نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

بقي من الجسم شيء أو لم يبق ، فإن بقي من الجسم الأوّل شيء ، فذلك الشيء حين ما كان الجسم واحدا إمّا أن يكون واحدا أو كثيرا فعند ما صار الجسم كثيرا إمّا أن يكون قد صار ذلك الشيء كثيرا أو ما صار ، فإن كان الأوّل ، فذلك الشيء قد زالت وحدته ، وقد بيّنا أنّ زوال الوحدة توجب عدم ذلك الشيء ، فإذن ذلك الشيء قد عدم أيضا فلم يكن ما فرضناه باقيا ، هذا خلف. وإن كان قد بقي واحدا فذلك محال ؛ لأنّ أحد قسمي الجسم ممتاز عن الآخر ، فيستحيل أن يكون هناك شيء واحد بالعدد ويكون مشتركا بينهما.

وأمّا إن قيل : إنّ ذلك الشيء كان كثيرا حينما كان الجسم واحدا ، فإذا كان ذلك الشيء كثيرا كانت الجسمية القائمة بأحدهما غير الجسمية القائمة بالآخر ، لامتناع حلول الشيء الواحد في أزيد من محلّ واحد ، فيكون الجسم مركّبا من الأجزاء المتمايزة بالفعل مادة وصورة ، فإذن الجسم لم يكن واحدا في الحقيقة بل كان مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، وهو المطلوب.

الوجه الثالث : إذا أوردنا القسمة على جسم واحد حتى صار جسمين ، فلا يخلو إمّا أن تكون هوية كلّ واحد من هذين الجسمين كانت حاصلة قبل تلك القسمة أو ما كانت حاصلة. فإن كان الأوّل ، فالهويتان إن كانت حاصلتين فقد كانتا موجودتين ويتوجه الإشكال. وإن كان الثاني ، فقد حدثت هاتان الهويتان عند القسمة وبطل ذلك الجسم الواحد الذي كان موجودا قبل ، فيكون التفريق إحداثا للمقسم وايجادا للقسمين ، وهذا باطل بالضرورة. ولاستلزامه كون الواحد منا قادرا على ايجاد الجسم ، وهو محال.

الوجه الرابع (١) : إذا نظرنا إلى الجسم البسيط ذي الأبعاد المتطاولة علمنا بالضرورة مغايرة أحد جوانبه للباقي وأنّ كلّ واحد من نصفيه ممتاز عن النصف

__________________

(١) راجع المطالب العالية ٦ : ٦٥.

٤٤١

الآخر ، فكيف يمكن مع ذلك الحكم بكون ذلك الجسم واحدا في الحقيقة؟

لا يقال : الكثرة حصلت باعتبار التوهم أو اختلاف الأعراض أو الفرض ، فانّك قبل الفرض لا تجد فيه كثرة ولا تمايز ، فإذا فرضت جانبا مغايرا لجانب آخر حصلت هناك كثرة.

لأنّا نقول : التميّز في الإشارة والوهم والفرض (١) واختلاف الأعراض متوقف على التميز في المشار إليه ، لاستحالة أن يتميز في الإشارة ما ليس بمتميز في ذاته ، لأنّ الإشارة تابعة وحكاية عن المشار إليه متأخرة عنه بالذات ، فلو جعلنا التميز في المشار إليه معللا بالامتياز في الإشارة لزم الدور. ولأنّا نعلم بالضرورة أنّ أحد جانبي الجسم قد كان ممتازا عن الجانب الآخر وموجودا في نفسه ومتحققا مغايرا للجانب الآخر ، سواء وجد وهم ومتوهم أو لا.

الوجه الخامس : إذا حكمنا على الجسم البسيط بأنّه موجود ، فالمحكوم عليه بهذا الحكم ليس إلّا الجملة المتخيلة من تلك الأبعاض المفترضة فيه وأنّه ليس أمرا مغايرا لها ، فلو كانت تلك الأبعاض أمورا تحدث عند القسمة وأنّ الوجود قبل القسمة أمر وراء تلك الأبعاض كان ذلك خروجا عن المعقول ؛ لأنّا لا نعقل من الجملة هذا الجسم إلّا المجموع الحاصل من أجزائه وجوانبه.

فظهر من هذه الوجوه أنّ أجزاء الجسم حاصلة بالفعل في نفسها ، سواء فرضها فارض أو لا ، إلّا أنّها حالة الاتصال ليست متفاصلة بالفعل ، بل متصلة اتصال تماس.

اعترض أفضل المحققين : «بمنع انقسام القائم بالمنقسم. وقيام الوحدة بالوحدة ممكن. وادعاء الضرورة «أنّ (٢) أحد الجانبين من الجسم قبل القسمة

__________________

(١) التميّز الوهمي ما هو بحسب التوهم جزئيا ، والتميّز الفرضي ما هو بحسب فرض العقل كليا.

(٢) في المصدر : «بأن».

٤٤٢

ليس هو عين الثاني» مشتمل على دعوى نفي القسمة مع فرضها ، ولذلك لزم المحال. ولا يلزم من كونهما غير موجودين قبل القسمة عدم شيء بعد القسمة غير الاتصال وحدوث شيء غير الانفصال ، وذلك محسوس ، فضلا عن أن يكون باطلا بالبديهة» (١).

وفيه نظر ، لأنّ غير المنقسم إن قام بالمنقسم ، فإمّا بكلّ أجزائه ويلزم الانقسام بالضرورة ، أو ببعضها ويعود البحث فيه. والعلم الضروري حاصل بأنّ ما وجد بعد الفرض قد كان ثابتا قبله ، وقبل الوحدة القائمة بالجسم يقبل الكثرة الوهمية ، ولا استحالة في ذلك. وأمّا الكثرة بالفعل ، فلا يلزم قبول الوحدة لها ؛ لأنّ الوحدة لا تقوم بالجسم عند قيام الكثرة به ، بل هما وصفان متباينان ، فاندفع المحال.

وفرق بين الوحدة والهوية ، فالقسمة إذا وردت على الجسم الواحد أزالت وحدته وما زالت هويته. ولأنّ الجسم من حيث هو جسم ليس إلّا الجسم ، وكونه منقسما أو غير منقسم وصفان قائمان به ، فإذا أخذت الجسم من حيث هو جسم استحال أن يقال فيه أنّه منقسم أو غير منقسم ، وإذا قسّمنا الجسم عدمت المقادير والجسميات إلّا أنّ هناك هيولى مشتركة.

والجواب : إن لزم من انقسام المحل انقسام الحالّ وجب أن تكون القسمة فعلية ، وإلّا لم تجب الوهمية أيضا. والقسمة عند الأوائل تقتضي عدم الاتصال الذي هو جزء الجسم ، وعدم الجسم متحقّق عند عدم أجزائه ، ولا نزاع في أنّ عدم الشيء من حيث هو هو مغاير لجميع ما يعرض له ، لكن الماهية من حيث هي هي لا توجد في الأعيان إلّا مع المشخصات التي متى بطلت بطل ذلك الشخص ، فإنّ هذا الإنسان إذا بطل ، فلا نقول بأنّ الإنسان من حيث إنّه إنسان

__________________

(١) نقد المحصل : ١٨٦ ـ ١٨٧.

٤٤٣

شيء قائم في الأعيان ويتوارد عليه التعينات ، بل إذا فنى هذا الإنسان فقد فنى هذا الشخص وحدث شخص آخر بعده. فكذا هذا الجسم وإن كان من حيث هو جسم مغاير لكونه منقسما أو غير منقسم إلّا أنّ الشخص منه لا يدخل في الأعيان إلّا مع أحد هذين الوصفين ، ومتى بطل عنه ذلك الوصف فلا بدّ وأن ينتفي ذلك الشخص ، وحينئذ يلزم ما تقدم من كون التقسيم إعداما. والهيولى إن كانت عند وحدة الجسم واحدة فعند القسمة قد انقسمت ، فيعود المحال ؛ وإن كانت متعددة بحسب الانقسامات الممكنة فالمقدار والجسمية الحالّة في كلّ واحد منها غير الحالّة في الآخر ، فتكون الأجزاء متميزا كلّ واحد منها عن الآخر بمادته وصورته ، ويعود المحال. ولو كانت القسمة إعداما للجسم لكانت البعوضة إذا أخذت برأس إبرتها من البحر المحيط جزءا من سطح الماء يلزم أن يعدم البحر بكليته ويوجد بحر آخر ؛ لأنّه متى تفرق الاتصال في ذلك الموضع فقد فنى ذلك المقدار ، وإذا فنى ذلك المقدار فقد فنى ما كان متصلا ، وهلم جرا إلى آخر البحر (١).

__________________

(١) المطالب العالية ٦ : ٦٣.

٤٤٤

البحث الثالث

في امتناع قبول

الجسم المتناهي القسمة الغير المتناهية

اعلم : أنّ الفلاسفة القائلين بوحدة الجسم قالوا بأنّه ينقسم إلى ما لا يتناهى. ونحن قد بيّنا أنّ الواحد لا يجوز أن تعرض له القسمة ، بل وجود القسمة يدلّ على كثرته.

فلنشرع الآن في إبطال قولهم بقبول القسمة إلى غير النهاية تفريعا على قبول الواحد القسمة ، وذلك من وجوه (١) :

الأوّل : لو قيل للجسم انقسامات غير متناهية لزم حصول تلك الانقسامات بالفعل ، والتالي باطل وفاقا ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ كلّ جزء يمكن فرضه في الجسم فإنّه موصوف بخاصيّة غير حاصلة في الأجزاء الأخر ؛ لأنّ مقطع (٢) النصف موصوف بالنصفية ولا يتصف بها إلّا هو ، وكذا مقطع (٣) الثلث والربع إلى غير ذلك من المقاطع التي لا

__________________

(١) راجع نقد المحصل : ١٨٦ ؛ المطالب العالية ٦ : ٦٥ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٣٠.

(٢) و (٣) في النسخ : «منقطع» ، أصلحناها طبقا للمعنى.

٤٤٥

تتناهى ، كمقطع نصف النصف وربعه وثمنه ونصف ثمنه إلى ما لا يتناهى ، وإذا كان لكل واحد من المقاطع الممكنة خاصّية بالفعل لا توجد لغيره وعندهم أنّ الاختصاص بالخواص المختلفة يقتضي الانقسام بالفعل ، وجب حصول الانقسامات بأسرها بالفعل.

وكذا مركز الدائرة إنّما يصحّ في موضع واحد ، وهو موضع مقاطع الأقطار ، فإمكان حصول المركز في الدائرة بالفعل حاصل قبل التقاطع والحركة والفرض ، وهذا الإمكان يوجب امتياز ذلك الموضع عن سائر المواضع. وكذا جميع النقط التي لا تتناهى ، فيلزم الانقسام الغير المتناهي بالفعل ، أو إبطال قولهم «اختلاف الأعراض يوجب الانقسام».

قال أفضل المحقّقين : «هذا كلّه فرض ، والفرض لا يرتفع بارتفاع اسمه مع ثبوت معناه ، بل يرتفع بأن لا يفرض. والدائرة إن لم يفرض فيها شيء لم يلزمها شيء ممّا ذكر ، وهذا حكم عام في المقادير ؛ فإنّ الخط المتناهي له منتصف ولنصفه منتصف وهلم جرا ، وهي متمايزة في نفسها عن سائر أجزاء الخط إلّا أنّها تمتاز بالفرض ، ولا يرتفع بأن نقول : إنّها لازمة وإن لم تفرض ، لأنّ تصور المنتصف فرض ، فضلا عن التلفظ به. وبالجملة الأجزاء المفروضة لا تستتبع الخواص ، لأنّ تغاير الخواص اللازمة من الفرض لا يقتضي الانقسام الموجود بالفعل مع عدم الفرض» (١).

وفيه نظر ، لأنّ من مذهبهم أنّ كلّ حادث فهو مسبوق بإمكان يفتقر فيه إلى محلّ يحلّه ، ولا شكّ أنّ المركز والمنتصف وغيره من المقاطع قد يحدث قبلها إمكان سابق لا بدّ له من محلّ وذلك الإمكان لا يمكن أن يعرض (٢) لغير ذلك المنتصف

__________________

(١) نقد المحصل : ١٨٧.

(٢) ق : «يفرض».

٤٤٦

والمركز ، ولا تكفي الكرة للمحلية ، لاستحالته في جميع الأجزاء غيره ؛ ولأنّ إمكان الفرض سابق عليه ويتعلق بمحل خاص ؛ ولأنّ الفرض تابع للتميز في نفسه ، لاستحالة وقوعه في أيّ جزء كان.

الثاني : إذا تحرك الجسم على آخر ، لاقى طرف المتحرك دائما من المتحرك عليه شيء لم يلقه أوّلا. واختلاف الأعراض وإن كانت إضافية يقتضي حدوث القسمة ، فالقاسم أبدا قائم ، والمنقسم أبدا قابل ، فوجب أن تحدث فيه انقسامات بالفعل غير متناهية ؛ لأنّه متى صار ملاقيا بحدوث حدود المسافة فقد حدث ذلك الحدّ وقبل ذلك الحدّ كان ملاقيا لحدّ آخر وقبل ذلك الحدّ حدّا آخر ، فإذا كان قبول القسمة غير متناه فلا حدّ يفرض إلّا وقد حدث قبله حدود أخر غير متناهية بالفعل بسبب الملاقيات المتعاقبة ، وحينئذ يعود المحال.

الثالث (١) : اختلاف الأعراض الإضافية موجب لحدوث الانقسام بالفعل ، وكلّ جسم موجود فإنّه لا بدّ وأن يلاقي بأحد طرفيه شيئا غير ما يلقاه بالطرف الآخر ، فيلزم أن يحدث في ذلك الجسم انقسام بالفعل. ثمّ إنّ أحد نصفيه يلاقي بأحد وجهيه شيئا غير ما يلاقيه بوجهه الآخر ، فيلزم أن ينتصف ذلك النصف أيضا ، فإذا كان قبول القسمة حاصلا أبدا وكان المقسم بالفعل وهو اختلاف المماسات حاصلا بالفعل أبدا لزم حصول الانقسامات بالفعل أبدا.

فظهر أنّ الجسم لو كان قابلا لانقسامات غير متناهية لكانت تلك الانقسامات بأسرها حاصلة بالفعل.

لا يقال : هذا مبني على أنّ الجسم إذا لقي بأحد طرفيه شيئا غير الذي لقيه بطرفه الآخر فإنّه ينتصف ذلك الجسم ، وليس كذلك ، بل يمتاز أحد جانبيه عن الآخر بالفعل ، وجانبه سطح وهو عرض.

__________________

(١) راجع المطالب العالية ٦ : ٦٧.

٤٤٧

لأنّا نقول : لا شكّ أنّه إذا لقى بأحد جانبيه غير ما لقيه بجانبه الثاني فقد امتاز أحد جانبيه عن الآخر بالفعل ، فالجانبان إن كان المرجع بهما إلى عرضين قائمين به وجب امتياز محلي ذينك العرضين ، فإن كان ذلك المحل عرضا لزم التسلسل ، وإن انتهى ذلك إلى جزئي ذاته ، توجه الإشكال. وهذا رجوع عمّا استدل به أوّلا إلى وجه آخر غيره.

الرابع (١) : لو انقسم الجسم إلى ما لا يتناهى لانقسمت الحركة كذلك. والشرطية ظاهرة ممّا تقدم في بيان انقسام كلّ واحد من الأمور الثلاثة بانقسام الآخر ، لكن التالي باطل للعلم الضروري بأنّ الحركة لها حصول ، فامّا في الحاضر أو في غيره ، وهو إمّا الماضي ـ وهو الذي كان حاضرا في وقت مضى ـ أو المستقبل ـ وهو الذي سيأتي ـ وكلاهما معدومان ؛ وأيضا لو لم يكن لها حضور في الحال انتفى الماضي والمستقبل. وذلك الحاضر غير منقسم ؛ لأنّه لو كان منقسما لم توجد أجزاؤه إلّا على التقضي والمرور ، فلو كان الحاضر منقسما لكان بعض أجزاء ما فرض حاضرا غير حاضر ، فلا يكون الجزء الذي فرض حضوره حاضرا ، هذا خلف. ولأنّ كلّ جزء من أجزاء الحركة إنّما توجد عند وصول المتحرك إلى حدّ آخر من حدود المسافة ، ووصول المتحرك دفعة واحدة إلى حدين من حدود المسافة محال ، فحصول جزءين من أجزاء الحركة دفعة واحدة محال. ولأنّه لو جاز اجتماع بعض الأجزاء المفترضة في الحركة في الوجود لجاز اجتماع كلّ الأجزاء المفترضة فيها ، فيلزم أن تكون التي حصلت في المتحرك عند كونها في أوّل المسافة باقية عند كونها في آخر المسافة ، وهو محال بالضرورة.

فثبت أنّ الحاضر من الحركة غير منقسم ، فإذا انقضى ذلك الجزء لا بدّ وأن يحصل جزء آخر يكون حاله في عدم قبول الانقسام ما ذكرناه ، فتكون الحركة من

__________________

(١) راجع المصدر نفسه : ٣٠ وما يليها.

٤٤٨

أوّل المسافة إلى آخرها مركبة من أمور كلّ واحد منها لا يقبل الانقسام ، وهذا هو معنى قول المتكلمين : الحركة عبارة عن حصولات متتالية في أحياز متوالية.

اعترض : بأنّ الحركة لفظا يقال على قطع المسافة وعلى موافاة الحدود ، ومعنى قطع المسافة أنّ المتحرك إذا تحرك من أوّل المسافة إلى آخرها فلا شكّ أنّه قطع تلك المسافة (١) ، فهذا القطع يسمى بالحركة. والحركة بهذا المعنى غير موجودة في الخارج ؛ لأنّ القطع لا يتوهم وجوده إلّا عند انتهاء (٢) المتحرك إلى آخر المسافة ، وحينئذ تنتفي الحركة وتعدم ، فالحركة بهذا المعنى لا تحقق لها في الخارج.

وأمّا الحركة بمعنى موافاة الحدود المفترضة في المسافة ، فهي أنّ المتحرك ما دام يكون على مبدأ المسافة لم يتحرك وما دام على المنتهى فقد عدمت الحركة عنه ، فهو إذن إنّما يتحرك بين ذلك المبدأ وذلك المنتهى لا مطلقا ، ولكن بشرط أن لا يكون بحيث لا يفرض آن من الآنات إلّا وهو يكون في حدّ آخر من الحدود المتوسطة بين ذلك المبدأ وذلك المنتهى بحيث لا يكون قبله ولا بعده فيه ، فهذا التوسط على هذا الوجه هو أمر واحد يوجد في الحال ؛ لأنّه لا آن يفرض إلّا ويكون الجسم فيه موصوفا بهذا التوسط ، ثمّ إنّ هذا التوسط أمر واحد بالذات باق بعينه ما دام الجسم متوسطا بين ذلك المبدأ والمنتهى. فظهر أنّ الحركة بمعنى القطع غير موجودة في الخارج ، وبمعنى التوسط موجودة في الخارج حاصلة في الآن باقية في جميع مدّة كون الجسم متوسطا بين ذلك المبدأ والمنتهى.

وأجيب : بأنّ الدليل ليس مبنيا على لفظ الحركة حتى يجب البحث عن تفسيرها ، بل هو مبني على أمر محسوس وهو انتقال الجسم من مكان إلى مكان ، وهذا لا سبيل إلى إنكار وجوده في الخارج.

__________________

(١) ق : «المسافة إلى آخرها».

(٢) ق : «انهاء».

٤٤٩

ويستحيل أن يكون باقيا من أوّل المسافة إلى آخرها بالضرورة ، للعلم الضروري بأنّ الحركة التي كانت في الجسم عند كونه ببغداد غير الحاصلة فيه عند كونه بالبصرة ، وإنكاره مكابرة ودخول في السفسطة ، كيف والزمان عندهم من لواحق الحركة؟ فلو كانت باقية بعينها لكان الزمان باقيا بعينه ، فيكون اليوم هو بعينه أمس والغد بعينه اليوم ، وهذا لا يقوله محصل.

وإذا ثبت أنّ الحركة غير باقية بعينها من أوّل المسافة إلى آخرها ، فلا بدّ من الاعتراف بتوالي أمور وتعاقبها ، فإن كان كلّ منها منقسما لزم أن يكون حصول أجزائه على التقضي فلا يكون الحاصل حاصلا ، هذا خلف. وإن لم يكن منقسما ، فهو المطلوب.

فالتفصيل الذي ذكروه غير نافع ؛ لأنّ الحركة بمعنى القطع لمّا لم تكن موجودة في الخارج لم يكن دليلنا متعلق به ، لأنّا بنينا الدليل على الحركة الموجودة في الخارج.

وأمّا الحركة بمعنى موافاة الحدود ، فحاصل كلامهم فيها أنّها شيء واحد بالعدد باق من أوّل المسافة إلى آخرها. وقد بيّنا أنّ هذا خروج عن المعقول.

٤٥٠

البحث الرابع

في إبطال مذهب النظّام

قد نقلنا فيما تقدم عن جماعة من قدماء الحكماء والنظام : أنّ الجسم مؤلّف ممّا لا يتناهى من الأجزاء التي لا تتجزأ فعلا ولا قوة بالفعل.

وقيل (١) : «إنّ هذا شيء لزمهم وإن لم يصرحوا به ؛ لأنّهم لمّا وقفوا على أدلّة نفاة الجوهر الفرد ولم يقدروا على ردّها أذعنوا بها وحكموا بأنّ الجسم ينقسم انقسامات لا تتناهى ، لكنّهم لم يفرّقوا بين ما هو موجود في الشيء بالقوّة وبين ما هو موجود فيه مطلقا ، فظنّوا أنّ كلّ ما يمكن في الجسم من الانقسامات التي لا تتناهى فهو حاصل فيه بالفعل (٢) ، فحكموا باشتماله على ما لا يتناهى من الأجزاء صريحا. وهذا الحكم ينعكس عكس النقيض إلى أنّ كلّ ما لا يكون حاصلا في الجسم من الانقسامات ، فهو لا يمكن أن يحصل فيه.

ثمّ إنّهم معترفون بوجود كثرة في الجسم وأنّ الكثرة إنّما تتألّف من آحاد وأنّ

__________________

(١) والقائل هو الطوسي.

(٢) قال صدر المتألهين : «اعلم : أنّه [النظّام] وافق الحكماء في قبول الجسم انقسامات بغير نهاية ، إلّا أنّه وغيره من المعتزلة لا يفرقون بين القوة والفعل ، فيأخذ هو تلك الأقسام حاصلة بالفعل ، فمن هاهنا يلزم عليه الانتهاء إلى ما لا ينقسم ، فقد وقع فيما هرب عنه من حيث لا يشعر» ، الأسفار ٥ : ٣٨.

٤٥١

الواحد من حيث هو واحد لا ينقسم. فإذن قد تحصل من أقوالهم مقدّمتان هما : أنّ الجسم يشتمل على أشياء غير منقسمة ، وكلّ ما يشتمل عليه الجسم ولا يكون منقسما فإنّه لا يقبل القسمة ، ينتج : الجسم يشتمل على أشياء لا تقبل القسمة. وهذا هو القول بالجزء الذي لا يتجزأ ، وقد لزمهم وإن لم يصرحوا به ، إلّا أنّ القائلين بالجوهر الفرد يقولون بأجزاء متناهية وهؤلاء يذهبون إلى ما لا يتناهى ، فهؤلاء كادوا أن يقولوا بهذا التأليف لكن من أجزاء غير متناهية» (١).

قال الشيخ (٢) : «وقد تناظر الفريقان ، فلمّا ألزم أصحاب الجوهر الفرد النظّام ومن تقدمه ممن دان بمقالته وجوب قطع مسافة محدودة في زمان غير متناه ، ارتكبوا القول بالطفرة. ولمّا ألزموهم وجوب كون المشتمل على ما لا يتناهى غير متناه في الحجم ، جوّزوا تداخل الأجزاء. ولما ألزم النظام وأصحابه أصحاب الجوهر الفرد تجزئة الجزء القريب من مركز الرحى عند حركة البعيد وقطعة مسافة مساوية لجزء واحد لكون القريب أبطأ منه ، ارتكبوا القول بسكون البطيء في بعض أزمنة حركة السريع ، ولزمهم من ذلك القول بانفكاك الرحى عند الحركة فاستمرّ التشنيع من (٣) الفريقين بالطفرة والتداخل وتفكك الرحى» (٤).

إذا عرفت هذا ، فنقول : تدل على بطلان قول النظام وجوه (٥) :

الأوّل : كلّ كثرة سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، فإنّ الواحد فيها

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٢٠.

(٢) في المصدر نفسه : «قيل» بدل «قال الشيخ».

أقول : وإنّما قال الشيخ بمضمون هذه العبارات في الفصل الثالث من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء. والعبارات نفسها هي للطوسي.

(٣) في المصدر : «بين».

(٤) شرح الإشارات ٢ : ٢٠ ـ ٢١.

(٥) راجع المصدر نفسه : ٢٢ ؛ المطالب العالية ٦ : ٧٢ ؛ مناهج اليقين : ٢٩.

٤٥٢

موجود ؛ لتركبها من الوحدات ووجود المركب يستلزم وجود مفرداته. فإذا أخذنا من تلك المفردات عددا متناهيا والّفناه طولا وعرضا وعمقا فإمّا أن يزيد مقداره على مقدار الواحد أو لا ، والثاني باطل ؛ لأنّا نعلم بالضرورة أنّ الجزءين أعظم من أحدهما ، وإن زاد حتى حصل جسم تجزّأت الكلية التي قالها (١) من أنّ كلّ جسم فإنّه مؤلّف ممّا لا يتناهى من الأجزاء. ثمّ إذا أردنا تعميم الدلالة قلنا : هذا الجسم المؤلف ممّا لا يتناهى متناه في المقدار إذا نسبناه إلى جسم آخر متناه في المقدار غير متناه الأجزاء كانت النسبة بينهما نسبة متناهي المقدار إلى متناهي المقدار لكن ازدياد الحجم بحسب ازدياد التأليف والنظم ، فتكون نسبة الآحاد المتناهية إلى الآحاد الغير المتناهية نسبة متناهي المقدار إلى متناهي القدر ، وهو محال بالضرورة.

الثاني : يلزم أن لا يلحق السريع البطيء أبدا ؛ لأنّ السريع إذا ابتدأ بالحركة بعد البطيء فإذا وصل السريع إلى ما وصل إليه البطيء يكون البطيء قد تحرك شيئا ، فإذا قطعه السريع يكون البطيء قد قطع شيئا وهكذا دائما ، لأنّ الأجزاء غير متناهية ، لكن اللازم باطل بالضرورة.

الثالث : يلزم منه قطع المسافة المتناهية في زمان غير متناه على ما تقدم.

الرابع : حصول التأليف في الأجزاء محتاج إليها ، فيستحيل أن تكون بها حاجة إلى التأليف ، لاستحالة الدور ، فصحّ وجود الأجزاء منفكة عن التأليف ، فيكون كلّ واحد جزءا لا يتجزأ.

واعلم : أنّ النظام التزم بقاعدتين يخلص بهما من هذه الإلزامات ، احداهما : الطفرة ، والثانية : التداخل. فلنشرع في بطلان هاتين القاعدتين إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) وفي شرح المواقف : «حصل جسم مركب من أجزاء متناهية ، فليس كلّ جسم مركبا من أجزاء لا تتناهى ، فبطل الكلية التي ادعاها النظام». ٧ : ١٢.

٤٥٣

البحث الخامس

في إبطال الطفرة

ذهب النظام (١) إلى أنّ الجسم إذا تحرك مسافة ، فإنّه تحصل الأحياز المتوسطة بأن يقطع البعض ويطفر البعض ، فيحصل في المكان الثاني مثلا بقطع المتحرك له ، ثمّ يحصل في الرابع من غير أن يحصل في الثالث ، ولا يحاذيه ، وهكذا إلى آخر المسافة.

والضرورة قاضية ببطلان ذلك ؛ فإنّا نعلم علما ضروريا أنّ المتحرك من أوّل المسافة إلى آخرها إنّما يقطع المسافة بالمرور على الحدود المفروضة بين المبدأ

__________________

(١) نشأ القول بالطفرة عند النظام عند ما حاول أن يفسر كيفية تحرك الجسم الذي يتكون من أجزاء لا تتناهى على مسافة لا تتناهى ، فإذا تحرك هذا الجسم في زمان متناه فكيف يتحرك؟ وهنا واجهت النظام صعوبة ، وهي كيف يقطع الجسم مكانا لا نهاية له؟ فكأن نفيه للقول بالجزء الذي لا يتجزأ وقوله باللاتناهي في التجزئة أدى به إلى القول بالطفرة.

ويذكر البغدادي أنّ النظام خالف أصحابه ـ المعتزلة ـ في القول بالطفرة ، ولذا استحق عليه الكفر ، كما اعتبر هذا من الفضائح التي تحسب عليه قائلا : «من فضائحه قوله بالطفرة وهي دعواه أنّ الجسم قد يكون في مكان ثمّ يصير منه إلى المكان الثالث والعاشر منه من غير مرور بالأمكنة المتوسطة بينه وبين العاشر ، ومن غير أن يصير معدوما في الأوّل معادا في العاشر». الفرق بين الفرق : ٨٥ ؛ أصول الدين ١ : ٣٣٥. راجع أيضا مقالات الإسلاميين : ٣٢١ ؛ د. منى أبو زيد ، التصور الذري في الفكر الفلسفي الإسلامي : ١٢٠ ـ ١٢٥.

٤٥٤

والمنتهى ، أو الموجودة على رأي المتكلّمين.

وجرى بين النظام وأبي الهذيل حديث في الطفرة (١) ، فقال أبو الهذيل : لو كانت النملة إنّما تقطع البعض وتطفر البعض يوجب إذا لطخت أرجلها بالمداد أن لا يظهر الخط على الاستواء ، بل يكون موضع الطفرة خاليا عن السواد. وكذلك يجب فيما يقطع بالسكين وغيره. على أنّ القدر الذي اعترف بقطعه يجب أن لا تصير النملة قاطعة له ، لأنّه غير متناه ، فما لزم في الجسم كلّه لازم في البعض ، لأنّ الجميع عنده مساو للأبعاض في عدم النهاية.

ونقل عن هشام بن الحكم أنّه كان يذهب في الجزء مذهب النظام ، فلما التجأ النظام إلى قوله بالطفرة ، قال هشام : إن كان لا يمكن إثبات تجزي الجزء إلّا بارتكاب القول بالطفرة فيجب أن يكون ذلك قولا فاسدا وترك مذهبه.

وأيضا يلزم الترجيح من غير مرجح ، إذ لا أولوية في قطع البعض وطفر البعض.

وقد احتج النظام على قوله بوجوه (٢) :

الوجه الأوّل : البئر التي عمقها مائة ذراع ، إذا كان في منتصفها خشبة وعلّق عليها حبل قدره خمسون ذراعا في آخره دلو ، ثمّ أرسل حبل بقدر خمسين ذراعا وشدّ على طرفه كلّاب (٣) وجعل في طرف الحبل المشدود في الخشبة ، ثمّ جررنا

__________________

(١) قال ابن المرتضى : «ناظر [النظّام] أبا الهذيل في الجزء ، فألزمه أبو الهذيل مسألة الذرة والنمل ، وهو أوّل من استنبطها ، فتحيّر النظّام. فلما جنّ عليه الليل نظر إليه أبو الهذيل وإذا النظّام قائم ورجله في الماء يتفكّر ، فقال : يا إبراهيم هكذا حال من ناطح الكباش ، فقال : يا أبا الهذيل جئتك بالقاطع : انّه يطفر بعضا ويقطع بعضا ، فقال أبو الهذيل : ما يقطع كيف يقطع؟» ، طبقات المعتزلة : ٥٠.

(٢) أنظرها في المطالب العالية ٦ : ١٠٩ ـ ١١٢ ؛ مناهج اليقين : ٣٠ ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٧.

(٣) في المطالب العالية : «معلاق» ، وفي المناهج : «حلقة». وكلّاب : معرب قلّاب.

٤٥٥

الحبل الذي فيه الدلو ، فإنّ الدلو يصعد من أسفل البئر ، فيكون قد تحرك مائة ذراع حال ما تحرك الكلّاب خمسين ذراعا ، فيلزم أن يطفر الدلو جزءا ويتحرك جزءا حتى تنتهي الحركتان معا.

الوجه الثاني : إذا فتحنا كوّة (١) في بيت طوله ألف ذراع ، ثمّ أشرقت الشمس عليه ، فإنّها في حال فتح الكوّة تشرق الشمس على آخره ، ومن الممتنع أن يتحرك الشعاع في تلك اللحظة هذه المسافة بأسرها. وكذا إذا سددنا الكوة خرج الضوء في تلك اللحظة ، فوجب القول بالطفر ، وإلّا لوجب أن يغيب بعد زمان.

الوجه الثالث : الدائرة القريبة من القطب إذا تحركت جزءا تحركت المنطقة أكثر من جزء ، وإلّا تساوى المداران ، هذا خلف ، فيلزم الطفرة.

الوجه الرابع : الشمس حال طلوعها يبلغ ضوؤها أقصى نصف الأرض ، ومعلوم أنّه لا يتحرك الضوء في تلك اللحظة هذه المسافة البعيدة ، فلا بدّ من الطفرة.

الوجه الخامس : إنّ أحدنا يرفع طرفه إلى السماء فنراها في الحال ، وليس ذلك إلّا لأنّ شعاعه يطفر.

الوجه السادس : لو غرزنا خشبتين في الأرض إحداهما ذراعان والأخرى ذراع لكان إذا تقاصر الظل من الأولى ذراعا أن يتقاصر من الثاني نصف ذراع وإلّا لم يبق للثانية ظل ، وإنّما يكونان كذلك بأن يطفر في الخشبة الأولى ويقطع الثانية ، وإذا قطعت في إحداهما جزءا يقطع في الأخرى نصف جزء. وهذه الشبهة في نفي الجزء أقوى.

الوجه السابع : راكب السفينة ، وطولها عشرون ذراعا ، إذا قعد في آخرها

__________________

(١) الكوّة (بفتح الكاف وضمها) : الخرق في الحائط.

٤٥٦

والسفينة سائرة ويسير هو من آخرها إلى صدرها ، فإذا سارت عشرين ذراعا يكون هو قد قطع أربعين ، فيكون قد طفر في بعض الحالات ، وإذا قطع جزءا قطعت السفينة نصف جزء.

الوجه الثامن : الكونان كما يصحّ مع تضادهما أن يثبت فيهما طريق البدل فكذا يصحّ تعاقبهما ، فيجب في (١) الجوهر المخلوق بالبصرة أنّه كان يصحّ أن يخلق بالهند ، والكونان ضدان ، فيجب صحّة المعاقبة عليهما ولا يكون كذلك إلّا بطفر محلهما.

أجاب المتكلّمون عن الأوّل : بأنّ حركة الحبل الأعلى نصف حركة الدلو ، وإلّا فبالنسبة إلى الحبل الأسفل فإنّه لم يقطع إلّا مائة ذراع ، لأنّ الحبل الأسفل كان من نصف البئر إلى أسفلها فانقلب بحركة الحبل الأعلى فصار من نصفها إلى أعلاها ومن نصفها إلى أسفلها خمسون وإلى أعلاها خمسون ، فإذا انقلب الحبل من أسفلها إلى أعلاها والدلو فيه فقد مرّ الدلو بجميع البئر ، وليس ذلك لأجل الطفرة ؛ لأنّا لو فرضنا في الدلو آلة محدّدة وغرزنا به (٢) على جذع فانّه يظهر أثر ذلك المحدّد في جميع المسافة على الجذع ، ولو كان للطفرة لكانت العلائم في موضع دون موضع.

وعن الثاني : بأنّ في البيت أجزاء مضيئة قليلة الضوء ، فإذا دخل الضوء من الكوة ظهرت الأجزاء.

وعن الثالث : بالتفكك.

وعن الرابع : بأنّ الضوء ينبسط على الأرض من طلوع الفجر على التدريج ، فإذا طلعت الشمس من الأفق اتصل ضوؤها بذلك الضوء فلذلك يصل إلى

__________________

(١) ساقطة في م.

(٢) في المناهج : «جررناه».

٤٥٧

أقصى الأرض.

والحقّ أنّ الضوء يحدث في الموضعين عند المقابلة (١).

وأجاب بعض المتكلّمين عن الأوّل : بأنّ الدلو والكلّاب قطعها فيقطعان جميعا مائة ذراع ، إلّا أنّ الكلّاب يقطع بعضها طولا وبعضها عرضا لانخراط حبل الدلو منها ، وعلى هذه الصورة يجذب الكلّاب. وأمّا الدلو فقطعه يكون طولا مائة ذراع ولو أمكن جذب الكلّاب طولا لم يكن الدلو ليقطع إلّا قدر ما يقطعه الكلّاب. وهذا مشاهد في الاضطراب الحاصل في الحلقة. ومعلوم أنّ لاختلاف الحركات تأثيرا في مثل ذلك فإنّ الماء إذا جرى في ساقية فيها انفراج لم يبلغ المقصد إلّا نصف الوقت الذي كان يبلغه إذا لم يكن هناك انفراج.

وممّا يشبه هذه الشبهة قوله : «إنّ الخشبة المستندة إلى حائط متى جذبت من أسفلها حصل أكثر ممّا ينجذب من أعلاها ، وذلك للطفر ولتجزؤ الجزء». والقول فيه مثل ما تقدم ؛ لأنّ أعلاها يذهب في جهتين : الطول والعرض دون أسفلها ، ولهذا لو لطخ أسفل الخشبة بخلوق لوجد ذلك اللون في المكان كلّه ، ولو طفر لم يجب ذلك.

وأجاب أبو الهذيل عن سد الكوة : بأنّ الضوء عنده معنى ويجعل السد مضادا له. وهو خطأ ؛ لأنّ السد أكوان مخصوصة ، فلا تضاد ذلك المعنى الذي يثبته.

وأجاب غيره : أنّ الشعاع النافذ من الكوة في البيت مستمدّ من قرص

__________________

(١) قال المصنف في مناهج اليقين : «والجواب الحق أنّ الضوء يحدث في البيت حال مقابلة الفتحة للشمس دفعة واحدة من غير أن يسري فيه شعاع ، وهؤلاء إنّما أقدموا على هذا الجهل بسبب ظنّهم أنّ الشعاع جسم ونحن سنحقق خطؤهم هذا» ص ٣٠.

٤٥٨

الشمس حالا فحالا ، وبالسد يمنع هذا الاستمداد فتنسد (١) أجزاؤه ولا يرى ، لا لأنّه يطفر. وصارت حاله كحال النار إذا التهبت ولم يمدها غيرها فإنّ أجزاءها تتفرق. وكذا المصباح إذا طفى فتلك الأجزاء باقية متفرقة ، وإنّما لم تشاهد لأنّ الضوء موقوف على اجتماع هذه الأجزاء ، فإذا تفرقت خرجت عن الاقتضاء. ثمّ لو كانت العلّة الطفرة ، وهو صحيح على الشعاع فهلا حصل في البيت مع السد على وجه الطفرة ولا يكون السد مانعا أو يطفر من دون سده.

وأجابوا عن الرابع : بأنّ قرص الشمس لا يضيء الأرض في حال بدوه من فلكه ، بل يضيء بعد ساعات ؛ لأنّه يبدو من حين يطلع الفجر فيضيء الأرض حالا بعد حال حتى يبلغ كبد السماء ، إلّا أنّه يضيء في وقت ابتداء الطلوع كلّ الأرض ، ولهذا صار حدّ النهار ما يمتد فيه الضوء من حين طلوع الفجر إلى غيبوبة القرص ، وصار حدّ الليل ما تمتد فيه الظلمة إلى حين طلوع الفجر.

وعن الخامس : أنّ رؤيتنا للسماء ليست لاتصال شعاعنا بها ، لأنّا لا نجعل شرط الرؤية اتصال الشعاع بالمرئي ، ولو جعلناه شرطا لكنا نقول : إنّ في الجو شعاعا يتصل بشعاع أبصارنا ، ثمّ كذلك حتى يتصل بالسماء ، لأنّ الشعاع المنفصل من العين يتصل بالسماء في أوّل وهلة ، وليس ما قاله للطفرة ، بل لحصول ما يصير آلة في الرؤية في الجو.

وعن السادس : أنّ الشمس في مثل هذه المدة لا يكون قطعها مقصورا على جزء ونصف جزء ، بل ربما قطعت ربع الإقليم ، فيجب أن يقال : في الأولى يتقاصر منها جزءان ويتقاصر من الثانية جزء ، أو يتقاصر من الأولى جزء ولا يتقاصر من الثانية شيء ، ثمّ إذا تقاصر من الأولى جزء آخر تقاصر من الثانية جزء ولا يلزم ما ذكره.

__________________

(١) ق : «فتتسدد».

٤٥٩

وعن السابع : أنّ في خلال حركات السفينة سكنات ، فهذا الراكب يتحرك في حال وقوفها ويتحرك معها إذا تحركت ، فيصير قاطعا بضعفي قطعها ، ولهذا لو دامت الحركة بالسفينة لوجب أن يكون متحركا في وقت واحد بحركتين مختلفتين إحداهما حركة نفسه والأخرى حركة السفينة ، وهذا يقتضي كونه في مكانين وعلى هذه الطريقة لا يتمكن من الحركة إذا اشتد عصف الرياح. ويقال : إنّه والحال هذه لو رمى نشابة لسقطت في السفينة ، وتبين بطلان الطفرة أنّه لو كان يجب إذا كان في رجله صبغ أن لا يستمر الخط في السفينة إلّا في الموضع الذي يقطعه دون الذي يطفره ، وليس كذلك.

وعن الثامن : أنّ التعاقب في الكونين والمكان مجاور صحيح بخلاف ما إذا بعد ، ولا يجب من صحّة البدل صحّة التعاقب.

٤٦٠