحرك إلى الكلّ وهو محال ، أو لا يتحرك إلى شيء منها ، فلا تكون ذاته مقتضية للحركة.

٣٥٠

الرابع : لو تحرك الجسم لانّه جسم لكان كلّ جسم كذلك لاشتراك الكلّ في الجسمية ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. وإن تحرك لأنّه جسم ما فالمحرك هو تلك الخصوصية.

الخامس : الجسم من حيث هو متحرك قابل للحركة ونسبة إليها بالإمكان ، ومن حيث هو محرك فاعل للحركة ونسبة إليها بالوجوب ، فتكون نسبة الجسم إلى الحركة بالوجوب والإمكان معا وهو محال ، لأنّ الوجوب والإمكان متنافيان فلا يجوز أن يكون القابل هو الفاعل ، فالمحرك غير المتحرك.

السادس : المتحرك إذا حرك لم يخل إمّا أن يحرك لا بأن يتحرك أو بأن يتحرك ، فإن حرك لا بأن يتحرك فالمحرك غير المتحرك ، وإن حرك بأن يتحرك فتكون الحركة سابقة على نفسها لتقدم السبب على المسبب ، فإذا كان فعله للحركة بأن يتحرك كانت الحركة حال كونها علّة موجودة بالفعل وحال كونها معلولة موجودة بالقوّة ، فتكون الحركة بالقوّة والفعل معا ، وهو محال.

السابع : حركة الجسم تتوقف على حركة جزئه وجزؤه غيره فحركة الجسم تتوقف على حركة غيره والمتوقف على الغير ليس بالذات ، فحركة الجسم ليست بالذات.

واعترض على الأوّل : (١) لم لا يجوز أن يكون بعض الأجسام يتحرك لذاته ويمتنع عليه السكون؟ فإن ادعيتم بطلان الثاني في كلّ جسم ، منعناه. ولا دليل عليه سوى تماثل الأجسام وهو ممنوع ، فانّا لم نشاهد سكون كلّ جسم ، بل البعض. وإن ادعيتم بطلانه في البعض ، فمسلّم.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن تقتضي الحركة لذاته ، لكنّه يسكن باعتبار

__________________

(١) أنظر الاعتراضات في المباحث المشرقية ١ : ٦٧٧. والجواب عنها من صدر المتألهين في الأسفار ٣ : ٤٣.

٣٥١

القاسر؟ ولا نسلّم أنّ العلّة هنا غير موقوفة على حصول شرط أو زوال مانع. ومع هذا فانّه ينتقض بالطبيعة ، فانّها لذاتها تقتضي الحركة ولا يجب دوام الحركة بدوامها.

لا يقال : الطبيعة إنّما تقتضي الحركة بشرط زوال حالة ملائمة ، فإذا وصل إلى المكان الطبيعي حصلت الحالة الملائمة فزال شرط الحركة فعدمت الحركة وإن كانت الطبيعة باقية ، لأنّ الأثر كما يعتبر فيه وجود الفاعل يعتبر فيه أيضا حصول الشرائط وزوال الموانع ، فانّ العلّة إذا كانت في إيجابها معلولها متوقفة على شرط لم يستمر ذلك الإيجاب عند فوات ذلك الشرط.

لأنّا نقول : إذا جوزتم ذلك في الطبيعة ، فلم لا تجوزونه في الجسم؟ ويكون الجسم لذاته علّة للحركة ، لكن بشرط حصول حال غير ملائمة فتنقطع الحركة عند زوالها.

وعلى الثاني : بالنقض بالطبيعة أيضا ، فانّها ثابتة ولا يجب ثبات أجزاء الحركة.

لا يقال : الطبيعة تحرك بشرط حال غير ملائم فتجدّد أجزاء الحركة لأجل تجدّد القرب والبعد من الحالة الملائمة.

لأنّا نقول : فقولوا مثله في الجسم بأن يكون يقتضي الحركة لذاته بشرط حصول حال منافرة حتى تتجدّد أجزاء الحركة بسبب القرب والبعد من تلك الحالة المنافرة. وأيضا ليس للحركة جزء بالفعل بحيث يصدر عن الجسم ، بل الحركة أمر واحد متصل لا جزء فيها بالفعل بل بالفرض ، كأجزاء الجسم ، وإذا لم يكن موجودا بالفعل استحال أن يكون معلولا.

وعلى الثالث : بالنقض بالطبيعة أيضا فإنّها تطلب بحركتها مكانا معينا وإذا وصلت إليه انقطعت الحركة ، فلم لا يجوز في الجسم ذلك؟

٣٥٢

لا يقال : الطبيعة توجب الحركة بشرط زوال الحال الملائم ، فإذا كان الجسم خارجا عن المكان الملائم للطبيعة اقتضت الطبيعة الحركة إليه بشرط الحال الغير الملائم ، فإذا وصل إليه وقف لفقد الشرط وحصول الحال الملائم.

لأنّا نقول : إذا جاز ذلك في الطبيعة فليجز في الجسم ، ولم يبق لهم في العذر عن النقض بالطبيعة في هذه الوجوه الثلاثة ، إلّا بأن يقال : لو كان الجسم مقتضيا للحركة لوجب في كلّ جسم ذلك وهذا هو الوجه الرابع ، فيبقى ذكر الوجوه الثلاثة ضائعا لا فائدة فيها.

وعلى الرابع : بمنع تماثل الأجسام ، فانّ كلّ جسم عندكم له مقدار هو كونه طويلا عريضا عميقا ، وله صورة جسمية هو امتداده القابل لهذه الأبعاد الثلاثة ، وله هيولى قابلة للصورة.

أمّا الأبعاد الثلاثة فلا شكّ في تشاركها بين الأجسام كلّها ، لكن ذلك هو المقدار وهو عارض ولا يلزم من الاشتراك في العارض الاشتراك في الحقيقة.

وأمّا الصورة الجسمية فلا بدّ من إقامة البرهان على أنّها أمر واحد في الأجسام كلّها ، لأنّ الصورة الجسمية لا يمكن أن تكون عبارة عن نفس القابلية لهذه الأبعاد الثلاثة ، لأنّ القابلية أمر نسبي والصورة من مقولة الجوهر فكيف يكون الجوهر عبارة عن أمر نسبي لا يعقل إلّا بين شيئين؟ فالصورة إذن ماهية جوهرية تلزمها هذه القابلية ، وتلك الماهية غير محسوسة ولا متصورة تصورا أوّليا حتى تعرف أنّها في جميع المواضع بمعنى واحد ، لأنّ المحسوس والمتصور إنّما هو هذه الأبعاد الثلاثة وليست نفس الصورة الجسمية ، بل اعراض ومقادير لا حيّز (١) لها. وإذا كانت الجسمية عبارة عن أمر تلزمه هذه الاعراض لم يعرف كونه واحدا في جميع ما يكون حاصلا فيه أوّلا ، فإنّ الاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات ،

__________________

(١) في المباحث : «لا حقة».

٣٥٣

فلعلّ الجسمية التي في الحجر مخالفة في الحقيقة للجسمية التي في الإنسان وإن اتفقتا في قبول الأبعاد.

وبالجملة فالجمهور لمّا لم يعلموا من الجسم إلّا هذه الأبعاد والمقادير وكانت هذه الأبعاد والمقادير مشتركة بين جميع الأجسام ، لا جرم حكموا بتماثل الأجسام. أمّا الفلاسفة الذين أثبتوا أمرا زائدا على هذا الذي علمه الجمهور جعلوه صورة جسمية ، وهي أمر مغاير للمقادير والأبعاد ، والجسمية (١) أمر مادية قابلية هذه المقادير والأبعاد لم تكن تلك الماهية محسوسة ولا متصورة بالبديهة ، بل لا بدّ من تصحيحها بالبرهان فكيف يمكن ادّعاء الضرورة باشتراكها بين الأجسام؟

سلّمنا أنّ الصورة الجسمية مشتركة بين الأجسام ، فلم قلتم إنّها مشتركة في المادة؟ ونسلّم أنّها لو اقتضت الصورة الجسمية الحركة لتشاركت الأجسام فيها ، لكن لم لا يجوز اسناد الحركة إلى المادة المخصوصة؟

ولنزده بيانا فنقول : الفلك غير قابل للكون والفساد عندكم فيكون ماله من الشكل والوضع والمقدار واجب الحصول لا يمكن زواله ، فذلك الوجوب إن كان لنفس الجسمية وجب أن يكون كلّ جسم كذلك لتساوي جسمية الفلك وغيره ، فلمّا لم يلزم أن يكون كلّ جسم كذلك فلم لا يجوز مثله هنا؟ فيتحرك بعض الأجسام لجسميته ولا يجب اشتراك الأجسام في الجسمية. وإن كان لأمر موجود في الجسمية زائد عليها ، فذلك الأمر إن لم يكن لازما للجسمية لم يكن اللازم بسببه لازما لجسمية الفلك ، وإن كان لازما فلزومه إمّا لنفس الجسمية أو لغيرها ويعود البحث ، فلا ينقطع التسلسل إلّا باعتبار أحد أمرين :

إمّا أن يقال : تلك الأشكال والصور والأعراض غير لازمة لجسمية الفلك ، وحينئذ يلزم جواز الخرق والالتئام والكون والفساد على الفلك.

__________________

(١) ج : «فالجسمية».

٣٥٤

أو يقال : إنّها لازمة للجسمية إمّا بغير واسطة أو بواسطة ما يلزمها لا بواسطة ، مع أنّ تلك الأمور غير مشترك فيها فكذلك المتحركية (١) يجوز أن تكون كذلك.

وأمّا إن قيل : تلك الملازمة ليست للجسمية ولا لما يلزم الجسمية ، بل لما تحلّ الجسمية فيه وهو المادة ، فانّ تلك المادة لما كانت مخالفة لسائر المواد وكانت مقتضية للجسمية ولتلك الأشكال والأوضاع لزم من ذلك حصول الملازمة بين تلك الجسمية وبين تلك الأمور.

وعلى هذا نقول : فلم لا يجوز أن تكون لبعض الأجسام مادّة مخصوصة مخالفة لسائر المواد تقتضي لذاتها حركة مخصوصة ، ولا يلزم اشتراك الأجسام في تلك الحركة؟

أمّا العناصر فلما كانت موادها مشتركة وكذا جسميتها واختلفت حركاتها وجب اسنادها إلى قوى مختلفة.

وأمّا الأفلاك فموادها مختلفة ومخالفة لمادة العناصر ، وإلّا لصحّ عليها الكون والفساد والخرق والالتئام وهم قد منعوا منه ، فجاز اسناد حركاتها إلى موادها.

ومن جملة قواعد الحكماء التي اتّفقوا عليها : أنّ القوى المادية غير مؤثرة بل معدّة ؛ فالجسم لمّا كان بأصل جسميته قابلا لكلّ الأضداد فإذا اتصف ببعضها فلا بدّ فيه من قوّة مخصوصة توجد فيه وتجعله أولى لقبول ذلك الضدّ من غيره من الأضداد الممكنة الثبوت له ، وإلّا لم يكن حصول ذلك الضدّ له أولى من غيره من الأضداد ، فإذا تخصص الاستعداد لأجل تلك القوى أفاض واهب الصور عليه ما استعد له. فإذن الحاجة إلى القوى الجسمانية التي هي مبادئ الحركات إنّما تثبت حيث تتساوى نسبة المادة إلى جميع المتضادات وتكون قابلة للجميع لتخصّص

__________________

(١) في المباحث : «المحركية».

٣٥٥

المادة لقبول ضدّ ، ويترجح بتلك القوة ذلك الضدّ على غيره. وإذا لم تكن المادة كذلك ، بل كانت لذاتها تقتضي قبول شيء بعينه (١) فخصّصه القبول به دون غيره استغنت عن القوّة الجسمانية أصلا ؛ لأنّ تلك القوّة ليست موجدة للحركة ، فانّ معطي وجود الأشياء هو المبدأ الفياض ، ولا مخصصة للمادة فقبول هذا العرض دون ضدّه لأنّ المادة لذاتها متخصصة الاستعداد فلا يكون لتلك القوّة اعتبار البتة فلا تكون موجودة ، وإلّا لكانت معطلة ولا معطل في الطبيعة.

لا يقال : المادة لا تصلح لمبدئية الحركة لأنّها قابلة ، فلا تكون فاعلة.

لأنّا نقول : سيأتي بطلان هذا القول (٢). وينتقض بلوازم الماهية فانّها تصدر عنها وهي القابلة ، ومع ذلك فانّه يعود إلى الوجه الخامس ، وهو ضعيف لما تقدّم.

وعلى السادس : بأنّه لا يستلزم التقدم ، بل المصاحبة. ولا نقول : الذات تحرك نفسها بواسطة الحركة التي توجدها لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه ، بل النزاع في أنّ الذات باعتبار حقيقتها وماهيتها هل تكون علّة لمتحركيتها؟ ولا يلزم من فساد قولنا : الذات توجب حركة نفسها بواسطة حركة نفسها ، بطلان قولنا : الذات لا توجب الحركة لنفسها. كما أنّه لا يلزم من بطلان القول : بأنّ الأربعة لزوجيتها علّة لزوجيتها ، فساد القول: بأنّ الأربعة لذاتها علّة لزوجيتها.

فالحاصل : أنّ القائل بأنّ المحرك هو المتحرك لا يعني أنّه من حيث هو متحرك علّة لحركة نفسه ، بل يعني به : أنّ الشيء الذي عرضت له المتحركية هو الذي عرضت له المحركية بعينه.

وعلى السابع : بالمنع من توقّف حركة الجسم على حركة جزئه ، لأنّ الجسم إنّما يكون له جزء بعد القسمة ، وقبلها لا جزء له ، وإذا لم يكن موجودا كيف

__________________

(١) في المباحث : «معين».

(٢) وفي المباحث : «قد سبق في باب العلّة الفاعلية فساد هذا القول».

٣٥٦

يوصف بالحركة أو السكون؟ ولو كان حركة الجزء الفرضي شرطا وعلّة لحركة الكلّ لزم وجود علل ومعلولات غير متناهية ، لأنّ الأجزاء الفرضية في كلّ جسم غير متناهية. وإن لم يكن متصلا (١) لم يكن الجزء جزءا بالحقيقة بل لم يكن الجسم واحدا بالحقيقة ، بل مجموع أجسام كثيرة كلّ واحد منها متحرك بالذات.

فالحاصل أنّ الاتصال الحقيقي إن وجد لم يوجد الجزء ، فلم يمكن وصفه بالحركة. وإن وجد لم تكن هناك جزئية ولا كلية. وأيضا حركة الكلّ لا تتوقف على حركة الجزء ، بل على سكونه بالذات وحركته بالعرض.

سلّمنا أنّ حركة الكلّ متوقفة على حركة الجزء ، لكن لم لا تكفي في حركة الكلّ حركة الأجزاء؟ فإنّ عند الخصم حركة الأجزاء واجبة لذاتها وهي كافية في حركة الكل ، وعلى (٢) هذا يحتاج المستدل إلى بيان أنّ حركة الأجزاء غير واجبة لذاتها ، لكن الطريق الذي تبين به ذلك يمكنه استعماله في المطلوب إن قدر عليه ، فيصير التعرض للكل والجزء ضائعا.

سلّمنا أنّه لا بدّ من حركة الجزء ، لكن ذلك لا يقتضي وجود زائد على الجزء يوجب الحركة.

المسألة الثالثة : في ما منه وما إليه

إنّه سيظهر لك (٣) أنّ الحركة عند الفلاسفة إنّما تقع في مقولات أربع ، وقد عرفت أنّ الحركة تغير وانتقال من شيء إلى شيء فالمنتقل عنه هو مبدأ الحركة وما منه الحركة ، والمنتقل إليه هو ما إليه الحركة.

__________________

(١) بل كان مجموعها حاصلا من أجزاء متلازمة. المباحث المشرقية : ١. ٦٨١.

(٢) ق : «عند».

(٣) ص ٣٦٩.

٣٥٧

فكلّ حركة على الإطلاق لا بدّ فيها من مبدأ ومنتهى إمّا بالفعل كالحركات المستقيمة، أو بالقوّة كالحركات الوضعية ؛ فانّ الحركة الدورية واحدة متصلة لا مفصل فيها فلا مبدأ ولا منتهى لها. نعم قد يفرض ذلك لنقطتي المشرق والمغرب ، ثمّ كلّ نقطة تفرض في الجرم المستدير فالحركة منها هي بعينها حركة إليها (١) ، فهنا يتحد ما منه وما إليه بالذات ، فانّ نقطة المشرق إن جعلناها مبدأ الحركة الدورية فانّها إنّما تكمل الدورة إذا وصلت إليها فموضوع المبدأ والمنتهى واحد بالذات وقد عرض له هذان الوصفان ، لكن لا في آن واحد ، فانّ النقطة الواحدة في الآن لا تكون مبدأ لحركة معيّنة ومنتهى لها بل في آنين ، فتلك النقطة وإن كانت واحدة بالعدد لكنّها اثنتان بالاعتبار ، وذلك كاف في كونها بداية للحركة ونهاية لها.

وليس من شرط وجود الحركة الدورية أن تكون هناك نقطة موجودة بالفعل تكون مبدأ من وجه ومنتهى من وجه ، فانّ الفلك جرم بسيط ليس فيه نقطة بالفعل بحيث تكون معروضة لهذين الاعتبارين وإنّما تحصل فيه النقطة إمّا بسبب قطع وهو محال ، أو بسبب موازاة ، أو مماسة ، أو فرض فارض ، وكلّ ذلك غير واجب وإلّا امتنع تحرك الفلك إلّا عند قائم على الأرض ، وامتنعت الحركة عليه عند عدم تلك الأمور وهو محال ، بل يكفي في تحقّق الحركة الدورية كون تلك النقطة بالقوّة القريبة من الفعل على الوجه المذكور.

واعلم أنّ هنا نظرا وهو أن يقال : ما منه وما إليه إمّا أن يقال : باحتياج الحركة إليه أو لا. والثاني يبطل قولهم : إنّ الحركة تتوقّف على أمور ستة ويعدونهما منها. ولأنّ الحركة تغير وانتقال فلا تعقل إلّا مع تعقلهما. ولأنّ الحركة إنّما توجد بوجهين : التوسط ولا يعقل إلّا بين مبدأ ومنتهى بالفعل ، وإلّا لم يكن هو توسطا

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٦٨٢ (الفصل الخامس في مبادئ الحركات المستديرة ونهاياتها) ؛ الكاتبي القزويني ، حكمة العين : ٤٣٠ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤١٥.

٣٥٨

بالفعل. أو الأمر المتصل الممتد من أوّل المسافة إلى آخرها ، ولا يعقل تحقّقه أيضا إلّا بعد تعقلهما بالفعل. والأوّل يستلزم وجودهما بالفعل لأنّ الحركة موجودة بالفعل فما يتوقف عليه يجب أن يكون موجودا بالفعل.

واعلم أنّ مبدأ الحركة ومنتهاها متضادان بالذات.

أمّا في الحركة في الكيف ، فكالحركة من السواد إلى البياض ، فالسواد والبياض اللّذان هما مبدأ الحركة ومنتهاها متضادان بالذات.

وأمّا في الحركة في الكم ، فكالانتقال من أكبر حجم في طبيعة الشيء إلى أصغر حجم في طبيعته ، كالحركة من غاية النمو إلى غاية الذبول.

وقد لا يتضادان فلا بدّ وأن يكونا بين الضدين (١) ، ولكن يجب أن يكون أحدهما أقرب إلى أحد الضدين والآخر أقرب إلى الضدّ الآخر ، كالانتقال من الصفرة إلى النيلية. (٢) وفي الكم من الذبول الذي ليس في الغاية إلى النمو الذي ليس في الغاية ، هذا ما يتعلّق بالحركة في الكم والكيف.

وأمّا الحركة في الأين فما منه وما إليه الحركة ليسا ضدّين في ذاتيهما ، لأنّهما مبدأ مسافة ومنتهاها ، وذلك إمّا نقطة ، أو خط ، أو سطح ، وهما غير ضدين حينئذ بل عرض لأحدهما أن كان مبدأ وللآخر أن كان منتهى فبهذا الاعتبار صارا ضدّين.

ثمّ إنّ كونهما طرفي الحركة قد يكون طبيعيا لازما كما في المركز والمحيط فانّهما

__________________

(١) قال الشيخ الرئيس : «وربّما كان ما منه وما إليه ضدّين ، وربّما كانا بين الضدين ، لكن الواحد أقرب من ضدّ والآخر أقرب من ضد ، وربّما لم يكونا ضدّين ولا بين ضدّين ولكن كانا من جملة أمور لها نسبة إلى الأضداد وأمور متقابلة بوجه ما فلا تجتمع معا كالأحوال التي للفلك ...» الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٩٠ ـ ٩١.

(٢) هذا في الكيف.

٣٥٩

ضدّان لا لذاتيهما لأنّ كلّ واحد منهما نقطة ، بل لعارضين عرضا له وهو كون أحدهما غاية القرب من الفلك والآخر غاية البعد عنه فيلزم أن يكون أحدهما علوا والآخر أن يكون سفلا ، وبسبب ذلك يتضادان إذ ليس في الجهات جهة طبيعية إلّا هاتان.

وقد لا يكون طبيعيا ، بل يحصل بواسطة الحركة ، فانّ الحركة لما ابتدأت من أحد الطرفين وانتهت عند الآخر عرض للأوّل أن كان مبدأ وللآخر أن كان منتهى وهذان الوصفان متضادان فيصير الطرفان متضادين بسبب تضاد العارضين.

ويمكن انقلابهما فيصير المبدأ لحركة منتهى لغيرها وبالعكس.

واعلم أنّ كون الشيء مبدأ حركة والآخر منتهى حركة أمران يعرضان لغيرهما بالقياس إلى الغير ولا تأصّل لهما في الذاتية ، فللمبدإ ذات يعرض لها أن يكون مبدأ ، وكذا المنتهى ، فللمبدإ والمنتهى ذات وله (١) أنّه مبدأ أو منتهى. وهما متغايران بالضرورة لاستحالة كون الشيء عارضا لنفسه. فللسواد ماهية في نفسها ثمّ عرض له أن صار مبدأ للحركة من السواد إلى البياض.

وقد عرفت أنّ معروض وصف البداية والنهاية قد يكون موجودا (٢) ، وقد يكون بالقوة. وأيضا قد يكون متضادا (٣) وقد لا يكون. ولا شكّ في أنّ لكلّ واحد من العارضين نسبة إلى معروضه وإلى الآخر الذي يقابله ، فلمبدإ الحركة ومنتهاها من حيث هو مبدأ أو منتهى قياس إلى الحركة ولكلّ واحد (٤) منهما قياس إلى الآخر ، فقياس كلّ واحد منهما إلى الحركة قياس التضايف ، فانّ المبدأ مبدأ لذي

__________________

(١) كذا.

(٢) في النسخ : «موجودة».

(٣) في النسخ : «متضادة».

(٤) ساقطة في ج.

٣٦٠