نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

غلطا ، فإنّ جميع هذه الأوصاف من لواحق الأحكام. اللهمّ إلّا إذا قارن المحسوس حكم غير مأخوذ من الحس وحينئذ يوصف بهذه الأوصاف من حيث كونه حكما ، ويقال له حكم يقيني أو غير يقيني.

وإذا تقرر هذا ، ثبت أنّ قولهم : المحسوسات ليست يقينية ، ليست بمحسوسات فقط (١) ، فإنّها لا يمكن أن تكون يقينية أو غير يقينية بمعنى عدم الملكة ، إنّما هي ليست يقينية بمعنى السلب ، كما أنّ الإدراك وحده ليس حكما.

وإذا كانت المحسوسات مقارنة باعتبار كونها مطابقة أو غير مطابقة ، أو صوابا أو غلطا ، فادّعاء أنّ المحسوسات لا تكون يقينية عند جماعة من الحكماء كأفلاطون وأرسطو وبطليموس وجالينوس ، حيث زعموا أنّ اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات ، كما نقله فخر الدين عنهم غير صحيح ؛ لأنّ الحكماء ذكروا أنّ مبادئ اليقينيات هي الأوّليات والمحسوسات والمجرّبات والمتواترات والحدسيات ، وسمّوها بالقضايا الواجب قبولها. (٢) وذكروا أنّ مبادئ المجرّبات والمتواترات والحدسيات هي الإحساس بالجزئيات ، وأنّ الأوّليات يكتسبها الصبيان باستعداد يحصل لهم من الإحساس بالجزئيات. ولذلك حكم كبير الجماعة بأنّ «من فقد حسّا فقد علما» وأنّ أصول أكثر العلم الطبيعي كالعلم بالسماء والعالم ، والعلم بالكون والفساد ، وبالآثار العلوية ، وبأحكام النبات ، والحيوان ، مأخوذ من الحس ؛ وعلم الارصاد والهيئة المبنية عليها عند بطليموس ، وعلم التجارب الطبية عند جالينوس مأخوذ من المحسوسات ، وعلم المناظر والمرايا ، وعلم جرّ الأثقال والحيل الرياضية كلّها مبنية على الإحساس وأحكام

__________________

(١) العبارة في المصدر : (ثبت أنّ المحسوسات في قوله : «إنّ اليقينيّات هي المعقولات لا المحسوسات» ليست بمحسوسات فقط).

(٢) انظر تعريف هذه القضايا في شرح الإشارات ١ : ٢١٤ وما يليها.

١٠١

المحسوسات. فإذن جلّ أقاويلهم يقتضي الوقوف بالمحسوسات التي هي مبادئ جميع العلوم ، فكيف ساغ له (١) أن ينقل عنهم أنّهم قالوا : المحسوسات لا تكون يقينية؟ بل أنّهم بيّنوا أحكام العقل في المحسوسات أيّها تكون يقينية ، وأيّها تكون غير يقينية.

فإذن الصواب والخطأ إنّما يعرضان للأحكام العقلية ، لا على المحسوسات من حيث هي محسوسات. ولو كانت الأحكام التي تقع في معرض الغلط غير موثوق بها ، لكانت المعقولات الصرفة أيضا غير موثوق بها ؛ لكثرة وقوع الغلط للعقلاء فيها ، ولما جعل لبيان مواضع الغلط في المعقولات ولا في المحسوسات صناعة كصناعتي سوفسطيقا والمناظر.

وإذا تمهّد هذا فالنظر والبحث لا يمكن تمهيدهما إلّا بعد حصول العلم والاتفاق في مقدمات هي المبادئ ، ولو لم تكن المبادئ الأولى معلومة أو موضوعة لم يمكن نظر في شيء ولا بحث عن شيء ، فإنّ النظر والبحث يقتضيان التأدي من أصل حاصل إلى فرع مستحصل ، وإذا لم يكن الأصل حاصلا ، امتنع التأدي من لا شيء إلى شيء ، ولهذا لم يمكن البحث مع منكري المحسوسات والأوّليات أصلا ، ومن يتكلّم معهم يقصد إرشادهم وتنبيههم أو تحصيل اعتراف منهم بنوع من الحيل إلى أن يحصل لهم استعداد أن ينظروا في شيء أو استحقاق أن يباحثوا في شيء.

فإذن الشكوك التي أوردها على لسان قوم مفروض يعبّر عنهم بالسوفسطائية ، فإنّه لا تستحق الجواب أصلا. إنّما يجاب من يثق أو يعترف بالوقوف على الأوّليات والمحسوسات ، ببيان التفصّي عن مضائق مواضع الغلط بذكر أسباب الغلط وإحالة تصويب الصواب ، وتخطئة الخطأ بعد ذلك إلى

__________________

(١) أي للرازي صاحب المحصل.

١٠٢

صريح العقل المرتاض برفض العقائد الباطلة والتقليدات الواهية والعادات المضلّة. على أنّ الحس لا حكم له لا في الجزئيات ولا في الكليات كما تقدّم.

أمّا أنّ البصر قد يدرك الصغير كبيرا فعليه كلام ، وهو أنّ البصر إذا أدرك الشيء صغيرا لم يدركه معه كبيرا ولا بالعكس ، والحاكم بأنّ المدرك في الحالتين شيء واحد لا يمكن أن يكون هو البصر ؛ لأنّ الحاكم لا يحكم إلّا عند إدراكه في الحالتين معا ، فإذن هو العقل بتوسط الخيال.

وهذا الغلط إنّما توهمه العقل لا البصر. وذلك العقل حكم على الشيء المرتسم في الخيال بالصغر ، إذا البصر أحسّ به كذلك ، ثمّ وجد البصر أحسّ به كبيرا ، فتوهم أنّ البصر غلط في إبصاره ، ولم يغلط هو ؛ لأنّ الإبصار يكون إمّا بانطباع شبح المبصر في البصر وإمّا بوقوع شعاع من البصر على المبصر ، والأقرب إلى الحقّ هو الأخير.

وينبغي أن لا يلتفت إلى من يبطل القول بالشعاع ، بأنّ الشعاع إن كان جسما لزم تداخل الأجسام ، وإن كان عرضا لزم القول بانتقال العرض من محلّ إلى محلّ آخر ؛ لأنّ شعاع النيرات كالشمس والقمر والنار موجود يقينا ، فما به يندفع المحالان هناك ؛ يندفع به بعينه هنا.

ثمّ إنّ الشعاع يمتد من ذي الشعاع إلى قابل الشعاع من غير تخلّل خلل خال عن الشعاع ، أو تراكم اجتماع شعاعين من مأخذ واحد من ذلك الممتدّ في بعض أجزاء امتداده ، بل على هيئة مخروط مستدير مملوء جوفه ، رأسه عند ذي الشعاع ، وقاعدته على سطح قابل الشعاع الكثيف ، وينعكس منه إذا كان صقيلا إلى ما يحاذيه على زاوية مساوية للزاوية الحادثة بين الشعاع الممتد والسطح الصقيل ، ونسميه زاوية الشعاع ، وينفذ في القابل الشفاف ذي السطح الصّقيل ، وينعكس عن سطحه وينعطف في ثخنه إلى جانب ذي الشعاع كلّها ،

١٠٣

والانعكاس والانعطاف يكونان بزاويتين مساويتين لزاوية الشعاع. قد بيّن جميع هذا في مواضعه.

والشعاع البصري في أكثر الحيوانات يحتاج إلى مدد من جنسه ، أعني إلى شعاع شيء من الأجسام ذوات الأشعة ، ويستعان في تخيّل كيفية اتصاله بالمبصرات بتوهّم خطوط تخرج من سطح المخروط الشعاعي ، ويكون الإبصار بزاوية تحدث من تلك الخطوط عند رأس المخروط.

فكلّما كان البصر أقرب إلى المبصر ، تكون تلك الزاوية أوسع ، فيراه البصر أعظم. وكلّما كان أبعد منه تكون تلك الزاوية أضيق ، فيراه البصر أصغر ، إلى أن تتقارب الخطوط وتصير عند الحس لتوهم انطباق بعضها على بعض كخط واحد ، فيراه البصر كنقطة ، وبعد ذلك ينمحى أثره فلا نراه أصلا. هذا على رأي القائلين بالشعاع.

وأمّا القائلون بالانطباع فيقولون : إنّ الزاوية التي تحدث على سطح الرطوبة الجليديّة تصغر وتكبر بحسب بعد المرئي وقربه ، والبصر يدرك المرئي بتلك الزاوية.

وإذا تقررت قاعدة الشعاع ، فالنار في الظلمة إذا كانت قريبة من الرائي نفذ الشعاع في الظلمة الرقيقة إلى الهواء المضيء بمجاورة النار ، فيرى البصر ما حولها بمعونة من نورها وقربها (١) منها ، فيراها على ما تقتضيها زاوية الإبصار. وإذا كانت بعيدة جدا لم ينفذ الشعاع في الظلمة الكثيفة ، فلم ير ما حولها من الهواء (٢) المضيء بنورها ويراها وحدها بزاوية أصغر فيراها أصغر ، كما في سائر المرئيات. وإذا لم تكن قريبة ولا بعيدة جدّا فإنّ الشعاع البصري المحاذي لما حولها

__________________

(١) في المصدر : «ميّزها».

(٢) في المصدر : «النور».

١٠٤

لم ينفذ في الظلمة نفوذا تامّا ، فلم يميّز النار عن الهواء المضيء بها ، بل أدركهما معا جملة واحدة فيراها البصر بزاوية أوسع من الزاوية التي تحدث من المحاذاة وحدها ، وذلك هو العلة لكونها في الرؤية أعظم ممّا لو رؤيت في غير الظلمة المذكورة بالمحاذاة وحدها.

وأمّا السبب في رؤية العنبة في الماء كالاجاصة ، فهو أنّ العنبة ترى في الماء بامتداد شعاعي النافذ في الماء والمنعطف معا ، ولا يتمايز الشعاعان لقربهما من سطح الماء. وأمّا في الهواء فيراها بالنافذ وحده. وهذا إذا كانت العنبة قريبة من سطح الماء ؛ أمّا إذا صارت بعيدة وصار الشعاعان متمايزين فيراها بالنافذة والمنعطفة في موضعين متمايزين في حالة واحدة.

وأمّا رؤية الخاتم كالسّوار عند قربه من العين ، فلتوسع الزاوية الشعاعية التي تحيط أضلاعها بالخاتم عند العين. وإدراك الأشياء البعيدة صغيرة لضيق تلك الزاوية. (١)

والجواب : المنع من كون الجزم بالبديهيات ليس أقوى من الجزم بالمحسوسات. وكون البديهيات فرعا ، ممنوع. نعم بعض البديهيات قد يؤدي الحس إليها ، لكن لا يجب في التأدية أن يكون المؤدي أقوى من المؤدى إليه ، فإنّ الحركة الثبوتية قد تؤدي إلى السكون العدمي والموجود أقوى من المعدوم. والاستعداد شرط في حصول الكمال ، وليس أقوى من الكمال. (٢)

ولأنّ الظن قد يكون أصلا للضروري ، كالمتواتر فإنّه علم ضروري يحصل من إخبارات متعاقبة ، كلّ واحد منها يفيد الظن ، فإذا تضافرت تلك الأخبار وتعاضدت بعضها ببعض حصل العلم الضروري.

__________________

(١) انتهى كلام الطوسي في نقد المحصل : ١٢ ـ ١٧.

(٢) راجع نفس المصدر : ٢٦.

١٠٥

ولأنّ التصديق فرع على التصوّر ، وقد بيّنا جواز كون التصور كسبيا والتصديق بديهيا.

والحكم لا شكّ في استناده إلى العقل ، لكن الحس قد يكون مبدأ له ، فتنسب مثل هذه إلى الحس ويخص بالقضايا المحسوسة أي التي حكم بها العقل بواسطة الاستعانة بالحس. ومثل هذه الأحكام قد تحصل في الكليات كما تحصل في الجزئيات ؛ فإنّ قولنا هذه النار حارة حكم عقلي مستند إلى الحس ، وكذا قولنا كلّ نار حارة (١) ، لكن الفرق بينهما كلية موضوع الثانية وتجرّده عن الغواشي المادية ، بخلاف القضية الأخرى ، لكنّهما اشتركتا في أنّ مبدأ الحكم الحس وتعدادهما معا في المحسوسات.

وفي كلام أفضل المحققين نظر ؛ فإنّ اليقين وصف للحكم بعدم احتماله للنقيض. وإنّما عنوا بكون المحسوسات يقينية أو غير يقينية أحكام العقل في المحسوسات. وإنّما حكم الجماعة بكون الحس غير يقيني ؛ لأنّه في معرض الغلط على ما يأتي ، وإنّما يوثق به إذا قارنه حكم العقل بالصحّة كما قال ، بل إنّهم بيّنوا أحكام العقل في المحسوسات أيّها تكون يقينية وأيّها تكون غير يقينية ، والعقل إنّما يعرض له الغلط ، إلّا (٢) باعتبار معارضة الوهم إياه ، أمّا المجرّد فلا.

ونهيه عن الالتفات إلى من يبطل القول بالشعاع ، غير مقبول لم يزد فيه عدا المشورة ، والحجة المبطلة له لا تندفع بأشعة النيرات.

لأنّا نقول : ذلك الشعاع عرض يحدث في المقابل للنير المستعد لقبول الشعاع ، لا أنّه ينزل من النير إليه كما توهمه بعضهم. وسيأتي البحث فيه إن شاء

__________________

(١) قال الطوسي : «وأمّا الحكم بأنّ كلّ نار حارّة فحكم عقليّ استفاده العقل من الإحساس بجزئيات ذلك الحكم» شرح الإشارات ١ : ٢١٦.

(٢) كذا.

١٠٦

الله تعالى.

والسبب الذي ذكره في كبر المرئي وصغره مشكل.

لأنّا نقول : إن كان صغر الزاوية مؤثرا في صغر المرئي ، ومن المعلوم بالضرورة أنّ الزاوية الحادثة عند العين لا تبلغ في الكبر إلى حيث يتسع للجبل.

وأمّا القائلون بالانطباع ، فالزاوية التي ذكرها متوهمة لا حاصلة بالفعل ، والإشكال فيها عائد سيأتي.

وأمّا رؤية الصغير كبيرا ، ففيه إشكال ، لأنّ للعنبة مثلا مقدارا خارج الماء وفيه ، والحس يؤدي مقدارها خارج الماء وفيه ، والعقل يحكم تارة بالتساوي وأخرى بالتفاوت.

إذا تقرر هذا فنقول : إنّ مقدارها الحقيقي هو مقدارها المشاهد خارج الماء. ومقدارها الحسي هو مقدارها المشاهد في الماء. والعقل يحكم بأنّ مقدارها في نفس الأمر في الحالتين واحد ، وأنّه لا زيادة لأحدهما في نفس الأمر على الآخر ، وهذا الحكم لا شكّ في أنّه صواب ، ولا شكّ أنّ الحس يؤدي العنبة على شكل حال كونها في الماء ويحكم العقل بأنّ ذلك الشكل الذي أداه الحس أكبر من الشكل الذي أداه حال كونها خارجة الماء في الحس. وهذا الحكم لا شكّ في أنّه صواب أيضا. بقي أن حكمنا : بأنّ هذا الشكل هو شكلها في نفس الأمر كان خطأ ، لكنّه لا نحكم بذلك ، فالغلط حينئذ لم يقع إلّا في تأدية الحس.

ب (١) : قد نرى الواحد اثنين كما إذا غمزنا إحدى العينين ونظرنا إلى القمر فإنّا نرى قمرين ، وكما في حقّ الأحول ، وكما إذا نظرنا إلى الماء عند طلوع القمر فإنّا

__________________

(١) هذا هو الوجه الثاني لقوله : بيان الأوّل (وهو أنّ الحس في معرض الغلط) من وجوه. راجع نقد المحصل : ١٧ و ١٨.

١٠٧

نرى في الماء قمرا وعلى السماء قمرا آخر ، ونرى الأشياء الكثيرة واحدة ، كالرحى إذا أخرجنا من مركزها إلى محيطها خطوطا كثيرة متقاربة بألوان مختلفة ، فإذا استدارت سريعا رأينا لها لونا واحدا كأنّه ممتزج من تلك الألوان.

قال أفضل المحققين : سبب رؤية الواحد اثنين (١) : أنّ النور البصري ممتد من الدماغ في عصبتين مجوفتين تتلاقيان قبل وصولهما إلى العينين ثمّ تتباعدان ، وتتصل كلّ واحدة منهما بواحدة من العينين. وإذا كانتا مستقيمتين تبصران الشيء معا شيئا واحدا. وإن انحرفتا أو انحرفت إحداهما عن الاستقامة ، صارت محاذاة إحداهما منحرفة عن محاذاة الأخرى ، وصار المبصر من إحداهما غير المبصر من الأخرى ، فإذا أبصرتا شيئا واحدا حسبه المبصر شيئين لوقوع نور بصره عليه من محاذاتين متخالفتين وحكم العقل بالغلط ، وهكذا الحكم إذا تخالفت الوسطى والسبّابة من الأصابع في وضعهما وأحسّتا معا شيئا واحدا ، كحمّصة توهم أنّهما أحسّتا بحمصتين.

والأحول الفطري قلّما يرى الشيء شيئين لاعتياده بالوقوف على الصواب ، بل إنّما يقع ذلك للأحول الذي يقصد الحول تكلفا.

وأمّا رؤية القمر قمرين ، فلأنّ هذا يكون بنفوذ الشعاع البصري إلى قمر السماء وانعكاسه من سطح الماء إليه ، فإنّه يراه مرّتين ، مرة بالشعاع النافذ ، ومرة بالشعاع المنعكس.

وأمّا رؤية الألوان على الرحا لونا واحدا ، فلأنّ كلّ ما يدركه الحس الظاهر فإنّه يتأدّى إلى الحس المشترك ثمّ يتأدّى إلى الخيال ، فإذا أدرك البصر لونا وانتقل بسرعة إلى لون آخر ، كان أثر اللون الأوّل في الحس المشترك عند إدراك اللون الثاني ،

__________________

(١) راجع الفصل الثامن من المقالة الثالثة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء قوله : «في سبب رؤية الشيء الواحد كشيئين».

١٠٨

فكأنّ الرائي رآهما معا ، ولا يكون بينهما زمان يمكن للنفس تميّز أحدهما فيه من الثاني ، فتدركهما ممتزجين ، وإن كان الإدراك بالشيئين. (١)

وأيضا إن زالت الألوان عن محاذاة البصر وارتسمت في الحس المشترك على توال لا يدرك الحس تراخي بعضها عن بعض ، أدركت النفس من الحس المشترك لونا ممتزجا من جميعها. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ البحث الذي ذكرناه أوّلا في كبر الصغير آت هاهنا. وبقاء اللون الأوّل في الحس المشترك حال زواله عن البصر ، يقتضي بطلان دليل الخيال ؛ لأنّه إذا جاز بقاؤه ولو زمنا يسيرا جاز طويلا. وأيضا اللون الثاني إن حلّ في المحل الذي حلّ فيه الأول فإن بقي الأول في مكانه لزم اجتماع الضدين ، وإن فارق كان الأوّل مدركا على حدّ صرافته ، والثاني كذلك ، فلا يكون هنا لون ممتزج.

ج : قد نرى المعدوم موجودا كالسّراب ، والأشياء التي يريها صاحب خفّة اليد والشعبذة ، وكما نرى القطرة النازلة كالخط المستقيم ، والشعلة الدائرة بسرعة كالدائرة. (٣)

قال أفضل المحققين : السراب المرئي ليس معدوما مطلقا ، إنّما هو شيء يتراءى للبصر بسبب ترجرج شعاع ينعكس من أرض سبخة ، كما ينعكس عن المياه فيحسب ماء ، وليس للبصر فيه غلط. والأشياء التي يريها خفيف اليد والمشعبذ إنّما تكون في التوهم ، بخلاف ما يكون في الوجود ، بسبب عدم تمييز النفس بين الشيء وبين ما يشبهه ، إمّا بسبب سرعة الحركة من الشيء إلى شبهه.

__________________

(١) في المصدر : «بآلتين».

(٢) انتهى كلام الطوسي في نقد المحصل : ١٧ ـ ١٨.

(٣) راجع نفس المصدر ؛ الفصل السابع من المقالة الثالثة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء.

١٠٩

وإمّا بسبب إقامة البدل مقام الشيء المبدل عنه بسرعة ، على ما يقف عليه من يعمل تلك الأعمال.

ورؤية القطرة النازلة كخط مستقيم ، والشعلة الجوّالة كدائرة ، إنّما تكون لاتصال ما يدركه البصر في موضع يتحرك إليه المتحرك بما قد أدركه الحس المشترك من كونه في موضع آخر قبله ، ويثبت فيه هنيئة ، فتدرك النفس جميع ما في الآلتين وتحسبه شيئا واحدا متصلا.(١)

وفيه نظر ، فإنّ البصر أدّى إلى الحس المشترك صورة الماء وليست في الخارج ، فإنّه لا سراب في الخارج ، وليس من شأنه إلّا تأدية ما في الخارج ، فقد حصل له الغلط هنا. والعقل إذا حكم بأنّ هذا المشاهد ماء فقد غلط من حيث وجده مشابها للماء ، فحكم على الشيء بحكم مشابهه ، أمّا إذا عرف أنّه سراب فإنّه يحكم بأنّ الحس الظاهر أدّى ما ليس بموجود في الخارج وهو صواب. وبقاء القطرة النازلة في الحس المشترك مشكل على ما تقدّم.

د : قد نرى المتحرك ساكنا ، كالظل ، والساكن متحركا ، كراكب السفينة فإنّه يشاهد الشطّ الساكن متحركا والسفينة المتحركة ساكنة.

ويرى المتحرك إلى جهة متحركا إلى ضدّ تلك الجهة ، فإنّ المتحرك إلى جهة يرى الكوكب متحركا إليها إذا شاهد غيما تحته ، وإن كان الكوكب متحركا إلى خلاف تلك الجهة.

وقد يرى القمر كالسّائر إلى الغيم ، وإن كان سائرا إلى خلاف تلك الجهة ، إذا كان الغيم سائرا إليه.

قال أفضل المحققين : الحركة ليست بمرئية ، والبصر إذا أدرك الشيء في

__________________

(١) نقد المحصل : ١٨ ـ ١٩.

١١٠

موضع محاذيا لشيء ما بعد أن أدركه في موضع آخر محاذيا لغير ذلك الشيء حكمت النفس عند مجموع الإدراكين بحركة ذلك الشيء. وإذا كانت المسافة قليلة القدر لا يميّز البصر بين الإدراكين فتحسبه النفس ساكنا.

أمّا راكب السفينة فلما لم يدرك لبدنه انتقالا من موضع إلى موضع ، حسبه ساكنا ، وإذا تبدلت محاذاته لأجزاء الشط مع تخيل سكونه في نفسه حسب الشطّ متحركا ، لكون ذلك التبدّل شبيها بالتبدّل الأوّل.

وأمّا سبب رؤية المتحرك إلى جهة متحركا خلافها ، فليكن السائر إلى جهة ينتقل من «أ» إلى «ب» ، والقمر بالقياس إليه مثل «ج» ، والغيم المتوسط بينهما الّذي لا يحجب القمر لرقّته مثل «د ه» ؛ فإذا كان السائر عند «أ» كان شعاعه الممتد الذي به يرى القمر كخط «أز ج» ، فإذا انتقل إلى «ب» صار شعاعه كخط «ب ح د» (١) ، فيتخيل أنّ القمر يتحرك من «ز» إلى «ح» في جهة حركته إذ رآه أوّلا محاذيا لنقطة «ز» ثمّ منتقلا منها إلى «ح».

وأمّا القمر المتحرك إلى خلاف تلك الجهة ، فلا يحس بحركته لما مرّ.

وأيضا ليكن الناظر ساكنا عند نقطة «أ» ورأى القمر وهو «ج» محاذيا لنقطة «ز» من الغيم ، ثمّ تحرك الغيم في جهته ووصلت نقطة «ح» إلى حيث كان في الأوّل نقطة «ز» ، رأى القمر منتقلا عن محاذاة نقطة «ز» إلى محاذاة نقطة «ح» ، فيتخيّل أنّ القمر يتحرك من «ز» إلى «ح» وهو خلاف جهة حركة الغيم ؛ ولا يحس بحركة الغيم ؛ لأنّ انتقاله في المحاذاة بالقياس إلى السماء لا يتغير في حسّه لتشابه أجزاء السماء وأجزاء الغيم في الحس. وإذا كان الغيم مثل «ح ه» فقط ، والناظر عند «أ» رأى القمر بعيدا من طرف الغيم بقدر «ز ح» ، ثمّ يتحرك الغيم إلى أن

__________________

(١) في المصدر : «ب ح ج».

١١١

وصل مبدأه ، وهو نقطة «ح» إلى الموضع الذي كان فيه (١) رأى القمر وهو «ج» محاذيا لنقطة «ح» ، فيتخيل أنّ القمر يتحرّك من «ز» إلى «ح» ، فسار إلى جهة الغيم ، وهو خلاف جهة حركة الغيم. (٢)

وفي كون الحركة غير مرئية نظر ، فإنّا لا نعني بالحركة إلّا تبدل الأوضاع والانتقال من محاذاة إلى أخرى ، ولا شكّ في أنّ الحس مدرك لذلك. نعم الحركة بالمعنى الذي أثبته الحكماء فإنّها غير مرئية.

ه : قد يرى المستقيم متنكسا ، كالأشجار التي على أطراف الأنهار.

قال أفضل المحققين : إذا انعكس شعاع البصر من سطح الماء إلى الأشجار ، ولا محالة تكون زاويتا الشعاع والانعكاس متساويتين ، ينعكس الشعاع إلى رأس الشّجر من موضع أقرب إلى الرائي ، وإلى أسفل في موضع أبعد منه ، إلى أن تتصل قاعدة الشجر بقاعدة عكسه ، فليكن الرائي «أ» وسطح الماء «ب ج» والشجر القائم على ذلك السطح «د ح» ولينعكس الشعاع النافذ من «أ» إلى نقطة «ه» منها إلى رأس الشجر ، وهو نقطة «د» ، فتكون زاويتا «أه ب» [و] «د ه ح» متساويين.

أقول : لا يمكن أن ينعكس من نقطة تلي جهة «ب» من «ه» شعاع إلى جزء أسفل من رأس الشجرة كنقطة «ح» ، وإلّا فينعكس من نقطة «ز» ويكون الشعاع النافذ من «أ» إلى «ز» منعكسا عنه إلى «ح» وحينئذ يجب أن تكون زاوية

__________________

(١) في المصدر : «ز» بعد «فيه».

(٢) نقد المحصل : ١٩ ـ ٢١ وانظر بيان ذلك فيما رسمه الطوسي :

١١٢

«أز ب» الخارجة عن مثلث «أز ه» أعظم من زاوية «أه ب» ، لكن زاوية «أز ب» مساوية لزاوية «ج ز ح» وزاوية «أه ز» مساوية لزاوية «د ه ج» ، فزاوية «ج ز ح» أعظم من زاوية «د ه ج» وتكون أعظم كثيرا من زاوية «ح ه ج» ، فالداخلة في مثلث «ح ز ه» أعظم من خارجتها ، هذا خلف محال. ولا يمكن أن ينعكس منه شعاع إلى جزء أسفل من رأس الشجر كنقطة «ح» ، وإلّا لكانت زاوية «أه ب» مساوية لكلّ واحدة من زاويتي «د ه ج» [و] «ح ه ج» العظمى والصغرى ، هذا خلف.

فإذن لا بدّ من أن ينعكس إلى كلّ نقطة تميل من الرأس إلى أسفل من نقطة تكون من «ه» إلى «ج» أميل حتى تتصل القاعدة بالقاعدة ، ولمّا كانت النفس لا تدرك الانعكاس ، فإنّها متعودة لرؤية المرئيّات بنفوذ الشعاع على الاستقامة ، تحسب الشعاع المنعكس نافذا في الماء ؛ ولا يكون في نفس الأمر نافذا ، فإنّ الماء ربّما لا يكون عميقا قدر طول الشجر ، أو يكون كوزا (١) لا ينفذ فيه الشعاع أصلا ، وحينئذ يحسب أنّ رأس الشجر أكثر نزولا في الماء ، لكونه أبعد من أصله وباقي أجزائه على الترتيب ، فنرى كأنّه متنكّس تحت سطح الماء. (٢)

و : إذا نظرنا إلى المرآة رأينا الوجه طويلا وعريضا ومعوجا ، بحسب اختلاف شكل المرآة ، وكلّ ذلك يدل على غلط الحس.

اعترض أفضل المحققين : بأنّ المرآة الطويلة المستقيمة في العرض (٣) ، كقالب اسطوانة مستديرة ، إذا نظرنا إليها ، بحيث يكون طولها محاذيا لطول الوجه ، نرى الوجه فيها طويلا طوله بقدر طول الوجه قليل العرض ؛ لانعكاس الشعاع

__________________

(١) في المصدر : «كدرا».

(٢) نقد المحصل : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) والعبارة في المصدر : «المرآة الطويلة المستقيمة في الطول ، والمنحنية في العرض».

١١٣

العرضي فيما (١) هو أقلّ عرضا ممّا لو كان مستقيما. وذلك أنّ الطول ينعكس من عاكس مستقيم ، والعرض ينعكس من عاكس منحن.

وإذا نظرنا إليها بحيث يكون طويلا محاذيا لعرض الوجه ، كان الأمر بالعكس ، فنرى الوجه عريضا عرضه بقدر عرض الوجه ، وطوله أقلّ من طوله.

وإذا نظرنا إليها بحيث يكون طويلا موربا في محاذاة الوجه ، نرى الوجه معوجا.

وإذا كانت المرآة بحيث ينعكس منها الشعاع من موضعين أو أكثر إلى موضع واحد ، رأى الناظر فيها لنفسه وجهين أو أكثر ، ورأسين أو أكثر ، ومن بعضها يرى وجهه متنكّسا.

وكذلك في الاختلافات المتنوعة التي تشتمل على أكثرها كتب المرايا ، ويحتال لها متّخذو المرايا على وجه يقصدونه. فقد ظهر ممّا مرّ أنّ ذلك غلط بديهة الإدراك النفساني من المحسوسات المتأدية إليها ، لا غلط الحس. (٢)

ز : الحس قد يجزم بالاستمرار مع أنّه لا يكون كذلك ؛ لأنّ الحس لا يفرق بين الشيء ومثله ، ولذلك يحصل الالتباس بين الشيء ومثله ، فبتقدير توالي الأمثال يظن الحس وجودا واحدا مستمرا ، وليس كذلك ، فإنّ الألوان غير باقية عند أهل السنة ، بل يحدثها الله تعالى حالا فحالا ، مع أنّ البصر يحكم بوجود لون واحد مستمر. فإذا احتمل ذلك ، احتمل أيضا أن يقال : الأجسام لا تبقى ، بل الله تعالى يحدثها حالا فحالا ، لكنّها لمّا كانت متماثلة متوالية يظنها الحس شيئا واحدا. فثبت

__________________

(١) في المصدر : «ممّا».

(٢) نقد المحصل : ٢١ ـ ٢٢.

١١٤

أنّ حكم الحس بالبقاء غير مقبول.

قال أفضل المحقّقين : الحكم بالبقاء هو : الحكم بأنّ الموجود في الزمان الثاني هو بعينه الموجود في الزمان الأوّل وهذا الحكم لا يصحّ من الحسّ ، فإنّه لا يقدر على استحضار الزمانين ، فكيف يستحضر الموجود فيهما؟

فإذن الحكم بالبقاء لا يكون إلّا من العقل ، والعقل إنّما يغلط إذا عقل المشترك بين الشيئين المتشابهين ، ولم يعقل ما به يمتاز كلّ واحد منهما عن الآخر. فإحالة هذا الغلط على الحس ليس بصواب.

وأمّا حكم الأشاعرة : بأنّ الألوان غير باقية ، فشيء لزمهم بحسب أصولهم المسلّمة عندهم ، وهي أنّ الأعدام لا يمكن أن تكون فعلا للفاعل ، وأنّ الموجود الباقي حال بقائه مستغن عن المؤثر ، وأن لا مؤثر إلّا الله تعالى. وإذا شاهدوا أعراضا لا يدوم وجودها التزموا القول بتجددها حالا بعد حال.

والمعتزلة لمّا جوزوا طريان الضدّ على محلّ الضد الآخر المقتضي لإفنائه لم يقولوا بذلك.

والفلاسفة لما جعلوا الباقي حال بقائه محتاجا إلى المؤثر ، لم يحتاجوا إلى ارتكاب ذلك.

والنظام من المعتزلة جعل الأجسام أيضا غير باقية لمثل ذلك. وهذه أحكام غير متعلّقة بالحس. (١)

وفيه نظر ، فإنّه قد تقدّم غير مرّة أنّ المراد من قولنا : هذا حكم الحس ، الإشارة إلى أنّ الحس هو مبدأ الحكم العقلي. ولا ريب أنّ الحس لمّا أدّى أوّلا صورة ثمّ أداها ، وحكم العقل بالاتحاد حكم بالبقاء أيضا.

__________________

(١) نقد المحصل : ٢٢ ـ ٢٣.

١١٥

وقوله هذه الأحكام غير متعلّقة بالحس ، ممنوع بل إنّما عقلية مستندة إلى الحس.

ح : النائم يرى في النوم شيئا ويجزم بثبوته ، ثمّ يتبيّن له في اليقظة أنّ ذلك الجزم كان باطلا ، إذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن تكون هناك حالة ثالثة يظهر فيها كذب ما رأيناه في اليقظة؟

وصاحب البرسام قد يتصور صورا لا وجود لها في الخارج ويشاهدها ويجزم بوجودها ويصيح خوفا منها ، وهذا يدل على أنّه يجوز أن تعرض للإنسان حالة لأجلها يرى ما ليس بموجود في الخارج موجودا ، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن تكون الحال فيما يشاهد الأصحاء هذه الحال؟

لا يقال : الموجب لتلك الحالة هو المرض ، وعند الصحّة لا يوجد.

لأنّا نقول : انتفاء السبب الواحد لا يوجب انتفاء الحكم ، بل هذا الاحتمال لا يندفع إلّا بحصر أسباب ذلك التخيّل الكاذب ، ثمّ بيان انتفائها ، ثمّ بيان أنّ المسبّب لا يجوز حصوله ولا بقاؤه عند انتفاء الأسباب ، لكن كلّ واحدة من هذه المقدمات ممّا لا يمكن إثباته إلّا بالنظر الدقيق لو أمكن ، فلزم أن لا يجوز الجزم بوجود شيء من المحسوسات ، إلّا بعد العلم بتلك الأدلة ، وذلك ممّا يدل على أنّ مجرّد حكم الحس غير مقبول.

قال أفضل المحققين : النائم يرى في منامه مثل ما يرى المستيقظ ، إلّا أنّ المستيقظ لمّا كان واقفا على أحكام اليقظة حكم بأنّ أحد مرئييه واقعا حقا ، والآخر غير واقع وغير حقّ ، والنائم لما كان غافلا عن الإحساس حسب أنّ الواقع هو الذي يراه في خياله. وهذا ليس بغلط حسي ، بل غلط للنفس من عدم التمييز بين الشيء وبين مثاله حالة الذّهول عن الشيء.

١١٦

وحكم صاحب البرسام حكم النائم ، فإنّه لاستغراقه في الخيال وغفلته عن الإحساس تحكم نفسه بمثل ما يحكم به النائم.

وفي جميع الأحوال لم يعرض للإنسان حالة لأجلها يرى ما ليس بموجود موجودا ، فإنّه لم ير ذلك ، بل أدرك بخياله شيئا غفل معه عن الإحساس. فظهر أنّ الحس لم يدرك ما ليس بموجود في حال من الأحوال أصلا ، ولم يثبت الإحساس بشيء غير واقع في موضع البتة.

وأمّا تجويز الغلط فيما يشاهد الأصحاء ، لتجويزه فيما يدركه النائم والمريض فممّا يأباه العقل الصريح. ونحن لم نثبت الوقوف بالمحسوسات بدليل ، بل نقول العقل الصريح يقتضيه.

وهذه الأجوبة إنّما نوردها لبيان أسباب الغلط الذهني بعد أن حكم العقل بكون ذلك غلطا للذهن ، لا لإثبات صحّة ما ندركه بالحواس ، كما قدّمنا بيانه.

و «انتفاء السبب الواحد لا يوجب انتفاء الحكم» مسلّم ، لو أثبتنا صحّة الحكم بالمحسوسات في الخارج بدليل لكان الأمر على ما ذكره ، لكنّا لم نثبت ذلك إلّا بشهادة العقل من غير رجوعه إلى دليل ، فليس علينا أن نجيب عن هذه الإشكالات ، فإنّ احتمال عدم الصحّة فيما يشاهده الأصحّاء مندفع عند بديهة العقل من غير تأمّل في الأسباب وحصرها وانتفائها وبيان امتناع حصول المسبب عند انتفاء الأسباب ، وغير ذلك ممّا يثبت بالنظر الدقيق والجليل. (١)

ط : نرى الثلج في غاية البياض ، ثمّ إذا بالغنا في النظر إليه رأيناه مركبا من أجزاء جمديّة صغار ، وكلّ واحد من تلك الأجزاء شفاف خال عن اللون. فالثلج في نفسه غير ملوّن مع أنّا نراه ملوّنا بلون البياض.

__________________

(١) نقد المحصل : ٢٣ ـ ٢٤.

١١٧

وليس لأحد أن يقول : إنّ ذلك إنّما كان لانعكاس الشعاع عن بعض سطوح تلك الأجزاء الجمدية إلى بعض.

لأنّا نقول : هذا لا يقدح في غرضنا ؛ لأنّ الذي ذكرته ليس إلّا بيان العلّة التي لأجلها نرى الثلج أبيض مع أنّه في نفسه ليس بأبيض ، ونحن ما سعينا إلّا لهذا القدر.

وأيضا الزجاج المدقوق نراه أبيض ، مع أنّ كلّ واحد من أجزائه شفاف خال عن اللون ، ولم يحدث فيما بينها كيفية مزاجيّة ؛ لأنّ تلك الأجزاء صلبة يابسة لم يحصل فيما بينها فعل وانفعال.

وأيضا نرى موضع الشقّ من الزجاج الثخين الشفاف أبيض ، مع أنّه ليس هناك إلّا الهواء المحتقن في ذلك الشقّ ، والهواء غير ملوّن والزجاج غير ملون ؛ فعلمنا أنّا نرى الشيء ملونا مع أنّه في نفسه غير ملون.

فثبت بهذه الوجوه أنّ حكم الحس قد يكون باطلا وقد يكون حقا. وإذا كان كذلك لم يجز الاعتماد على حكمه ، إذ لا شهادة لمتّهم ، بل لا بدّ من حاكم آخر فوقه ليميّز خطأه عن صوابه. وعلى هذا التقدير لا يكون الحس هو الحاكم الأوّل ، وهو المطلوب.

قال أفضل المحققين : البياض إنّما يتكون بتعاكس الضوء من (١) سطوح أجسام مشفّة ، والجمد والزجاج مشفّان ولإشفافهما ، كان لهما ضوء ، ومتى كانا ذوي سطح واحد لم يمكن تعاكس ضوء منهما ، فإذا تكثرت السطوح بكسر وشبهه تعاكس الضوء من بعضها إلى بعض فحدث البياض. (٢)

__________________

(١) في المصدر : «بين».

(٢) نقد المحصل : ٢٥.

١١٨

الوجه الخامس (١)

إنّ أجلى البديهيات : العلم بأنّ الشيء إمّا أن يكون وإمّا أن لا يكون ، ثمّ إنّ هذه القضية غير يقينية ، وإذا لم تكن أقوى البديهيات يقينيا فالأضعف أولى.

أمّا الصغرى ، فلأنّا رأينا المعوّلين على البديهيات يذكرون لها أمثلة أربعة :

الأوّل : النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان.

الثاني : الكلّ أعظم من الجزء.

الثالث : الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

الرابع : الجسم الواحد لا يكون في الآن الواحد حاصلا في مكانين معا.

ولا شكّ أنّ هذه الثلاثة الأخيرة متفرعة على الأولى.

أمّا قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» ، فلأنّه لو لم يكن كذلك لكان وجود الجزء الآخر وعدمه بمثابة واحدة ، فحينئذ يجتمع في ذلك الجزء الآخر كونه موجودا معدوما معا.

وأمّا قولنا : «الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية» ، فلأنّه لولاه لكان الألف المحكوم عليه بأنّه يساوى السواد سوادا لا محالة ـ لأنّ الشيئين المتساويين مطلقا تكون ماهيتهما واحدة ـ ومن حيث إنّه محكوم عليه بأنّه يساوى ما ليس بسواد يجب أن لا يكون سوادا ، فلو كان الألف مساويا للأمرين لكان الألف في نفسه سوادا وأن لا يكون سوادا ، فيجتمع فيه النفي والإثبات.

وأمّا قولنا : «الجسم الواحد في الآن الواحد لا يكون في مكانين» ، فإنّه لو جاز ذلك لكان ذلك الجسم الحاصل في مكانين غير متميّز عن الجسمين

__________________

(١) من الوجوه التي تمسك بها اللاأدريِة على مدعاهم. راجع نفس المصدر : ٢٧.

١١٩

الحاصلين في مكانين فحينئذ لا يتميز وجود الجسم الآخر عن عدمه ، فيصدق عليه أنّه موجود معدوم معا ، وهو محال.

لا يقال : لا نسلّم أنّ هذه القضايا الثلاثة متفرعة على الأولى ، وإلّا لم يحصل الجزم بها إلّا عند اعتبار القضية الأولى ، وليس كذلك ؛ فإنّ كلّ عاقل يعلم بالبديهة حقيّة هذه القضايا وإن لم تحضر (١) بباله تلك الحجة الدقيقة التي ذكرتها في بيان ردّ هذه القضايا إليها.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ حكم العقلاء بهذه القضايا غير موقوف على الحجة التي ذكرناها ، ولهذا لو سئلوا عن سبب جزمهم بها ، لقالوا : لو لم يكن الكلّ أعظم من الجزء وأكبر (٢) منه لم يكن للجزء الآخر أثر البتة. ولو كان الشيء الواحد مساويا للأمور المختلفة ، لكان مخالفا لنفسه. ولو كان الجسم الواحد في مكانين لم يكن واحدا بل كان اثنين. وهذا الذي يعتذرون به في سبب جزمهم ، هو بعينه ما ذكرناه من الحجّة. نعم قد لا يمكنهم التعبير عن تلك الحجّة على الوجه الذي لخّصناها ، ولكن معناها مقرر في عقولهم ، والعبارة لا عبرة بها.

فقد ظهر أنّ أجلى البديهيات قولنا : «النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان».

وأمّا الكبرى ، وهي أنّ هذه القضية غير يقينية فلوجوه :

أ : هذا التصديق موقوف على تصوّر أصل العدم ؛ لأنّ الحكم عليه بأنّه لا يجامع الوجود في الصدق والكذب مسبوق بتصوّره ، لما عرفت من مسبوقية التصديق بالتصوّر ، لكن الناس قد تحيروا فيه. وزعم أكثرهم أنّه غير متصور ، لأنّ المتصوّر لا بدّ وأن يكون متميزا عن غيره بالضرورة ، وكلّ متميز عن غيره فله تعيّن

__________________

(١) كذا ولعلّه يخطر.

(٢) ج : «أزيد».

١٢٠