نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

البحث الرابع

في كيفية تشخص المادة

بالصورة والصورة بالمادة (١)

سألت شيخنا أفضل المحقّقين نصير الملّة والدّين ـ قدّس الله روحه ـ عن هذا البحث وما سبب تشخص كلّ من المادة والصورة ، فقال (٢) : «المادة تتشخص بالصورة المطلقة أي بذات الصورة من حيث هي هي لا بصورة معيّنة ، فإنّ الهيولى إنّما تصير هذه الهيولى بعينها لأجل صورة تشخّصها وتعيّنها لا من حيث إنّها صورة معينة بل من حيث إنّها صورة ما ، فإنّ أيّ صورة اقترنت بالمادة كانت تلك المادة بعينها هي المادة المقترنة بالصورة السابقة. وأمّا الصورة فلا تتشخص بذات الهيولى من حيث إنّها هيولى ما ، لأنّ هذه الصورة لم تصير هذه الصورة المعيّنة لأجل الهيولى من حيث هي هيولى ما وإلّا لأمكن أن تفارق هذه الصورة هذه المادة وتتعلق بغيرها ، وهو غير معقول. فإذن إنّما تتعلق بهيولى معينة ، بخلاف الهيولى المتشخصة بذات الصورة من حيث هي صورة ، ولهذا أمكن أن تفارق الهيولى

__________________

(١) راجع إيضاح المقاصد من حكمة عين القواعد للعلّامة المصنّف : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) وانظر جواب الطوسي في شرح الإشارات ٢ : ١٥١ ـ ١٥٢. وقال فيه : «وهذه المسألة من غوامض هذا العلم».

٥٦١

الصورة المعينة وتتصف بغيرها ، فتوجد الهيولى وإن لم تكن تلك الصورة بعينها. فتشخص الصورة بالهيولى المعينة وتشخص الهيولى بالصورة المطلقة.

ولأنّ ذات الهيولى هو حقيقة القابلية والاستعداد فلا تكون فاعلا للتشخص».

وفيه ما تقدّم (١) من منع عدم كون الشيء قابلا وفاعلا. فإذن إذا اختلفت الجهتان أمكن ، والهيولى هنا قابلة للصورة وفاعلة لتشخصها فلا امتناع. وكون الهيولى حقيقتها نفس القابلية والاستعداد باطل ، لأنّ ذلك الأمر نسبي.

اعترض أفضل المتأخرين على الرئيس في تعليل تشخص كلّ منهما بذات الآخر من غير دور ؛ لأنّ ذات كلّ واحدة منهما علّة لتشخص الأخرى : بأن تشخص (٢) كلّ منهما بذات الأخرى متوقف على انضمام ذات كلّ منهما إلى ذات الأخرى ، وانضمام ذات كلّ منهما إلى ذات الأخرى متوقف على تشخص كلّ منهما ، فإنّ المطلق غير موجود ، وما ليس بموجود لا ينضم إليه غيره.

ثمّ أجاب بأنّ انضمام الوجود إلى الماهية لا يتوقف على صيرورة كلّ واحد منهما موجودا ، فكذا هنا (٣).

وأجاب أفضل المحقّقين بأنّ المادة ليست فاعلة للتشخص لما تقدم من أنّها قابلة ، بل الفاعل للتشخص هي الأعراض المكتنفة بها ، كالوضع والأين ومتى وأمثالها المسمّيات بالمشخصات ، وهي العلل الفاعلية لتكثر أفراد النوع الواحد ، والمادة هي العلّة القابلة.

والحكم بأنّ المطلق ليس بموجود ، غير صحيح ؛ لأنّ المطلق يمكن أن يؤخذ

__________________

(١) في الاعتراض الثاني على الوجه الثالث من وجوه إثبات الهيولى ، ص ٥١٩.

(٢) في المصدر : «ولقائل أن يقول : إنّ تشخص ...».

(٣) شرح الإشارات ٢ : ١٥١.

٥٦٢

بلا شرط الإطلاق والتقييد ، ويمكن أن يؤخذ بشرط الإطلاق كما تقدم. والأوّل موجود في الخارج والعقل. والثاني موجود في العقل خاصة. فإذن الحكم بأنّه غير موجود أصلا ، باطل.

وانضمام الوجود إلى الماهية غير صحيح ؛ لأنّهما أمران عقليان ، ولا يصح إلحاق الأمور الخارجية من حيث هي خارجية في أحكامها بالأمور العقلية من حيث هي عقلية(١).

وفيه نظر ، فإنّ كلّ واحد من تلك الأعراض له ماهية كلية فيستدعي مخصصا ومشخصا غيره. ولا يجوز استناد التشخص من حيث هو إلى الوضع والأين ومتى ؛ لأنّه ثابت في الباري تعالى وغيره من المجردات مع انتفاء هذه المعاني عنها. والمراد بالوجود هنا العيني لا الذهني. وكون الماهية والوجود أمرين عقليين يقتضي كون الماهية الموجودة عقلية ، إذ ليس هناك إلّا الماهية التي جعلها عقلية والوجود الذي جعله عقليا واتصاف الماهية بالوجود وليس أمرا عينيا وإلّا تسلسل ، بل هو أولى بالوجود الذهني من الماهية والوجود.

__________________

(١) المصدر نفسه : ١٥٢.

٥٦٣

البحث الخامس

في إثبات الصور النوعية (١) ونفيها

ذهبت الفلاسفة (٢) إلى أنّ للأجسام صورا نوعية ، وهي التي تختلف بها الأجسام أنواعا.

واحتجوا على إثباتها (٣) بأنّ الأجسام بعد اشتراكها في الجسمية تختلف في قبول الأشكال المختلفة وتركها بسهولة أو بعسر وفي عدم قبولها ، فإنّ كلّ جسم (٤)

__________________

(١)­ Formes pe\'cifique ـ وانظر معاني الصورة في الفصل الرابع من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء : ٢٨٢ ؛ تعليقة صدر المتألهين : ص ٢٤٩ ؛ التحصيل : ٥٣٣ ؛ وقال الجرجاني : «الصورة النوعية : جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه» ، التعريفات : ١٧٨. راجع أيضا المعجم الفلسفي لصليبا ١ : ٧٤١.

(٢) من المشّائين وأتباعهم من فلاسفة المسلمين.

(٣) انظر أدلّة المثبتين في شرح الإشارات ٢ : ١٠٠ ؛ الفصل الثالث من المقالة الثانية ، والفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء ؛ تعليقة صدر المتألهين : ٦٩ ـ ٧٤ و ١٧٠ ـ ١٧١ ؛ التحصيل : ٣٣٦ ـ ٣٣٨ ؛ إيضاح المقاصد : ١٣٧ (المسألة الثالثة في إثبات الصور النوعية) ؛ شرح المواقف ٧ : ٦١ ؛ شرح المقاصد ٣ : ٧٨ ـ ٨٢ ؛ الأسفار ٥ : ١٥٧.

(٤) ينقسم الجسم عند الأوائل إلى قسمين : ١ ـ الجسم الفلكي ؛ ٢ ـ الجسم العنصري.

فالفلكي منه تسعة : ١ ـ الفلك الأطلس (ويقال له أيضا : الجسم المحيط والفلك الأعظم) ؛ ٢ ـ فلك الكواكب الثابتة أعني ما عدا السبعة ؛ ٣ ـ فلك زحل ؛ ٤ ـ فلك المشتري ؛ ٥ ـ فلك المريخ ؛ ٦ ـ فلك الشمس ؛ ٧ ـ فلك الزهرة ؛ ٨ ـ فلك عطارد ؛ ٩ ـ فلك القمر. ثمّ أثبتوا فلكا آخر يسمى فلك التدوير.

والجسم العنصري إمّا بسيط وإمّا مركب. والبسيط منه أربعة : النار والهواء والماء والأرض.

٥٦٤

لا يمكن أن يخلو عن أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : قبول الانفكاك والالتئام والتشكل التابع لهما بسهولة ، وهو اللازم للأجسام الرطبة من العنصريات.

الثاني : قبول جميع ذلك بعسر ، وهو اللازم للأجسام اليابسة من العنصريات.

الثالث : الامتناع عن قبول ذلك ، وهو اللازم للفلكيات.

وهذه الأمور مختلفة غير واجبة لذاتها لقيامها بالغير ، فهي إنّما تجب بعلل تقتضيها ، ولا يمكن أن تقتضيها الجرميّة العامة المشتركة في جميع الأجسام لكونها مختلفة ، ولا الهيولى لما تقدم من أنّ القابل لا يكون فاعلا ، فعللها إذن أمور مختلفة غير الهيولى والصورة. وتلك الأمور مقارنة لهما ، لتساوي نسبة المفارق إلى جميع الأجسام. وهي متعلقة بالمادة ، لاقتضائها ما يتعلّق بالأمور الانفعالية ، كسهولة قبول الفصل والوصل وعسره وهي صور لا أعراض ، لامتناع أن يحصل الجسم من غير أن يكون موصوفا بأحد هذه الأمور.

وأيضا الجسم يمتنع أن يخلو عن الأين أو الوضع ، ويمتنع أن يكون في جميع الأمكنة و (١) على جميع الأوضاع. فإذن جسميّته تقتضي أن يكون في مكان أو وضع غير متعيّنين. ثمّ إنّ كلّ جسم يجب أن يختص بمكان أو وضع متعيّنين تقتضيهما طبيعته. فإذن لا يخلو كلّ جسم عمّا يقتضي استحقاق مكان خاص أو وضع خاص متعيّنين ، وذلك هو الصورة النوعية المغايرة للجسمية العامّة المشتركة.

وهذه الصور تختلف باعتبار آثارها ، فالمقتضية للكيفيّات (٢) كسهولة قبول الانفكاك وعسره تكون مناسبة للكيف ، والمقتضية لاستحقاق الأمكنة مناسبة للأين ، وهكذا في سائر الأعراض. وإنّما كانت هذه الصور مغايرة للأعراض

__________________

(١) في شرح الإشارات : «أو».

(٢) ج : «للاتصاف».

٥٦٥

للعلم بأنّ كون الجسم بحيث يستحق أينا هو غير حصوله في ذلك الأين. ولأنّ بقاءها في بعض الأجسام مع زوال الأعراض يدل على المغايرة ؛ فإنّ السبب المقتضي لسهولة تشكّل الماء ولردّه إلى مكانه الطبيعي ووضعه الطبيعي باق عند جموده أو إصعاده بالقسر أو تكعيبه.

والاعتراض من وجوه (١) :

الأوّل : لا نسلّم اشتراك الأجسام في الجسمية.

الثاني : الأجسام كما اختلفت في الصفات التي ذكرتموها فقد اختلفت أيضا في الصور التي جعلتموها مبادئ تلك الصفات ، فإن اقتضى اختلاف الأعراض اسنادها (٢) إلى صور مختلفة اقتضى اختلاف الصور أيضا إسناده (٣) إلى أمور مختلفة. ثمّ الكلام فيها كالكلام في الأوّل ، فيلزم التسلسل.

لا يقال : اختصاص الجسم العنصري المعين بالصور المعينة إنّما كان لأنّ المادة قبل حدوث تلك الصورة فيها كانت موصوفة بصورة أخرى لأجلها استعدت المادة لقبول الصورة اللاحقة ، وأمّا اختصاص الأجسام الفلكية بصورها النوعية فلأنّ لكلّ فلك مادة مخالفة بالماهية لمادة الفلك الآخر (٤) ، وكلّ مادة إنّما تقبل الصورة التي حصلت فيها دون غيرها.

لأنّا نقول : إذا جوزتم ذلك فجوزوا مثله في الكيفيات حتى يقال : الأجسام

__________________

(١) ذكرها الرازي في شرحه على الإشارات ، الفصل ١٧. وقد ناقش شيخ الإشراق أيضا وجوه المثبتين للصور النوعية الجوهرية في المقاومات : ١٤٩ ـ ١٥٢ ؛ المطارحات : ٢٨٤ ـ ٢٩٣ ؛ حكمة الإشراق : ٨٢ ـ ٨٨. وأجابه صدر المتألهين في الأسفار ٥ : ١٦٧ ـ ١٨٠.

(٢) في شرح الإشارات : «استنادها».

(٣) ق : «إسناده» ساقطة.

(٤) هذا مذهب القدماء من الفلاسفة بانّ كلّ فلك هيولى مغايرا بالنوع لهيولى الأفلاك الأخر.

٥٦٦

العنصرية إنّما اختص كلّ واحد منها بالكيفية المعينة ، لأنّه كان قبل الاتصاف بتلك الكيفية موصوفا بكيفية أخرى لأجلها استعدت المادة لقبول الكيفية اللاحقة. وأيضا الأجسام الفلكية فإنّما اختص كلّ واحد منها بكيفيته المعينة (١) ، لأنّ مادته لا تقبل إلّا تلك الكيفية. وعلى هذا التقدير تسقط الحاجة إلى إثبات هذه الصور.

أجاب أفضل المحقّقين بأنّ الأعراض ومباديها متغايران. ويمتنع تحصّل الجسم منفكا عن تلك المبادئ وسائر الأحوال المذكورة ، فإن سميت تلك المبادئ بعد وضوح ما تقدم بالكيفيات فلا مضايقة في التسمية ، إلّا أنّه ينبغي أن ينسب إليها تحصّل الأجسام أنواعا وصدور الأعراض المذكورة ، وليست الاستعدادات ولا الموادّ كذلك (٢).

وفيه نظر ، فإنّ النزاع لم يقع في التسمية بل في المعنى والمغايرة. وامتناع الانفكاك نفس النزاع. وكونها لا توجد منفكة عن هذه الأشياء لا يدلّ على امتناع الانفكاك.

الثالث : لو سلمنا أنّه لا بدّ من أمر زائد في الجسم ليكون مبدأ لهذه الكيفيات ، لكن لم قلتم : إنّه لا بدّ من إثبات ذلك في كلّ جسم؟ فإنّ عدم قبول الفلك لكيفيات مختلفة لا يمكن القطع بأنّه لا بدّ وأن يكون لأجل صورة زائدة ؛ لأنّ تلك الصورة إن لم تكن لازمة لجسمية ذلك الفلك لم يكن الحكم المعلل ـ وهو عدم قبول الكيفيات المختلفة ـ لازما ، وإن كانت لازمة فذلك اللزوم ليس لنفس الجسمية ولا لشيء من لوازمها ولا (٣) لما لا يكون حالا فيها ولا محلّا لها ؛ لأنّ كلّ

__________________

(١) في عبارات الرازي : «بكيفية معينة».

(٢) شرح الإشارات ٢ : ١٠٦.

(٣) ساقطة في عبارات الرازي.

٥٦٧

ذلك باطل وبتقدير صحته فالمقصود حاصل ؛ لأنّه جاز أن يكون لزوم تلك الصورة لأجل هذه الأقسام ، فليجوز مثله في لزوم الشكل والمقدار ، فتعين أن يكون ذلك اللزوم للمادة. وإذا كانت كافية في لزوم تلك الصور فلم لا يكفي في لزوم هذه الأعراض من غير حاجة إلى إثبات هذه الصور؟

وأمّا العناصر فإنّ منها ما يقبل الأشكال بسهولة وهو الرطب ، ومنها ما يقبلها بعسر وهو اليابس ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنّ سهولة قبول التشكلات معللة بعلّة وجودية ، وأمّا صعوبة قبولها فانّها معللة بعلة عدمية وهي عدم تلك العلة؟ لأنّ الصورة المقتضية لصعوبة القبول عدم لمقتضية سهولته ، فإنّ صعوبة القبول عدم لسهولته ، ومبدأ العدم يجوز أن يكون عدميا أو بالعكس ، وعلى هذا التقدير لا يظهر امتناع خلو الأجسام عن الصورة النوعية.

أجاب أفضل المحقّقين بأنّ استلزام الجسمية المطلقة لهذه الصور في الفلك غير معقول ، لكونها مشتركة. وكذلك الجسمية المختصة بالفلك ؛ لأنّ سبب اختصاصها بالفلك هو هذه الصور لا غير ، فإذن القول بلزوم هذه الصور للجسمية غير معقول ، بل الواجب أن يعكس ويقال : الجسمية لازمة لصورة الفلك ، وحينئذ تسقط القسمة المذكورة لأنّها تلزمها ؛ لأنّها صورة الفلك لا غير. وأمّا اسنادها (١) إلى المحلّ على ما ذكر فغير معقول ، لامتناع أن يكون القابل فاعلا. وأمّا جعل بعض الصور العنصرية أعداما فغير معقول ، لأنّ الأعراض المذكورة ليست عدمية. أمّا الأينية فظاهرة ، وأمّا الباقية فعلى ما تبيّن في مواضعها ، والأمور الوجودية لا تصدر عن الأعدام» (٢).

الرابع : سلمنا أنّه لا بدّ في الصفات الثلاث ـ اعني سهولة قبول الأشكال

__________________

(١) في المصدر : «استنادها».

(٢) شرح الإشارات ٢ : ١٠٨.

٥٦٨

وصعوبة قبولها وعدم قبولها ـ من اسنادها إلى علل وجودية ، فلم قلتم : إنّ تلك العلل صور؟ وذلك لأنّ الصورة عبارة عن الحالّ المقوّم لمحلّه الذي هو سبب لوجود محلّه. فهب أنّ الحجّة المذكورة دلت على تعليل هذه الأعراض بأمور موجودة في الأجسام ، لكن لا بدّ من الدلالة على أنّ تلك الأمور أسباب لوجود تلك الأجسام حتى يثبت كون تلك الأمور صورا ، وإلّا فلا تكون صورا بل أعراضا (١).

وهو قريب ممّا مرّ أوّلا.

الخامس : هذه الصور التي أثبتموها محتاجة إلى الجسمية ، لأنّها إمّا أن تكون حالّة في الجسمية أو في الهيولى بشرط حلول الجسمية فيها ، وعلى التقديرين فانّها محتاجة إلى الجسمية ، فلو كانت الجسمية معللة بها لزم الدور.

أجاب أفضل المحقّقين : بأنّ الصور ليس من شرطها أن تقوّم الجسمية ، بل من شرطها أن تقوّم الهيولى ، وهذه الصور تقوّمها من غير دور (٢).

وفيه نظر ، لأنّ هذه الصور منوّعة ، فتكون في الحقيقة فصولا للأجسام ، فتكون مقوّمة لها.

السادس : إمّا أن تثبتوا في الجسم صورة واحدة تكون هي مبدأ لما فيه من الكيف والمقدار والشكل ، فيلزم صدور الأمور المتكثرة عن الصورة الواحدة ، وهو عندهم محال. أو تثبتوا في الجسم بحسب كلّ عرض مخصوص صورة مخصوصة ، فحينئذ يلزم إثبات صور كثيرة للمادة الواحدة ، وهو محال.

لا يقال : هذه الصور مترتبة.

لأنّا نقول : هذه الأعراض غير مترتبة ، فانّه ليس بأن يقال : حصول الجسم

__________________

(١) قال الرازي : «وإلى الآن ما رأيت أحدا يشاغل بإقامة البرهان على ذلك» ، راجع شرحه على الإشارات ، الفصل ١٧.

(٢) شرح الإشارات ٢ : ١٠٩.

٥٦٩

في الأين لأجل اتصافه بالمقدار المخصوص بأولى من العكس. وكذا القول في الشكل والحرارة والبرودة. بل ليس بأن يقال : اتصاف النار باليبوسة لأجل اتصافها بالحرارة أولى من العكس؛ فإنّا نجد كلّ واحدة منهما (١) منفكة عن الأخرى. وإذا لم يكن بين هذه الآثار ترتب وجب أن لا يكون بين عللها ترتب أيضا ، فلا تكون تلك الصور مترتبة ، ويعود الإشكال.

أجاب أفضل المحقّقين : بأنّ الكثير يجوز أن يصدر عن الواحد بانضمام أمور وشروط مختلفة إليه ، فهذه الصور تقتضي التأثير في الغير بحسب ذاتها والتأثر عن الغير بحسب المادة ، وحفظ الأين بشرط الكون في مكانها والعود إليه بشرط خروجها عنه ، وهكذا في البواقي(٢).

وفيه نظر ، فانّا لم نبحث عن حفظ الأين والعود إليه ، بل عن اقتضاء الأين المخصوص ، هل يستند إلى ذاتها مطلقا أو بشرط؟ وكذا البحث في الكيف وغيرها من الأعراض. والحقّ في ذلك كلّه اسناد هذه الآثار إلى القادر المختار جلّت عظمته.

تذنيب : قال الشيخ : لا يكفي وجود الحامل حتى تتعين صورة جرمانيّة ، فإنّ الصورة الجسمية قد سبق أنّها محتاجة في وجودها وتشخصها إلى الهيولى ، لعدم انفكاكها في الوجود عن التناهي والشكل ، ومحتاجة فيهما إليها ، إلّا أنّها مع احتياجها إلى الهيولى تحتاج إلى أشياء أخر غير الهيولى لولاها كانت الأقدار والأشكال متشابهة ؛ لأنّ الهيولى في العنصريات مشتركة (٣).

__________________

(١) أي الحرارة واليبوسة.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه : ١١٠. مع إضافات من الطوسي.

٥٧٠

فخرج الاعتراض على الدليلين السابقين (١) : أحدهما على أنّ الصورة لا تنفك عن الهيولى ، بأن قلنا : لزوم المقدار والشكل إمّا للصورة أو للفاعل أو للحامل ، والتزم بأنّه للحامل ، فلا يقال : العنصريات غير مختلفة في المواد فيجب استواؤها في المقدار والشكل.

والثاني على إثبات الصور النوعية باختلاف الكيفيات.

لا يقال : لو كان الاختصاص بكل كيفية لأجل صورة لكان الاختصاص بكل صورة لأجل صورة أخرى.

لأنّا نقول : إنّ أسباب الاختلافات والاختصاصات هي الأمور السابقة المعدة للاحقة ، فلا يكفي وجود الحامل حتى تتشخص الصورة الجسمية ، لأنّ الصورة تحتاج إلى الحامل في الوجود دون الماهية.

وقد عرفت ضعف ذلك كله.

__________________

(١) قال الرازي بعد هذا الكلام من الشيخ : «إنّ هذا الكلام يصلح جوابا عن سؤال يذكر على دليلين ممّا مرّ : أوّلهما ...» المصدر نفسه : ١١١.

٥٧١

البحث السادس

في جواب سؤال على (١) علّية (٢) الصورة

اعترض الشيخ على نفسه هنا فقال : لمّا كان كلّ واحد من الهيولى والصورة يرتفع الآخر برفعه فكلّ واحد منهما كالآخر في التقدم والتأخر ، وليس أحدهما بالتقدم أو التأخر أولى من الآخر. وهذا الشكّ لا يختص بهما بل هو وارد على أحد قسمي اللازم الذي يكون بين العلة التامة ومعلولها.

وأجاب بأنّ العلّة كحركة اليد بالمفتاح ، إذا رفعت رفع المعلول كحركة المفتاح ، وأمّا المعلول فليس إذا رفع رفع العلة ، فليس رفع حركة المفتاح هو الذي رفع حركة يدك وإن كان معه بل يكون إنّما أمكن رفعها ، لأنّ العلّة ـ وهي حركة اليد ـ كانت رفعت وهما ـ أعني الرفعين ـ معا بالزمان ورفع العلّة متقدم على رفع المعلول بالذات كما في إيجابيهما ووجوديهما. فالتلازم في الرفع إنّما هو بالزمان ولا يكون من حيث الذات ، بل رفع أحدهما بالذات أقدم من رفع الآخر ، ولذلك قيل : عدم العلة علّة العدم ، كما كان في جانب الوجود إيجاب العلة ممّا يوجدهما أقدم من ايجاب المعلول ، ووجود العلة أقدم من وجود المعلول (٣).

__________________

(١) ج : «عن».

(٢) ق : «علّة».

(٣) شرح الإشارات ٢ : ١٥٣ ، مع إضافات من الطوسي. وانظر الاعتراض والجواب أيضا في التحصيل : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٥٧٢

الفصل الرابع

في أحكام الأجسام وعوارضها

وإذ قد فرغنا بعون الله من البحث عن ماهية الأجسام والنظر في مقوماتها فلننتقل إلى البحث عن عوارضها ، وفيه مباحث :

البحث الأوّل

انّ الجواهر متماثلة (١)

اختلف الناس في أنّ الأجسام هل هي متماثلة أم لا؟ فالمعتزلة (٢)

__________________

(١) أي متحدة الحقيقة وكون الاختلاف بالعوارض. قال الشيخ المفيد : «أقول : إنّ الجواهر كلّها متجانسة ، وإنّما تختلف بما يختلف في نفسه من الأعراض ، وعلى هذا القول جمهور الموحّدين» ، أوائل المقالات : ٩٥. قال الرازي : «اعلم : أنّ هذه المسألة أصل عظيم في تقرير الأصول الإسلامية. وذلك لأنّ بهذا الطريق يمكن الاستدلال على وجود الإله الفاعل والمختار. وبه أيضا يمكن إثبات معجزات الأنبياء. وبه أيضا يمكن إثبات الحشر والنشر والقيامة» ، المطالب العالية ٦ : ١٨٩.

وقال التفتازاني : «هذا أصل يبتني عليه كثير من قواعد الإسلام ...» ، شرح المقاصد ٣ : ٨٣.

(٢) راجع المحيط بالتكليف : ١٩٩ (الفصل الثاني من السفر الخامس) ؛ التوحيد للنيسابوري المعتزلي : ٤٢ (في إثبات أنّ الصوت ليس جسما) ؛ مذاهب الإسلاميين ١ : ٣٠٢ (في آراء الجبائي).

٥٧٣

والأشاعرة (١) والأوائل (٢) على أنّها متماثلة وخالف النظام في ذلك (٣) ، ونقل ذلك أيضا عن التقي العجالي (٤) ولم أجده في كلامه.

احتج الأوّلون بوجوه (٥) :

الوجه الأوّل : الأجسام إذا تساوت أعراضها من الكم والكيف وغيرها التبس بعضها ببعض ، وربما حكم العقل بالوحدة أحيانا ، فإنّ من شاهد بالأمس جسما ذا لون معين ومقدار معين وشكل معين ثمّ شاهد مثله بعد غيبوبة الأوّل عنه لم يميز بينهما ، وحكم بأنّ أحدهما هو الآخر ، ولو لا تساوي حقائقها لما حصل الاشتباه.

الوجه الثاني : الأجسام بأسرها متساوية في قبول الأعراض كلّها فتكون متساوية في الماهية ؛ لاستلزام الاشتراك في المعلول الاشتراك في العلة ، لأنّ المعلول لذاته إن اقتضى الاستناد إلى هذه العلّة المعينة وجب في كلّ معلول يساويه ذلك.

__________________

(١) راجع مقالات الإسلاميين : ٣٠٨ ؛ معالم أصول الدين : ٤٢ ـ ٤٣ ؛ مذاهب الإسلاميين ١ : ٧١٠ (في آراء الجويني).

(٢) في مقالات الإسلاميين : «فقال قائلون : جوهر العالم جوهر واحد وانّ الجواهر إنّما تختلف وتتّفق بما فيها من الأعراض وكذلك تغايرها بالأعراض إنّما تتغاير بغيرية يجوز ارتفاعها ، فتكون الجواهر عينا واحدة شيئا واحدا ، وهذا قول أصحاب أرسطاطاليس» ، ص ٣٠٨.

(٣) فانّه لم يحكم بتماثل الجواهر إلّا إذا تماثلت أعراضها. لمّا كانت الأعراض تختلف ، والجوهر هو الأعراض المجتمعة عنده لم يجوز القطع بحكم التماثل فيه. الشامل للجويني ١ : ١٣٥. راجع أيضا كشف المراد : ١٦٨ ؛ مناهج اليقين : ٤٣. وفي مقالات الإسلاميين : «قال قائلون : الجواهر أجناس متضادة ... وهذا قول النظام» ، ص ٣٠٩.

(٤) في نقد المحصل : «تقي الدين العجّالي». وقال الطوسي فيه : «وأنا ما رأيت في كلامه إلّا ما قاله الجمهور» ، ص ٢١٠.

(٥) انظر الوجه الأوّل والثالث في أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٢٠ ـ ٢١ ؛ المحيط بالتكليف : ١٩٩.

٥٧٤

وإن لم يقتض الاستناد إليه لم يكن مؤثرا فيها ، لأنّ التأثير مترتب على الاحتياج.

الوجه الثالث : معنى الجسم هو الحاصل في الحيز ، والأجسام بأسرها متساوية فيه ، فتكون متساوية في الماهية.

الوجه الرابع : الحدّ الدال على ماهية الجسم ـ على اختلاف الأقوال فيه (١) ـ واحد عند كلّ قوم بغير وقوع قسمة فيه ، فلهذا اتّفق الكل على تماثله ، فإنّ المختلفات إذا وقعت في حدّ واحد وجمعت فيه وقع فيه التقسيم ضرورة ، كقولنا : الجسم إمّا القابل للأبعاد أو المشتمل عليها ، ويراد بهما الطبيعي والتعليمي.

والاعتراض على الوجه الأوّل من وجوه :

الأوّل : لا نسلم أنّ الأجسام مبصرة بالذات ، فإنّ الحكماء اتّفقوا على أنّ المبصر بالذات إنّما هو الضوء واللون ، وغيرهما يرى بواسطتهما.

الثاني : سلمنا أنّها مبصرة ، لكن الحكم بالاختلاف والمساواة راجع إلى العقل ومستند إليه لا إلى البصر.

الثالث : لم قلتم : إنّا نبصر حقيقة الجسم من جميع ذاتياته؟

الرابع : لو سلمنا صحّة هذه الدلالة فإنّما تصحّ في حقّ من تصفّح جميع الأجسام وشاهد التباس كلّ واحد منها بكلّ ما عداها ، فأمّا قبل ذلك فليس إلّا الرجم بالظن.

وعلى الوجه الثاني : بمنع قبول كلّ جسم لكل عرض ، فجاز أن يكون بعض الأجسام لا يقبل من الأعراض إلّا الكون. ولم يثبت أنّ جرم النار قابل للكثافة الأرضية ، وأنّ جرم الفلك قابل للصفات المزاجية. وقصة إبراهيم عليه‌السلام جزئية لا تدل

__________________

(١) حيث حده الأوائل بأنّه الجوهر القابل للأبعاد ، وحده المتكلمون بأنّه الطويل العريض العميق.

٥٧٥

على الحكم الكلي. على أنّه يجوز أن تكون النار على مقتضى طباعها لكن خلق الله في إبراهيم كيفية عندها يستلذّ بمماسة النار ، كما في النعامة وغيرها.

سلّمنا استواء الجميع في قبول الأعراض ، لكن لا نسلّم استواءها في الماهية وتمام الحقيقة ، فإنّ الاشتراك في اللوازم لا يدل على الاشتراك في الملزومات. والاحتياج في المعلول قد بيّنا أنّه إلى العلّة المطلقة لا المعينة ، وتعيّن العلّة إنّما جاء من قبلها لا من قبل المعلول.

وعلى الوجه الثالث : أنّ الحصول في الحيز ليس هو معنى الجسم وذاته ، بل حكم لازم له ، وقد تقدم أنّ التساوي في الأحكام واللوازم لا يدل على استواء الذوات.

احتج النظام : بأنّ الأجسام مختلفة في الخواص ، وذلك يدل على اختلاف حقائقها.

الجواب : الخواص عوارض تميز بعض الأجسام عن بعض تمييزا عرضيا مصنّفا لا ذاتيا مقوما.

واعلم أنّ البلخي ذهب إلى أنّ في الجواهر ما هو متماثل وفيها ما هو مختلف. ورجع بالتماثل إلى أنّه إنّما يثبت بالمعاني المتماثلة الموجودة في الجوهر ، فإذا اتّفق الجوهران في ذلك فهما مثلان في ذلك. ورجع بالاختلاف إلى اختلاف هذه المعاني ، فإذا اختلف الجوهران فيما يوجد فيهما من المعاني فهما مختلفان. وباقي المشايخ ذهبوا إلى أنّ التماثل والاختلاف لا يقع إلّا بصفات الذوات والمقتضي عنها. وحكي عن عباد أنّه قال في الأعراض : إنّها لا تخالف غيرها بناء على أنّ المخالف يخالف بخلاف ، والعرض لا يحله عرض. وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

قالوا : والأجسام وإن تماثلت بالماهية فإنّ الأسماء تختلف عليها لوجود معان

٥٧٦

مختلفة فيها ، ولا يمكن أن يجعل اختلاف الأسماء دلالة على اختلاف المسمى بها ، فنحن نصف بعض الأجسام بأنّه : جماد إذا اختص بكثافة وصلابة وعدمت عنه الحياة واللحمية ، ونصف بعض الأجسام بأنّه : هواء لحصول رقة مخصوصة فيه ، ونسمي بعضه ريحا إذا حصل فيه مع الرقة المخصوصة حركات واعتمادات. وإذا اختص برقة وصفاء ، فهو نور ، وإن كان مع الرقة قد داخلته أجزاء سود ، فهو ظلمة ، وإذا لم تقع الشمس على موضع لمانع قد منع شعاعها من الوقوع عليه نسمي ظلا ، ولهذا لا يكون الليل ذا ظل ، وكذلك أيضا نسمي بعض الأجسام شمسا وبعضها قمرا.

٥٧٧

البحث الثاني

في أنّ الأجسام باقية (١)

جمهور العقلاء على ذلك ، وخالف فيه النظام (٢). وأكثر الناس ادّعوا الضرورة في ذلك ؛ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ أبداننا باقية ، وأنّ الجسم الذي في يدي من أوّل النهار إلى آخره لم يعدم في جميع آنات ذلك الزمان ، ومن شكّ في ذلك فهو سوفسطائي.

__________________

(١) انظر البحث في الانتصار للخياط المعتزلي : ١٩ و ٢١ ؛ أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ ؛ نقد المحصل : ٢١١ ؛ كشف المراد : ١٦٩ ؛ مناهج اليقين : ٤٤ ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٣١ ؛ شرح المقاصد ٣ : ٨٤.

(٢) قال الطوسي : «هذا النقل من النظام غير معتمد عليه. وقال بعضهم : إنّه قال باحتياج الأجسام إلى المؤثر حال البقاء ، فذهب وهم النقلة إلى أنّه لا يقول ببقائها». نقد المحصل : ٢١١. وقد ذهب العلامة حسن زاده الآملي في تعليقته على كشف المراد إلى انّ مذهب النظام نفس القول بحركة الجوهر ودافع عنه حيث قال : «فقد تفوّه النظام بالقول الحقّ أعني القول بحركة الجوهر ، لأنّ الأعراض هي المرتبة النازلة للجوهر ، فإذا كانت متجددة آنا فآنا كانت موضوعاتها متجددة أيضا وهذه حجّة من حجج إثبات الحركة في الجوهر ... فالأجسام ليس بباقية بالبرهان ، فهي متجددة آنا فآنا ...» ، ص ٥٤٩.

وفيه نظر ؛ لانّ الجوهر في القول بالحركة الجوهرية واحد مستمر يتحرك نحو الكمال وأمّا في رأي النظام يتبدل الجوهر ويتجدد آنا فآنا ، وهو في الحقيقة جواهر متعددة لا جوهر واحد.

٥٧٨

واحتج المتكلمون على ذلك : بأنّ الأجسام ممكنة الوجود وإلّا لما وجدت ، وإذا كانت ممكنة الوجود في زمان كانت ممكنة في كلّ زمان ، وإلّا لزم الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي.

والأولى الاعتماد على الضرورة بل هو الحق ، فلا يجوز الاستدلال عليه. مع أنّ الدليل الذي ذكروه لا يمكن الأشاعرة الاستدلال به لوروده في الأعراض.

قيل (١) : لا يمكن الاعتماد فيه على الاستمرار في الحس ، لأنّه قد ظهر أنّ عند تعاقب الأمثال يظن الحس الأشياء المتعددة واحدا. ولأنّه منقوض بالأكوان (٢) عند الأشاعرة.

وأيضا في الدليل المذكور نظر ، لم لا يجوز أن يكون الجسم ممكن الوجود في كل آن على البدل؟ وغير ممكن أن يوجد في آن عقيب وجوده في آن آخر. ولا يلزم من ذلك الانتقال من الإمكان إلى الامتناع ، لأنّ إمكان الوجود غير وإمكان البقاء غير ، فإنّ إمكان الوجود يطلق على إمكان الوجود ابتداء من غير شرط الثبات ، وإمكان البقاء عبارة عن إمكان وجود في آن عقيب الوجود في زمان سالف ، ولا شك في تغايرهما. ولا يلزم من اتصاف الشيء بالإمكان الأوّل وعدم اتصافه بالثاني الانتقال من الإمكان إلى الامتناع ، كالأشياء الغير القارة.

وقيل (٣) : استدلال من قال بالبقاء بانّي أعلم بالضرورة أنّني الذي كنت بالأمس ، ضعيف لأنّه مبني على نفي النفس الناطقة. ولأنّ هوية الإنسان المعيّن ليست عبارة عن الجسم فقط ، بل لا بدّ فيه من أعراض مخصوصة ، وهي غير باقية. وإذا كان أحد أجزاء الماهية غير باق لم تكن الماهية باقية.

__________________

(١) القائل هو الرازي ، راجع نقد المحصل : ٢١١.

(٢) في بعض نسخ المصدر : «الألوان».

(٣) القائل هو الرازي ، المصدر نفسه.

٥٧٩

وفيه نظر ، فإنّ المستدل إنّما استدل بالعلم الضروري بأنّ بدنه الموجود اليوم هو الذي كان بالأمس ، وهذا لا يتوقف على ثبوت النفس ولا على نفيها. والأعراض الداخلة في التشخص باقية ، لكن هذا لا يتم على رأي الأشاعرة.

والنظام إنّما التجأ إلى مقالته ، لأنّ الإعدام لا يعقل اسناده إلى المؤثر (١) ، وليس للأجسام ضد حتى يقال : إنّها تنتفي بوجوده ، والمعدوم عنده ليس بثابت حال العدم ، والأجسام عنده تفنى يوم القيامة ، فلا مجال له إلّا القول بعدم بقاء الأجسام ، كعدم بقاء الأعراض.

واحتج المتكلمون : على بقاء الأجسام أيضا بوجوه :

الأوّل : لو لم تكن باقية لم يصح منّا فعل الأفعال ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ القدرة يجب أن تتقدم الفعل لاستحالة تعلقها بالواجب ، والفعل حال وجوده واجب ، وتقدم القدرة مستلزم لتقدم الموصوف بها وهو البدن ، فلو لم يكن الجسم باقيا امتنع الفعل منّا وهو باطل ؛ لعلمنا الضروري بأنّا فاعلون.

الثاني : لو لم تبق هذه الأجسام ، وكان الله يحدثها حالا فحالا لم يجب أن يكون ما هو واجب الثبوت ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّا إذا اعتمدنا بأيدينا على جسم ثقيل ثمّ ازيل عنها فإنّ أيدينا تنزل هابطة ، ولو كان الله تعالى يحدثها حالا فحالا جاز أن يحدث الكون فيها صاعدا ، لأنّه من فعله تعالى ، بل كان يلزم أن لا يتأتى منا رفع أيدينا ، فإنّها تحدث في كلّ حال من الله تعالى، وما يفعله من الكون فهو أحقّ بالوجود مما نفعله نحن.

__________________

(١) وفي الانتصار أيضا نقلا عن الجاحظ : «انّه محال أن يعدم الله الأجسام بعد وجودها» ، ص ٢١.

٥٨٠