نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

والقبلية على الزمان (١) ، وإلّا لزم أن يكون للزمان زمان آخر على ما سبق تقريره.

ولأنّ الزمان لا يعقل وجوبه ، لأنّه متقضّ (٢) لذاته وإلّا لكان الشيء الحادث الآن قد حدث في زمان الطوفان فلا يكون شيء قبل شيء ، والحس يدفع ذلك. وأيضا يبطل وجود الزمان ، لأنّهم إنّما أثبتوه باعتبار تحقّق قبلية بعض الأشياء وبعدية البعض. وإذا كان متقضيا استحال أن يكون واجبا لذاته ، لأنّ الواجب لذاته لا يصحّ عليه العدم فضلا عن أن تكون ذاته تقتضي السيلان وعدم الاستقرار.

وبعضهم قال : إنّه نفس الفلك (٣) ، لأنّ كلّ شيء في الزمان وكلّ شيء في الفلك. وهو عقيم ، مع كذب الكبرى فانّ الفلك شيء وليس في الفلك.

ومنهم من جعله نفس الحركة لوجهين : (٤)

الوجه الأوّل : الزمان يشتمل على الماضي والمستقبل والحركة كذلك.

الوجه الثاني : من لا يحس بالحركة لا يحس بالزمان كما في حقّ أصحاب الكهف (٥) والمتمادي في اللهو والبطر يستقصر الزمان لانمحاء الحركة عن ذهنه ، وبالعكس المغتم والمنتظر يستطيلان الزمان لبقاء أثر الحركة في ذهنه.

والجواب (٦) عن الأوّل : أنّه قياس عقيم ، فإنّ الموجبتين في الشكل الثاني لا

__________________

(١) كما في المطالب العالية ٥ : ١١.

(٢) ق : «مقضي» ، وفي المباحث : «منقض».

(٣) راجع العاشر من المقالة الثانية من طبيعيات الشفاء (السماع الطبيعي) ؛ المطالب العالية ٥ : ٥١.

(٤) انظر الوجهين في الشفاء ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ٧٣.

(٥) فإنّهم لمّا لم يشعروا بالحركات التي بين آن ابتداء لقائهم أنفسهم للاستراحة بالنوم ، وآن انتباههم لم يعلموا أنهم زادوا على يوم واحد ، فقد حكى المعلم الأوّل أيضا أنّ قوما من المتألهين عرض لهم شبيه بذلك ويدل التاريخ على أنّهم كانوا قبل أصحاب الكهف. راجع الشفاء.

(٦) انظر الجواب على الوجهين في الشفاء ؛ المعتبر في الحكمة ؛ المطالب العالية ٥ : ٢٦.

٥٠١

تنتجان ، فإنّ اشتراك المختلفات في لازم واحد جائز.

والجواب عن الثاني : أنّه لا يلزم من ملازمة الحركة والزمان في بعض المواضع اتحادهما في الماهية ، بل يمكن الفرق بينهما من وجوه :

الأوّل : الحركتان المختلفتان قد تتحدان في الزمان وما به الاختلاف غير ما به الاتحاد.

الثاني : توصف الحركة بما لا يوصف به الزمان.

الثالث : يصحّ انقسام الزمان إلى الساعات والأيام وغيرها بخلاف الحركة ، إلّا على جهة المظروفية.

الرابع : يؤخذ الزمان جزءا من حمل أنواع الحركة فيقال : الحركة السريعة هي التي تقطع المسافة في زمان أقصر ، والبطيئة في زمان أطول ، والحركة لا تصلح لذلك.

الثاني : أنّا فيما سلف (١) قد ذكرنا احتجاج مثبتي الزمان بإمكان فرض حركتين اتفقتا

سرعة وبطأ وأخذا وتركا ، ثمّ فرض ثالثة بطيئة مع إحداهما اتّفقتا أخذا وتركا ، وفرض رابعة مساوية للأخرى سرعة وبطأ أو تركا لا أخذا ، فانّه يحصل إمكان قابل للقلة والكثرة والانقسام ، فيكون كما.

وبأنّ (٢) القبلية والبعدية مغايرتان للوجود والعدم وليست القبلية عدما ولا البعدية ، لأنّهما نقيض اللاقبلية واللابعدية التي هي عدم محض ونقيض العدم ثبوت ، ولا اعتبارا عقليا كفرض الخمسة زوجا ، بل هما موجودان خارجا ،

__________________

(١) في المجلد الأوّل ، ص ٣٤١. راجع أيضا طبيعيات النجاة (القول في الزمان) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٦٨.

(٢) وهذا هو الاحتجاج الثاني لمثبتي الزمان.

٥٠٢

وليستا قائمتين بذاتيهما لأنّهما من النسب والإضافات ، وليس كلّ شيء يقبل هذه النسبة ، فانّ الأب من حيث هو جوهر ليس قبل الابن فلا بدّ من شيء يلحقه لذاته القبلية والبعدية، وليس قارا فهو مقتض ، أمّا الحركة وهو محال ، لأنّ الحركة قبل كالحركة بعد. فهناك أمر غيرها وهو الزمان.

وأبطلنا الأوّل (١) : بأنّ المراد بالمعية الاتفاق زمانا فيتوقف ثبوتها على ثبوت الزمان ، ويدور.

وإثبات السرعة والبطء يتوقف على ثبوت الزمان ، فيدور.

وبأنّهم لمّا حاولوا الجواب عن قول من يقول : الزمان الماضي قابل للزيادة والنقصان والقابل لهما له بداية فللزمان الماضي بداية. أجابوا بأنّ الزمان الماضي غير موجود بمجموعه في وقت من الأوقات وما لا يكون موجودا لا يصحّ الحكم عليه بالزيادة والنقصان. فإذا كنتم تمنعون من صحّة الحكم بالزيادة والنقصان على هذا الإمكان عند محاولة (٢) الخصوم بيان تناهيه فكيف تحكمون عليها الآن بقبول الزيادة والنقصان عند محاولة إثباته ، وهذا عين التناقض؟

واعترض (٣) على الأوّلين بأنّا نقول : العلم بأصل وجود الزمان ضروري ، والمطلوب بالبرهان ليس كونه موجودا بل المطلوب حقيقته المخصوصة وهو كونه مقدارا للحركة ، وكذا(٤) قال الشيخ في «النجاة» (٥) إذا كان يوجد في هذا الإمكان زيادة ونقصان يتعينان وجب أن يكون هذا الإمكان ذا مقدار يطابق الحركة.

__________________

(١) بشكوك ثلاثة ، فراجع.

(٢) ق : «مجادلة».

(٣) انظر الاعتراضات وهي الجواب على الشكوك الثلاثة في المباحث المشرقية ١ : ٧٦٩ ـ ٧٧١.

(٤) في المباحث : «ولذلك».

(٥) طبيعيات النجاة : ١٤٣ ـ ١٤٤ (القول في الزمان).

٥٠٣

فالشيخ لم يستنتج من قبول هذا الإمكان للزيادة والنقصان كونه أمرا وجوديا ، بل استنتج منه كونه مقدارا مطابقا للحركة. فظهر أنّه ليس الغرض من هذا البرهان إثبات أصل وجود الزمان بل تحقيق ماهيته.

وإذا عرفت هذا فنقول : العلم بابتداء الحركة وانتهائها وكونها سريعة وبطيئة يكفي فيه العلم بوجود الزمان ، والعلم بوجود الزمان أوّلي بديهي ، والذي يبتنى تحقيقه على هذه الأمور هو تحقيق ماهية الزمان لا تحقيق وجوده.

وأمّا الثالث فنقول : لا يلزم من أن يكون المجموع الذي ليس لأجزائه وجود أن لا يكون قابلا للزيادة والنقصان ، فإنّا نعلم أنّ الحركة من أوّل المسافة إلى آخرها أكثر منها إلى نصف المسافة مع أنّه لا وجود لمجموع أجزاء الحركة ، فكذا هنا.

بقي أن يقال : إذا كان الأمر كذلك فليحكم بأنّ صحّة الحكم على الشيء بالزيادة والنقصان لا تتوقف على كونه موجودا ، وذلك ممّا يقدح في أصولهم.

ثمّ قالوا : هذا الإمكان منقسم وكل منقسم فإمّا مقدار أو ذو مقدار فهذا الزمان (١) لا يعرى عن المقدار ، وليس هذا المقدار نفس السرعة والبطء ، لمساواة الحركة من أول المسافة إلى آخرها نصف تلك الحركة في السرعة والبطء ومخالفتها لها في المقدار. فإذن مقدار الحركة زائد على سرعتها وبطئها ، وهذا المقدار ليس مقدار المسافة ، لأنّ المتحركات قد تتحد في مقدار المسافة وتختلف في مقدار هذا الإمكان ، فانّ الذي يقطعه السريع مثلا في نصف ساعة يقطعه البطيء في ساعة ، وقد تتحد المتحركات في هذا الإمكان وتختلف في مقدار المسافة ، مثل أنّ المسافة (٢) الواحدة إذا قطع السريع فيها فرسخا قطع البطيء فيها رمية سهم ،

__________________

(١) في المباحث : «الإمكان».

(٢) في المباحث : «الساعة».

٥٠٤

وليس أيضا هو مقدار المتحرك.

قال الشيخ في «النجاة» : هذا المقدار لو كان مقدارا للمادة لكان بزيادته زيادة المادة ، ولو كان كذلك لكان كلّ ما هو أسرع أكبر وأعظم. (١)

وليس بجيد ، لأنّ هذا المقدار في الأسرع ليس أعظم ممّا في الأبطأ حتى يلزم أن يكون الأسرع أعظم ، بل هو في الأسرع أقلّ ممّا في الأبطأ ، لأنّ الأسرع هو الذي يقطع المسافة في زمان أقل. بل الواجب أن يقال : لو كان مقدارا للمادة لوجب أن تزداد المادة بزيادته فيكون الأبطأ أعظم لأنّ هذا المقدار في الأبطأ أكثر. فإذن هذا المقدار مغاير لمقدار المسافة ولمقدار المتحرك ، وهذا المقدار ليس أمرا قائما بنفسه لأنّه مقتض فهو في موضوع ، فإمّا أن يكون مقدارا للموضوع أو لهيئة فيه. والأوّل باطل وإلّا لزاد الموضوع بزيادته وانتقص بانتقاصه. فهو مقدار لهيئة فيه ؛ وليست قارة ، لأنّ مقدار القار يجب أن يكون قارا ، فهو مقدار لهيئة غير قارة هي الحركة. (٢)

والاعتراض : دعوى الضرورة على إثبات الزمان باطلة ، خصوصا وقد دلت البراهين القطعية على نفيه في الأعيان ، وأنّ وجوده يستلزم أحد المحاذير الثلاثة عندهم : إمّا تتالي الآنات ، أو اتصال المعدوم بالموجود ، أو كون غير القار الذات قار الذات.

سلّمنا ، لكن الحكم بالزيادة والنقصان إنّما هو على أمر فرضي ذهني كما قلنا في الخلاء. ثمّ يعارض بنفس الزمان ، فإنّ بين ابتداء كلّ زمان وانتهائه إمكانا يتسع لميل ذلك المقدار أو لا يتسع لما هو أعظم منه ولا يمتلي لما هو أصغر منه وإمكانا آخر أقلّ منه لا يتسع لذلك الزمان ولا لما هو أعظم منه ويمتلي ببعضه ،

__________________

(١) طبيعيات النجاة (القول في الزمان).

(٢) راجع المطالب العالية ٥ : ٦٦.

٥٠٥

وإذا كان كذلك لزم أن يكون للزمان زمان ، فإن جعلوا ذلك من الأمور الاعتبارية فليقولوا بمثله في الحركة.

ثمّ نقول : الإمكان أمر ذهني واعتبار عقلي كيف يعقل فيه قبول التفاوت والزيادة والنقصان والقسمة؟ ولو كان أمرا وجوديا لم تعقل فيه كمية وزيادة ونقصان وقسمة ، والكثرة ، والنقصان في الحركة إنّما المرجع بهما (١) إلى أمر ذهني هو الحركة بمعنى القطع ، ولا يمكن أن يرجع إلى الحركة بمعنى التوسط ، لأنّها آنية عندهم لا تعقل فيها قلّة ولا كثرة.

وأبطلنا الثاني : بمنع كون القبلية والبعدية ثبوتيين. والتناقض وارد في الامتناع. (٢) ولو كانتا وجوديتين لوجدتا معا لأنّهما إضافيان ، ويوجد معروضاهما معا فالقبل مع هذا خلف. ولأنّ القبلية لو كانت موجودة لكانت لها قبلية أخرى ويتسلسل. ولأنّه يستلزم أن يكون للزمان زمان لتقدم بعض أجزائه على بعض وليس لذاته ، وإلّا لزم تتالي الآنات ووجود ما لا يتجزأ بالفعل وترجيح بعض الأجزاء بالتقدم من غير أولوية. ولأنّه ليس تقدم بعض الأجزاء على البعض مجرد التقدم الذاتي الذي بين العلّة والمعلول ، لأنّ هناك المتقدم حاصل مع المتأخر وليس الأمر هنا كذلك ، بل التقدم الذي هنا كتقدم الحركة السابقة على اللاحقة.

فإن كان هذا النوع لا يتقرر إلّا مع الزمان وجب أن يكون للزمان زمان ، وإلّا جاز مثله في سائر الأشياء.

الثالث : في أنّ للزمان بداية.

اتّفق القائلون بالحدوث من المليين وغيرهم من قدماء الحكماء عليه (٣) ،

__________________

(١) ج : «لهما».

(٢) راجع المطالب العالية ٥ : ٤٢.

(٣) في النسخ : «إليه».

٥٠٦

ومنع منه أرسطو وغيره من القائلين بالقدم. (١)

لنا وجوه : (٢)

الوجه الأوّل : المؤثر في العالم مختار ، وكلّ فاعل مختار فانّه متقدم على جميع أفعاله ، وكلّ ما تقدمه غيره فله أوّل فلكل الحوادث أوّل.

الوجه الثاني : كلّ واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أوّل له فمجموع العدمات أزلية فلو وجد معها شيء من الحوادث يساوي السابق والمسبوق.

الوجه الثالث : الحوادث الماضية تتطرق إليها الزيادة والنقصان ، لأنّها من زمان الطوفان إلى الأزل جملة (٣) ومن زماننا إلى الأزل أكثر. لأنّها إمّا زوج أو فرد

__________________

(١) منهم أبو العلاء المعري ، فانّه يرى أنّ الزمان أزلي أبدي ، ويقف في صف الفلاسفة المسلمين الذين كانوا يؤمنون بقدم الزمان وقدم العالم ، ويعارض المتكلمين عموما رأيهم في حدوث الزمان وتناهيه ، يقول :

يقولون إنّ الدهر قد حان موته

ولم يبق في الأيام غير ذماء

فقد كذبوا ما يعرفون انقضاءه

فلا تسمعوا من كاذب الزعماء

أمّا أزلية الزمان فيشير إليها في مواضع كثيرة منها :

خالق لا يشك فيه حكيم

وزمان على الأنام تقادم

جائز أن يكون (آدم) هذا

قبله (آدم) على إثر (آدم)

ولو طار جبرئيل بقية عمره

عن الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر

قدم الزمان وعمره إن قسته

فلديه أعمار النسور قصار

تقادم عمر الدهر حتى كأنّما

نجوم الليالي شيب هذى الغياهب

راجع المعري ، اللزوميات ١ : ٢٢ / ٤٧ و ٢ : ١٥٧ / ٢٧٨ و ١ : ٨٧ / ١٠٠. نقلا عن إبراهيم العاتي ، الزمان في الفكر الإسلامي : ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٧٧٨ ؛ المطالب العالية ٥ : ٩٩ (الفصل العاشر في أنّ الزمان محدث أو قديم) ؛ إيضاح المقاصد (شرح حكمة العين) للعلامة : ٣٠٠.

(٣) كذا.

٥٠٧

وكلّ واحد منهما أنقص من العدد الذي فوقه. ولأنّه عودات القمر أكثر من عودات زحل والمشتري. ولأنّ الدّورات الماضية لو كانت غير متناهية لكانت الأبدان البشرية الماضية غير متناهية فالنفوس البشرية غير متناهية لاستحالة التناسخ ، فالنفوس البشرية في زماننا غير متناهية لوجوب بقاء النفس ، لكن عددها قابل للزيادة والنقصان ، فانّ النفوس التي كانت في زمان الطوفان أقلّ من النفوس التي في زماننا ، وكلّ قابل للزيادة والنقصان متناه بالضرورة، فالنفوس البشرية متناهية فالأبدان متناهية فالحركات والمتحركات متناهية فكلّ العالم متناه.

الوجه الرابع : لو كانت الحوادث غير متناهية لتوقّف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له ، وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده ، فكان يلزم استحالة وجود اليوم ، فلما وجد علمنا تناهي الحوادث.

الوجه الخامس : كلّ واحد من الحوادث له أوّل فللكل أوّل ، كما أنّ كلّ واحد من الزنج لمّا كان أسود كان الكل أسود.

الوجه السادس : الحوادث الماضية قد انتهت إلينا فلو كانت غير متناهية لكان ما لا نهاية له متناهيا.

الوجه السابع : إمّا أن يوجد في الأزل شيء من الحوادث أو لا. والأوّل محال ، لأنّ الحادث مسبوق بالعدم والأزل غير مسبوق به. والثاني هو المطلوب ، لأنّا قد أشرنا إلى حالة ما كان شيء من الحوادث هناك موجودا.

الوجه الثامن : الأمور الماضية قد دخلت في الوجود وما دخل في الوجود فقد حصره الوجود وما حصره الوجود كان متناهيا ، فالحوادث الماضية متناهية.

الوجه التاسع : كلّ واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أوّل فإذا فرضنا جسما قديما وفرضنا حوادث لا أوّل لها لزم أن لا يكون ذلك الجسم متقدما لا على وجود تلك الحوادث ولا على عدمها ، ومحال أن يكون الشيء لا يتقدم أمورا ولا

٥٠٨

يتقدم ما هو سابق على كلّ واحد من تلك الأمور ، لأنّه يصير حكم السابق والمسبوق في السبق والتقدم حكما واحدا.

اعترض الأوائل (١) على الأوّل : بمنع الصغرى.

وعلى الثاني : بأنّ الأزل عدمي.

وعلى الثالث : بأنّ المحكوم عليه بالزيادة والنقصان : إمّا كل الحوادث ، وهو محال ؛ لأنّ الكل من حيث هو كل غير موجود في الخارج ولا في الذهن (٢) ، فيمتنع وصفه بالزيادة والنقصان الثبوتيين. (٣)

أو كلّ واحد ، ولا نزاع فيه.

وأيضا إذا كان الشيء متناهيا من جانب وغير متناه من آخر فإذا ضم إلى الجانب المتناهي شيء حتى ازداد هذا الجانب فالزيادة إنّما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر فلا يصير الجانب الآخر متناهيا. إلّا أن يقال : إنّا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الناقص المتناهي فلا بدّ وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر. لكن لا يصحّ تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص إلّا بوقوع فضلة عددية في الزائد ، ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبدا من غير أن ينقطع الناقص ، بل يبقى أبدا مع الزائد من تلك الفضلة العددية. (٤)

وأيضا يعارض بصحّة حدوث الحوادث من الأزل إلى الطوفان ، فانّها

__________________

(١) انظر الاعتراضات في المباحث المشرقية ١ : ٧٧٩ ـ ٧٨٢.

(٢) على ما بيّناه في باب اللانهاية. المباحث : ٧٧٩.

(٣) لما بيّنا في باب الوجود أنّ ما لا يكون ثابتا في نفسه لا يمكن أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية. المباحث: ٧٨٠.

(٤) وتمام تقرير ذلك قد مضى في باب تناهي الأجسام. المباحث : ٧٨٠.

٥٠٩

أقلّ من صحّتها من الأزل إلى الآن مع أنّه لا يلزم تناهي الصحّة.

وصحّة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد أكثر من صحّة حدوثها من الآن (١) إلى الأبد مع عدم النهاية في طرف الأبد.

وتضعيف الألف أقل من تضعيف الألفين مرارا غير متناهية.

ومعلوماته تعالى أكثر من مقدوراته.

وعلى الرابع : بأنّ التوقف إن عنى به أن يكون أمران معدومان في وقت وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله ، فإن كان الأمر على هذا وجدنا أمرا معدوما ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في رتبتها وكلّها معدومة فيبتدئ في الوجود من وقت ما اعتبر هذا الاشتراط ، فالذي يكون كذلك يكون ممتنع الحدوث والوجود. وإن عنى بالحدوث (٢) أنّه لا يوجد هذا الحادث إلّا وقد وجد قبله ما لا نهاية له ثمّ ادّعى أنّ التوقّف بهذا المعنى محال ، فهو المتنازع.

وعلى الخامس : بأنّ حكم الكل وكلّ واحد قد يختلفان ، فإنّ كلّ واحد من العشرة ليس عشرة والمجموع عشرة. وكلّ جزء ليس بالكل وكلّها كل. وكلّ واحد من الحوادث اليومية غير مستغرقة لكلّ اليوم والكل مستغرق. بل الكل من حيث هو كل يستحيل أن يساوي جزءه من حيث هو جزء ، وإلّا لم يكن أحدهما كلا والآخر جزءا.

والمثال غير مفيد ، لأنّا لا ندعي أنّ حكم الجملة يجب أن لا يساوي حكم الأجزاء حتى يضر المثال الواحد ، بل ندعي أنّ التساوي قد يكون وقد لا يكون ، وإنّما يثبت أحد الأمرين بالبرهان.

__________________

(١) في النسخ : «الأزل» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٢) في المباحث : «بالتوقف».

٥١٠

وعلى السادس : بأنّ انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا وثبوت النهاية من أحد الجانبين لا ينافي اللانهاية من جانب آخر ، كالصحّة التي لا بداية لها لا نهاية إليها ، وحركات أهل الجنة لا نهاية لها مع أنّها في جانب البداية لها نهاية.

وعلى السابع : بما تقدّم من أنّ الأزل ليس حالة معينة بل هي نفي الأوّلية ، فلا يقال : هل وجد فيه حادث أو لا؟ والحادث الزماني الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم يمتنع وقوعه في الأزل.

فأمّا قولكم : «لمّا لم يقع شيء من الحوادث في الأزل ، فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجودا». فقد بيّنا أنّ الأزل ليس وقتا مخصوصا حتى يقال بأنّ ذلك الوقت قد خلا من الحوادث ، بل الأزل هو نفي الأوّلية. فقولنا : الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث ، معناه أنّ نفي الأوّلية لم يوجد فيه شيء من الحوادث ، أي كلّ واحد من الحوادث مسبوق بالعدم ، فلم قلتم : لمّا كان كلّ واحد منها مسبوقا بالعدم وجب أن يكون الكل كذلك؟ فإنّ النزاع لم يقع إلّا فيه.

ويعارض بالصحّة ، فإنّ صحّة حدوث الحوادث إن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي ، وهو محال. وإن لم تكن فللصحة مبدأ ، وهو محال. ولمّا لم يقدح هذا في الصحّة (١) ، فكذا هنا.

وعلى الثامن : بأنّ كلّ ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود ، بمعنى أن يكون الشيء (٢) طرف ، ونحن نسلم أنّ الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا ، لكن لم قلتم : إنّه يلزم من ذلك أن يكون محصورا من الطرف الذي لا يلينا؟ ثمّ يعارض بصحّة الحوادث.

__________________

(١) بأن لا تكون لها بداية.

(٢) في المباحث : «للشيء».

٥١١

وعلى التاسع : أنّ قولكم : «يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها». إن عنيتم أنّه يكون موصوفا بكلّ الحوادث وبعدمها معا ، فهو باطل ؛ لأنّ الحوادث ليس لكلّيتها وجود حتى يكون الجسم موصوفا بها. وإن عنيتم به أنّه في كلّ وقت من الأوقات يكون موصوفا بواحد من تلك الحوادث فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفا بعدم ذلك الحادث حتى يلزم التناقض ، بل يكون موصوفا بعدم سائر الحوادث. والتناقض إنّما يلزم إذا كان الشيء موصوفا بالحادث المعيّن وبعدم ذلك الحادث معا. وأمّا أن يكون في ذلك الوقت موصوفا بوجوده وبعدم غيره فأيّ تناقض فيه؟

والجواب بما يأتي من دلالة الاختيار ، وما تقدم من البراهين الدالة على الحدوث. وكون الأزل عدميا لا ينافي تقدير الوجود فيه ، كالزمان. والحكم يستدعي ثبوت المحكوم عليه ذهنا. ولا شكّ في تصور الكل وإلّا لامتنع الحكم عليه بأنّه غير مقصور وغير واقع. والصحّة أمر اعتباري لا تعقل فيه زيادة ولا نقصان ولا قلّة ولا كثرة. والتوقّف بكلا التفسيرين غير معقول ، فإنّ وجود حادث بعد انتهاء حوادث لا نهاية لها إليه غير ممكن. ونحن لا ندعي عمومية المساواة بين الكل وكلّ واحد في جميع الأحكام ، بل في حكم لاحق لطبيعة أمر من حيث ماهيته فانّه يجب مساواة الكل والجزء فيه ، وبالخصوص هنا ؛ فانّ الضرورة قضت بأنّ كلّ واحد إذا كان قد سبقه عدم فالمجموع المتوقف وجوده على وجود كلّ واحد يكون أولى بالمسبوقية بالعدم. وهذا حكم ضروري.

احتجوا (١) بوجوه :

__________________

(١) القائلون بعدم البداية والنهاية للزمان. وانظر الوجوه في الحادي عشر من ثالثة الأول من طبيعيات الشفاء ؛ المعتبر في الحكمة ٢ : ٩٠ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٧٢ ؛ المطالب العالية ٥ : ٧٧ ؛ شرح حكمة العين : ٤٦٥ (شرح شمس الدين البخاري).

٥١٢

الوجه الأوّل : لو كان للزمان أوّل أو آخر لكان عدمه سابقا على وجوده أو وجوده سابقا على عدمه فالزمان موجود حال ما فرض معدوما ، هذا خلف. والزمان من عوارض الحركة التي هي من عوارض الجسم ، فالجسم والحركة لا أوّل لهما ولا آخر. قال المعلّم الأوّل : من قال بحدوث الزمان فقد قال بقدمه من حيث لا يشعر به.

الوجه الثاني : كلّ محدث فإنّ وجوده سابق على عدمه ، فإمّا أن يكون معنى هذا السّبق هو وجوده فقط ، وهو باطل ؛ لأنّه تعالى موجود مع الخلق ، وكونه متقدما على الخلق لا يبقى عند كونه مع الخلق. وإمّا أن يكون معناه وجوده وعدم الحوادث فقط ، وهو باطل ؛ لأنّ الحوادث قد تكون معدومة بعد ، ولم يصحّ بهذا الاعتبار أن يقال : إنّ الخالق قبل الخلق. فإذن المفهوم من هذا السبق شيء ثالث وهو : أنّه كان موجودا مع زمان لم توجد فيه هذه الحوادث ثمّ وجدت هذه الحوادث بعد تقضّي ذلك الزمان ، وهذا التقدم ثابت لله تعالى من الأزل إلى الأبد ، فهذا الزمان موجود من الأزل إلى الأبد.

الوجه الثالث : المحدث هو الذي لم يكن ثمّ كان ، فقولنا : «لم يكن» إمّا أن يكون إشارة إلى عدمه بالقياس إلى مدّة منقضية ، وإمّا أن يكون بالقياس إلى مجرد العدم الصّرف. والثاني محال ، لأنّه لو كان العدم بالقياس إلى العدم الصرف حدوثا لكان الباري تعالى حادثا لأنّه معدوم في المعدوم فانّه تعالى لم يكن في العدم الصرف ، فعلمنا أنّ قولنا : «لم يكن» إشارة إلى عدمه بالقياس إلى مدّة منقضية ، وقولنا : «لم يكن» (١) ثابت للمحدث من الأزل ، فالمدة ثابتة من الأزل.

الوجه الرابع : لو كان الزمان محدثا لكان إمّا أن يتميز حين حدوثه عمّا ليس هو حين حدوثه ، وإمّا أن لا يتميز. ومحال أن لا يتميز ، لأنّه يلزم أن يكون حدوثه

__________________

(١) أي الممكنيّة.

٥١٣

مقارنا للّاحدوثه (١) ، وهو محال. وإن كان متميزا فلا يخلو إمّا أن كان ذلك التميز مترتبا (٢) على الحدوث ، وهو محال ؛ لأنّ صحّة حدوثه مترتبة على امتياز حين حدوثه عين حين لا حدوثه ، فلا يجوز أن يكون امتياز أحد الحينين عن الحين الآخر موقوفا على الحدوث ، وإلّا دار. فإذن الحينان متميزان بأنفسهما وما كان كذلك فهو أمر موجود. ولأنّه قابل للأقل والأكثر والأزيد والأنقص فهو كم متصل غير قارّ الذات وهو الزمان ، فإذن الزمان غير محدث حدوثا زمانيا.

الوجه الخامس : لو كان الزمان محدثا لأمكن فرض حركتين متفاوتتين تنتهي إحداهما إلى العالم بعشر دورات والأخرى بعشرين ، لأنّه لو امتنع فإمّا أن يكون الامتناع عائدا إلى المقدور لزم انتقال الشيء من الامتناع إلى الإمكان ، وإن كان عائدا إلى القادر لزم انتقاله من العجز إلى القدرة ، وهما محالان ، فهذا الفرض ممكن فإمّا أن يمكن أن تبتدئ (٣) الحركتان العظمى والصغرى وتنتهيا معا أو لا يمكن. والأوّل محال ، وإلّا انتفت الأعظمية. فإذن قبل حدوث العالم امتداد لا يمكن أن يحصل منه إلّا عشر دورات وامتداد آخر أزيد ، وذلك الامتداد أمر وجودي قابل للزيادة والنقصان فيكون مقدارا للحركة لما تقدم ، فيلزم من قدم هذه المعية (٤) قدم الحركة والجسم.

والجواب عن الأوّل : أنّه تمسك بالألفاظ والاصطلاحات ، ونحن بالحقيقة لا نسمّي العدم السابق قبلا بل نتوهم القبلية هناك مقدّرة ، كما أنّا نتوهم أنّ خارج العالم حيزا وإن كان وهما كاذبا.

__________________

(١) في المباحث : «للأحدوثة».

(٢) ق : «مرتبا».

(٣) في النسخ : «تنتهي» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

(٤) في المباحث : «الهيئة».

٥١٤

قيل عليه (١) : العقل يدرك بالبديهة ترتّبا بين العدم والوجود وليس ذلك الترتب بالعلية ، لأنّ العدم لا يكون علّة للوجود ؛ ولأنّ العلّة والمعلول يجب تقارنهما دفعة (٢) والعدم والوجود يستحيل تقارنهما دفعة ، ولا بالطبع أيضا لهذا ، وظاهر أنّه ليس بالشرف والمكان ، فيكون بالزمان. ونحن لا نعني بالزمان إلّا هذا النوع من الترتّب فإن لم يحصل هذا الترتب فقد سلّمتم أنّه ليس للزمان عدم سابق على وجوده ، وهو المطلوب. وإن حصل كان الترتب الزماني حاصلا.

والفرق بين ذلك وبين الأحياز المتوهمة ظاهر ، لأنّ الحيز (٣) لا يتوقف في كونه متناهيا على حصول حيز خارج عنه ، وكونه محدثا يتوقف على مسبوقيته بالعدم.

وهو خطأ ؛ لأنّ هذا الترتّب لا يستدعي زمانا كما بين أجزاء الزمان فإنّ بعضها مترتّب على بعض وليس بالعلية ولا بالطبع ، وإلّا لتخالفت في الحقيقة لاستلزام الاختلاف في المعلولات الاختلاف في العلل ، ولا بالشرف والمكان ولا بالزمان ، وإلّا تسلسل. فهذا نوع آخر عقل في أجزاء الزمان فليعقل مثله في العدم والوجود. (٤)

والجواب عن الثاني : أنّه معارض بالزمان على ما تقدّم من أنّ بعض أجزائه سابق على البعض. ويلزم منه أن يكون الله تعالى زمانيا ، لأنّ الله تعالى كان في غير هذا اليوم ثمّ كان مع هذا اليوم وسيكون بعده وذلك يوجب أن يكون كونه مع اليوم بسبب زمان ، فيكون للزمان زمان وللباري تعالى زمان.

اعترض بأنّ تقدّم الله تعالى على الزمان المعيّن ذلك أيضا بسبب الزمان ، لأنّ

__________________

(١) والقائل هو الرازي في المباحث : ٧٧٣.

(٢) في المباحث : «لا يستحيل تقارنهما دفعة».

(٣) في المباحث : «الحين».

(٤) حتى لا يلزم أن يكون ذلك التقدم زمانيا ، وسيأتي حلّه في الوجه الثاني. المباحث : ٧٧٣.

٥١٥

الزمان المعيّن لمّا لم يكن موجودا في الأزمنة المنقضية مع الباري كان الباري تعالى متقدما عليه. والتسلسل غير لازم ، لأنّ كلّ زمان متأخر فهو إنّما كان متأخرا لأنّه لم يوجد مع الباري في الزمان المتقدّم وذلك يقتضي أن يكون الحكم على كلّ زمان متأخر بكونه متأخرا متوقفا على وجود زمان آخر قبله ، والتسلسل على هذا الوجه غير باطل بل هو نفس مذهبهم.

لا يقال : التسلسل لازم من وجه آخر وهو أنّه إذا كان تقدم الباري تعالى على الزمان المعيّن لأجل الزمان لزم أن يكون معيته مع الزمان لأجل زمان آخر ويلزم منه أزمنة غير متناهية يحيط بعضها ببعض دفعة ، وهو محال.

لأنّا نقول : كون الزمان مع الباري لو ثبت له ثبت لنفسه لا لأمر منفصل ، ولهذا المعنى لا يعقل الوقت المعيّن واقعا إلّا على ذلك الوجه فالساعة لا تتصور إلّا الساعة ويستحيل وقوعها قبل هذه الساعة أو بعدها فإنّها لو حدثت لا حين ما حدثت لم تكن هذه الساعة بل غيرها ، فوقوعها كما وقعت من الواجبات ووقوعها يقتضي المعيّة مع الباري. فإذن الوقت المعيّن المقارن لوجود الباري مقارن له لذاته لا لأمر منفصل. فإذن لا يلزم التسلسل في الأزمنة.

وأمّا سائر الحوادث التي يحكم عليها بالمعية والتقدم والتأخر فليست معيتهما (١) لذاتيهما (٢) وعينهما (٣) فإنّ كلّ ما غاير الزمان يفرض وقوعه مع الباري أمكن أن يتصور ذلك الشيء بعينه قبله أو بعده. فظهر أنّ كون الزمان مع الباري لا يقتضي زمانا آخر وأنّ كون سائر الحوادث مع الباري يقتضي زمانا محيطا.

وكذا كلّ جزء من الزمان يقال له : إنّه تأخر عن جزء آخر ، فإنّما يقال له : إنّه متأخر ، لأنّه لم يوجد مع الجزء السابق من الزمان فهاهنا أيضا لم يظهر معنى التقدم والتأخر إلّا عند وجود الزمان.

__________________

(١) و (٢) و (٣) في المباحث بضمير الجمع المؤنث.

٥١٦

ولا يلزم أن يكون ذلك التقدم بسبب زمان آخر ، لأنّه متى كان التقدم والتأخر في الزمان من لوازم ماهيته لم يحتج إلى زمان آخر. وأمّا سائر الحوادث فلمّا لم تكن معيّتها وتقدمها وتأخرها لماهياتها لزم أن تكون بسبب آخر مغاير لها.

لا يقال : إذا كان الزمان لذاته متقدما ومتأخرا وكلّ ما كان كذلك فهو من المضاف لزم أن يكون الزمان مجرّد إضافة.

لأنّا نقول : ليس مفهوم الزمان مجرّد التقدّم والتأخّر بل هو مقدار قابل للزيادة والنقصان يقتضي التقدّم والتأخّر لذاته ، فهو لذاته من مقولة الكم وهو مقدار متصل ، لكنّه يقتضي أن يكون معروضا للتقدّم والتأخّر. وفرق بين ما لا وجود له إلّا بمجرّد كونه متقدما ومتأخرا وبين ما له وجود آخر مغاير لذلك إلّا أنّ ذلك الوجود لما هو هو يقتضي هذين الوصفين.

قوله : «يلزم أن يكون الباري تعالى زمانيا» ، فنقول : لمّا بيّنا أنّ الزمان لذاته لا لغيره مع الباري لم تكن معية الباري مع الزمان محتاجة إلى زمان آخر ، لأنّ المعيّة إنّما تثبت من الجانبين فإذا استغنى بأحد الجانبين عن زمان آخر محيط بها فذلك الجانب الآخر يكون مستغنيا عنه.

والجواب : قد سبق أنّه ليس معنى التأخر كون المتأخر لم يوجد مع الشيء ، لأنّ اليوم لم يوجد مع الغد وليس متأخرا عنه ، فلو كان التقدّم والتأخّر إنّما يصحّ بالزمان لزم أن يكون أمس في زمان واليوم في زمان حتى يحكم بينهما بالتقدم والتأخر ، وكذا الباري تعالى والزمان ، وإذا جازت المعية بالذات فليجز في شيئين تصاحبا أن يتصاحبا بالذات. ثمّ يلزمهم الاشكال الذي لا محيص لهم عنه وهو : كون الزمان منقسما بالفعل إلى أجزاء غير متناهية ، لأنّ الاختلاف في التقدم والتأخر يقتضي الاختلاف الذاتي ، وكون الساعة هي الساعة ككون زيد هو زيد ، ونحن لم نثبت التسلسل إلّا باعتبار ما أوجبتم في التقدم من المقارنة الزمانية.

٥١٧

والجواب عن الثالث : بالمعارضة بالزمان المعيّن ، فإنّ قولنا : «لم يكن هذا الزمان في الأزل» غير مشعر بكون الزمان في زمان آخر ، فكذا فيما ذكروه.

والجواب عن الرابع : بالمعارضة بالأحياز ، فانّ العالم إذا كان متناهيا كان له حيث وحيّز معيّن ، وليس تعيّن ذلك الحيّز بسبب وجود العالم ، لأنّ وجود العالم موقوف على وجود ذلك الحيز. فإذن ذلك الحيز ممتاز في نفسه عن سائر الأحياز. فإذن الأحياز الفارغة أمور وجودية مقدّرة متمكنة (١) فتكون جسما وجسمانيا فيلزم عدم تناهي الأجسام. ولمّا حكمتم ببطلانه وجعلتم هذا التقدير وهميّا (٢) ، فليكن في الزمان كذلك.

وقد سألت شيخنا أفضل المحقّقين نصير الملة والحقّ والدين ـ قدس الله روحه ـ عن الفرق فقال : لا فرق بينهما.

وأيضا نعارض ما ذكرتم في حدوث كلّ الزمان بحدوث كلّ واحد من أجزائه فنلزمكم.

أمّا التسلسل في الأزمنة ، وهو محال. وبتقدير صحّته فالمقصود حاصل ، لأنّه إذا وقع كلّ زمان في زمان آخر لا إلى نهاية كانت تلك الأزمنة معا ، لأنّ الشيء لا يقع في الزمان الذي مرّ ، فنقول : تلك الأزمنة الغير المتناهية التي وقع بعضها في بعض قد وجدت الآن بأسرها فالذي هو كالطرف لمجموعها يستحيل أن يكون زمانا آخر ، وإلّا لكان جزءا من ذلك المجموع لا طرفا له. وإذا عقل ذلك هنا فليعقل مثله في كلّ حادث. أو عدم الافتقار إلى الزمان وحينئذ يسقط أصل الدليل.

والجواب عن الخامس : أنّ تقدير حركتين وإمكان وجودهما لا يقتضي إلّا

__________________

(١) في المباحث : «متكمّمة».

(٢) في النسخ : «وهميّ» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٥١٨

إمكان وجود الزمان ، فكيف حكمتم بأنّه لا بدّ وأن يكون الزمان موجودا؟

قيل (١) : الحركة وإن كانت غير موجودة إلّا أنّ إمكانها محقّق وإمكانها على الوجه المفروض إمكان قابل للتقدير ، فإنّ الحركة العظيمة المفروضة يمتنع وقوعها في المدة التي تقع فيها الحركة الصغيرة ، والتفاوت بين المدّتين حاصل سواء وجدت الحركتان أو لم توجد ، أفنحن نستدل لإمكان وجود الحركتين على وجود المدتين ثمّ بعد ذلك نستدل بوجود المدّة على وجود الحركة؟

وهو غلط ، لأنّ الإمكان أمر عقلي وفرض اعتباري لا يعقل فيه زيادة ولا نقصان.

ثمّ ينتقض بإمكان تصور كرة محيطة بالعالم بحيث يكون بين سطحها الظاهر والباطن ذراع ويمكننا أن نتصورها بحيث بين سطحيها ذراعان ، وهذا المفروض إن كان ممتنعا لزم انتقال الخالق من العجز إلى القدرة ، وإذا كان ممكنا فإمّا أن يوجد الجسم العظيم في حيز الجسم الصغير وهو محال ، وإلّا انتفى التفاوت في المقادير وقد فرض كذلك ، هذا خلف ، فحينئذ تتحقق خارج العالم امتدادات قابلة للتقدير فيكون كما أو ذا كم ، فخارج العالم جسم فالأجسام غير متناهية.

اعترض بأنّ وجود الكرتين المحيطتين بالعالم على الوجه المفروض محال فلا جرم أدّى إلى المحال.

والانتقال من الامتناع إلى الإمكان ، مغالطة ؛ لأنّ جسما آخر أعظم من العالم لمّا كان ممتنعا فهو ممتنع أبدا.

وأمّا تقدير وجود الحوادث قبل أن حدثت لو لم يكن ممكنا وكان ممتنعا لزم

__________________

(١) والقائل هو الرازي في المباحث ١ : ٧٧٧.

٥١٩

دوام امتناعها ، وإلّا فقد انقلب الذي كان ممتنعا إلى الإمكان. (١)

والجواب : لو امتنع وجود الكرتين المماثلتين للعالم في الطبيعة لامتنع وجود العالم لاشتراك المتساويات في اللوازم ، فإذا كان أحد المثلين ممتنعا لذاته كان الآخر كذلك ، ولو جوّزنا ذلك جوّزناه في الزمان.

وأيضا تقارب الإمكانين لا يستلزم وجود الزمان ، لما تقدم.

رابعا : قد سلف (٢) بيان أنّ الزمان هل هو وجودي ثابت في الخارج أم لا؟ وأبطلنا المذهب القائل بوجوده في الأعيان فلنستقص الآن الكلام من الطرفين في ذلك ، فنقول : الحقّ أنّ الزمان ليس أمرا ثابتا في الأعيان لوجوه : (٣)

الوجه الأوّل : لو كان الزمان موجودا فإمّا أن يكون منقسما أو لا ، والقسمان باطلان.

أمّا الثاني : فلأنّه يلزم أن لا يكون متقضيا فيلزم أن يكون الحاصل في هذا اليوم حاصلا في زمان الطوفان بل يكون حاصلا حين ما كان معدوما ، فيلزم اجتماع النقيضين وارتفاع التقدم والتأخّر من الموجودات ، وهو باطل بالبديهة.

وأمّا الأوّل : كان غير حاصل بجميع أجزائه وإلّا عاد المحال ، بل هو مقتض سيال فيكون منه ماض ومستقبل وهما معدومان. وأمّا الحاضر فإن كان منقسما وهو مقتض كان بعضه ماضيا وبعضه مستقبلا فلا يكون الحاضر حاضرا ، هذا خلف. وإن لم يكن منقسما كان ذلك هو الآن ، وهو محال.

أمّا أوّلا : فلأنّ الآن طرف الزمان والشيء إذا كان غير موجود في نفسه امتنع

__________________

(١) انظر الاعتراض من الرازي في المباحث : ٧٧٧.

(٢) في المجلد الأوّل ، ص ٣٣٧.

(٣) انظرها في العاشر من ثانية الأول من طبيعيات الشفاء (السماع الطبيعي) ؛ المباحث المشرقية ١ : ٧٥٧ وما يليها.

٥٢٠