نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-393-57
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٥٨١

لا يقال : إنّه تعالى متقدم على العالم بأزمنة لا بداية (١) لها مقدّرة لا محقّقة.

لأنّا نقول : المقدّر في الذهن إن لم يكن له وجود في الخارج لم يكن الباري تعالى متقدما على العالم أصلا ، وإن كان له وجود في الخارج حصل المقصود.

الثامن : لو كان العالم محدثا لصدق أنّه لم يكن في الأزل موجودا ، وهذا سلب يكون مستمرا من (٢) الأزل إلى الأبد ، فإمّا أن يكون المفهوم من ذلك أنّ العالم ما كان حاصلا في زمان وجودي يقضي ، أو مفهومه أنّه كان موجودا في العدم الصرف ، فالباري تعالى أيضا ما كان موجودا في العدم الصرف فيلزم أن يصدق عليه أنّه ما كان موجودا في الأزل ، لكن ذلك كاذب ، وإذا بطل ذلك ثبت أنّ المفهوم من قولنا : لم يكن العالم موجودا في الأزل أي ما كان موجودا في الأزمنة الماضية ، ولمّا كان مفهوم قولنا : «لم يكن العالم موجودا في الأزل» مستمرا من الأزل إلى الآن لزم أن يكون استمرار الزمان من الأزل إلى الآن حاصلا.

التاسع : (٣) لو لم يكن الزمان قديما لم يتميز وقت عدم العالم عن وقت وجوده ، ولو لم يتميز ذلك لاستحال القصد إلى ايجاده ، لأنّه لمّا كان الجمع بين وجوده وعدمه محالا كانت صحّة وجوده موقوفة على امتياز وقت وجوده عن وقت عدمه ، فإذا لم يكن الوقتان متميزين استحال القصد إلى الايجاد. (٤)

العاشر : لو كان العالم محدثا لكان المؤثر فيه قادرا ، والتالي باطل ، فالمقدّم

__________________

(١) في نهاية العقول : «نهاية».

(٢) في النسخ : «مستمر في» ، أصلحناها طبقا للسياق. وفي نهاية العقول : «وهذه اللميكنيّة مستمرة من الأزل إلى الأبد».

(٣) قال الشيخ : «كيف يجوز أن تتميز في العدم وقت ترك ووقت شروع ، وبم يخالف الوقت الوقت». إلهيات النجاة (فصل في أنّ ذلك يقع لانتظار وقت ...). راجع أيضا المطالب العالية ٤ : ٢٠٣.

(٤) قال الرازي في نهاية العقول بعد ذكر الشبهة المتقدمة : «فهذه الشبه كلّها فلسفية محضة ، وهاهنا شبه أخرى مستخرجة من القواعد الكلامية ونحن نرد مهماتها».

١٤١

مثله.

والشرطية ستأتي في بيان القادر. ويدلّ على بطلان التالي وجهان :

الأوّل : لو كان قادرا فإمّا أن يقدر على الايجاد في الأزل أو لا ، والأوّل محال ؛ لأنّ معنى الايجاد الاخراج من العدم إلى الوجود ، وذلك ينافي الأزلية. والثاني أيضا محال ؛ لأنّ عدم تمكّنه من ذلك ليس لعدم المقتضي ، لأنّه إخراج له عن القادرية ولا لوجود المانع ، لأنّ المانع إن كان واجبا لذاته امتنع زواله ، وإن كان ممكنا فلا بدّ له من مؤثر ، فذلك المؤثر إن كان قادرا كان ذلك المانع حادثا فلا يكون الامتناع أزليا وقد فرض كذلك ، هذا خلف. وإن كان موجبا لزم من دوام الموجب دوام ذلك المانع فكان ينبغي أن لا يصحّ وجود العالم. فالقول بكون المؤثر قادرا يفضي إلى هذه المحالات.

الثاني : القادر إذا أوجد الفعل فإمّا أن تبقى قادريته على إيجاد ذلك الفعل أو لا تبقى ، والقسمان باطلان ، فالقول بكونه قادرا باطل.

أمّا بطلان بقاء تلك القادرية : أنّه كان قبل وجود الفعل قادرا على إيجاد ذلك الفعل فلو بقيت تلك القادرية لكان قادرا على إيجاد ذلك الفعل بعد وجوده فيكون ذلك إيجادا للموجود ، وأنّه محال.

وبيان استحالة زوال تلك القادرية : أنّ قادرية الله تعالى على إيجاد ذلك الفعل كانت ثابتة في (١) الأزل إلى الآن ، وإلّا كانت قادرية الله تعالى على إيجاد ذلك الفعل متجددة وذلك باطل اتّفاقا ، فإذا وجد الفعل فلو لم تتعلق قدرته تعالى بذلك الفعل كان ذلك زوالا لذلك التعلّق الثابت من الأزل إلى الآن فيكون ذلك عدما للقديم ، وهو محال.

__________________

(١) كذا.

١٤٢

الحادي عشر : (١) لو كان العالم محدثا لكان الله تعالى عالما بالجزئيات ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المؤثر يستحيل أن يقصد إلى الايجاد والإحداث إلّا إذا كان عالما بأنّ ذلك الشيء معدوم ، فانّه لو لم يعلم عدمه لاستحال منه القصد إلى الايجاد ، ثمّ إذا أوجد الفعل فلا بدّ وأن يصير عالما بوجوده ، وذلك يقتضي وقوع التغيير في علم الله تعالى ، وهو محال.

الثاني عشر : (٢) لو كان العالم محدثا لكان فاعله مختارا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : ظاهر ، وأمّا بطلان التالي فلوجهين :

الأوّل : ذلك الاختيار إن كان لغرض وجب أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من عدمه وإلّا لم يكن غرضا ، وإذا كان الغرض أولى له كان الله تعالى مستكملا بخلق العالم ، وهو محال.

لا يقال : إنّما يلزم الاستكمال لو كان ذلك الغرض عائدا إليه ، أمّا إذا كان عائدا إلى غيره وكان الداعي هو الإحسان إلى الغير اندفع المحذور.

لأنّا نقول : (٣) الإحسان إلى الغير إن كان بالنسبة إلى ذاته أولى من ترك الإحسان عاد الغرض إليه ، وإلّا لم يكن غرضا. ولأنّ كلّ من فعل لغرض غيره كان الفاعل أخسّ من المفعول له كالخادم والمخدوم ، ولمّا استحال أن يكون غير الله

__________________

(١) هذا الوجه مبني على علم الباري تعالى. وقد استقصى الرازي الدلائل المبنية على صفة العلم في المطالب العالية ٤ : ١٥٥ ـ ١٦٦.

(٢) راجع إلهيات النجاة (فصل في أنّ ذلك يقع لانتظار وقت ...). وهي الحجّة الرابعة من الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح والحكمة والعبث في المطالب العالية ٤ : ١٤٠.

(٣) أنظر الجواب في شرح الإشارات ٣ : ١٤٩.

١٤٣

تعالى أشرف منه استحال أن يفعل لغرض غيره.

وإن (١) كان ذلك الاختيار لا لغرض كان عبثا ، والعبث على الله تعالى محال. ولأنّه يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال.

الثاني : لو كان الله تعالى فاعلا بالاختيار فإمّا أن يجوز منه فعل القبيح أو لا ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ، فلأنّه لو جاز منه فعل القبيح لجاز إظهار المعجزة على يد الكذابين وأن يؤيدهم وينصرهم (٢) وأن يكون كاذبا في كلّ ما أخبر عنه من وعده ووعيده ، فلا يعلم انّه يثيب المطيع ويعاقب العاصي ، والعقل قاض بقبح عبادة (٣) من هو بهذه الصفات ، وذلك لا يقوله أحد من أرباب الملل.

وأمّا الثاني ، وهو أن يقال : لا يفعل القبيح فلوجهين :

الأوّل : أصحاب الملل اتّفقوا (٤) على أنّه كلّف الكافر بالإيمان مع علمه بكفره ، ووقوع ما علم أنّه لا يقع محال فيكون صدور الإيمان محالا فيكون التكليف تكليفا بالمحال ، وهو قبيح.

الثاني : الغالب في الدنيا الشرور والآفات وأنواع الآلام والعقوبات ، والقول بالعوض باطل على ما يأتي ، فبطل القول بالمختار. وهذه الشبهة عوّل عليها ابن

__________________

(١) دفع دخل مقدّر بانّه فعل العالم لا لغرض.

(٢) ولقد أجاد المصنف في عبارته وهي أفضل من عبارة الرازي : «لما أمنا أن يكون الأنبياء الذين ظهرت المعجزات على أيديهم كلّهم يكونون كذابين مع انّ الله تعالى أيديهم ونصرهم ...» ، نهاية العقول في دراية الأصول.

(٣) ق : «العبادة» ، وهو خطأ.

(٤) ق : «يتفقون».

١٤٤

الراوندي (١) وأبو زكريا الطبيب. (٢)

الثالث عشر : (٣) علّة وجود العالم جود الباري وجوده قديم أزلي (٤) ، فيكون وجود العالم أزليا.

الرابع عشر : الايجاد إحسان وفعله أفضل من تركه فلو كان العالم محدثا لكان الله تعالى تاركا للإحسان ـ الذي هو أفضل الأمور ـ مدّة غير متناهية ، وترك الأفضل نقص ، وهو على الله تعالى محال.

الخامس عشر : المفهوم من كون الله تعالى مؤثرا في العالم غير المفهوم من ذات

__________________

(١) قال بقدم العالم ، كما في الانتصار للخياط : ١٧ و ١٥٠. وله كتاب «التاج» أبطل فيه حدوث الأجسام. المصدر نفسه : ٢.

(٢) كما في التوحيد للنيسابوري : ٢٨٥ ، وفي نهاية العقول : «المتطيب». وانظر الوجه في المطالب العالية ٤ : ١٤٨.

(٣) هذا من شبه برقلس ، كما في نهاية الاقدام : ٤٥ ؛ الملل والنحل للشهرستاني ، ترجمة برقلس. ذكره القاضي عبد الجبار أيضا في المحيط : ٧٤ (وممّا يعتمدونه قولهم : إنّ الباري جواد لم يزل ...).

وجعل الرازي هذا الوجه وما يأتي بعده من الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح والحكمة والعبث. المطالب العالية ٤ : ١٣٧ و ١٣٨.

(٤) فإنّ من أسمائه الحسنى : قديم الإحسان ، دائم الفضل ، باسط اليدين بالعطية ، وكلماته لا تنفد ولا تبيد.

وقال ابن سينا في تعريف الجود : «أتعرف ما الجود؟ الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض. فلعلّ من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد ، ولعلّ من يهب ليستعيض معامل فليس بجواد. وليس العوض كلّه عينا ، بل وغيره حتى الثناء والمدح والتخلّص من المذمّة والتوصل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي. فمن جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل فهو مستعيض غير جواد. فالجواد الحقّ هو الذي يفيض منه الفوائد لا لشوق منه وطلب قصدي لشيء يعود إليه. واعلم أنّ الذي يفعل شيئا لو لم يفعله قبح به أو لم يحسن منه فهو بما يفيده من فعله متخلّص». شرح الإشارات ٣ : ١٤٥. وانظر التفصيل أيضا في «غاية الجود للواجب تعالى» في الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء : ٢٩٦.

١٤٥

الباري تعالى ومن ذات العالم ، لإمكان تعقل ذات الله تعالى وذات العالم مع الجهل بكونه تعالى مؤثرا في العالم (١) ، فمفهوم المؤثرية ليس وصفا عدميا وإلّا لكان عدم المؤثرية وجوديا ، ضرورة أنّ أحد النقيضين لا بدّ وأن يكون ثبوتيا ، لكن المعدومات يصحّ وصفها بأنّها غير مؤثرة في شيء فيلزم أن تكون المعدومات موصوفة بالصفات الثبوتية ، وهو محال ، فثبت أنّ عدم كون الشيء مؤثرا في غيره أمر عدمي فالمؤثرية صفة ثبوتية. فحينئذ نقول : لو لم يكن الباري تعالى مؤثرا في الأزل في وجود العالم ثمّ صار مؤثرا فيه لزم حدوث صفة في ذاته ، وهو محال ، فوجب أن تكون مؤثرية الباري تعالى في العالم ثابتة دائما ، وهو المطلوب.

السادس عشر : لو كان العالم محدثا لكان الله تعالى سابقا عليه بمدّة غير متناهية على ما تقدّم (٢) فيكون حدوث العالم موقوفا على انقضاء قدم (٣) المدّة الغير المتناهية وانقضاء ما لا يتناهى محال والموقوف على المحال محال ، فالتقدّم محال ، وإذا انتفى التقدّم ثبت القدم.

السابع عشر : ما رأينا شيئا حادثا إلّا من شيء ، فالبيضة لا توجد إلّا من دجاجة ولا دجاجة إلّا من بيضة (٤) فلو جوزنا حدوث العالم لا من شيء لزم تجويز خلاف القضايا المطردة ، حتى يجوز أن يدرك الأعمى الذي بالصين في الليلة الظلماء بقّة في الأندلس ولا يبصر الإنسان الصحيح الحس في النهار الواضح

__________________

(١) ولأنّها (أي المؤثرية) نسبة بينهما والنسبة مغايرة للمنتسبين. قواعد المرام : ٦٠.

(٢) في الوجه السادس.

(٣) كذا ، وفي نهاية العقول : «تلك».

(٤) وقد نقل الرازي مثالا آخر عن المتقدمين وهو : ما شاهدنا ليلا إلّا وقبله نهار ، ولا نهارا إلّا وقبله ليل ، فوجب أن يكون الأمر كذلك. وقال : «والمتكلمون شنّعوا عليهم ، وقالوا : هذا جمع بين الشاهد والغائب بمحض التحكم ، وأنّه باطل». ثمّ نقل عن الفلاسفة وجوها لدفع هذا الإشكال. راجع المصدر نفسه : ١٩١ ـ ١٩٤.

١٤٦

الجبل الذي يحضر به ، إلى غير ذلك من المحالات. والأشعرية وإن التزمت هذا لكنّا نلزمهم ما لم يلتزموه وهو أنّهم اتّفقوا على امتناع حصول العلم بدون الحياة ولا طريق إلى ذلك إلّا الاستقراء ، فإذا جوزنا حصول الأمر على خلاف ما شاهدناه ، فلم لا يجوز حصول علم بدون حياة؟ فثبت أنّا لو لم نقس الغائب على الشاهد مطلقا لزمنا القول بالسفسطة.

الثامن عشر : لو كان العالم محدثا لكان الباقي مقدورا بالله تعالى ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المفتقر إلى القادر ليس العدم السابق لأنّه نفي محض فلا تأثير للقادر فيه ، أو الوجود الحاصل ، لكن وجود الشيء حال حدوثه هو وجوده حال بقائه ، وحكم الشيء الواحد لا يختلف ، فلمّا افتقر إلى القادر حال حدوثه وجب أن يفتقر إليه حال بقائه.

وأمّا بطلان التالي ، فلاستلزامه تحصيل الحاصل ، لأنّ القادر تأثيره في تحصيل الوجود والوجود حاصل.

التاسع عشر : قالت المانوية (١) : لو كان الجسم حادثا استحال أن يكون حدوثه عدميا.

لأنّا نقول : لم يكن حادثا فصار حادثا فأحدهما نقيض للآخر فأحدهما ثبوتي ، فإذا علمنا ضرورة أنّ قولنا «ما حدث» عدمي علمنا أنّ قولنا «حدث» ثبوتي. ويستحيل أن يكون نفس الجسم ، وإلّا لكان متى ثبت الجسم ثبت حدوثه

__________________

(١) المانوية : أصحاب ماني بن فاتك (أو فتق بابك) الحكيم الثنوي صاحب القول بالنور والظلمة ، ظهر أيّام سابور بن أردشير ملك الفرس ، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور ، وذلك بعد عيسى عليه‌السلام ، اتخذ دينا بين المجوسية والنصرانية ، وكان يقول بنبوة المسيح عليه‌السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه‌السلام. راجع فهرست النديم : ٤٥٦ ؛ الشهرستاني ، الملل والنحل ، (ترجمة المانوية).

١٤٧

فالباقي حال بقائه حادث ، وهو باطل بالضرورة فهو زائد ، فإن كان قديما كان حدوث الحادث موجودا قبل وجود ذلك الحادث فالحادث حاصل قبل الحدوث ، هذا خلف. وإن كان حادثا فله حدوث ويتسلسل. وإذا أدى الحدوث إلى هذه الأقسام الباطلة كان باطلا.

لا يقال : حدوثه نفس ذاته ويلزم أن يكون الجسم حادثا أبدا ، فإنّ الجسم لا يوجد في وقت من الأوقات إلّا ويكون محكوما عليه بأنّه حادث ، ثمّ يعارض بأمرين :

الأوّل : إنّا وإن اختلفنا في حدوث الأجسام لكنّا توافقنا على حدوث الأعراض وتقسيمكم عائد فيه.

الثاني : هذا التقسيم بعينه عائد في القدم.

لأنّا نقول : لا يمكن الحكم على الجسم حال بقائه بالحدوث ، كيف والمراد منه أنّه ما كان قبل الآن موجودا وإنّما حدث الآن ، والشيء حال بقائه غير محكوم عليه بذلك بل هو حال بقائه محكوم عليه بأنّه كان قبل ذلك ، وليس كلامنا فيه بل في نفس الحدوث ، والاعراض لا نثبتها.

سلمنا ، لكن لا يبقى ، لأنّ حدوث العرض لمّا كان نفس ذاته لا جرم متى تحقّق كان حادثا ، فلهذا حكمنا أنّ العرض لا يبقى ، وأنتم التزمتم بقاء الجسم ، فإن التزمتم عدم بقائه كان مكابرة ، والجمهور منكم معترفون بفساده.

والمعارضة بالقدم باطلة ، لأنّا لا نحكم على الجسم بأنّه قديم أزلي ولذلك نحكم عليه بأنّ قدمه عين ذاته. أمّا لو قلتم بأنّ حدوثه عين ذاته يلزمكم أن يكون أبدا حادثا ولزم المحذور.

العشرون : لو كان الجسم محدثا فمحدثه إن ساواه من كلّ وجه كان محدثا

١٤٨

مفتقرا إلى محدث ويتسلسل ، وهو محال. وإن خالفه من كلّ وجه لم يكن موجودا ، لأنّ ما يخالف الموجود من كلّ وجه يكون قد خالفه في كونه موجودا ، فلا يكون موجودا. وإن ساواه من وجه دون وجه فالمحدث من الوجه الذي يساوي المحدث لا بدّ وأن يكون محدثا فيكون المحدث مركبا من القدم والحدوث ، وهو محال ، لأنّ الكلام بعينه يعود في ذلك الوجه.

الحادي والعشرون : المؤثر في الجسم إن كان موجبا لزم من قدمه قدم الجسم ، وإن كان مختارا والمختار هو الذي يكون مخيّرا بين الفعل والترك ، والترك يستحيل أن يكون عدميا ، لأنّ القادر إنّما يتخيّر فيما يكون له أثر فيه والعدم المحض لا أثر فيه وإلّا لكان العدم وجودا بل الخيرة إنّما تتحقّق بين الضدين ، فلو كان المؤثر في الجسم قادرا وجب أن يكون للجسم ضد وأن لا يخلو القادر من فعل الجسم وفعل ضدّه فهو في الأزل إن كان فاعلا للجسم كان الجسم أزليا ، وإن لم يكن فاعلا له كان فاعلا لضدّه ، وهو محال ؛ لأنّه لا يعقل للجسم ضد ، ولأنّه لو كان كذلك لكان ضدّ الجسم قديما ، والقديم يستحيل عدمه ، وإذا استحال عدم الشيء استحال وجود ضدّه فكان يلزم أن لا يوجد العالم أصلا ، فلما ثبت بطل ما ذكرتموه.

الثاني والعشرون : لو كان الجسم محدثا وجب أن لا يكون له محدث بالضرورة ، فإمّا أن يكون نفسه ، وهو محال ؛ لأنّ المحدث متقدم بالوجود على المحدث والشيء لا يتقدم على نفسه. أو غيره وهو محال ، أمّا أوّلا : فلأنّ ذلك الغير إمّا إن أثر فيه لأنّه هو لزم من دوامه دوام الجسم ، أو لا لأنّه هو فيعود التقسيم المذكور. وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك الغير إن كان موجبا عاد الإلزام ، وإن كان قادرا ، والقادر ما لم تفرض بينه وبين المقدور نسبة وتعلق ، استحال تأثيره فيه ، لكن حصول النسبة بينه وبين غيره موقوف على حصول ذلك الغير فلو كان حصول ذلك الغير لأجل تلك

١٤٩

النسبة دار.

والجواب عن الوجه الأوّل من وجوه : (١)

الوجه الأوّل : نمنع قدم الأثر لو كان المؤثر الجامع لجميع جهات المؤثرية أزليا ، فانّ قدم الأثر إنّما يتبع قدم مؤثره لو كان المؤثر موجبا ، أمّا إذا كان مختارا فلا ، فانّه يجوز بل يجب أن يتأخّر أثره عنه.

الوجه الثاني : (٢) المؤثر مستجمع لجميع جهات المؤثرية في الأزل لكنّه مختار والمختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح ، كالهارب من السبع إذا عرض له طريقان متساويان من جميع الوجوه فيما يرجع إلى مقصوده فانّه يسلك أحدهما دون الآخر لا لمرجح. والجائع إذا حضره رغيفان متساويان من كلّ وجه فانّه يتناول أحدهما من غير مرجّح ، وإن حضره واحد يتناول من بعض جوانبه دون بعض مع المساواة. والعطشان إذا حضره قدحان متساويان شرب أحدهما من غير مرجح.

الوجه الثالث : العالم إنّما حدث في ذلك الوقت لأنّ المؤثّر مختار ، والقادر إنّما يفعل أحد مقدوريه دون الثاني ، لأنّ إرادته اقتضت ترجيح ذلك المقدور على غيره.

لا يقال : لما ذا رجحت الإرادة ذلك الشيء على غيره؟

لأنّا نقول : هذا السؤال ساقط ، لأنّ الإرادة مرجّحة ومخصصة لذاتها. ولأنّها

__________________

(١) أنظر الوجه الأوّل إلى السادس في أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٣٩. راجع أيضا شرح الأصول الخمسة : ١١٥ ؛ شرح الإشارات ٣ : ١٣٠ ؛ المطالب العالية ٤ : ٤٦ ؛ تهافت الفلا سفة : ٥٠ (في إبطال قولهم بقدم العالم) ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٢٩.

(٢) تمسك به أصحاب أبي الحسن الأشعري ومن يحذو حذوه وغيرهم من المتكلمين المتأخرين. شرح الإشارات ٣ : ١٣١.

١٥٠

لو رجحت غيره لكان السؤال عائدا. وعلى هذا التقدير يلزم أن يكون كون الإرادة مرجّحة معللة بعلّة أخرى وهو محال ، لأنّ كون الإرادة مرجّحة صفة نفسية لها ، كما أنّ كون العلم بحيث يعلم به المعلوم أمر ذاتي له ولمّا استحال تعطيل الصفات الذاتية استحال تعليل كون الإرادة مرجّحة.

والمعتمد في دفع السؤال اسناد الترجيح إلى ذات الإرادة لئلا يرد عليه قول الرئيس.

لا يقال : هذا السؤال باطل لأنّه عائد في كلّ وقت.

لأنّا نقول : بل هو حقّ لأنّه عائد في كلّ وقت.

الوجه الرابع : قالت الأشعرية : إنّه تعالى عالم وعلمه متعلّق بجميع الأشياء وإذا كان كذلك كان تعالى عالما بأنّ الأشياء توجد وأنّها لا توجد ووقوع ما علم الله تعالى أنّه لا يوجد محال ، وعدم وقوع ما علم أنّه يوجد محال أيضا والإرادة لا تتعلّق بالمحال ، فلا جرم تعلّقت الإرادة بوقوع ما تعلّق العلم بوقوعه وبعدم وقوع ما تعلّق العلم بعدم وقوعه. ولمّا علم الله تعالى أنّ العالم يوجد في الوقت المعيّن أراد إيجاده فيه دون ما قبله وما بعده.

الوجه الخامس : قالت المعتزلة : إنّ الله تعالى إنّما رجح إيجاد العالم في ذلك الوقت ، لأنّ الإيجاد إحسان والإحسان أفضل من تركه ، وإنّما اختص الإيجاد بذلك الوقت لجواز أن يكون إيجاده في ذلك الوقت متضمنا لنوع مصلحة عائدة إلى المكلّف لو أوجده في وقت آخر لم تحصل تلك المصلحة ، وحينئذ يكون إيجاده في ذلك الوقت أولى من إيجاده في غيره. ولمّا دلّ الدليل على حدوث العالم ودلّ الدليل على أنّ اختصاصه بالحدوث في ذلك الوقت دون ما عداه إنّما يكون لاختصاص ذلك الوقت بمرجح ومخصص لا يوجد في غيره وجب علينا القطع بذلك وإن

١٥١

كنّا لا نقع على تفصيل تلك المصلحة. (١)

الوجه السادس : قال بعض المعتزلة : حدوث العالم قبل أن أحدثه الله تعالى محال فلهذا لم يحدثه الله تعالى فيه.

الوجه السابع : العالم محال الوجود في الأزل ، وإلّا لكان إمّا متحركا أو ساكنا وهما محالان في الأزل ، فاستحال وجود العالم في الأزل.

ولأنّ الفعل في الأزل محال ، لأنّ الفعل ما له أوّل والأزل ما لا أوّل له والجمع بينهما محال. وإذا كان ممتنعا لم يصحّ إيجاده أزلا فلهذا كان العالم حادثا عن الله تعالى وامتنع كونه قديما.

الوجه الثامن : قبل العالم لا وقت ، فلا يصحّ أن يقال : لم لا حدث العالم قبل أن يحدث؟ (٢)

الوجه التاسع : تعارض قولكم باستحالة الترجيح من غير مرجّح بأمور سبعة :

الأمر الأوّل : الفلك عند الفلاسفة جسم متشابه الأجزاء فالنقط المفروضة فيه متشابهة ، ثمّ إنّ بعضها يعيّن للقطبية (٣) دون البعض. وحصلت دائرة مخصوصة تعينت لكونها منطقة (٤) دون غيرها مع تساوي الجميع من غير مرجّح. وكذا يتعين خط لأن يكون محورا دون سائر الخطوط المتساوية من غير مرجّح.

__________________

(١) قال الرازي : «أقصى ما في الباب أن يقال : إنّا لا نعرف لذلك الوقت المعيّن خاصية معينة ، إلّا أنّا نقول : عدم علمنا بذلك لا يقدح في حصوله في ذلك الوقت» المطالب العالية ٤ : ٤٨.

(٢) وهذا قول أبي القاسم البلخي ـ وهو المعروف بالكعبي ـ ومن تبعه منهم. شرح الإشارات ٣ : ١٣١.

(٣) في النسخ : «للقطعية» ، والصحيح ما أثبتناه طبقا لما في المطالب العالية : «فاختصاص نقطتين من تلك النقط الغير المتناهية بالقطبية ...» ٤ : ٥١.

(٤) في النسخ : «منقطعة» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.

١٥٢

الأمر الثاني : حركة الفلك الأعلى على خلاف التوالي كما انّه ممكن ، فكذا حركته على التوالي ممكن أيضا فاختصاصه بالحركة من جهة دون غيرها مع تساويها ترجيح من غير مرجّح.

الأمر الثالث : جميع الحركات بأسرها متساوية النسبة إليه ، ولا ريب أنّ الحركات مختلفة بالسرعة والبطء ، فحصول سرعة معيّنة في حركة الفلك دون غيرها يكون ترجيحا من غير مرجّح.

الأمر الرابع : كلّ فلك من الأفلاك له ثخن معين وحدّ محدود مع أنّ حصوله على أكثر من ذلك الثخن أو الحدّ ، أو أقلّ ممكن ، فاختصاصه بذلك الثخن المعيّن والقدر الخاص يكون ترجيحا من غير مرجّح.

الأمر الخامس : الفلك بسيط متشابه الأجزاء من كلّ الوجوه فاختصاص جانب منه بالنقرة التي ترتكز الكواكب فيها دون سائر الجوانب يكون ترجيحا للشيء على ما هو مثله من غير سبب.

الأمر السادس : الفلك بسيط فاختصاص كلّ واحد من التداوير والأوجات والحضيضات بجانب معيّن منه دون جانب مع تساوي سائر الجوانب ، وإلّا لم يكن بسيطا ، ترجيح من غير مرجّح.

الأمر السابع : الفلك الممثل في كلّ كوكب له فلك ممثل يشمل على فلك خارج المركز وعلى متمم ، فاختصاص جانب من متممات الأفلاك الخارجة المركز بالغلظ دون الجانب الآخر ترجيح من غير مرجّح.

الأمر الثامن : العالم عندكم قديم لكن لا شكّ في حدوث الاعراض والتراكيب فاختصاص حدوث كلّ واحد منها بالوقت المعيّن دون الوقت الذي حدث فيه مثله يكون ترجيحا من غير مرجّح ، فلزمكم في الصفات المحدثة ما ألزمتمونا في حدوث العالم.

١٥٣

الأمر التاسع : اتصاف مادة كلّ عضو بصورته إمّا أن يكون لاستحقاق تلك المادة لتلك الصورة أو لا يكون كذلك ، فإن كان الأوّل لم يكن ذلك الاستحقاق للجسمية المشترك فيها بل لأمر ورائها فيكون كلّ جزء من حامل ذلك الاستحقاق موصوفا به والقوّة القائمة بحامل ذلك الاستحقاق كذلك. فإمّا أن يكون تأثير القوّة في ذلك الجسم تأثيرا متشابها ، والجسم الذي يكون متشابه الشكل هو الكرة ، فتكون أعضاء الحيوانات على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض ، هذا خلف. أو لا يكون تأثيرها فيها متشابها مع أنّ نسبتها إلى جميع أجزاء الحامل على السوية فقد جوزتم في الموجب أن يترجح بعض آثاره على البعض مع استواء نسبته إلى الكل ، فإن جوزتموه في الموجب فتجويزه في القادر أولى. وإن كان الثاني كان واهب الصورة قد خصص كلّ واحد من مواد الأعضاء بصورة مخصوصة مع أنّ نسبة جميع تلك (١) المواد إلى جميع تلك الصور على السواء وذلك يقدح في أصل دليلكم.

قالت الفلاسفة : حاصل أجوبتكم كلّها يرجع إلى شيء واحد وهو أنّكم اخترتم (٢) أنّ كلّ ما لا بدّ منه في المؤثرية لم يكن حاصلا في الأزل. (٣)

أمّا أوّلا : فلأنّ الفعل (٤) لم يكن ممكنا في الأزل فشرط جوازه ووجوده عن المؤثر انتفاء الأزل ، وانتفاء الأزل لم يكن ثابتا في الأزل ، فلا يكون شرط التأثير موجودا ، فلا يكون كلّ ما لا بدّ منه في المؤثرية حاصلا في الأزل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ شرط الوجود ترجيح القادر وذلك الترجيح لم يكن حاصلا

__________________

(١) «تلك» ساقطة في ق.

(٢) ق : «أجزتم».

(٣) أو أنّ الممكن لا يحتاج إلى المرجّح. المطالب العالية ٤ : ٥٩.

(٤) ق : «العقل».

١٥٤

في الأزل ، وإلّا لوجد العالم في الأزل ، فلم يكن كلّ ما لا بدّ منه في المؤثرية حاصلا في الأزل.

وأمّا ثالثا : فلأنّ شرط التأثير الإرادة المتعلقة بذلك الوقت الذي حدث فيه وذلك الوقت لم يكن حاصلا في الأزل ، فلا يكون كلّ ما لا بدّ منه في المؤثرية حاصلا في الأزل.

وأمّا رابعا : فلأنّ شرط التأثير حصول الوقت الذي تعلّق العلم بإيجاده فيه وذلك الوقت لم يكن حاصلا في الأزل ، فلا يكون كلّ ما لا بدّ منه في المؤثرية حاصلا في الأزل.

وأمّا خامسا : فلأنّ شرط الايجاد حصول المصلحة وتلك المصلحة لم تكن حاصلة إلّا في وقت إيجاده ، فلا يكون كلّ ما لا بدّ منه في المؤثرية حاصلا في الأزل.

وأمّا سادسا : فلأنّ الوقت الذي يمكن فيه وجود العالم شرط لوجود العالم وهو جزء من المؤثر التام ، ولم يكن حاصلا في الأزل.

وأمّا سابعا : فلأنّ الأزلية إذا كانت مانعة من (١) وجود العالم كان نفيها شرطا في إيجاده ونفيها لم يكن حاصلا في الأزل ، فلم يكن ما لا بدّ له في المؤثرية حاصلا في الأزل.

فظهر أنّ حاصل هذه الأجوبة كلّها راجع إلى أحد القسمين اللذين أبطلناهما ، وهو أنّ كلّ ما لا بدّ له في المؤثرية لم يكن حاصلا في الأزل.

وأمّا ثامنا : فلأنّ شرط حدوث العالم حضور وقته وقبل العالم لا وقت ، فلم يكن الشرط حاصلا في الأزل.

ثمّ نجيب عن كلّ واحد واحد على التفصيل :

__________________

(١) ق : «في».

١٥٥

أمّا الأوّل : فلأنّ هذا المختار إمّا أن لا يمكنه إيجاد العالم في وقت آخر أو يمكنه ذلك فإن لم يمكنه ذلك فهو إمّا أن يكون لأجل خاصيّة في هذا الوقت أو لا لخاصيّة فيه ، والأوّل باطل لتساوي الأوقات كلّها في الماهية بالضرورة فيستحيل أن يختصّ الواحد منها بحكم واجب.

وأيضا صحّة حدوث العالم في نفسه وصحّة محدثية الباري تعالى له إن اختصتا بذلك

الوقت كانتا قبله ممتنعتين لذاتيهما ثمّ انقلبتا إلى الإمكان ، وانقلاب الحقائق محال لافضائه إلى السفسطة ويلزم نفي الصانع على ما تقدّم. وإن لم تختصا بذلك الوقت كان المؤثر متمكنا من التأثير في غير ذلك الوقت.

وأيضا فذلك الوقت إن امتاز عن سائر الأوقات في اختصاصه بهذه الصحّة كان ذلك الوقت موجودا قبل حدوث العالم ، وهو يقتضي قدم الزمان. ولأنّ الوقت من العالم فيكون العالم موجودا قبل أن يكون موجودا.

وأيضا فتلك الصحّة لمّا لم تكن حاصلة قبل ذلك الوقت ثمّ حصلت فيه فإن لم يكن لها مؤثر أصلا فقد حدث الشيء لا عن مؤثر ، وهو محال ويسدّ باب إثبات الصانع. وإن كان لها مؤثر نقلنا الكلام إلى صحّة تأثير ذلك المؤثر في تلك الصحّة أنّها مختصة بذلك الوقت أو غير مختصة ، ويعود الكلام الأوّل بعينه.

وإن لم يكن لخاصيّة في ذلك الوقت كانت تلك المؤثرية الواجبة غير موقوفة على اعتبار شيء من الأوقات ومتى كان كذلك وجب دوام تلك المؤثرية.

وأمّا إن كان الفاعل مختارا يمكنه أن لا يوجد العالم في الوقت الذي أوجده فيه فيكون إيجاد العالم في الوقت الذي أوجده فيه ممكنا فيحتاج إلى المؤثر ، ويعود الإشكال.

لا يقال : القادر يرجح لا لأمر ، كالهارب من السبع وشبهه. أو أنّ الإرادة الأزلية خصصت ترجيح المقدور على غيره لذاتها في وقت معين.

١٥٦

لأنّا نقول : تقدم إبطال الترجيح من غير مرجّح ، وسيأتي هنا. والقادر إن لم يمكنه اختيار العالم في غير ذلك الوقت فهو موجب. ولأنّ اختيار إيقاع ذلك الفعل يبطل عند وقوعه ، فذلك الاختيار لا يكون واجبا لذاته ولا من لوازم ذاته ، فيكون وجوبه تعالى غير ذاته وهو محال ؛ لأنّ ما عدا ذاته يستند إلى اختياره فلا يجوز أن يكون اختياره مستندا إلى ما عدا ذاته. وإن أمكنه لم يترجح أحد الاختيارين إلّا لمرجّح ، فإن كان اختيارا آخر تسلسل أو انتهى إلى ذاته ، وذلك عودا إلى ما قلناه.

وأمّا الثاني : فهو باطل ، لأنّ العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر ، فلو جوزنا ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجّح لم يمكننا أن نحكم في شيء من الممكنات باحتياجه إلى المؤثر ، وهو يسدّ باب إثبات الصانع. ونمنع تساوي الطرفين في صورة الهارب من كلّ الوجوه.

سلّمنا ، لكنّه يرجّح لأنّه يعتقد ترجيح أحدهما على الآخر من بعض الوجوه أو يغفل عن أحدهما ، فأمّا لو اعتقد تساويهما من كلّ الوجوه فانّه يستحيل منه والحال هذه أن يسلك أحدهما ، لأنّ الإنسان إذا تعارضت دواعيه إلى الحركات المتضادة فانّه يقف في ذلك الموضع ولا يمكنه أن يتحرك إلّا عند المرجّح.

أو نقول : لا نسلّم انتفاء المرجّح فجاز أن يرجّح أحدهما لأمر لا نعلمه وكذا باقي الصور. وأيضا لمّا تساوى الفعل والترك بالنسبة إلى القادر كان وقوع أحدهما من غير مرجح اتفاقا وحينئذ يجوز في سائر الحوادث ذلك ويلزم نفي الصانع.

وأيضا لمّا استويا بالنسبة إليه فترجّح أحدهما إن لم يتوقف على نوع مرجّح منه كان وقوعه لا بايقاعه بل من غير سبب فيلزم نفي الصانع ، وإن توقّف عاد التقسيم فيه أنّه هل كان حاصلا في الأزل أم لا؟

وأمّا الثالث : فباطل ، لأنّا لا نعلل أصل كون الإرادة مرجّحة بل نعلل كونها

١٥٧

مرجّحة لهذا الشيء على ضدّه ، ولا يلزم من تعليل خصوص المرجّحية تعليل أصل المرجّحية ، فإنّ الممكن لمّا دار بين الوجود والعدم حكمنا بأنّه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجح ، ولا يكون ذلك تعليلا لأصل كونه ممكنا ، فكذا هنا. والحاصل أنّ كون الإرادة مقتضية للترجيح ذاتي ، فأمّا هذا الترجيح فلا.

لا يقال : لو كانت مرجّحية المعيّنة مقتضية علّة لكان مطلق مرجّحيته مقتضيا علّة.

لأنّا نقول : الملازمة ممنوعة ، لأنّ المرجّحية المطلقة لا توجد وإنّما الموجود مرجّحية خاصة وهي واقعة على نعت الجواز فتستدعي مسببا ، كما أنّ الممكنات دائما مستدعية مؤثرا لا من حيث إنّها ممكنة بل من حيث إنّها لا تخلو عن طرفي الوجود والعدم اللذين هما متعلّق الإمكان.

وأيضا إرادته إن لم تكن صالحة لتعلّق إيجاده في سائر الأوقات كان موجبا بالذات فلزم قدم العالم. وإن كانت صالحة فترجّح بعض الأوقات بالتعلق إن لم يتوقف على مرجّح وقع الممكن لا عن المرجّح. وإن توقّف عاد الكلام فيه وتسلسل.

وأيضا تعلّق إرادته بإيجاده إن لم يكن مشروطا بوقت ما لزم قدم المراد ، وإن كان مشروطا به كان ذلك الوقت حاضرا في الأزل ، وإلّا عاد الكلام في كيفية احداثه ويتسلسل.

وأمّا الرابع : فباطل ، لأنّ العلم بالوقوع تبع (١) الوقوع ووقوع ذلك الشيء تبع الأمر الذي خصصه بالوقوع دون مثله وهو الإرادة فلو عللنا تعلّق الإرادة بوقوعه بتعلق علم الله بوقوعه دار. وأيضا تغير المعلوم محال فيمتنع عقلا إحداثه في وقت علم عدم حدوثه فيه وعدم إحداثه في وقت علم حدوثه فيه ، وهو يقتضي كونه

__________________

(١) ق : «مع».

١٥٨

موجبا بالذات.

وأمّا الخامس : فباطل أيضا ، لأنّ المصلحة التي تحصل من خلق الله تعالى العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات إن أمكن حصولها بتقدير خلق الله تعالى العالم في وقت آخر ، لم يكن ذلك مرجّحا لذلك الوقت على سائر الأوقات. وإن لم يمكن حصولها في سائر الأوقات فيكون حصول تلك المصلحة بتقدير حدوث العالم في وقت آخر محالا ، فتلك الاستحالة إمّا أن تكون لعين الشيء وذاته أو لأمر لازم أو لأمر عارض ، والأقسام باطلة لما مرّ.

وأيضا فلأنّا نعلم بالضرورة انّا لو قدّرنا أنّ الله تعالى خلق العالم قبل خلقه بآن واحد أو خلقه أزيد من المقدار الذي خلقه بجزء لا يتجزأ أو أنقص منه بذلك المقدار لم يختلف بسبب ذلك شيء من مصالح المكلّفين لا سيّما إذا لم يخلق الله تعالى فيهم علما بذلك.

وأيضا حدوث وقت تلك المصلحة إن كان لا لمحدث لزم نفي الصانع ، وإن كان لمحدث عاد الكلام فيه.

وأيضا تلك المصلحة إن كانت حاصلة قبل ذلك الوقت لزم حدوثه قبله ، وإن وجب حدوثه في ذلك الوقت جاز في غير ذلك ولزم نفي الصانع ، وإن لم يجب عاد الكلام في اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة وتسلسل.

ولأنّ فاعلية الله تعالى إن اعتبر فيها رعاية المصالح وجب فيما لا مصلحة فيه أن لا يوجده ، لكن خلق الكافر وتكليفه مع العلم بانّه لا يستوجب إلّا العقاب ليس مصلحة فوجب أن لا يوجد. وإن لم تعتبر فيها تلك بطل أصل الجواب.

وأمّا السادس : فباطل لما تقدّم من امتناع انقلاب الممتنع لذاته ممكنا لذاته. ولأنّ الماهية لا يمتنع قبولها للوجود أو لا قبولها له ، فيكون شاملا للأوقات.

١٥٩

وأمّا السابع : فباطل بما تقدّم من أنّ التأثير لا يستدعي تقدّم العدم. وأيضا يعارض بأنّه لو وقع العالم قبل الوقت الذي وقع فيه بمقدار سنة فقط لم يصر بذلك أزليا فحينئذ يتحقّق الإشكال وهو أنّ إمكان حدوث العالم ليس له ابتداء ، إذ لا وقت يفرض أن يكون مبدأ للإمكان إلّا وهو ممكن الحدوث قبله وأنّه لا يصير أزليا بأن يوجد قبله بآن واحد. وإذا امتنع أن يكون لإمكانه مبدأ ثبت أنّه دائما ممكن الثبوت. (١)

وأمّا المعارضات فضعيفة. (٢)

أمّا الأوّل : فلأنّ تعين النقطتين للقطبية وتعين تلك الدائرة للمنطقية والخط للمحورية إنّما كان لأجل أنّ الفلك إذا تحرك على الوجه الذي تحرك عليه فانّه يستحيل عقلا أن تصير سائر النقط وسائر الدوائر منطقة ، فإذن تعيّن الأقطاب والمناطق بسبب تعين الحركات. وتعين الحركات لأمور ثلاثة :

الأوّل : إنّ نظام العالم السفلي لا يحصل إلّا بالحركة على هذا الوجه.

الثاني : الحركة من المشرق إلى المغرب مضادة للحركة من المغرب إلى المشرق

__________________

(١) ق : «القبول».

(٢) قال الرازي : «واعلم أنّا قبل الخوض في الجوابات المفصلة نذكر كلاما كليا عقليا في دفعها : فنقول : إنّ النقوض المذكورة ، إنّما أوردتموها على قولنا : الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح. فهل أنتم تعترفون بصحّة هذه المقدمة أو تنكرونها؟ فإن سلمتم صحّتها فقد زالت تلك النقوض وتلك المعارضات ، لانّها بأسرها واردة على هذه المقدمة فلما كانت هذه المقدمة صحيحة كانت تلك النقوض والمعارضات كلّها فاسدة مدفوعة باطلة. وأمّا إن منعتم صحّة هذه المقدمة ، فحينئذ لا يمكنكم أن تستدلوا بإمكان الممكنات وحدوث المحدثات على وجود موجود واجب الوجود ، وذلك في نهاية الفساد والبطلان. فهذا كلام كلي في دفع هذه النقوض والمعارضات على سبيل الإجمال». المطالب العالية ٤ : ٧٩.

١٦٠