نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

يمنعه من الدخول في الوجود. و (١) لأنّ الباقي أيضا لو عدم حال بقائه لصار عدمه مقارنا لوجوده ، وكما أنّه يصحّ أن ينعدم في الزمان الثاني من وجوده كذلك الحادث يصحّ أن ينعدم في الزمان الثاني من وجوده.

قوله : «الحادث متعلّق السبب فيكون أقوى».

قلنا : ألستم قد برهنتم على أنّ الباقي أيضا متعلّق السبب ، فزال الترجيح.

قوله : «الله تعالى يخلق اعدادا من ذلك الضد».

قلنا : هذا غير مستقيم.

أمّا أوّلا : فلأنّ الذي استقر عليه رأي المعتزلة أنّ الله تعالى يعدم الجواهر كلّها بجزء واحد من الفناء.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الجواهر متماثلة فليس بأن يوجب فناء عدم واحد منها أولى من الفناء الآخر بأن يوجب عدمه. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه يقوم الفناء بالجوهر أو يختص بالحيز الذي يجاوره ، لكن الأوّل باطل لاشتماله على اجتماع الضدين. والثاني يكون قولا بحصول العرض في الحيز على سبيل الاستقلال من غير محل وهو محال ، إذ لا معنى للجوهر إلّا ما يكون حاصلا في الحيز.

الثاني : (٢) أنّ حدوث الضد يتوقف على انتفاء الضدّ الأوّل فلو كان انتفاء الضد الأوّل معللا بحدوث هذا الضدّ لزم الدور المحال.

وأمّا إن فنيت الأجسام باعدام الفاعل المختار فهو محال ، لأنّ الفاعل لا بدّ له من فعل ، فالاعدام إمّا أن يكون شيئا متميزا عن غيره وإمّا أن لا يكون ، فإن كان الأوّل كان الاعدام عبارة عن حدوث شيء ، وذلك الشيء إن اقتضى عدم الجوهر

__________________

(١) «و» ساقطة في ق.

(٢) أي الوجه الثاني لامتناع اعدام الجواهر بحدوث الضد.

٢٠١

كان ذلك قولا ببقاء الجوهر لأجل ضد ، وإن لم يقتض عدمه كان ذلك الجوهر باقيا بعد حصول ذلك الاعدام.

وأمّا إن لم يكن الاعدام أمرا مشارا إليه متميزا عن غيره استحال جعله تأثير مؤثر أو فعل قادر لما ذكرنا أنّ القادر من له الأثر. ولأنّ الاعدام إن لم يكن وجوديا كان عدما محضا فامتنع اسناده إلى المؤثر ، لأنّه لا فرق بين أن يقال : لم يفعل الله شيئا وبين أن يقال : فعل العدم ، وإلّا كان أحد العدمين مخالفا للثاني فيكون لكلّ واحد من العدمين تعيّن وثبوت فيكون للعدم ثبوت ، هذا خلف.

وإن كان وجوديا لم يكن ذلك الوجود عين عدم العالم ، وإلّا لكان (١) الوجود عين العدم ، بل غايته أنّه يقتضي عدم الجوهر فيكون ذلك اعداما بالضد وليس هو هذا القسم(٢) ، فالقول بفناء الجواهر يفضي إلى أقسام باطلة فيكون القول بفنائها باطلا.

وأمّا النقل : فقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى)(٣). وإبراهيم عليه‌السلام سأله عن كيفية إحياء الموتى ثمّ إنّه تعالى أراد الجمع بين التفريق والاحياء بعده ، وإذا أراه ذلك جوابا لسؤاله صحّ أن يكون بالتفريق دون الفناء لوجهين :

__________________

(١) ج : «كان».

(٢) ق : «هذا هو هذا القسم» ، وفي عبارات الرازي : «وليس هذا هو القسم الأوّل ، بل هو القسم الثاني».

وهو يشتمل على السؤال عن جميع المقدمات التي يفعلها الله تعالى حتى يهيأهم ويعدّهم لنفخ الروح فأمره الله تعالى بأخذ أربعة من الطير وتقطيعها وتفريق أجزائها ومزج بعض الأجزاء ببعض ثمّ يفرقها ويضعها على الجبال ثمّ يدعوها فلما دعاها ميز الله تعالى أجزاء كلّ طير عن الآخر وجمع أجزاء كلّ طير وفرقها عن أجزاء الآخر حتى كملت البنية التي كانت عليها أوّلا ثمّ أحياها الله تعالى. راجع كشف المراد : ٤٠٢.

(٣) البقرة / ٢٦٠.

٢٠٢

الأوّل : لو أفناه لما صحّ فيه الجمع إلّا على تقدير أن يخلق أجزاءهم متفرقة ثمّ يجمعها وذلك باطل. ولمّا ثبت الجمع في كيفية الاحياء ثبت أنّه لا تفنى على معنى الاعدام.

الثاني : أنّه عليه‌السلام سأله عن جميع مقدمات الاحياء فلو كان الله تعالى يعدمها ثمّ يخلقها احياء لأراه ذلك. وأيضا أنّه تعالى بعد أن بيّن أنّ مبدأ الخلق جمع بعد تفريق لقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) (١) ، وقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٢) ، وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٣) ، وقوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٤) ، وبدء الخلق الذي يمكننا أن نراه أو ننظر إليه هو الجمع دون الإيجاد عن عدم كما يشاهد ذلك في فصل الربيع من نشوء الاغصان. ثمّ لمّا قرر أنّ البدء [هو] الجمع قال : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ، فنصّ تعالى على أنّ البدء كما كان جمعا للتفريق كذا عودكم يكون بالجمع بعد التفريق. وقد قرر الله تعالى ذلك في آيات كثيرة بعبارات مختلفة فشرح تعالى كيفية جمعه فيما يخرج من النبات والزروع والأشجار ، ثمّ شبه يوم البعث به في قوله تعالى : (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٥) و (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ). (٦)

__________________

(١) الروم / ٢٠ وفاطر / ١١ وغافر / ٦٧.

(٢) السجدة / ٧.

(٣) العنكبوت / ١٩.

(٤) العنكبوت / ٢٠. وفي المخطوطة : «أو لم يسيروا في الأرض فينظروا ...» ، والموجود في القرآن ليس بهذه الصورة.

(٥) والآية هكذا : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) فاطر / ٩. راجع أيضا الأعراف / ٥٧.

(٦) والآية هكذا : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الروم / ١٩.

٢٠٣

والجواب عن المعقول أن نقول : لم لا يعدم باعدام الفاعل؟

قوله : «الاعدام إمّا أن يكون أمرا وجوديا أو لا».

قلنا : هذا يقتضي أن لا يعدم شيء البتة ، لأنّه يقال : إذا عدم الشيء فهل يتجدد أمر أم لا؟ فإن لم يتجدد أمر فهو لم يعدم ، وإن تجدد فالمتجدد عدم أو وجود؟ لا جائز أن يكون عدما ، لأنّه لا فرق بين أن يقال : تجدد العدم أو لم يتجدد شيء ، وإلّا فأحد العدمين مخالف للآخر ، وهو محال. وإن كان وجودا كان ذلك حدوثا لموجود آخر لا عدما للموجود الأوّل. (١)

سلّمنا فساد هذا القسم ، فلم لا يعدم لحدوث الضد؟

قوله : في المضادة مشتركة من الجانبين.

قلنا : لم لا يجوز أن يكون الحادث أقوى لحدوثه وإن كنا لا نعرف لميّة كون الحدوث سببا للقوة؟ (٢)

قوله في الثاني : «حدوث الحادث يتوقّف على عدم الباقي».

قلنا : لا نسلم ، فإنّ عندنا عدم الباقي معلول الحادث ، والعلّة وإن امتنع انفكاكها عن المعلول لكن لا حاجة بها إلى المعلول.

وأيضا جاز أن يكون التوقف توقّف المعيّة فلا دور ولا استحالة.

سلّمنا فساد هذا القسم ، لكن لم لا يجوز أن يعدم الجسم لانتفاء الشرط؟ وبيانه : أنّ الأعراض لا تبقى والجوهر ممتنع الخلو عنه فإذا لم يخلق الله تعالى العرض انتفت الجواهر.

__________________

(١) ولمّا كان ذلك باطلا بالضرورة فكذا ما قلتموه. أنوار الملكوت : ٤٦.

(٢) هذا الجواب وما يأتي بعده من الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت صاحب الياقوت ، كما في أنوار الملكوت : ٤٥.

٢٠٤

قوله : «إنّه يلزم الدور».

قلنا : جاز أن يكون الجوهر والعرض متلازمين (١) ، وإن لم يكن لأحدهما حاجة إلى الآخر ، كالمضافين ومعلولي العلّة الواحدة ، فإذا لم يوجد أحد المتلازمين وجب أن يعدم الآخر.

قال أفضل المحقّقين : «مذهب الكرامية : أنّ العالم محدث وممتنع الفناء وإليه ذهب الجاحظ. وقالت الأشعرية وأبو علي الجبائي بجواز إفناء العالم عقلا. وقال أبو هاشم : إنّما يعرف ذلك بالسمع. ثمّ إنّ الأشعرية قالوا : إنّه يفنى لأنّ الله تعالى لا يخلق الأعراض التي تحتاج الجواهر إلى وجودها. أمّا القاضي أبو بكر فقال في بعض المواضع : إنّ تلك الأعراض هي الأكوان. وقال في بعض المواضع : إنّ الفاعل المختار يفنيه (٢) بلا واسطة ، وهو مذهب محمود الخياط. وقال القاضي في موضع آخر : إنّ الجوهر يحتاج إلى نوع من كلّ جنس من أجناس الأعراض فإذا لم يخلق الله تعالى أيّ نوع كان عدم الجوهر. وقال الجويني مثل ذلك. وقال بعضهم : إذا لم يخلق الله تعالى البقاء وهو عرض عدم الجوهر ، وبه قال الكعبي. وقال أبو الهذيل : كما أنّه قال له «كن» فكان كذا يقول له «افن» فيفنى. وقال أبو علي وأبو هاشم انّه تعالى يخلق الفناء وهو عرض فيفنى جميع الأجسام ، وهو لا يبقى (٣). وأبو علي يقول : إنّه يخلق لكلّ جوهر فناء ، والباقون قالوا : بل فناء واحد يكفي لافناء الكل. فهذه مذاهبهم.

وقوله في الدليل : «إنّ الاعدام باطل ، لأنّه لا فرق بين أن يقال : لم يفعل البتة وبين أن يقال : فعل العدم» ، ليس بشيء للفرق بينهما في بديهة النظر ، فانّ القول

__________________

(١) في النسخ : «متلازمان» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٢) في المصدر : «يفنى».

(٣) ويفنى لذاته. أنوار الملكوت : ٤٢.

٢٠٥

بأنّه لم يفعل حكم بالاستمرار على ما كان وبعدم صدور شيء من الفاعل (١) ، والقول بأن فعل العدم حكم بتجدد العدم بعد أن لم يكن وبصدوره عن فاعله ، وتمايز العدمين يكون بانتسابهما إلى وجودين أو بانتساب أحدهما دون الآخر.

وقوله في الجواب : «إنّ هذا يقتضي أن لا يعدم شيء البتة» ، ليس بجواب ، إنّما هو زيادة الإشكال وتأكيد لقول من يقول : الانعدام غير ممكن إلّا بطريان الضد أو انتفاء الشرط ، وهو مذهب أكثر المتكلّمين.

وأمّا إبطال الاعدام بطريان الضد فجواب الوجه الأوّل وهو إلزام الدور كما ذكره ، وهو أنّ عدم الباقي معلول الحادث.

وقولهم : «إنّ الحادث لا يكون أقوى من الباقي بكونه متعلّق السبب لأنّ الباقي حال البقاء أيضا متعلق السبب» ، ليس بصحيح ، لأنّ الباقي عند قدماء المتكلّمين مستغن عن السبب. وأمّا عند القائلين بأنّه محتاج إلى سبب مبق فجوابهم أنّ الموجد أقوى من المبقي ، لأنّ الايجاد اعطاء الوجود الذي لم يكن أصلا والتبقية حفظ الوجود الحاصل ، ولكونه أقوى فيرجح الحادث ويعدم المرجوح.

وايراد الاعتراض بأنّ الحادث لو عدم بسبب الباقي حال الحدوث لكان موجودا معدوما معا ، وهو محال ، والباقي لو عدم بسبب الحادث ما لزم منه محال.

ثمّ الجواب ـ بأنّ الباقي يمنع الحادث عن أن يصير موجودا ، ولا يلزم منه محال ـ ليس بمرضيّ ، فانّ الباقي لو كان بحيث يمنع لكان أقوى ، وليس كذلك.

__________________

(١) فهو ترك الفعل وليس فعلا. قال الطوسي في تجريد الاعتقاد : «وانتفاء الفعل ليس فعل الضد». كشف المراد : ٢٨٣. وقال المصنف : «فانّ الأعدام يستند إلى الفاعل كما يستند الوجود إليه. والامتياز واقع بين نفي الفعل وفعل العدم». كشف المراد : ٤٠١.

٢٠٦

والاعتراض بتجويز كون الحادث أكثر عددا من الباقي ، والجواب بامتناع اجتماع المثلين ، ليس ممّا يذهب إليه وهم.

وجواب الوجه الثاني من إبطال الاعدام بطريان الضدّ وهو : «أنّ التضاد حاصل من الطرفين على السواء فتجويز (١) كون الحادث أقوى وإن كنّا لا نعرف لميته» ، ليس بجواب. والجواب ما بيّناه من كون الحادث أقوى لترجح الموجد على المبقي.

وأمّا إبطال الاعدام بسبب انتفاء الشرط وأنّ الشرط لا يكون إلّا عرضا فدعوى مجرّدة ، فانّه من الجائز أن يكون هناك شرط خال عن (٢) العرض ، كما يكون الجوهر الذي هو المحل شرطا في إيجاد الأعراض فيه. وأيضا يجوز أن يكون الشرط لا جوهرا ولا عرضا بل أمرا عدميا ، وقد مرّ بيان جواز الاشتراط به وزوال ذلك الأمر يقتضي انعدام المشروط به.

وبيان كون العرض شرطا في الاعدام ـ بأنّ العرض لا يبقى والجوهر ممتنع الخلو عنه فيعدم بانعدامه ـ ليس ممّا يفيد مع هؤلاء الخصوم ، لأنّ الكرّامية لا يقولون بذلك كالمعتزلة. وأمّا الزامهم الدور بسبب احتياج الجوهر إلى العرض ، فباطل ؛ لأنّ الدور يكون إذا كان المحتاج إليه محتاجا إلى المحتاج فيما يحتاج فيه إليه وهنا ليس كذلك ، فانّ احتياج الجوهر إلى عرض ما لا بعينه ، لا إلى عرض معين ، والعرض المعيّن محتاج إلى جسم بعينه ، فلا يلزم منه الدور.

والجواب بتجويز التلازم من غير احتياج أحدهما إلى الآخر ، ليس بمفيد هنا ، فانّ العرض محتاج في وجوده إلى الجسم ، والتلازم وإن كان باحتياج كلّ واحد من المتلازمين إلى عين الآخر محال ، لكن من غير احتياج أحدهما إلى الآخر أو إلى

__________________

(١) في المصدر : «بتجويز».

(٢) في المصدر : «غير» بدل «خال عن».

٢٠٧

ما يتعلّق بالآخر ليس بمعقول ، فإنّ ذلك يكون مصاحبة اتفاقية ، وهي لا تقتضي امتناع الانفكاك.

وإيراد المثال بالمتضايفين (١) على الوجه المشهور ، غير صحيح ؛ فإنّ إضافة كلّ واحد منهما محتاجة في الوجود إلى ذات الآخر لا إلى إضافة ، ومعلولا علّة واحدة يحتاج كلّ منهما إلى علّة الآخر ، فليس فيهما عدم الاحتياج مطلقا من غير لزوم الدور». (٢)

وفيه نظر ، فانّ الفرق الذي ذكره بين قولنا : ما فعل وبين قولنا : فعل العدم ، وإن كان ظاهرا لكن ليس المقصود ما ذكره ، بل القصد أنّه في كلا الحالين لم يصدر عنه شيء وما حصل بواسطة الفعل ثبوت شيء ولا تحقّقه ، ولمّا لم يكن العدم فعلا كان فعله ليس فعلا في الحقيقة.

والجواب بأنّه يقتضي أن لا يعدم شيء ، صحيح (٣) ؛ لأنّ الحكم الضروري لا يرتفع بالشبه ، فإذا أورد المشكك شبهة تدل على رفع حكم ضروري ، علمنا على سبيل الإجمال أنّ هذه الحجّة باطلة علما ضروريا وإن عجزنا عن وجه الغلط فيها. ولمّا كان العلم الضروري ثابتا لنا بأنّ الاعدام متحقّق ، كانت الشبهة الرافعة له باطلة عند العقل. وهذا جواب صحيح لا مدفع له.

قوله : «الموجد أقوى من المبقى».

قلنا : متى إذا خلى عن المبقي العارض له أو إذا لم يخل؟ م ع. (٤)

__________________

(١) في النسخ : «بالمتضادين» ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) انتهى كلام أفضل المحقّقين في نقد المحصل : ٢٢٢ ـ ٢٢٤.

(٣) دافع المصنّف عن هذا الجواب في أنوار الملكوت هكذا : «إنّ الجواب بالمعارضة إنّما هو بانسحاب كلام الخصم فيما علم بطلانه بالضرورة فيكون باطلا وليس فيه زيادة شكّ بل هو إبطال كلام الخصم». ص ٤٦.

(٤) لعلّ المراد من «م» أنّ صورة الخلو عن المبقي العارض له ، مسلم. ومن «ع» أنّ صورة عدم الخلو ، ممنوع.

٢٠٨

وقوله : «الباقي إنّما يمنع لو كان أقوى وليس كذلك» ، ممنوع ؛ لأنّ الباقي موجود والحادث قبل حدوثه في حيز العدم والباقي حال عدم الحادث موجود ، والموجود أقوى من المعدوم. والجهل بوجه قوّة الحادث لا يخرج الجواب عن كونه جوابا. وكون الشرط ليس بعرض ، غير معقول ؛ لاستحالة أن يكون الجوهر شرطا في نفسه. وثبوت واسطة بين الجوهر والعرض وكون الشرط عدميا ، غير معقول هنا ؛ لأنّ العدمي لا يكون إلّا مضافا إلى ملكة وليست الملكة هنا الجوهر. أمّا أوّلا. فلأنّ الجواهر متماثلة فيستحيل أن يكون وجود جوهر مشروطا بعدم آخر. وأمّا ثانيا : فلأنّا ننقل الكلام إلى عدم ذلك الجوهر فانّه إمّا أن يعدم أو لا ، والثاني مطلوبهم ، والأوّل يفتقر إلى معدم ويعود البحث فيه. ولا العرض ، لأنّ وجود ذلك العرض لا بدّ له من محل جوهري ويعود البحث في عدمه. وأيضا فهو الفناء الذي قال به المشايخ.

قوله : «الجسم يحتاج إلى عرض ما».

قلنا : عرض ما إمّا أن يكون موجودا أو لا ، وعلى كلا التقديرين يلزم المحال. والبحث في المتضايفين قد تقدم. والاحتياج إلى العلّة لا تقتضي الاحتياج إلى المعلول ، وإلّا لزم الدور أو الترجيح من غير مرجّح ، فقد تحقّق الاستلزام مع الاستغناء.

والجواب عن المنقول : أنّ الاحياء والإماتة ليس اعداما وإيجادا فلا يرد ما ذكرتم فيه ، فانّ المكلّفين يفرّق الله تعالى أجزاءهم فإذا أعادهم جمعها ، فصحّ فيه الاراءة والإدراك.

ولا نسلم أنّ إبراهيم عليه‌السلام سأل عن جميع مقدّمات الاحياء ، بل عن كيفيته. وابتداء خلق الآدمي وإن كان جمعا ، لكن أصله ابتداء إيجاد لأنّ العالم حادث ، وكذا بدء خلق النبات وغيره. والإعادة للمكلّفين أيضا الجمع إن قلنا : إنّ المكلّف

٢٠٩

تتفرق أجزاؤه لا أنّه يعدم بالكلية ، وكذا النشور والاخراج. وبالجملة ليس البحث هنا في فناء الآدمي خاصة حتى يحمل على الاعدام بالكلية أو التفريق ، بل جميع الأجسام. (١)

المسألة الثالثة : في إبطال كلام المشايخ

قد عرفت كلام المشايخ وأنّهم أثبتوا الفناء معنى يضاد الجواهر لا في محل (٢) ، وهو باطل من وجوه :

الوجه الأوّل : التضادّ حاصل من الطرفين لأنّه نسبة وإضافة لا تعقل إلّا بين اثنين فكما ضاد الفناء الجواهر كذا الجواهر تضاد الفناء ، وكلّ واحد من هذين الضدين ممكن وقابل للعدم ويعدم اتّفاقا وليس انتفاء أحدهما بالآخر أولى من العكس ، فليس انتفاء الجوهر بذلك الضد أولى من انتفاء ذلك الضدّ بوجود الجوهر فاستحال أن يفنى به.

وفيه نظر ، لأنّا لا نسلّم انتفاء الأولوية فانّ الضدّ الطارئ يعدم الباقي لأنّ الله تعالى أراد اعدام الجوهر وإيجاد ضدّه فأوجد الضدّ فأعدم الجوهر.

قيل : والحس شاهد بذلك فانّ بعض الأعراض تعدم بطرو البعض الآخر. ولأنّ الاعتمادات التي توجب ضدّ ما يوجبه الآخر فانّ بعضها ينفي حكم الآخر ، فبالطريق الذي جوزتموه ثمّ جوزوه هنا. ولأنّه الحادث أقوى لأنّه متعلّق السبب.

__________________

(١) ذهب الطوسي إلى الفرق بين معنى الفناء في المكلفين كالإنسان وبين غيرهم ، فجاز الاعدام بالكلية في غير المكلّفين إذ لا يجب إعادتهم ، بخلاف الإنسان الذي يجب إعادته ، فقد تأول معنى فنائه وإعدامه بتفريق أجزائه ، فإذا أراد الله تعالى إعادته جمع تلك الأجزاء وألفها كما كانت. وقال : «ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم عليه‌السلام». كشف المراد : ٤٠٢.

(٢) راجع المجموع في المحيط بالتكليف ٢ : ٢٩٨.

٢١٠

ولأنّه لو عدم لاجتمع فيه النقيضان. ولجواز أن يخلق الله تعالى عدد الضدّ الحادث أكثر.

اعترض من حيث الإجمال والتفصيل.

أمّا الإجمال فهو أنّ وجود الضدّ إمّا أن يكفي في منافاته لضدّه أو لا بدّ معه من أمر زائد ، فإن كان مجرّد وجوده كافيا وذلك غير مختلف فيهما لزم تعذر نفي أحدهما بالآخر دون العكس لعدم الأولوية ، وإن كان لا بدّ معه من زائد فباعتبار انتفاء ذلك الزائد يلزم أن يمكن أن يجامع ضدّه ، ولو جاز ذلك فيه بطل دعوى المنافاة بالتضاد. كيف وأنّه غير مستقيم على أصولكم؟ فانّ عندكم لا يصح أن تتوقّف المنافاة بشيء زائد على الضدّ ، لأنّ ما يتنافيان بالتضادّ يتنافيان بأنفسهما وحدهما ولهذا قالوا : إنّ التضاد يرجع إلى الآحاد دون الجمل ، ولهذا لم تفترق الحال في تعذر الجمع بين جزء واحد من البياض في محلّ فيه جزء واحد من السواد وبين أن يكون فيه الف جزء.

وفيه نظر ، فانّا نقول : وجود كلّ من الضدّين كاف في المنافاة ، ولهذا لا يكون أحدهما موجودا مع صاحبه ولا يتخصص أحدهما بالوقوع من حيث إنّه ضدّ بل يحتاج في ترجيحه إلى الفاعل ، فلما أوجد الفاعل أحد الضدّين كان قاهرا (١) لصاحبه ونافيا له ، فإذا أراد الفاعل إيجاد الآخر افتقر المتجدد في اعدام الأوّل إلى مرجّح وهو إرادة الفاعل لايجاده. فالحاصل أنّ المنافاة من الطرفين على السواء لكن تخصيص أحدهما بالوجود أو بالعدم إنّما يكون بواسطة الزائد وهو ترجيح الفاعل.

وأمّا التفصيل فقالوا :

على الأوّل : لا نسلّم أنّ في الأعراض ما هو باق فجاز أن يكون الله تعالى

__________________

(١) الكلمة مشوشة في النسخ ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.

٢١١

يجدد في الجسم أمثال تلك الأعراض بخلاف الجسم ، فانّ كلّ واحد منّا مع كونه جسما يعلم من نفسه أنّه هو الذي كان بالأمس فكان كون الجسم معلوما بخلاف الاعراض.

سلّمنا بقاءها ، فلم قلتم : إنّ انتفاءها إنّما كان بضدّ ولم يكن بفوات شرط؟ فإنّ من الأعراض ما يحتاج في بقائه إلى شرط ، كالعلم المحتاج إلى الحياة والحياة المحتاجة إلى البنية المعتدلة.

والوجه الذي ذكرتم في إبطال كون وجود الجسم مشروطا ، لم قلتم بوروده هنا؟ فانّكم قلتم في ذلك الوجه : أنّ ذلك الشيء الذي يكون شرطا في وجود الجسم إمّا أن يكون حالا في الجسم أو لا ، فإن كان حالا في الجوهر كان محتاجا إلى الجوهر فيستحيل احتياج الجوهر إليه ، وإلّا دار. وإن لم يكن حالا كان شيئا قائما بنفسه ، والجوهر أيضا كذلك فلم تكن حاجة أحدهما إلى الآخر أولى من العكس فإمّا أن يحتاج كلّ منهما إلى الآخر وهو محال أو يستغني كلّ منهما عن الآخر فلا يلزم من عدم واحد منهما عدم الآخر ، وهذا إنّما يمكن وروده في الأجسام دون الأعراض.

سلّمنا أنّ عدمها ليس بعدم الشرط ، فلم لا يعدم باعدام معدم؟ بأن يعدمها الله تعالى ابتداء كما أوجدها ابتداء ، ولهذا كان حدّ القادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل وأن لا يفعل فكان لا يفعل داخلا في حدّ القادر كالفعل ، ولهذا قلتم : إنّ الصحيح ما ذهب إليه أبو هاشم من أنّ الذم والمدح بترك الواجب وبترك القبيح يرجع إلى نفي الفعل دون ما ذهب إليه أبو علي من أنّ ترك الفعل يرجع إلى فعل ضدّ دون نفي الفعل (١) ، ولهذا جعلتم مثل هذا الاعدام تأثير الضدّ ، فإذا جاز

__________________

(١) اختلف المتكلمون في الترك للشيء ، هل هو فعل وكف أم لا؟ فانظر الآراء والمسائل المرتبطة بالترك في مقالات الإسلاميين : ٣٧٨ وما يليها.

٢١٢

عندكم أن يكون تأثير الضد ، فلم لا يجوز أن يكون تأثير القادر؟ وهذا هو الوجه الذي ذهب إليه أبو الحسين (١) الخياط في جواز عدم الأجسام. وهذا وإن لزم منه صحّة الاعدام للأجسام بهذا الطريق ، ولكن لم يحصل به صحّة اعدامها بما ذهبوا إليه من الفناء ، وهذا هو المقصود في هذا المقام.

سلّمنا انّها تزول بالضد ، لكن قلتم : إنّه إنّما كان زوال الزائل بالضد أولى ، لأنّه خلق ضدّين في محلّ فيه ضدّ واحد ، وهذا العذر لا يستقيم على أصولكم لوجهين :

الأوّل : التضاد عندكم يرجع إلى الآحاد.

الثاني : إنّما تكلّمنا في هذه المسألة مع من يقول : الفناء يفني جميع الأجسام ولا يستقيم له هذا الجواب.

وعلى الثاني : أنّ الباقي كالحادث في استلزام اجتماع الوجود والعدم ، فإنّ جعلتم الباقي يرتفع في الزمن الثاني من وجوده فكذا ارتفاع الحادث.

وعلى الثالث : أنّ الباقي ممكن لذاته والوصف الذاتي لا يتبدل فلا فرق بين حالة الحدوث والبقاء. ولو سلّمنا أنّه غير متعلّق السبب ، ولكن لم قلتم : بأنّ أثر السبب في أكثر من وجوده ، ثمّ الوجود الذي هو مسبب السبب لا يختلف بين الحادث وبين الباقي فصار وجود السبب كعدمه فيما يرجع إلى زيادة قوة في وجود الحادث؟

__________________

(١) في النسخ وكذا في أنوار الملكوت : ٤٩ : «أبو الحسن» ، وهو خطأ. وهو عبد الرحيم بن محمد بن عثمان ، أبو الحسين الخياط. صاحب كتاب الانتصار. ذكره ابن المرتضى في رجال الطبقة الثامنة. توفي سنة ٣٠٠ ه‍. (طبقات المعتزلة : ٨٥). وقال الشهرستاني : إنّه أستاذ أبي القاسم ابن محمد الكعبي ، وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد ، إلّا أنّ الخياط غالى في إثبات المعدوم شيئا ... الملل والنحل ، ترجمة (الخياطية والكعبية).

٢١٣

وعلى الرابع : بأنّ هذا الجواب لا يتمشى على قول من يقول : إنّ الله تعالى يخلق فناء واحدا يعدم به جميع الجواهر التي في العالم ، خصوصا وقد بيّنا أنّ ما كان ضدّا بنفسه لا يختلف حاله في ذلك بين أن يكون واحدا وبين أن يكون أكثر من واحد.

الوجه الثاني : شرط التنافي بين الشيء وضدّه أن يتعاقبا في محلّ واحد ، وهذا الشرط غير حاصل في الفناء مع الجسم ، فيستحيل ثبوت المنافاة فيه.

أمّا الأوّل : فلأنّ السواد والبياض وكلّ نوع من أنواع الأضداد إذا وجد أحدهما في محل ووجد الآخر في محلّ آخر فانّه يستحيل بينهما المنافاة لفقد ما ذكرنا من الشرط ، حتى لو قدرنا هذا الشرط حاصلا فانّه تحصل المنافاة.

وأمّا الثاني : فانّ الجسم وإن جاز وجوده في الحيز ، لكن يستحيل حصوله في المحل فكذا الفناء الذي يذهبون إليه يستحيل حصوله في المحل ، وإذا استحال حلول كلّ واحد منهما في المحل استحال فيهما ما هو الشرط في المنافاة فتستحيل المنافاة.

لا يقال : كلّ واحد منهما موجود على حسب وجود الآخر ، فانّ الجسم ليس في محل وكذا الفناء ، فلم لا يكفي هذا في المنافاة؟

لا يقال : إذا قدّرنا سوادا في محل وبياضا في آخر وقدّرنا محلا ثالثا فكلّ واحد من السواد والبياض موجود على حسب وجود الآخر في أنّه ليس في ذلك المحلّ الثالث ، ومع ذلك لا يكفي هذا في المنافاة بينهما ، لأنّ شرط المنافاة بينهما مفقود وهو تعاقبهما على محلّ واحد.

وفيه نظر ، فانّ التضاد قد يكون على المحل فيشترط فيه اتحاده ، وقد يكون على الوجود عندهم كما في الجواهر والفناء فكان نسبة الوجود إليهما نسبة المحل في

٢١٤

الضدين وهذا الأخير لا يشترط فيه (١) المحل.

الوجه الثالث : الفناء عرض ، ووجود عرض لا في محلّ محال ، ونعني بالعرض الحادث الذي لا يكون في جهة ، وذلك لأنّ كلّ ما يوجده القادر يجب أن يوجد على وجه يكون مشارا إليه وإلى جهته وهذا ضروري ، وبهذا يبطل جميع ما ادعوه من الأعراض التي توجد لا في محلّ كالإرادة والكراهة والفناء (٢) ، وهذا العلم في الظهور فوق علمنا بأنّ الأكوان والطعوم وغيرها تحتاج إلى محل فإن أمكن منع هذا الظهور أمكن المنع في الجميع. ولظهور هذه القضية قالت الكرامية : هذه القضية عامة في جميع الموجودات قديما كان أو حادثا.

وهذا أقوى ما لهم من الحجّة في هذه المسألة التي بها يصولون على من خالفهم ويعدّون منكر ذلك مكابرا ، ونحن قد قلنا بأنّ ذلك متصور في الحوادث دون القديم تعالى.

وفيه نظر ، لأنّ ذلك راجع إلى اختلاف التفسير ، فانّهم إن عنوا بالعرض ما يوجد في المحل فالفناء ليس بعرض بهذا المعنى ، وإن عنوا به ما يعرض في الوجود ولا بقاء له كبقاء الأجسام فهو عرض ، وإن عنوا بالجوهر ما يستقل بذاته فالفناء جوهر بهذا المعنى ، ولا مشاحة في الأسماء.

الوجه الرابع : هذا الفناء إن نافى الجسم فإمّا أن ينافيه من حيث وجوده أو لا من حيث وجوده بل من حيث حقيقته أو مقتضاه أو شيء آخر. لا جائز أن ينافيه

__________________

(١) ق : «في» ، وهو خطأ.

(٢) ذكر الشهرستاني المسائل التي انفرد بها الجبائيان ، «فمنها : أنّهما أثبتا إرادات حادثة لا في محل ... وفناء لا في محل ... وإثبات موجودات هي أعراض ، أو في حكم الأعراض لا محلّ لها كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا مكان لها. وذلك قريب من مذهب الفلاسفة». الملل والنحل ، ترجمة (الجبائية والبهشميّة).

٢١٥

من حيث الوجود ، لأنّه لو نافاه من حيث الوجود والوجود عام مشترك بين جميع الموجودات وجب أن ينفى القديم وهو محال ، وينفى نفسه فانّه أيضا موجود.

لا يقال : إنّهما لا يتنافيان بالوجود ولا بالحقيقة ، ولكن يتنافيان بما هو مقتضى حقيقتهما.

لأنّا نقول : فيجب أن يقتصر الانتفاء على ما وقع فيه المنافاة فتخرج كلّ واحدة من الحقيقتين عن مقتضى صفتهما الذاتية دون الوجود ، فلا يعدم الجسم.

لا يقال : إنّه وإن كان كذلك لكنّه يستحيل أن يخرج المقتضي عن مقتضاه وهو موجود ، لأنّ المقتضي وهو الصفة الذاتية تقتضي مقتضاه نحو التحيز في الجسم بشرط الوجود فإذا وجد المقتضي مع الشرط استحال أن يتخلف عنه المقتضى. وكذا أيضا قولهم في العلّة : إنّها إذا وجدت لا يجوز أن يتخلف عنها حكمها.

فإذا قيل لهم : لم لا يجوز أن يتخلف المقتضى عن المقتضي وكذا الحكم عن العلّة وإن وجب الشرط الذي هو الوجود لما أنّه يحتاج إلى شرط آخر ولما أنّ مانعا يمنع من الحكم فيحتاج إلى زواله ، كما قلتم في سائر المؤثرات كالأسباب وأنتم جوزتم أنّ توقف مسبباتها مشروط بزوال المانع؟

لا يقال : إنّا إذا جوّزنا ذلك يبطل الفرق بين المنتفي المعدوم والموجود وكذلك هذا في العلّة ، لأنّه لا يظهر المقتضي والعلّة إلّا بالمقتضى والحكم ، ثمّ إنّه لا يمكن تأثير المقتضى والحكم في حالة العدم ، فلو لم يلزمه في حالة الوجود فقد استوى حالة عدمه ووجوده ، فيبطل الفرق الذي ذكرناه.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّه يبطل الفرق وتستوي حالة وجودهما وعدمهما ، وذلك لأنّه حين كان معدوما كان يتوقف مقتضاه وحكمه على أمرين : الوجود ، والشرط الثاني زوال المانع ، وبعد الوجود لا يتوقف إلّا على شيء واحد وهو الشرط

٢١٦

الثاني وهو (١) زوال المانع.

ثمّ نقول : هب أنّه يستحيل تخلف المقتضى مع الوجود ولكنّه أيضا يستحيل انتفاء الوجود من غير مناف. ثمّ هذا الفناء لا يخلو إمّا أن يصير منافيا للوجود فيلزم منه ما ألزمناه من نفي القديم ، أو لا يصير منافيا له فيلزم منه انتفاء الوجود من غير وجود ما يقتضي ذلك ، وهو أيضا محال.

فإذن القول بالفناء يؤدي إلى أحد محالين : إمّا تخلف المقتضى عن المقتضي مع حصول شرط الاقتضاء وهو الوجود وأنّه محال عندكم. وإمّا انتفاء الوجود لا لأمر وأنّه محال ، فصحّ أنّ القول بالفناء يؤدي إلى أقسام باطلة ، فيكون القول به باطلا.

لا يقال : هب أنّه لا ينافي الوجود ، ولكن لم لا يجوز أن ينتفي بالفناء ما هو شرط الوجود فينتفي الوجود وهو المقتضى؟

لأنّا نقول : إنّ الوجود شرط المقتضى فلو كان شرط الوجود لزم منه الدور ، وهو محال.

ويقال لهم : إن كان لا تنتفي حقيقة الجسم بالفناء ، بل ينتفي بالفناء أمر زائد على حقيقة كونه جسما يسمّون ذلك الزائد وجودا ، فإذن المنتفي والزائد على الحقيقة أمر زائد على الجسم وكان تسمية الجسم معدوما بعدم أمر زائد عليه تسمية له بذلك على سبيل المجاز بالحقيقة. وحقيقته لمّا كان لم تعدم بعدم لا يجوز عليه العدم ، فأنتم في الحقيقة أشدّ الناس قولا باستحالة عدم الجواهر والأجسام.

وفيه نظر لجواز أن ينافيه من حيث الوجود ، ونمنع عموم الوجود.

سلّمنا ، فلم لا ينافيه من حيث الوجود الممكن أو المحدث أو المستند إلى

__________________

(١) ق : «أو» بدل «وهو».

٢١٧

الفاعل أو وجود الجوهر؟

سلمنا ، لكن لم لا ينافيه من حيث الماهية ، على معنى أنّ ماهية الجوهر منافية لذاتها لماهية الفناء في الوجود لا مطلقا فلا يتنافيان في العدم ، كما أنّ الضدّين يتنافيان في المحل الخارجي وإن جاز اجتماعهما معا في الذهن؟

سلّمنا ، فلم لا ينافيه باعتبار آخر غير ما ذكرتم؟

الوجه الخامس (١) : هذا الفناء الذي يذهبون إليه لم لا يجوز أن لا (٢) تقارنه منفعة لأحد من الاحياء ولا ايصال حقّ إلى مستحق؟ وما كان كذلك كان عبثا قبيحا والله تعالى منزّه عن فعل العبث ، فيجب في الحكمة أن لا يفعل هذا الفناء.

أمّا الصغرى ، فلأنّ المنفعة إمّا عاجلة وإمّا آجلة فلا بدّ فيهما من الفعل والحياة ، وإنّما يتصور ذلك في الجسم إذا كان موجودا ، وهذا الفناء الذي يدعونه لا يقارنه عدم الجسم وعدم الجسم لا تقارنه الحياة فلا تقارنه المنفعة. وهو البيان لنفي إمكان إيصال الحقّ إلى المستحق. فثبت أنّ الفناء الذي يدعونه لا تقارنه منفعة ولا إيصال حقّ إلى مستحقّ.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ ما لا تقارنه المنفعة ولا إيصال حقّ إلى المستحق يكون عبثا قبيحا فضروري ، فيقبح في الحكمة هذا الفناء.

فإن قيل : هذا يبطل بعذاب القبر ومساءلة منكر ونكير وأهوال يوم القيامة وعذاب أهل النار فانّه لا منفعة هناك لا عاجلة ولا آجلة ومع ذلك فهو حسن ، فجاز هنا مثله. ثمّ نمنع انتفاء المنفعة هنا.

قوله : «الفناء الذي يقارنه العدم لا تقارنه الحياة فلا تقارنه المنفعة».

__________________

(١) راجع شرح المقاصد ٥ : ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) «لا» ساقطة في ق.

٢١٨

قلنا : إذا جاز أن يقارن وجود الفناء عدم الأجسام ، فلم لا يجوز أن يقارن وجود المنفعة عدم الحياة؟

سلّمنا أنّه لا يجوز أن يقارنه ، لكن لم لا يجوز أن يتقدمه أو يتأخر عنه؟ فانّ الإنسان قد يعد غيره أو يتوعده ثمّ يفي ذلك من بعد لما قد سبق له من المنفعة بالوعيد والوعد ، وكذا يلقي البذر في الأرض مع ما فيه من النقصان لما يتوقعه من بعد من الحصاد ، فكذا هنا لم لا يجوز أن يخبر الله تعالى عن الفناء لما لهم من منفعة المصلحة؟ ثمّ إنّه تعالى يفعل ذلك من بعد وفاء بما أخبر.

أو نقول : إنّه لمّا أخبر وكان لا يجوز أن ينتفع بالمخبر (١) عنه مع توقع الكذب فيجب فعله ، فيكون الخبر عن المخبر كالشيء الواحد حتى يكون الموجود من المصلحة في الخبر كالموجود في المخبر.

لم يعارض بالفناء الذي ذهبتم إليه من الموت وتفرق الأجزاء خصوصا موت أجزاء الاحياء ، فانّه حينئذ لا منفعة هناك له ولا لغيره ولا اعتبار لأحد به ، ومع ذلك فانّه يجوز ، فلم لا يجوز فيما ذهبنا إليه؟

فالجواب : أنّ النقوض غير واردة ، لأنّا قلنا : ولا إيصال حقّ إلى مستحقه ، وعذاب القبر وعقاب الآخرة يكون مستحقا.

قوله : «لم لا يجوز أن يقارن المنفعة وجود الفناء؟».

قلنا : لما ذكرنا أنّه يقارنه عدم الجسم وعدم الجسم يقارنه عدم الحياة ويستحيل وجود اللذة للحي مع عدم الحياة ، بخلاف وجود الفناء فانّه لا يحتاج إلى وجود شيء يزول بزوال الجسم.

__________________

(١) ق : «بالخبر».

٢١٩

قوله : «لم لا يجوز أن يتقدمه أو يقارنه؟»

قلنا : لوجهين :

الأوّل : القادر الذي استوى الفعل وعدمه منه لقدرته لا يجوز أن يفعل إلّا إذا رجح منه أن يفعل بالداعي وهو أن يعلم أو يظن أنّه تتعلق بفعله منفعة إن فعله حصلت وإلّا فاتت. وإن لم يكن له داع على هذا التفسير ، فإمّا أن نقول : بأنّه لا يصحّ منه وجود الفعل كما هو قول أبي الحسين في جوابه عن شبه النظام في قدرة الله تعالى على قبيح ، أو نقول : إنّه وإن صحّ منه لكن لا يفعله لقبحه على ما ذهب إليه سائر الشيوخ. وما قد أخبر الله تعالى عن إيجاده فهو وإن تعلقت المنفعة بالخبر لكن إذا لم تتعلق بنفس المخبر لم يكن ذلك المخبر ممّا قد دعاه إليه الداعي على ما فسرنا به الداعي ، إلّا أن يقولوا بأنّ الله تعالى ينتفع بفعل المخبر لما فيه من صيانة. قوله : عن الكذب. والله يتعالى عن الانتفاع فلم يجز أن يخبر عن مخبر هذا حاله.

وأمّا من يقول : ما وعد به فانّه ينتفع بذلك لما يحصل له من السرور بصفة الكمال بالوفاء (١) والاحتراز عن صفة النقصان بقول الكذب.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون القبيح في الكذب لو لم يف بما أخبر به صارفا عن الترك وداعيا إلى فعل المخبر به ، كالانتفاع. ولهذا يفعل الله تعالى الأفعال الحسنة ويترك القبائح لمجرّد الحسن والقبح وإن لم تكن في ذلك منفعة له تعالى على تفسير السرور واللذة خصوصا على مذهبكم في مسألة التحسين والتقبيح ؛ فانّكم قلتم : بأنّ في العقل واجبات وقبيحات لا على سبيل المنفعة والمضرة بل على سبيل أنّ العقل يمنع من فعله له ومن الاخلال بأن يفعله.

__________________

(١) ق : «بالبقاء» ، وهو خطأ.

٢٢٠