نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

عندهم. وما يحصل فيه فعلا من غير وجوب ، كالعناصر. وما ليس بحاصل ممّا يمكن ، كالكرة المصمتة. ولو أخذنا الإمكان الخاص انتقض بما فرض فيه الأبعاد أو بعضها بالفعل ، لأنّ القوة لا تبقى مع الفعل ، فقد بطل أن يكون جسما (١).

وفيه نظر ، فإنّ الإمكان الخاص أعمّ من الحاصل بالفعل أو بالقوة.

وقد اعترض على هذا الرسم بوجوه (٢) :

الوجه الأوّل : الهيولى الأولى يصدق عليها أنّه يصحّ فرض الأبعاد الثلاثة فيها بواسطة الصورة الجسمية ، وإذا صدق عليها صحّة فرض الأبعاد فيها بواسطة الجسمية ، صدق صحّة فرض الأبعاد الثلاثة فيها ؛ لأنّ صحّة فرض الأبعاد الثلاثة فيها بواسطة الصورة أخص من صحّة فرض الأبعاد الثلاثة فيها مطلقا ، وصدق الأخص يستلزم صدق الأعم ، فما جعلتموه رسما للجسم تدخل فيه الهيولى.

الوجه الثاني : الوهم يصحّ فرض الأبعاد الثلاثة فيه ، ولذلك تسمى الأبعاد التخيلية جسما تعليميا مع أنّ الوهم ليس بجسم.

الوجه الثالث : الإمكان والقابلية كما تقدم أوصاف ذهنية لا تحقّق لها في الخارج ، والتعريف بالأمور العدمية إن جاز فإنّما يجوز للأمور البسيطة ، لأنّها لمّا لم تكن مركبة فحينئذ تحتاج بالضرورة إلى أن تعرف بلوازمها ، أمّا الجسم فإنّه مركب ؛ لاندراجه (٣) تحت جنس الجوهر فله فصل ، أو من المادة والصورة فله ذاتيات ، فتعريفه بها أولى.

الوجه الرابع : هذا التعريف فاسد ، لأنّه تعريف للشيء بما هو أخفى منه ،

__________________

(١) هذا ما قاله الشيخ ابن سينا ، كما في المباحث ٢ : ١٢. وأجاب صدر المتألهين عنه في الأسفار ٥ : ١٠.

(٢) راجع المطالب ٦ : ١٥ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ١٢ ؛ شرح المواقف ٦ : ٢٨٦ ؛ الأسفار ٥ : ١٣.

(٣) قوله : «لاندراجه» هو الوجه الأوّل لبيان تركب الجسم. وقوله الآتي : «أو من المادة والصورة» هو الوجه الثاني.

٥٠١

فإنّ كلّ عاقل يعلم في كلّ واحد من الأجسام المشاهدة كونه حجما ومتحيزا إلى غيرهما من الألفاظ ، ولا يخطر بباله ما ذكرتم من الأبعاد والتقاطع والزاوية مطلقا فضلا عن القائمة ، فإنّ مثل هذه الأشياء من الأمور الغامضة التي لا يدركها إلّا الخواص.

الوجه الخامس : إذا قلنا الجسم ما يكون كذا ، فإن كان المقصود أنّ المراد من لفظ الجسم كذا لم يعرف منه أنّ الجسم المشاهد هل هو كذلك ، وحاصله يرجع إلى تفسير اللفظ. وإن كان المراد أنّ الحقيقة المشار إليها بالمشاهدة موصوفة بهذه الصفة ، كان ذلك دعوى لا بدّ في إثباتها من دليل. ولأنّ الدعوى لا يمكن إلّا بعد تصور المحكوم عليه ، فقولنا : الجسم ما يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه متوقف على تصور الجسم فلو استفدنا تصور الجسم منه ، دار.

لا يقال : الجسم متصور بالبديهة لكن لا تجتمع ذاتياته ، وهذا التعريف يفيد كمال التصور.

لأنّا نقول : هذا التعريف رسم لا يفيد كمال التصور.

الوجه السادس : الجسم عبارة عن مجموع الهيولى والصورة ، ولا يجوز أن يكون للصورة مدخل في قابلية الأبعاد ، لأنّ الذي له القبول ويتحقّق به الإمكان هو الهيولى ، وأمّا الصورة (١) فإنّ حقيقتها هي : الجزء الذي يتحقّق به الحصول والوجود. فإذن الصورة يستحيل أن تكون جزءا من القابل من حيث هو قابل. فإذن القابل للأبعاد الثلاثة هو الهيولى. غاية ما في الباب أن يقال : قابلية الهيولى للأبعاد تتوقف على قابليتها للصورة الجسمية أوّلا ، ولكن ذلك لا يقتضي أن يكون للصورة مدخل في القابلية.

__________________

(١) ج : «الصور».

٥٠٢

ولكنّا نقول (١) : فرق بين اعتبار الهيولى بشرط أن تكون فيها جسمية وبين مجموع الهيولى والجسمية ؛ فإنّ الهيولى بشرط أن تكون معها جسمية هيولى ، وأمّا مجموع الهيولى والجسمية فهو الجسم ، والقابل للأبعاد ليس مجموع الهيولى والصورة لما تقدم من أنّه لا مدخل للجسمية في القابلية ، بل القابل الهيولى بشرط حصول الجسمية فيها. وإذا كان القابل القريب للأبعاد ليس الجسم بل الهيولى بشرط حصول الجسمية كان الحدّ المذكور ليس متناولا للجسم ، بل للهيولى بشرط مخصوص (٢).

فإن جعلت الصورة جزءا من القابل لا شرطا لكون المادة قابلة ، ناقض كلامهم (٣) : أنّ الصورة ليس مبدأ للقبول والإمكان ، بل هي مبدأ للحصول والفعل. ولأنّ المعقول من الهيولى ليس إلّا أنّه جوهر قابل ، فإن جعلنا الصورة كذلك لم تتميز الهيولى عن الصورة.

وحينئذ يبطل اعتذارهم عن الوجه الأوّل : بأنّ الهيولى ليس فيها بالحقيقة قبول هذه الأبعاد ، بل فيها قبول الجسمية ، وبعد حصول الجسمية يحصل قبول الأبعاد ، فقبول الأبعاد بالحقيقة للجسم لا للهيولى.

ثمّ اعتذروا عنه بأنّ المعلم الأوّل حدّ المتصل بأنّه الذي يمكن أن تفرض فيه أجزاء تتلاقى على حدّ مشترك. ورسمه بأنّه القابل لانقسامات غير متناهية. وحدّ الرطب بأنّه القابل للأشكال بسهولة.

ثمّ إنّ أحدا لم ينقض الحدود بالهيولى باعتبار أنّ الذي يمكن فيه فرض الأجزاء منه (٤) هو الهيولى ، والقابل للانقسامات والأشكال هو الهيولى.

__________________

(١) جواب على الوجه السادس.

(٢) وهو اقتران الجسمية بها.

(٣) أي كلام الفلاسفة.

(٤) كذا في النسخ.

٥٠٣

وفيه نظر ، فانّا لم نمنع من قبول شيء لشيء مطلقا ، بل لمّا كانت الهيولى في هذه الصورة قابلة للجسم والجسم قابل ، حكمنا بأنّ اسناد القبول إلى الجسم بالعرض وأنّه بالذات للهيولى.

وعن الثاني : بأنّ المراد ما يصحّ فرض الأبعاد الثلاثة فيه في الخارج لا في الوهم.

وعن الثالث : بأنّ الجسم وإن تركب من الجنس والفصل باعتبار ومن المادة والصورة باعتبار ، إلّا أنّا لمّا لم نشعر بحقائق تلك المقومات عرفنا الجسم بآثاره ولوازمه ، كغيره من الأشياء التي لا نشعر بماهيتها ، فإنّا نعرفها بلوازمها ، كالمتصل والرطوبة وغيرهما ، فكذا هنا. وعلى قول إنّ الجوهر ليس بجنس وأنّ الجسم البسيط ليس مركبا من المادة والصورة ، لا يمكن تعريفه بغير اللوازم.

٥٠٤

البحث الثاني

في مقوماته (١)

اختلف الناس في أنّ الجسم هل هو مركب في نفسه أم لا؟

فقال بعضهم (٢) : إنّه بسيط في نفسه غير مركب البتة لا من الجواهر الأفراد ولا من الهيولى والصورة ، بل يقبل القسمة إلى أجزاء ليست موجودة فيه بالفعل بل تحدث بعد القسمة.

وقال آخرون : إنّه مركب ، ثمّ اختلفوا.

فمنهم من قال : إنّه مركب تركيبا مقداريا. وهم القائلون بتركبه من الجواهر الأفراد التي يزيد مقداره بزيادتها وينقص بنقصانها ، وكالقائلين بتركبه من الخطوط فإنّ بعضهم ذهب إلى ذلك ، سواء كانت تلك الأجزاء الأفراد متناهية أو غير متناهية على ما تقدّم من الرأيين.

ومنهم من قال : إنّه مركب لا بهذا الاعتبار ، وقد افترقوا إلى فرقتين :

إحداهما قالوا : إنّه مركب من الأعراض.

والثانية قالوا : إنّه مركب من المادة والصورة.

__________________

(١) راجع نقد المحصل : ١٨٣ و ١٨٩.

(٢) مثل أبو البركات البغدادي وصاحب المطارحات. مناهج اليقين : ٣٥.

٥٠٥

أمّا الفرقة الأولى فهم : ضرار بن عمرو (١) وحفص الفرد (٢) والنجار (٣). فانّهم ذهبوا إلى أنّ : عند اجتماع اللون والطعم والحرارة والبرودة وما شاكلها من الأعراض الباقية (٤) ، يحصل الجسم دون الأعراض الغير الباقية ، كالأكوان وشبهها.

وهؤلاء إمّا أن يجعلوا تحيز الجسم موقوفا على اجتماع هذه الأمور ، فنقول : لا نثبت التحيز في شيء من ذلك إلّا عند الانضمام ، أو نثبت آحاد هذه الأعراض متحيزة قبل الاجتماع كما نثبتها متحيزة عند الاجتماع.

فإن ذهبوا إلى تحيزها قبل الاجتماع ، على ما يقوله النجار ، حيث منع من قلب الأجناس وجعل الجسم مركبا من المعاني الباقية عنده دون الحركات وغيرها ،

__________________

(١) ضرار بن عمرو الغطفاني (١٩٠ ه‍) قاض من كبار المعتزلة. طمع برئاستهم في بلده فلم يدركها فخالفهم فكفّروه وطردوه وصنّف نحو ثلاثين كتابا بعضها في الرد عليهم وعلى الخوارج. الزركلي ، الاعلام ٣ : ٢١٥.

(٢) يكنى أبا عمرو و (أبا يحيى) وكان من أهل مصر ، قدم البصرة ، فسمع بأبي الهذيل واجتمع معه وناظره فقطعه أبو الهذيل. وكان أوّلا معتزليا ثمّ قال بخلق الأفعال. وله كتاب الاستطاعة ، التوحيد ، الرد على المعتزلة وكتاب الأبواب في المخلوق. النديم ، الفهرست ، الفن الثالث من المقالة الخامسة : ٢٢٩.

(٣) أبو عبد الله حسين بن محمد (م ٢٢٠ ه‍) رأس الفرقة النجارية من المعتزلة وإليه نسبتها. كان حائكا من أهل قم وهو من متكلمي المجبرة ، وله مع النظّام عدة مناظرات. وأكثر المعتزلة في الري وجهاتها من النجارية ، وهم يوافقون أهل السنة في مسألة القضاء والقدر ويوافقون المعتزلة في نفي الصفات وخلق القرآن. وله كتاب البدل ، المخلوق ، إثبات الرسل ، القضاء والقدر ، وغيرها. المصدر نفسه ؛ الزركلي ، الاعلام ٢ : ٢٥٣.

(٤) كالثقل والخفّة والخشونة واللين والرائحة والرطوبة واليبوسة. مقالات الإسلاميين : ٣٠٥ ؛ مناهج اليقين : ٣٥. وقال العلّامة فيه : «هذا القول في غاية السخافة ... وهؤلاء لمّا وجدوا الجسم لا ينفك عن هذه الأعراض جعلوه عبارة عنها ، فالغلط نشأ لهم من أخذ لازم الشيء مكان ذلك الشيء».

٥٠٦

فذلك باطل ؛ لأنّ من حقّ هذه الأعراض أن تخالف الأجسام وأن يخالف بعضها بعضا ، ولو اتّفقت في التحيز لتماثلت. ولأنّ المتحيزات متساوية في ماهية التحيز ومتباينة بألوانها وروائحها وطعومها ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فالتحيز ماهية مغايرة لهذه الصفات. ولأنّ هذه الأعراض لا يعقل تحيزها بانفرادها ولا تعقل إلّا قائمة بغيرها.

وإن قالوا بتحيزها عند الاجتماع على ما يجوّزه حفص الفرد وضرار من قلب الجنس ، فباطل ؛ لأنّه لو جاز أن تجتمع هذه الأعراض فتصير متحيزة بعد أن لم تكن كذلك وتنقلب ذواتها ، جاز في هذه الأجسام إذا اجتمعت أن تزول بتحيزها ، وإن كانت من قبل متحيزة بأن تنقلب أعيانها. ولأنّ المتحيز إذا كان استحقاق الذات له لما هي عليه بشرط الوجود فيجب رجوعه إلى كلّ جزء ؛ لأنّ صفة الذات إنّما ترجع إلى الآحاد دون الحمل ، فكيف توقف حصول هذه الصفة على الانضمام؟

وأيضا قولهم : «إذا اجتمعت صار جسما» ، إن أرادوا بالاجتماع المجاورة ، فباطل ؛ لأنّها إنّما تصحّ في المتحيز ، فيجب أن يتقدّم تحيز هذه الأعراض حتى يحكم عليها بالمجاورة لا أن تجعل التجاور سببا لتحيزها. وإن أرادوا بالاجتماع حلولها في محل واحد متحيز ، ومعلوم أنّ الحلول لا يصحّ أن يصير سببا للتحيز ، على أنّ المتحيز يمتنع عليه الحلول. وإن أرادوا بذلك حلول بعض الأعراض في بعض ، فباطل ؛ لأنّ كون بعضها محلا إنّما يصحّ بعد ثبوت التحيز ، فكيف يقف تحيزه على حلول غيره فيه؟ فإنّه يقتضي تعلّق كلّ واحد من الأمرين بصاحبه.

قال أفضل المحقّقين : «هذا مذهب غير معقول ، إن كان المراد بهذه الأجزاء التي يتركب منها الجسم أعراضا. وأمّا إن كان المراد أنّها جواهر مختلفة يلتئم منها الجسم ، تكون الأجسام متشاركة في التحيز ، وتباينها في هذه الأجزاء لا يدل على

٥٠٧

أنّها ليست بأجزاء للجسم ، لأنّ التحيز صفة للجسم» (١).

وفيه نظر ، بانّهم صرّحوا بأنّ الطعوم وغيرها من الأعراض التي عدّوها أعراضا لا جواهر ، فلزمهم المحال ـ الذي ذكره أوّلا ـ وثبوت الدور ؛ لأنّ العرض مفتقر إلى الجسم فالمجموع من الأعراض أولى بالافتقار ، والجسم مفتقر إلى جزئه.

وأمّا الفرقة الثانية (٢) ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الجسم مؤلف من الهيولى ، وهي الجوهر القابل ومن الصورة الجسمية ، وهي الاتصال والامتداد ، على معنى أنّ الجسمية حالّة في محل ومجموع ذلك الحالّ والمحلّ هو الجسم.

__________________

(١) نقد المحصل : ١٨٩.

(٢) وهم الفلاسفة. المصدر نفسه : ١٨٨.

٥٠٨

البحث الثالث

في حجج مثبتي المادّة (١) وفسخها

احتج الرئيس وغيره على إثبات المادة وتركب الجسم منها ومن الصورة

__________________

(١) المادّة (Matter) ، أصلها «مدد» وهي في كتب اللغة على معنيين : ١ ـ الامداد والإعانة ؛ ـ ٢ ـ الامتداد والزيادة المتصلة. لسان العرب ، مادة مدد.

وتطلق في مصطلحات العلوم على معاني :

١. في المنطق : مواد القياس ، وهي قضايا يتشكل القياس منها مثل : اليقينيّات ، المظنونات ، المشهورات و... ، وتطلق أيضا على النسبة الواقعة في نفس الأمر بين الموضوع والمحمول ، وهي تنحصر في الوجوب والإمكان والامتناع. وتطلق أيضا على الحدود (الموضوع والمحمول) التي تتألف منها القضية.

٢. في الفيزياء : أجسام أو مجموعة من ذرّات الطاقة ذات جرم وجذب ودفع واصطكاك ، قابلة للتبدّل إلى الطاقة.

٣. في الفلسفة : (في الاصطلاح الأرسطي) هي العناصر غير المعينة التي يمكن أن يتألف منها الشيء. وهي المعنى المقابل للصورة. وهي كما قيل إمكان محض ، أو قوة مطلقة ، لا تنتقل إلى الفعل إلّا بقيام الصورة فيها.

ولا ريب في أنّ الموجودات الماديّة تتبدّل إلى موجودات ماديّة أخرى ، فتتجدّد لها آثار خاصّة. فالمتبدّل منه يسمّى بالقياس إلى المتبدل إليه مادّة وهيولى ، وإذا كان المتبدل منه نفسه متبدلا من موجود آخر كان الموجود الأسبق مادّة بالنسبة إلى السابق ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لم يتبدّل من موجود آخر ، فيسمّى بالهيولى الأولى ومادّة الموادّ. راجع : الطباطبائي ، نهاية الحكمة : ٩٨ ـ ٩٩ ، وتعليقة الأستاذ مصباح اليزدي : ١٣٨ ؛ جميل صليبا ، المعجم ـ

٥٠٩

بوجوه (١) :

الوجه الأوّل : قد ثبت أنّ الجسم البسيط واحد في نفسه متصل لا تعدد فيه ولا انفصال بالفعل ، ولا شكّ في أنّه قابل للانفصال ـ والانفصال عدم الاتصال عمّا من شأنه أن يكون متصلا ـ ثمّ كلّ حادث فلا بدّ له من قابل ، فالقابل للانفصال إمّا أن يكون هو الاتصال أو غيره. والأوّل باطل ؛ لأنّ القابل للشيء يجب أن يبقى مع المقبول ، إذ لو امتنع بقاؤه معه كان منافيا له وضدا لا قابلا له ، والاتصال لا شكّ أنّه يعدم حالة الانفصال ولا يبقى معه ، لأنّا قد قلنا : إنّه عدمه ، والشيء لا يجامع عدمه. فإذن الحق : الثاني ، وهو أن يكون القابل شيئا آخر غير الاتصال ، ولا شكّ في أنّ قوة قبول الانفصال حاصلة قبل الانفصال فجامعة

__________________

ـ الفلسفي ١ : ٣٠٦.

وفي شرح المواقف : «انّ الهيولى على الإطلاق هي محلّ الصورة الجوهرية وهي أربعة أقسام : الهيولى الأولى: وهو جوهر غير جسم محلّ المتصل بذاته. والهيولى الثانية : هو جسم قام به صورة ، كالأجسام بالنسبة إلى صورها النوعية. والهيولى الثالثة : وهي الأجسام مع صورها النوعية التي صارت محلا لصورة أخرى ، (كالخشب لصورة السرير والطين لصورة الكوز والهيولى الرابعة وهي : أن يكون الجسم مع الصورتين محلا لصورة أخرى ، كالأعضاء لصورة البدن وأجزاء البيت لصورته). فالهيولى الأولى جزء الجسم هو جزء ، والثانية نفس الجسم ، والأخيران جزءان لهما». ٧ : ٣٤ ـ ٣٥.

(١) راجع الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء ؛ بهمنيار ، التحصيل : ٣١٢ (الفصل الثامن) ؛ المطالب العالية ٦ : ٢٠١ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ١٧ و ٤٦ ـ ٥٣ ؛ نقد المحصل : ١٨٨. وعبر فيه الرازي عن القول بالهيولى ب «الزعم» وأفرد له مسألة ، وتعرض له بالنقض والابطال في كتبه. وهو يعدّ من نفاة الهيولى حيث قال : «واعلم أنّه وإن لم يثبت القول بالهيولى عندنا إلّا أنّ المثبتين له تكلموا في أحكامه ، فلنتكلم نحن أيضا في ذلك ...» المباحث المشرقية ٢ : ٥٣.

والعلامة الحلّي أيضا من منكري الهيولى ، وسيأتي قوله : «اعلم أنّ مذهبنا أنّ الجسم غير المركب من الهيولى والصورة» بداية البحث الأوّل من الفصل الثالث. راجع أيضا شرحه على حكمة العين المسمّى ب «إيضاح المقاصد من حكمة عين القواعد» : ١٢٧.

٥١٠

للاتصال ، فتلك القوة حاملها غير الاتصال والانفصال ، فهناك شيء آخر غير الاتصال والانفصال يقبلهما معا ، وذلك الشيء هو المادة يقبل الاتصال حال وجوده ثمّ يصير قابلا للانفصال بعد ذلك ، (وهو المادة) (١).

والاعتراض من وجوه (٢) :

الأوّل : لا نسلّم أنّ الجسم واحد في نفسه ، وقد تقدم بطلانه ، كما ذهب إليه مثبتوا الجزء وذيمقراطيس وبرهنوا على مقالاتهم كما تقدّم. والاتصال الذي يثبتونه إن كان بمعنى التماس والالتصاق فهو مسلّم ، وهو ينافي الوحدة ، وإن عنيتم به أمرا آخر ، فذلك لا يعرفه أحد إذ المتعارف بين الناس إنّما هو الاتصال بالمعنى الإضافي.

الثاني : سلّمنا أنّ الجسم البسيط متصل ، لكن لا نسلم أنّه قابل للانفصال. ولم لا يجوز أن لا يكون قابلا له ، وإنّما القابل الأجسام الصغار غير المشاهدة بالحس ، كما ذهب إليه ذيمقراطيس؟ وحينئذ يسقط أصل الدليل.

الثالث : لا نسلم أنّ القابل يجب أن يجامع المقبول ، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق قابل لعدمه ولا يمكن اجتماعهما في الوجود ، فكذا نقول في قبول الاتصال للانفصال.

الرابع : قوّة الانفصال ليست ثابتة في الأعيان ، وإلّا لكان لها قوة أخرى ويتسلسل ، وهو محال.

الخامس : الاتصال قد يراد به كون الجسم بحال يقبل الأبعاد الثلاثة ،

__________________

(١) لعلّ ما بين الهلالين زائد ، كما في هامش نسخة ج.

(٢) راجع : المطالب العالية ٦ : ٢٠٥ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٤٧ ؛ نقد المحصل : ١٨٨ ؛ مناهج اليقين : ٣١ ؛ شرح المواقف ٧ : ٣٥. وقال العلّامة في إيضاح المقاصد : ١٣١ ـ ١٣٢ : «واعلم أنّ على هذا الدليل وجوها من الاعتراضات ذكرناها في كتاب «الاسرار».

٥١١

وذلك هو الجسمية ، وقد يراد به وجود (١) الأبعاد الثلاثة وهو عرض من باب الكم. فدعواكم : «أنّ الجسم يرد عليه ما يزيل الاتصال» إن عنيتم به المعنى الأوّل ، فهو كاذب؛ لأنّ الحس يدفعه ، وأنّ ذات الجسم ممّا يستحيل أن تبقى عند زوال الجسمية. وإن أردتم به الثاني ، فاللازم منه كون المقدار زائدا على الجسم ، وذلك مسلّم ، ولكن كيف يلزم منه أن يكون الجسم في حقيقته مركبا من أمرين؟

السادس : لم لا يجوز أن يقال الزائل هو الوحدة والطارئ هو التعدد وهما عرضان قائمان بالجسم؟

لا يقال : الجسم قبل القسمة كان واحدا وله هوية مخصوصة باعتبارها امتاز عن سائر الأفراد المشاركة له في الماهية ، فإذا وردت القسمة عليه امتنع بقاء تلك الهوية ، وإذا عدمت تلك الهوية فقد عدمت تلك الجسمية ، لأنّ الجسم المعيّن إنّما يصير هو هو لا بماهيته وإلّا كان هو غيره ، بل و (٢) بمشخصاته ، وظاهر أنّ ورود القسمة عليه سبب لزوال تلك الجسمية ولحدوث جسمين آخرين ، وكلّ حادث وزائل فله مادة ، فللجسمية مادة.

لأنّا نقول : لا نسلّم عدم شيء غير الوحدة والتشخص ، ولا يلزم من عدمهما عدم الجسمية. والمشخصات إنّما هي مشخصة بماهياتها ، وإذا زالت زال التشخص العارض للماهية.

وأيضا هذا الإشكال وارد في المادة نفسها ، لأنّها قبل قسمة الجسم إن كانت كثيرة فحينئذ تكون بحسب كلّ الانقسامات الممكنة في الجسم مواد حاصلة متميزة ، فتكون فيه مواد متباينة غير متناهية ، ومعلوم أنّ الصورة الحاصلة في كلّ

__________________

(١) في المباحث : «ورود».

(٢) كذا في النسخ ، وهي ساقطة في المباحث.

٥١٢

واحد منها (١) غير الصورة الحاصلة في المادة الأخرى ، فيكون الجسم مركبا من أجزاء غير متناهية ، وهو يرفع أصل الحجّة. وإذا امتنع كثرتها كانت واحدة عند كون الجسم واحدا ، فلما تعدد تعددت وانقسمت بانقسامه ، وإلّا كانت الصور المتعددة حالّة في مادة واحدة ، وذلك محال.

أمّا أوّلا : فلاستحالة اجتماع المثلين في مادة واحدة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه تكون هناك ذات واحدة موصوفة بصفتين لا أنّه يكون هناك جسمان متباينان.

فإذن المادة قد انقسمت ، فيلزم افتقارها إلى مادة أخرى ويتسلسل. ومع تسليمه فالمقصود حاصل ؛ لأنّه لو بقيت هناك مادة واحدة حالتي الوحدة والكثرة للجسم لم يكن تواردهما على الشيء سببا لعدم الشيء ، وبطلت الحجّة. وإن لم يبق شيء أصلا لزم عدم المادة فتكون لها مادة ، ويلزم أن لا تكون للكائن الفاسد مادة باقية ، وهو يبطل أصل الحجّة. ويستلزم كون التقسيم إعداما بالكلية. أو نقول : يجوز أن يكون الاتصال والانفصال عرضين متعاقبين على شيء هو موضوع لهما ، وهو الجسم.

قال أفضل المحقّقين : «لو كان كذلك لكان ذلك الشيء يجب أن يكون في ذاته غير متصل ولا منفصل حتى يمكن أن يكون موضوعا للاتصال والانفصال ، فهو لا يكون من حيث ذاته بحيث تفرض فيه الأبعاد الثلاثة فلا يكون جسما البتة ، بل هو المسمى بالمادة. ولا بدّ من انضياف شيء ما متصل بذاته إليه حتى يصير جسما ، فذلك الشيء هو الصورة، والمجموع هو الجسم الذي هو في نفسه متصل وقابل للانفصال ، والذين يجعلون المتصل عرضا على الإطلاق ينسون أنّ كون الجسم متصلا في نفسه أمر ذاتي مقوّم للجسم ، والجوهر لا يتقوّم بالعرض.

__________________

(١) ق : «منهما».

٥١٣

وأيضا ينبغي أن تعلم أنّ الوحدة الشخصية والتعدد الذي يقابلها أيضا لا يعرضان للمادة إلّا بعد تشخصها المستفاد من الصورة ليوقف على أحوال الشبه المبنيّة على اتصاف المادة بالوحدة أو التعدد ، كقولهم : لو كان تعدد الجسمية بعد وحدتها (مقتضيا لانعدامها ومحوجا إلى مادة توجد في الحالتين لكان تعدد المادة بسبب الانفصال بعد وحدتها مقتضيا لانعدام المادة الأولى و) محوجا إلى مادة أخرى (و) يتسلسل ؛ لأنّ المادة الموجودة في الحالتين غير موصوفة بنفسها بوحدة ولا تعدد ، (بل) إنّما تتصف بهما عند تعاقب الصور»(١).

وفيه نظر ، لأنّا لا نسلّم أنّ ذلك الشيء في ذاته لا يكون متصلا ولا منفصلا ، وكيف لا يكون كذلك والاتصال والانفصال أمران مغايران (٢) للحقيقة؟ نعم يجب اتصافها بأحدهما لكن ذلك لا يوجب كون أحدهما جزءا.

قوله : «لا يكون من حيث ذاته بحيث تفرض فيه الأبعاد الثلاثة».

قلنا : إن أردت بذلك أنّه من حيث ذاته يقتضي عدم فرض الأبعاد الثلاثة ، فهو ممنوع ، وإن أردت أنّه من حيث ذاته لا يقتضي فرض الأبعاد الثلاثة ، فهو مسلّم ؛ لأنّه إنّما يقتضي ذلك بواسطة الاتصال.

قوله : «فلا يكون جسما».

قلنا : لا نسلّم. أمّا أوّلا : فلأنّه ليس حدّ الجسم ما ذكرت ، على ما تقدم. وأمّا ثانيا : فلأنّ الجسم ليس الذي فرض فيه الأبعاد الثلاثة بالفعل ، بل الذي يمكن أن تفرض فيه.

والاتصال ، إن أريد به المعنى المتعارف منه ، منعنا كونه مقوما للجسم ؛ فإنّه لا يعقل الجسم متقوما بالمعنى الإضافي.

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٤٥ ـ ٤٦. وما بين الأقواس من المصدر.

(٢) ق : «متغايران».

٥١٤

وأمّا الوحدة والتعدد ، فقبول المادة لا يوجد إلّا مع حدّ ما منهما ، فهي إمّا متأخرة عنهما أو مقارنة لهما ، فإذا كانت الصورة هي العلّة فيهما للمادة وجب تقدمها على المادة ؛ لأنّ المتقدم على المتقدم وعلى المع متقدم. وكذا البحث في وحدة الصورة وتعددها إذا كانت المادة علّة فيهما لزم تقدمها على الصورة ، وهذا عين الدور المحال.

واعترض الشيخ على نفسه ، فقال ما تقريره : «إنّكم استدللتم بإمكان وجود الانفكاك والانفصال بالفعل في بعض الأجسام على كونه مقارنا لقابل ، وذلك لا يقتضي وجوب كون جميع الأجسام مقارنة للقابل ، فإنّ منها ما لا يقبل الفكّ والتفصيل ، كالفلك وغيره من الأجسام الصلبة الصغيرة وإن كان قابلا له بحسب الوهم» (١).

ثمّ أجاب بأنّ الامتداد الجسماني الذي هو الصورة الجسمية المتصلة بذاتها التي لا تبقى هويتها الامتدادية عند وجود الانفصال لا في الخارج ولا في الوهم أمر واحد نوعي ، فحصل التخلف بالأمور الخارجية دون الفصول المنوعة ، وطبيعة الأمر النوعي لا تختلف في الاستغناء عن القابل والحاجة إليه.

وإذا عرف في (٢) بعض أحوالها ـ وهو إمكان طريان الانفصال عليها وامتناع وجودها مع الانفصال ـ احتياجها إلى ما تقوم فيه ، عرف أنّ تلك الطبيعة محتاجة إلى القابل حيث كانت ، (ولو كانت) (٣) طبيعتها مستغنية عن القابل لكانت مستغنية حيث كانت. بخلاف الجنس ، كالحيوان الذي يكون مقتضيا لشيء كالضحك وهو عند تحصله بفصل كالناطق ، ولا يكون مقتضيا في سائر

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤٨.

(٢) ساقطة في المصدر.

(٣) ما بين الهلالين من شرح الإشارات ٢ : ٥٠.

٥١٥

الصور له.

أمّا هاهنا فطبيعة الامتداد نوعية محصّلة تختلف بالأمور الخارجية ، فإن اقتضت مع جميع الخارجات وفي جميع الأحوال بخلاف الحيوانيّة التي هي طبيعة جنسية غير محصّلة وهي لا يمكن أن تقتضي شيئا من حيث هي غير محصّلة ، ثمّ إذا تحصلت بشيء انضاف إليها (١) ودخل في وجودها المحصّل ، فإن اقتضت شيئا مع ذلك الشيء الخارج (٢) عنها لم تقتضه مع غيره ، لأنّها مع غيره لا تكون ذلك المحصّل بعينه (٣).

وأورد أفضل المتأخرين عليه المنع من كون «الطبيعة الجسمية طبيعة نوعية واحدة محصلة لا تختلف بالحقيقة» لأنّ ماهيتها غير معلومة ، والاشتراك في قبول الأبعاد لا يقتضي الاشتراك في الملزومات. ولأنّ الحكم بحلول بعض الجسميات في محلّ لا يقتضي وجوب الحلول ، بل يقتضي صحته.

فإذن يمكن أن لا يحل فيه البعض الآخر ، وناقض بالوجود الذي يقتضي في الواجب تجرده عن الماهية ، وفي الممكن لا يقتضي ذلك (٤).

وأجاب أفضل المحقّقين بأنّ الاحتياج إلى القابل إنّما يقتضيه الامتداد من حيث كونه متصلا بذاته قابلا للانفصال والمتصل بذاته لا ينفصل ، فهذا القدر معلوم ومشترك ومقتض للحكم وفيه كفاية ، فلا حاجة به (٥) إلى ما عداه ممّا لا نعلمه.

__________________

(١) في النسخ : «إليه» ، أصلحناها طبقا للمصدر.

(٢) في المصدر : «الغير الخارج».

(٣) المصدر نفسه : ٤٨ ـ ٥٢.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) في المصدر : «بنا».

٥١٦

والطبيعة المذكورة تقتضي وجوب الحلول لا الإمكان المحتمل لعدم الحلول. والوجود ليس من الطبائع الجنسية والنوعية على ما سيجيء بيانه (١).

وفيه نظر ، فإنّ القبول الراجع إلى الماهية غير مقتض لمقارنة المادة ، وإنّما يقتضي مقارنة المادة الإمكان الاستعدادي ، وهو ممنوع الثبوت في بعض الأجسام ، فلا بدّ من التوصل بالتساوي في طبيعة الجسمية.

واقتضاء الطبيعة الوجوب ، ممنوع ؛ لأنّ المقتضي لثبوت المادة هو الافتكاك العقلي ، وهو غير واجب الوجود ، وإن لم يكن من الطبائع الجنسية والنوعية لكنّه كلي ، وقد اقتضى لذاته في بعض الموارد شيئا دون الباقي ، فجاز في الصورة ذلك. واعترض أيضا بمذهب ذيمقراطيس ، وقد سبق.

الوجه الثاني : الجسمية مما يصح عليها العدم ، وكلّ ما كان كذلك فله مادة.

أمّا الصغرى ، فلأنّها عبارة عن الاتصال ، وعند الانفصال يعدم. ولأنّ كلّ قوة جسمانية ، فانّها لا تقوى على بقاء غير متناه. فإذن الجسمية ممّا يجب عليها العدم.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ الجسمية الزائلة كانت قبل زوالها ممكنة الزوال والطارئة كانت قبل حدوثها ممكنة الحدوث ، فقوة حدوثها وقوة فسادها تستدعي محلا ، وليس ذلك هو تلك الجسمية ؛ لأنّ محلّ الشيء يبقى معه ، والجسمية لا يمكن أن توجد عند عدمها ، فتلك القوة موجودة في شيء كان موجودا عند وجود الاتصال.

وبهذا يزول الشكّ بأنّ الانفصال عدم فلا يفتقر إلى المحل ؛ لأنّه عبارة عن عدم مقارن لقوة وجود ، وتلك القوة لا تستغني عن المحل. وهذه الحجّة هي الأولى في الحقيقة.

__________________

(١) المصدر نفسه : ٥٢ ـ ٥٣.

٥١٧

والاعتراض قد بيّنا امتناع وجود القوة والإمكان في الأعيان ، وإلّا لزم التسلسل ، وافتقرت المادة إلى مادة أخرى لأنّها ممكنة. والفرق بأنّ الإمكان الراجع إلى الماهية غير الاستعدادي ، ضعيف ؛ لأنّه هو في الحقيقة أقصى ما في الباب أنّه أخذ راجحا في أحد طرفيه.

وأيضا الإمكان صفة للحادث والفاسد ، فكيف يعقل قيامه بغيرهما؟

وكون الحادث حالا في هذه المادة فيرجع إمكانه إلى إمكان اتصاف المادة به فلا استحالة ، باطل ؛ لأنّ هنا في الحقيقة إمكانان ، أحدهما : إمكان الحادث ، والثاني : إمكان اتصاف المادة به ، بل وإمكان ثالث هو : إمكان حلوله في المادة.

وأيضا يبطل دليلكم بالفلك عندكم ، فإن جعل السبب في دوامه دوام فيض المفارق أمكن أن يجعل هنا كذلك.

الوجه الثالث (١) : الجسم من حيث هو جسم موجود بالفعل ، ومن حيث إنّه مستعد ـ أيّ استعداد شئت ـ فهو بالقوة ، والشيء الواحد من الجهة الواحدة لا يقتضي قوة وفعلا ، لأنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ؛ ولأنّ القابل من حيث إنّه قابل لا يجب له القبول ، ومن حيث إنّه فاعل له الأثر ، فلو كان الشيء الواحد قابلا لشيء واحد وفاعلا له لكان الشيء الواحد نسبته إلى الشيء الواحد قابلا لشيء واحد وفاعلا له لكان الشيء الواحد نسبته إلى الشيء الواحد بالوجوب والإمكان معا ، وهو محال.

فإذن الجسم مركب ممّا عنه له القوة وممّا عنه له الفعل (٢).

والاعتراض من وجوه (٣) :

__________________

(١) ويأتي هذا الوجه في ص ٥٣٧ أيضا (في إثبات عدم انفكاك الهيولى عن الصورة).

(٢) فالذي له به الفعل هو صورته ، والذي عنه بالقوة هو مادته ، وهو الهيولى. الفصل الثاني من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء : ٦٧.

(٣) أنظرها في المطالب العالية ٦ : ٢٠٩ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٤٩.

٥١٨

الأوّل : أنّه يقتضي تركب كلّ البسائط ؛ لأنّها موجودة بالفعل ، ولا شكّ في أنّها قابلة لأي صفة شئت ممّا يمكن حصولها لها فيكون البسيط مركبا ، هذا خلف.

الثاني : لا نسلم أنّه يمتنع اتصاف الشيء الواحد بقوة وفعل ؛ لأنّ ما هو بالفعل هو وجوده وما هو بالقوة الصفة الثابتة له ، وإذا تغايرت الجهتان فلا تركيب. وهذا كما يقولونه في النفوس الناطقة ، فإنّها موجودة بالفعل ومستعدة للتعقلات فتكون لها مواد ، وهو باطل على رأيهم.

الثالث : المادة موجودة بالفعل وإلّا فلا نزاع ، ولأنّها قابلة للصور ، والقابل للشيء وجوده سابق على وجود المقبول ، ثمّ هي مستعدة لقبول الصور ، فتكون لها مادة أخرى.

الرابع : النفس الناطقة موجودة بالفعل وبالقوة أيضا ، نظرا إلى ما يمكن حصوله لها من العلوم ، ولا مادة لها.

الخامس : لا نسلّم أنّها من حيث هي مستعدة تكون بالقوة ، فإنّ الموصوف بالقوة هو ذلك الشيء أو اتصافها به ، أمّا هي فإنّها بالفعل من كلّ وجه ، فلا يكون فيها تركيب.

السادس : لا نسلّم أنّ الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا ، لأنّ هنا نسبتين إلى شيئين ، فإنّ القابل له نسبة القبول إلى المقبول لا من جهة الفعل بل من جهة القبول ، والفاعل له نسبة الفعل إلى المفعول لا من جهة القبول بل من جهة الفعل ، وإذا تعددت النسب أمكن تعدد وصفي الوجوب والإمكان بالنسبة إليهما.

نعم الشيء الواحد من الجهة الواحدة لا تكون له نسبة واحدة بالوجوب والإمكان إلى الشيء الواحد ، لكن الجهات هنا متعددة.

٥١٩

قيل (١) : المادة لها من ذاتها القوة ، وكونها بالفعل بسبب الصورة ، فما هو المبدأ لكونها بالقوة ليس هو المبدأ لكونها بالفعل ، وهو عين كلامنا.

لا يقال : الصورة تحتاج في حدوثها إلى المادة فكيف تكون مبدأ لوجودها؟

لأنّا نقول : سيأتي جوابه في باب تعلق الهيولى بالصورة.

والاستعداد (٢) لا بدّ له من سبب زائد على ذات النفس وهو البدن وعلائقه. وسيأتي أنّه لو لا تعلق النفس بالبدن (وإلّا) (٣) لامتنع أن يحصل لها كمال بعد أن لم يكن. فأمّا كون الصورة محتاجة إلى المادة في الوجود والنفس غير محتاجة إلى البدن ، فذلك إنّما يعرف بدليل آخر.

والقوة (٤) والفعل سواء كانا بالنسبة إلى أمرين أو أمر واحد فإنّهما أمران يستدعيان مؤثرين.

وفيه نظر ، فإنّ قولك : «المادة لها من ذاتها القوة ، وكونها بالفعل بسبب الصورة» إن عنيتم بذلك أنّ المادة ليست إلّا القبول ولا ذات لها ولا وجود البتة وإنّما الوجود للصورة خاصة ، فهو مخرج لها عن كونها جزءا من الجسم الموجود بالفعل ، لأنّ جزء الموجود بالفعل موجود بالفعل بالضرورة. وأيضا القبول كيف يعقل أن يكون جوهرا متأصلا في الوجود غنيا عن الموضوع؟ والمادة عندهم جوهر ، لأنّهم يقسمون الجوهر إليها وإلى باقي أقسامه. ولأنّ القبول إضافة والمادة ليست إضافة. ولأنّ القبول عدمي فلا يكون جزءا من الوجودي.

وإن عنيتم به أنّ لها ذاتا وحقيقة مخصوصة متميزة بنفسها وحقيقتها عن

__________________

(١) جواب على الاعتراض الثالث ، والقائل هو الرازي في المباحث المشرقية ٢ : ٤٩.

(٢) جواب على الاعتراض الرابع.

(٣) ما بين الهلالين ساقط في المصدر.

(٤) جواب على الاعتراض السادس.

٥٢٠