نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

لكان قابلا وفاعلا معا ، وهو ممتنع عند مشاهير القوم ، وهو ممنوع عندنا وسيأتي (١).

لكنّا نقول : يمتنع أن يكون الشيء مبدأ لتغير نفسه ، وإلّا لدامت الصفة بدوام ذاته، فلا يكون متغيرا في تلك الصفة ، فعلمنا أنّ مبدأ تغيّره لا بدّ وأن يكون غيره (٢).

وفيه نظر ، فإنّهم يسمون المبادئ الحالّة في الأجسام وإن دامت بدوامها قوى كالقوة المعدنية وغيرها. وإنّما نعني بالتغير ما هو بحسب الذات فإنّ الذات من حيث هي هي لا يجب لها ذلك الوصف ، وإنّما يجب باعتبار قوة فيه أو في غيره فكأنّه تغير بحسب الذات.

__________________

(١) ج : «وسيأتي» مشطوبة.

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٥٠٤.

٢٤١

البحث الثاني

في أقسامها (١)

اعلم أنّ المؤثر كما يكون واحد الأثر كذا يكون كثير الأثر. وكما يفعل مع الشعور قد يفعل مع عدمه. فلهذا قسّم الأوائل القوة بهذه الاعتبارات إلى أربع قوى ؛ لأنّها إمّا أن يصدر عنها فعل واحد أو أفعال مختلفة ، وعلى كلا التقديرين : إمّا أن يكون لها بذلك الفعل شعور أو لا ، فالأقسام أربعة :

الأوّل : القوة التي يصدر عنها فعل واحد أي على وتيرة واحدة وعلى نهج واحد غير مختلف ، لأنّه (٢) واحد بالشخص من غير أن يكون لها شعور به ، وتسمى طبيعة ، وهي على قسمين : فإنّها إمّا أن تكون صورة مقومة ، وإمّا أن لا تكون بل تكون عرضا. فإن كانت صورة مقومة ، فإمّا أن تكون في الأجسام البسيطة فتسمى طبيعة كالنارية والمائية ، وإما أن تكون في الأجسام المركبة فتسمى صورة نوعية لذلك المركب كالطبيعة المبردة في الأفيون ، والطبيعة المسخنة في الفربيون (٣). وأمّا إن كانت عرضا فهو كالحرارة والبرودة.

__________________

(١) راجع نفس المصدر من الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ ؛ كشف المراد : ٢٤٧.

(٢) ق : «لا أنّه».

(٣) ق : «الأفربيون» وفي هامش ج : «هو داء يلطّف م».

٢٤٢

الثاني : القوة التي تصدر عنها أفعال مختلفة من غير أن يكون لها شعور بها ، ولا يكون فعلها على نهج واحد ، وهي القوة النباتية.

الثالث : القوة التي يصدر عنها فعل واحد على نهج واحد مع الشعور ، وهي النفس الفلكية.

الرابع : القوة التي تصدر عنها أفعال مختلفة مع الشعور بتلك الأفعال ، وهي القوة الحيوانية المسماة بالقدرة.

ويقال للقوى الثلاث المغايرة للأولى نفوسا. وليست القوة مقولة على هذه الأربعة قول الجنس ، لأنّ بعض أقسامها صورة جوهرية ، وبعضها أعراض ، ولا اشتراك في الجنس بين الجوهر والعرض. والقسم الأوّل يذكر في باب المادة والصورة ، والثاني والثالث في علم النفس.

فلنتكلم الآن في الرابع ، لأنّه أحد أنواع الحال والملكة.

واعلم أنّه لا استبعاد عندي في أن يودع الله تعالى بحسب ما تقتضيه عنايته في بعض الأجسام قوى تصدر عنها آثار متفقة أو مختلفة ، كالقوة الحيوانية التي أوجدها الله تعالى في الحيوان واستندت أفعاله إليه.

٢٤٣

البحث الثالث

في أحكام القدرة

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في أنّ القدرة غير المزاج (١)

المزاج كيفية متوسطة بين كيفيات متضادة متفاعلة بعضها في بعض كالحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، تستسخن (٢) إذا قيست إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار ، وكذا بين الرطوبة واليبوسة. فيكون في الحقيقة من جنس هذه الكيفيات الأربع ، إلّا أنّه منكسر ضعيف (٣) بالنسبة إليها. وإذا كان كذلك كان

__________________

(١) راجع الفصل السابع من المقالة الواحدة من الفن الثالث ، والفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن الرابع من طبيعيات الشفاء ؛ شرح الاشارات ٢ : ٢٧٥ وما يليها ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٠٥. أثبت فيه الرازي المغايرة بين القدرة والمزاج ولكنه قال في أصول الدين : «اعلم أنّا نعلم بالضرورة تفرقة بين الانسان السليم عن الأمراض الموصوف بالصحة وبين المريض العاجز ، والمختار عندنا أنّ تلك التفرقة عائدة إلى سلامة البنية واعتدال المزاج. وأمّا أبو الحسن الأشعري فإنّه أثبت صفة سماها بالقدرة مغايرة لاعتدال المزاج ...» أصول الدين : ٨٨.

راجع أيضا مناهج اليقين : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) ج : «تستخنّ».

(٣) في المخطوطة : «أنّها منكسرة ضعيفة».

٢٤٤

حكم المزاج من جنس هذه الكيفيات ، إلّا أنّه يكون أضعف من أحكامها إذا كانت صرفة قوية.

ولما لم يكن تأثير القدرة من جنس تأثير هذه الكيفيات عرفنا أنّها مغايرة للمزاج ، بل هي كيفية تابعة للمزاج.

وقيل (١) : إن كان المرجع بالقدرة في حقّنا إلى سلامة الأعضاء ، فهو معقول (٢) ، وهذا قول معتزلة بغداد (٣). وإن كان إلى أمر وراء السلامة المذكورة ، ففيه النزاع.

لكن الأشاعرة والمعتزلة المثبتون (٤) أثبتوا صفة زائدة على سلامة الأعضاء.

واحتجوا عليه بأنّ حركة المختار متميزة عن حركة المرتعش ، ولا مائز إلّا هذه الصفة(٥).

ولأنّ القدرة محتاجة إلى الحياة والحياة محتاجة إلى الصحة ، فلا يمكن جعلها نفس الصحّة.

اعترض عليهم (٦) : بأنّه متى يثبت هذا الامتياز (٧) ، قبل الاتّصاف بالفعل ،

__________________

(١) القائل هو الرازي. راجع تلخيص المحصل : ١٦٣.

(٢) ق : «فهي معقولة».

(٣) أمثال : «بشر بن المعتمر» و «ثمامة بن أشرس» و «غيلان» كما في مقالات الإسلاميين : ٢٢٩.

وبه قال الشيخ المفيد حيث قال : «والاستطاعة في الحقيقة هي الصحّة والسلامة ، فكل صحيح فهو مستطيع ...». تصحيح الاعتقاد : ٦٣.

وقال الخياط أيضا : «إنّ القدرة هي صحّة الجوارح وسلامتها من الآفات». الانتصار : ٨٠. راجع أيضا شرح الأصول الخمسة : ٣٩٢.

(٤) منهم : «أبو الهذيل» و «معمّر» و «المردار» كما في مقالات الإسلاميين : ٢٢٩.

(٥) عبّر التفتازاني عن هذه الحجة بالوجدان. شرح المقاصد ٢ : ٣٥٠.

(٦) راجع المصدر السابق من الرازي.

(٧) كذا في تلخيص المحصل ، وفي المخطوطة : «الاختيار».

٢٤٥

أو حال الاتّصاف؟ والأوّل باطل عند الأشاعرة ؛ لأنّ القدرة لا تتقدم الفعل عندهم. والثاني محال ؛ لأنّ المرتعش كما لا يتمكن من الحركة حال حصولها لأنّها تكون واجبة حينئذ، كذلك المختار لا يتمكن منها حال وجودها لاستحالة أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما معا في وقت واحد.

ويقال لهم أيضا : متى يثبت هذا الاختيار (١) ، حال ما خلق الله تعالى الحركة أو قبلها؟ والأوّل باطل ؛ لأنّ حصول الفعل حال ما خلق الله تعالى واجب لا يتمكن القادر من عدمه. والثاني باطل ، لأنّ حصولها قبل أن خلقها (٢) الله تعالى محال ، فلا يكون مقدورا.

فعلى كلا التقديرين ينتفي الاختيار.

ويقال للمعتزلة : متى يثبت هذا الاختيار؟ عند استواء الداعيين ، أو عند رجحان أحدهما على الآخر؟ والأوّل محال ؛ لأنّ الاستواء يمنع الفعل ، فعنده لا يكون الفعل ممكنا ، وعند الامتناع لا اختيار.

والثاني محال ؛ لأنّ مع حصول الترجيح يجب الراجح ويمتنع المرجوح ، فلا يثبت الاختيار.

أجاب أفضل المحققين : بأنّ المختار لا يتمكن من الحركة مع فرض وجود الحركة ، أمّا مع قطع النظر عنه فلم لا يجوز؟ والاختيار حال ما خلق الله تعالى الحركة محال لغرض وجود الحركة ، أمّا مع قطع النظر عن ذلك فانّه ممكن لوجود القدرة المقتضية له.

والاختيار عند المعتزلة هو صحة صدور الفعل أو تركه من القادر تبعا لداعيه ، أو عدم داعيه ، وهو متساوي النسبة إلى الطرفين عند عدم اعتبار الداعي ،

__________________

(١) ق : «الامتياز» والصحيح ما أثبتناه من ج.

(٢) ق : «خلق».

٢٤٦

وغير متساو عند اعتبار أحدهما.

ومتقدّموهم جوزوا صدور أحد الطرفين من المختار من غير ترجح أحدهما على الآخر ، وأوردوا أمثله الجائع والعطشان والهارب ، إذا حضرهم رغيفان متساويان ، أو قدحان متساويان ، أو طريقان متساويان ، فإنّهم يختارون أحدهما من غير مرجح (١).

والذين لا يجوزون ذلك يقولون : الرجحان شيء ، والعلم بالرجحان شيء ، ولعله يختار أحدهما لوجود الرجحان وإن لم يفطن بالرجحان.

ومتأخروهم قالوا : بوجوب الرجحان ، وقال بعضهم : بأنّ الطرف الراجح يكون أولى ولا ينتهي إلى حدّ الوجوب ، وهو اختيار محمود الملاحمي (٢). وأنكر بعضهم كون الأولوية كافية لما مرّ في خواص الممكن.

أبو الحسين وأصحابه (٣) قالوا : عند الداعي يجب الفعل وعند عدمه يمتنع ، وذلك لا ينافي الاختيار ، فإنّ معنى الاختيار هو : أن يكون الفعل والترك بالقياس إلى القدرة متساويين ، وبالقياس إلى الداعي وعدمه ، إما واجبا ، أو ممتنعا. ومن عدم التمييز بين الأمرين في هذه المسألة يحدث الاختلاف الجاري بين القائلين بالإيجاب والاختيار (٤).

__________________

(١) راجع كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ١٦١ ـ ١٦٤.

(٢) وهو محمود بن الملاحمي أحد تلاميذ أبي الحسين البصري ، له كتاب المعتمد الأكبر ، (طبقات المعتزلة : ١١٩).

وانظر إبطال القول بالأولوية في أصول الدين للرازي : ٨٦ ؛ كشف الفوائد : ٢٣٧ و ٢٣٩ ؛ الأسفار ١ : ١٩٩ ـ ٢١٥ و ٢٢١ ـ ٢٣٠.

(٣) ج : «الحسين وأصحابه» ، ق : «أصحاب الحسين» ، والصحيح ما أثبتناه وفقا لتلخيص المحصل : ١٦٤.

(٤) نفس المصدر : ١٦٤ ـ ١٦٥.

٢٤٧

وفيه نظر ، فانّه مسلم أنّ الحركة وغيرها حال فرض وجوده يكون واجبا مع فرض وجوده ، ومع فرض عدمه يكون ممتنعا ، لكن مع قطع النظر لا يجوز هنا صدوره عن العبد ، لأنّه لا مؤثر عندهم غير الله تعالى. والوجوب والامتناع اللاحقين بالفعل حالة وجوده وعدمه إنّما ينسبان بالنسبة إلى الله تعالى لا إلى العبد عندهم. واختيار العبد عندهم غير مؤثر ولا مرجح ، فلا يقع بواسطته امتياز البتة.

وقيل : القدرة هي الحركة ، حيث وجدوا الحركات هي التي يظهر بها في الغالب كون أحدنا فاعلا.

وهو خطأ ، أخذوا فيه لازم الشيء مكانه. مع أنّ الجمادات تتحرك وليست قادرة ، فليست الحركة هي القدرة.

المسألة الثانية : في أنّ القدرة (١) متقدمة على الفعل

اختلف المعتزلة والأشاعرة في ذلك ، فالذي عليه المعتزلة والإمامية والفلاسفة أنّ القدرة يجب أن تكون متقدمة على الفعل (٢) ، وهو الحق.

__________________

(١) قد تستعمل القدرة والقوة والاستطاعة والطاقة في هذه المباحث بمعنى واحد. قال القاضي عبد الجبار : «وأعلم أنّ الأسماء تختلف عليها ، فتسمى قوة واستطاعة وطاقة ... وعلامة اتفاق هذه الألفاظ في المعنى ، أنّك لو أثبتّ ببعضها ونفيت بالبعض لتناقض الكلام». شرح الأصول الخمسة : ٣٩٣.

(٢) واختلفوا أيضا في أنّه هل يجب بقاؤها إلى حالة وجود المقدور؟ كما في شرح المقاصد ٢ : ٣٥٤.

وانظر رأي المعتزلة في : الانتصار : ٧٩ ـ ٨١ ؛ شرح الأصول الخمسة : ٣٩٥. ورأي الإمامية في : تصحيح الاعتقاد : ٦٣ ـ ٦٤ ؛ كشف الفوائد : ٢٣٧ ؛ كشف المراد : ٢٤٨ ؛ مناهج اليقين : ٧٩.

ورأي الفلاسفة في : الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء : ٣٨٣. ورأي الأشاعرة في : مقالات الإسلاميين : ٢٣٠ ـ ٢٣٣ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ؛ أصول الدين للرازي : ٨٩ ؛ تلخيص المحصل : ١٦٥.

وانظر أيضا الآراء والأدلّة في الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ : ٣٨ ـ ٦٢.

٢٤٨

وأوجبت الأشاعرة اقتران القدرة بالفعل ، ومنعوا من تقدمها عليه. واستبعده الشيخ في إلهيات الشفاء كل الاستبعاد ، وقال :

«لعل القائل بهذا القول كأنّه يقول : القاعد لا يقوى على القيام ، أي لا يمكن في جبلّته أن يقوم ما لم يقم ، وكيف يقوم ، بل هذا القائل لا محالة غير قوي على أن يرى وعلى أن يبصر في اليوم الواحد مرارا كثيرة ، فيكون بالحقيقة أعمى» (١).

قال أفضل المتأخرين : «ليس هذا الاستبعاد عندي في موضعه ؛ لأنّا فسرنا القوة بأنّها مبدأ التغير ، فهذا المبدأ إن كانت جهات مبدئيته كاملة وجب أن يوجد معه الأثر واستحال تقدمه على الأثر ، وحينئذ يصح قولنا : إنّ القوة مقارنة للفعل. وإن لم توجد كاملة ، بل فقد أمر من الأمور المعتبرة في المبدئية والإيجاد لم يكن ذلك الموجد تمام المؤثر ، بل بعضه ، فلم يكن الموجود هو القوة على الفعل ، بل بعض تلك القوة.

نعم لا شك أنّ الكيفية المسماة بالقدرة حاصلة قبل الفعل وبعده ، ولكنها بالحقيقة ليست هي تمام القوة على الفعل ، بل أحد أجزاء القوة.

(وبالجملة فالقدرة إن أريد بها القوة الجامعة لجميع جهات المؤثرية فهي غير متقدمة ، وإن أريد بها القوة العقلية (٢) التي تؤثر عند انضمام الإرادة الجازمة إليها فهي متقدمة.) وإذا أمكن تأويل كلام القوم على الوجه الذي فصلناه ، فأي

__________________

(١) الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء : ٣٨٣.

وقد أورد المصنّف المثال الأوّل في ابطال قول الأشاعرة وقال : «الضرورة قاضية ببطلان هذا ، فانّ القاعد يمكنه القيام قطعا» كشف المراد : ٢٤٨.

(٢) ق : «الفعلية». ولعل الصحيح : «العضليّة».

٢٤٩

حاجة بنا إلى التشنيع وتقبيح صورة كلامهم؟» (١)

وفيه نظر ؛ لأنّ أصحابه صرحوا بامتناع تقدم القدرة على الفعل ، واحتجوا عليه بأنّ القدرة عرض فلا يمكن بقاؤها ، وهذا التصريح لا يقبل التأويل الذي ذكره.

ويدل على ما ذهبنا إليه وجوه :

الأوّل : الكافر مكلف بالإيمان إجماعا ، والإيمان غير موجود فيه حال كفره ، فإمّا أن تكون القدرة ثابتة حينئذ أو لا ، فإن كان الأوّل بطل قولهم بامتناع التقدم ، وإن كان الثاني لزم تكليف ما لا يطاق (٢) ، لأنّ التكليف ثابت حال الكفر والقدرة غير ثابتة.

اعترضه أفضل المتأخرين : «بأنّه وارد عليكم أيضا ؛ لأنّه حال حصول القدرة لا يمكنه الفعل ، وحال حصول الفعل لا قدرة له عليه.

لا يقال : إنّه في الحال مأمور بأن يأتي بالفعل في ثاني الحال لا في الحال.

لأنّا نقول : هذه مغالطة ؛ لأنّ كونه فاعلا للفعل إمّا أن يكون هو نفس صدور الفعل عنه ، وإما أن يكون أمرا زائدا عليه ، فإن كان الأوّل استحال أن يصير فاعلا قبل دخول الفعل في الوجود ، وإذا كان كذلك استحال أن يقال : إنّه مأمور بأن يفعل في الحال فعلا لا يوجد إلّا في ثاني الحال. وإن كان الثاني كانت

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٥٠٦. وما بين الهلالين ليس فيه.

قال صدر المتألهين بعد نقل تأويل الرازي : «لعمري أنّ تصحيح كلامهم بهذا التأويل والتفصيل أشنع وأقبح كثيرا من كلامهم الواقع على الإجمال ...» تعليقات على إلهيات الشفاء : ١٦٨.

(٢) اختلفت الفرق الإسلامية في جواز التكليف بما لا يطاق ، فنفاه وأنكره الإمامية والمعتزلة والماتريدية ، وقالت الأشاعرة بجوازه ، راجع شرح الأصول الخمسة : ذيل ص ٣٩٦.

٢٥٠

تلك الفاعلية أمرا حادثا فيفتقر إلى الفاعل ، والكلام في فعلها كالكلام في الأوّل فيلزم التسلسل» (١).

وأجاب عنه أفضل المحققين بأنّه : «إذا أخذ حال حصول القدرة حال وجود الفعل بعينه فالفعل لا يمكنه ، لا من حيث القدرة ، بل من حيث تفرض مقارنتها بالفعل ، وكون الفعل واجب الوقوع حينئذ».

ثم اعترض كلام المعتزلة بأنّ : «الكافر مكلف بالإيمان من حيث هو قادر حتى يؤمن في حال قدرته ، وهذا ليس تكليفا بما لا يطاق. ومن حيث فرض وقوع الكفر منه في حال قدرته على الإيمان لو كان مكلفا بالإيمان كان تكليفا بما لا يطاق» (٢).

وفيه نظر ، فإنّ قوله : «حال حصول القدرة لا يمكنه الفعل» ، يشتمل على التناقض. وقوله : «استحال أن يقال : إنّه مأمور بأن يفعل في الحال فعلا لا يوجد إلّا في ثاني الحال» مغالطة ؛ فإنّه مأمور في الحال بأن يفعل في ثاني الحال لا في الحال. أو نقول : إنّه قد أعلم في الحال بأن يؤمن في ثاني الحال.

واعتراض أفضل المحققين غير وارد ؛ لأنّ الكافر عند الأشاعرة إنّما يكلف حالة الفعل لا حالة الكفر ، لكن حالة الفعل هي حالة وجوبه ، أعني حال عدم القدرة عليه. وأيضا لو اقترن التكليف والقدرة والفعل كما هو مذهب الأشاعرة لم يكن أحد عاصيا البتة حتى الكافر ، والتالي باطل اتفاقا ، فالمقدم مثله.

الثاني : القدرة إنّما يحتاج إليها لأجل أن يخرج القادر الفعل من العدم إلى الوجود ، فلو لم توجد إلّا حال حدوث الفعل ـ التي هي حالة وجوده ـ لم تكن هناك حاجة إليها.

__________________

(١) تلخيص المحصل : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٢) نفس المصدر : ١٦٦.

٢٥١

اعترضه أفضل المتأخرين : «بأنّه منقوض بالعلة والمعلول ، والشرط والمشروط» (١). فإنّ العلة إنّما يحتاج المعلول إليها لتخرجه من العدم إلى الوجود ، مع أنّها موجودة معه غير متقدمة عليه ، وكذا الشرط مع المشروط المساوي.

وأجاب أفضل المحققين بأن : «ايراد النقض بالعلة والمعلول ، والشرط والمشروط ليس بنافع ؛ لأنّ العلة أيضا قبل وقوع المعلول ممتنعة العلية ، وكذلك حال وقوعه ، وذلك لانضياف القبل والحال إليها».

ثم عارض المعتزلة بأنّ : «الحاجة إلى القدرة وحدها لأجل أن يدخل الفعل من العدم إلى الوجود ، لا إليها مأخوذة مع حدوث الفعل أو عدمه» (٢).

وفيه نظر ، فإنّ الفرق واقع بين القدرة والعلّة ؛ لأنّ القدرة إنّما يحتاج إليها لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، من المختار الذي يجب تقدم قدرته واختياره بالزمان على الفعل ، بخلاف العلّة والمعلول المقترنين بالزمان.

وما ذكره أفضل المحققين ليس بوارد ؛ لأنّ الشك هكذا : لو احتاج الإخراج من العدم إلى الوجود إلى تقدم المحتاج إليه بالزمان لثبت ذلك في العلة والمعلول. ومعلوم أنّه لا يندفع بما ذكره ، بل بما قلناه أوّلا من الفرق بين العلة الموجبة والقدرة المصححة. على أنّ المعلول إذا انحصرت أحواله في ثلاث وامتنع تأثير العلة فيه في الثلاث امتنع تأثيره فيه مطلقا.

نعم العلة تؤثر في المعلول من حيث هو هو لا مأخوذا بعد العلّة ، أو معها ، أو قبلها ، وإن امتنع تأثيرها إلّا في أحد الأحوال ، لكن لا بشرط أحدها. وإذا كانت الحاجة إلى القدرة وحدها لادخال الفعل من العدم إلى الوجود وجب أن يوجد اعتبار حدوث الفعل وعدمه في الحاجة.

__________________

(١) و (٢) نفس المصدر.

٢٥٢

الثالث : لو وجب اقتران القدرة والمقدور لزم أحد المحالين ، وهو إمّا قدم العالم ، أو حدوث قدرة الله تعالى ، والتالي بقسميه باطل ، فالمقدم مثله. والشرطية ظاهرة.

واعترضه أفضل المتأخرين بأن : «المؤثر في وجود أفعال الله تعالى هو تعلّق قدرته بها زمان حدوثها ، وأمّا التعلقات (١) السابقة فلا أثر لها البتة ، وهذا لا يمكن تحققه في قدرة العبد ، لأنّها غير باقية» (٢).

أجاب أفضل المحققين بأنّ : «القول : بأنّ تعلّق قدرة الله تعالى زمان حدوث الفعل مؤثر في وجود الفعل ، ليس بشيء لأنّ الفعل يجب في زمان حدوثه وإن لم تكن قدرة».

واعترض كلام المعتزلة بأنّه «لا نسبة لقدرة الله تعالى إلى قدرة العبد ، مع أنّ قدرته تعالى إذا أخذت مع وجود الإرادة أو عدمها لا يبقى للاختيار وجه ، كما قيل في العبد»(٣).

وفيه نظر ، فإنّ المتعلقات لو كانت ثابتة لزم التسلسل ، والثبوت الذهني عنده محال. ولاستحالة أن يكون مؤثر الموجودات العينية ـ من الأجسام والأعراض ـ أمرا ذهنيا ، وإنّما تنتفي النسبة لو ثبت الاختلاف ، لكن مفهوم القدرة واحد.

الرابع : أنّه سيأتي إن شاء الله تعالى وجوب تعلّق القدرة بالضدين ، فلو وجب فيها مقارنة الأثر لوجب اجتماع الضدين ، وهو محال (٤).

الخامس : قد تتعلق القدرة بما لا يتناهى من الأفعال على ما سيأتي تفصيله ، فلو وجب مقارنتها للأثر لزم وجود ما لا يتناهى دفعة ، وهو محال.

__________________

(١) في المخطوطة : «المتعلقات» وما أثبتناه من المصدر.

(٢) و (٣) نفس المصدر.

(٤) انظر تفصيل هذا الدليل ونقضه وابرامه في شرح الأصول الخمسة : ٣٩٦ وما يليها.

٢٥٣

السادس : الفرق بين القدرة والعلّة هو وجوب الأثر وعدمه ، فلو وجب الاقتران لم يبق بين القدرة المؤثرة على سبيل الصحة والإمكان والعلة المؤثرة على سبيل الوجوب ، تغاير ، وهو محال بالضرورة.

السابع : هنا حالتان للقدرة قطعا : حالة حاجة إليها ، وحالة الاستغناء هي حالة الوجود لاستحالة تحصيل الحاصل ، فلم تبق حالة الحاجة إلّا حالة العدم فيخرج القادر بقدرته الفعل من العدم إلى الوجود ، وهذا يقتضي تقدمها لا محالة بخلاف وجوب مقارنة السبب لمسببه ، لأنّ السبب لا يؤثر في الأحداث ، وإنّما التأثير في ذلك للقدرة.

الثامن : لو وجبت مقارنتها للفعل لقدح في طريق إثباتها ، وكل حكم يرجع على أصله بالإبطال فإنّه يكون باطلا.

بيان الشرطية : أنّ القدرة إنّما يعلم ثبوتها بعد العلم بكون أحدنا قادرا ، وإنّما نعرف الواحد منا قادرا بوقوع تصرفه بحسب دواعيه ومقاصده ، لأنّه ما لم نعرف محدثا لتصرفه لا نعرف أنه قادر ، وهذا طريق إثباته ، وإذا ثبت هذا فلو كانت القدرة متى وجدت وجب وقوع الفعل معها لبطل اعتبار الدواعي والإرادة ، ولم يكن لهما تأثير ، وإذا لم يكن بذلك معتبر فلا طريق إلى أن أحدنا فاعل ، وفساد هذا الطريق يقود إلى الجهل بكونه قادرا. وإذا لم نعرف قادرا لم نعرف القدرة.

التاسع : (١) إن كانت قدرة القديم تعالى سابقة على مقدوراته (٢) من الأجسام وغيرها كانت قدرتنا على أفعالنا كذلك ، لكن المقدم حق قطعا ، فالتالي مثله.

بيان الشرطية : أنّ هذا الحكم راجع إلى القدرة ؛ لأنّ الفعل في الأزل ممكن

__________________

(١) انظر الوجه في شرح الأصول الخمسة : ٤١٤.

(٢) في المخطوطة : «معدوداته» ، أصلحناها وفقا للسياق.

٢٥٤

لاستحالة انتقاله من الامتناع إلى الإمكان ، فلو صح تعلّق القدرة به على سبيل الاقتران وقدرته تعالى أزلية وجب قدم الفعل ، وهو محال ، وإذا كان هذا الحكم راجعا إلى مجرد القدرة ثبت في قدرتنا ذلك أيضا.

العاشر : (١) ألزم قدماء المعتزلة كأبي الهذيل وجعفر بن حرب (٢) وغيرهما الأشاعرة في سؤالهم لهم : متى يقدر أحدنا على فعل نفسه ، أو على الانتقال من الظل إلى الشمس ، أو على تطليق زوجته ، أو على القاء العصا من يده؟ فإن كان قادرا عليها قبل حدوثها فهو المطلوب ، وإن كان عند حصولها فهذه حالة قد استغنى فيها عن القدرة وعن القادر. وكيف يقولون في القتل ، وهو يخرج حال وجوده من كونه حيا ، فكيف يثبت كونه قادرا؟

احتجت الأشاعرة بوجوه (٣) :

أ : (٤) القدرة عرض فلا تكون باقية ، فلو تقدمت على الفعل لاستحال أن يكون قادرا على الفعل.

ب : حال وجود القدرة ليس إلّا عدم الفعل ، والعدم المستمر يستحيل أن يكون مقدورا ، وحال حصول الفعل لا قدرة (٥).

ج : لو جاز تقدمها وقتا واحدا ولا فعل ، جاز تقدمها أوقاتا كثيرة ، فيخلو أحدنا من الأخذ والترك.

__________________

(١) انظر هذا الوجه بتمامه في شرح الأصول الخمسة : ٤١٤ ـ ٤١٥.

(٢) أبو الفضل جعفر بن حرب الهمداني (١٧٧ ـ ٢٣٦ ه‍) : من أئمة المعتزلة ، من أهل بغداد. أخذ الكلام عن أبي الهذيل العلاف بالبصرة. وصنّف كتبا كثيرة مثل : الايضاح ، نصيحة العامة ، أصول الخمس و... راجع طبقات المعتزلة : ٧٣ ؛ تاريخ بغداد ٧ : ١٦٢ ؛ مروج الذهب ٢ : ٢٩٨.

(٣) انظر تفصيل الوجوه ووجوها أخرى والجواب عنها في شرح الأصول الخمسة : ٤٢٢ ـ ٤٣١.

(٤) انظر هذا الوجه في تلخيص المحصل : ١٦٧.

(٥) راجع تلخيص المحصل : ١٦٥.

٢٥٥

د : قالوا إذا كان عدم القدرة يحيل الفعل فوجودها يجب أن يوجبه.

ه : لو استحال الفعل بالقدرة في الحال لكان المحيل إمّا أن يرجع إليها ، أو إلى المقدور ، إذ لا يعقل ثالث غيرهما يستند إليه الإحالة ، لكن لو استحال لأحد الأمرين لاستحال الفعل بها في الثاني. وهذه شبهة أخذوها من ابن الراوندي حيث أوردها في العالم ، فقال : «لا يخلو المحيل لوجود العالم في الأزل من أمرين ، إمّا أن يرجع إلى نفسه ، أو إلى القادر ، وعلى كلا التقديرين يلزم امتناع وجوده من بعد».

و : القادر إمّا أن يكون ممنوعا من الفعل ، أو ممتنعا ، أو فاعلا ، والامتناع أيضا فعل ، والمنع عجز ، فكيف يصح خروج القادر عن الفعل بقدرته؟

ز : إذا كان عند ما يصح الفعل من القادر يحتاج إلى أمر فعند وجوده تجب الحاجة إلى أمر سواه.

ح : إذا وجب في الآلة أنّ تقارن الفعل فكذا القدرة.

ط : القدرة يتوصل بها إلى الفعل فأشبهت الحاسة التي يتوصل بها إلى الإدراك ، فإذا كانت الحاسة يصح الإدراك بها حال وجودها فكذلك القدرة.

ي : المنع منع عن الفعل في الحال ، فكذا القدرة.

يا : لو لم تكن القدرة مع الفعل ولم توجبه يصح وجود العجز معها كما يصح وجوده مع الآلات.

يب : الفاعل حالة الفعل لا يمكن عجزه عنه فتجب قدرته عليه.

يج : العجز عجز عما لم نفعله ، والقدرة يجب أن تكون قدرة على ما نفعله.

يد : لو تقدمت القدرة الفعل ولم يحتج إليها حال الفعل ، لأوجب

٢٥٦

الاستغناء عن الله تعالى في كل وقت ، خصوصا إذا قلتم ببقائها.

يه : الدليل والمدلول يوجدان معا على سبيل الوجوب وكونه فاعلا ككونه قادرا ، فيجب أن يدل على قدرته في الحال.

يو : لا بدّ من الفرق بين الحركة الضرورية والاختيارية والفرق بينهما يجب أن يكون بأمر حاصل في الحال ، وهو وجوب مقارنة القدرة لإحداهما دون الأخرى.

والجواب عن أ : لم لا يجوز أن تكون القدرة عبارة عن سلامة الأعضاء؟

سلمنا ، لكن لا نسلم أنّ العرض لا يبقى ، وقد تقدم بطلانه (١).

سلمنا ، لكن لا نسلم استحالة قدرته على الفعل لتعاقب القدر (٢) حينئذ.

وعن ب : أنّه استدلال من فرض القدرة مع عدم الفعل ، أو وجوده ، وهو قاصر عن إفادة المطلوب ؛ لأنّ ذلك الامتناع إنّما يلزم من فرض اجتماع القدرة والفعل ، والمدعى امتناع وجود القدرة قبل الفعل.

وفيه نظر ، فإنّ النزاع ليس إلّا في وجود القدرة مع عدم الفعل ، لأنّ الذي يجعلها متقدمة يفرض وجودها مع عدم الفعل. وأيضا إذا لم يكن للفعل إلّا حالتا وجود وعدم ، وثبت امتناع وجود القدرة فيهما لزم انتفاء القدرة.

بل الوجه في الجواب : نسلم أنّ القدرة المتقدمة تقارن عدم الفعل ، لكن ليس ذلك العدم المستمر مقدورا ، بل الفعل في ثاني الحال ثم يبقى إلى أن يقارن الفعل ، فلا يلزم نفي القدرة. وتجري هذه الشبهة مجرى قول من ينفي الإيجاد ، بأنّه إمّا أن يكون حال الوجود فيلزم تحصيل الحاصل أو عدمه فيجتمع النقيضان.

__________________

(١) في المجلد الأوّل : ٣٠١.

(٢) القدر جمع القدرة كثقبة وثقب ، وغرفة وغرف.

٢٥٧

وعن ج : بجواز الخلو عن الفعل والترك إذا جعلناه فعل الضد ، وسيأتي.

وعن د : أنّه قياس خال عن الجامع ، والقياس في نفسه ضعيف ، فكيف إذا خلا عن العلة؟! وأيضا القدرة مصححة للفعل جارية مجرى الشرط له ، فإذا عدمت امتنع الفعل ولا يجب بوجودها كسائر الشروط ، كالحياة مع ما يشترط بها كالقدرة والعلم ، وكأجزاء العلل. ثم ينقض كلامكم بقدرة الله تعالى ، فإنا لو فرضنا زوال كونه قادرا لاستحال الفعل منه ، وعند حصول هذه الصفة لا يجب وجود الفعل.

وعن ه : أنّ الفعل يمتنع بالقدرة حال وجودها ، فلا تعلّل هذه الاستحالة بشيء. والحاصل أنّ امتناع الاقتران ذاتي فلا يعلّل.

وأيضا ينتقض بقدرة الله تعالى ، فإنّه لم يزل قادرا والفعل يستحيل منه أزلا والقسمة آتية فيه مع أنّه لا يلزم امتناع وجود العالم فيما بعد.

وأيضا لا يلزم من سبق الاستحالة دوامها ، فإنّ العلم يستحيل اجتماعه مع الظن أوّلا ، ثم يصح من بعد وجود العلم ، والحركة مستحيلة على الجسم حال حدوثه ممكنة له فيما بعد.

وعن و : ليس المنع عجزا ، ولو كان عجزا بطلت القسمة ؛ لامتناع تقسيم الشيء إلى ما يضادّه ، وكأنّهم قالوا : القادر إمّا أن يكون فاعلا ، أو عاجزا.

وأيضا يتضمن قسمة الشيء إلى نفسه وغيره ؛ لأنّ الامتناع فعل. ثم ترد هذه القسمة في حقّه تعالى.

وعن ز : أنّ الذي يحتاج إليه عند الصحة هو القدرة خاصة ، ولا خلاف في أنّه لا يحتاج إلى قدرة ثانية. فإن قالوا : الذي يحتاج إليه عند الصحّة غير القدرة ،

٢٥٨

فغير مسلم ؛ لأنّ من دونها لا يوصف الحيّ بصحّة الفعل منه ولهذا الصحة على مذهبهم لا تثبت ؛ لأنّ الحال يتردد بين أمرين لا غير : وجوب الفعل وهو عند وجود القدرة ، وامتناعه وهو حال عدمها.

وأيضا ينتقض بالقديم تعالى ؛ لأنّه يصح منه الفعل قبل أن يوجده ، وعند الوجود لا يحتاج إلى أمر زائد.

فإن أثبتوا أمرا موجبا هو كونه مريدا ، فهو أمر دائم مستمر غير متجدد ، وإلّا لزم وجود العالم أبدا ، لثبوت ما يوجب وجوده.

وأيضا لو سلمنا وجوب وجود أمر سوى القدرة قلنا نعم ، وهو الإرادة.

وعن ح : أنّ من الآلة ما يجب تقديمه ومنها ما لا يجب ، والقدرة من قبيل الأوّل(١).

وعن ط : أنّه قياس خال عن الجامع. على أنّهم يفرقون بينهما بأنّ الحس تدرك به الأضداد وليست قدرة عندهم متعلقة بالضدين ، فتغايرا في الأحكام.

__________________

(١) إنّ القاضي عبد الجبار قد عقد فصلا في تقسيم الآلات ، فقسّمها إلى ثلاث :

١ ـ ما يجب تقدمها ولا يجب مقارنتها ، وذلك كما يكون وصلة إلى الفعل ، نحو القوس ، فإنّها لا بد أن تكون متقدمة على الإصابة.

٢ ـ ما يجب تقدمها ومقارنتها جميعا ، وذلك كل ما يكون محلا للفعل ، نحو اللسان ، فانّه يجب تقدمه حتى يكون معينا على الكلام ، ويجب مقارنته حتى يكون محلا.

٣ ـ ما يجب مقارنتها ولا يجوز فيها التقدم ، وذلك كصلابة الأرض في التصرف ، فانّها ينبغي أن تكون ثابتة في الحال ولا يجب تقدمها.

ثم قال : إذا ثبت هذا ، فلنا أن ننظر أنّ القدرة من أي هذه الأقسام هي ، فنظرنا فإذا هي من قسمة ما يجب تقدمها ، لأنّها كالوصلة إلى الفعل». شرح الأصول الخمسة : ٤٠٩ ـ ٤١٠.

ثم استفاد من هذا التقسيم في الجواب عن شبهة الأشاعرة. راجع نفس المصدر : ٤٢٦.

٢٥٩

وعن ي : بأنّه غير وارد على أبي علي حيث قال بالتسوية بين القدرة والمنع في وجوب التقديم. وأمّا غيره إذا أوجب فلأنّ المنع ضدّ الفعل ، ولا يقع بين الشيء وغيره تضاد إلّا في حال الوجود.

وعن يا : إن أردتم بذلك أنّ العجز عن غير ما هو قادر عليه فصحيح. وإن كان الفرض أن يعجز عن عين ما هو قادر ، فالمانع هو التضاد. ولا يجب إذا صحت مضافة العجز للآلة أن يصح مثله في القدرة ، لأنّ التضاد جار بينه وبين القدرة. والحاصل أنّ العجز يضاد القدرة ، فالملازمة ممنوعة.

وعن التهذيب : بالمنع من الملازمة فإنّا نجوز خلوه في تلك الحال من القدرة والعجز.

سلمنا وجوب القدرة حالة الفعل ، لكن النزاع ليس فيه ، بل في جواز تقدمها وعدمه ، وإلزام العجز إنّما يستقيم عندهم على مذهب من يرى بقاء القدرة ، وهم لا يقولون به.

وعن يج : بمنع وجوب ما قلتم ، ووجوب الجمع بين الأمرين على ما صوّرتم ، فلا بد له من دليل على أنّ العجز لا يجوز أن يكون عجزا عما لم نفعله ؛ لأنّ من جملته ما لا يصح أن يعجز عنه كمقدور الغير.

سلّمنا لكن وجوب كون القدرة على ما نفعله يستدعي تقدمها.

وعن يد : بالمنع من عدم الحاجة إلى القدرة مع تقدمها. ثم لو كان هذا المعنى قادحا في وجوب تقدمها لقدح في وجوب تقدم الآلة وبقائها.

وعن يه : بالمنع من وجوب المقارنة بين الدليل والمدلول ، فإنّ المعجزة تدل على صدق مدّعي النبوة وإن تأخرت المعجزة عن صدقه ، وكذا الفعل في كونه قادرا يتراخى عنه وإن دلّ عليه. وعلى أنّ دلالة الفعل عندنا هي على أنّ الفاعل كان قادرا ، وذلك ثابت في الحالين ، بخلاف العلّة والمعلول ؛ لأنّ هناك ضربا من

٢٦٠