نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

الخامس : قيل : لكلّ أين شخصي في مكان حقيقي ، علة هي صفة قائمة بالمتمكن.

وذلك باطل ؛ لأنّ تلك الصفة إن أمكن حصولها في المتمكن عند ما لا يكون المتمكن في المكان الحقيقي المعيّن ، لم تكن تلك الصفة علة لذلك الحصول الشخصي في ذلك المكان المعيّن ، لما ستعرف أنّ العلّة لا تنفك عن معلولها. وإن لم يمكن فحينئذ يتوقف حصول تلك الصفة في ذلك المتمكن على حصوله في ذلك المعين ، فلو توقف حصوله في ذلك المكان المعيّن على حصول تلك الصفة فيه ، دار.

السادس : الأين جنس لأنواع ؛ فإنّ الكون فوق أين ، والكون تحت أين ، والكون في الهواء أين ، والكون في الماء أين. ومنه نوع (١).

وفيه تضاد ، كما في غيره من المقولات فإنّ الكون الذي عند المحيط يقابل الكون في المكان الذي عند المركز ؛ لأنّهما أمران وجوديان لا يجتمعان و (٢) يتعاقبان على موضوع واحد وبينهما غاية الخلاف ، فوجد حدّ التضاد فيهما فكانا متضادين.

السابع : في كيفية قبوله للأشد والأضعف.

اعلم أنّ الأين لا يقبل الأشد والأضعف في جنسه ، لاستحالة أن يكون حصول الجسم في مكانه أشد (٣) من حصول جسم آخر في مكانه ؛ لأنّ مفهوم الحصول في المكان لا يقبل التفاوت ، بل قد يقبل الأشد في طبيعة نوعية ؛ لأنّ الأينين كليهما تجدهما فوقان ، وأحدهما أقرب إلى الحدّ الفوقاني الذي هو المحيط ، فهو أشدّ فوقية من الآخر. وعند هذا يظهر أنّ الأشد والأضعف لم يتطرق إلى نفس

__________________

(١) كذا الكلمتان ، وليستا في الشفاء.

(٢) في النسخ : «ولا» ، وما أثبتناه من الشفاء.

(٣) ق : «أشد وأضعف».

٣٨١

الأين أصلا ، بل إلى إضافة عارضة له ، وهو كونه فوقا أو سفلا.

قال الشيخ : «وإذ قد يصار من أحد الضدين في الأين إلى الآخر قليلا قليلا ويكون المصيران متضادين ، ويكون هناك أين متوسط بينهما ، وأيون أقرب من الطرف الفوقاني في حدّ الفوقية ، وأقرب (١) من الجهة الأخرى بالخلاف ، فيكون في طبيعة الأين من جهته ، لا من جهة جنسه (٢) ، بل من حيث خواص نوعية ؛ وإضافتها أيضا أن تقبل الأشد والأضعف ، فإنّ أينين كلاهما فوقان وأحدهما أشد فوقية ، فعلى هذه الجملة يمكن أن يقع فيها الأشد والأضعف.

وأمّا الكون فوق مطلقا ، أو تحت مطلقا ، والكون في أيّ حدّ شئت مطلقا ، والكون في المكان مطلقا فلا يقبل ذلك أشدّ وأضعف. وفي الكيفية أيضا فإنّ السواد الحق لا يقبل أشد وأضعف ، بل الشيء الذي هو سواد بالقياس عند شيء هو بياض بالقياس إلى آخر. وكلّ جزء من السواد يفرض فلا يقبل الأشد والأضعف في حقّ نفسه ، وتحقيقه في غير هذا الموضع» (٣).

__________________

(١) في المصدر : «أيون».

(٢) في المصدر : «جنسيته».

(٣) الفصل الخامس من سادسة مقولات الشفاء.

٣٨٢

الفصل الثالث :

في متى (١)

نسبة متى إلى الزمان كنسبة الأين إلى المكان ، فكما كان الأين عبارة عن حصول الشيء في مكانه ، كذا متى عبارة عن حصول الشيء في زمانه أو طرفه (٢) ؛ فإنّ كثيرا من الأشياء تقع في طرف الأزمنة (٣) ولا تقع في الأزمنة ـ وهي الحوادث القارة الوجود ـ مع أنّه يسأل عنها بمتى.

__________________

(١) قال الفارابي : «ومتى هو نسبة الشيء إلى الزمان المحدود الذي يساوق وجوده ، وتنطبق نهايتاه على نهايتي وجوده ، أو زمان محدود يكون هذا جزءا منه» ، المنطقيات للفارابي ١ : ٦٠.

وقال بهمنيار : «وأمّا متى ، فهو كون الشيء في الزمان أو في الآن» ، التحصيل : ٤١٤.

وقال الغزالي : «هو نسبة الشيء إلى الزمان المحدود الذي يساوق وجوده ، وتنطبق نهاياته على نهاية وجوده أو زمان محدود يكون هذا الزمان جزءا منه» ، معيار العلم في المنطق : ٢٣٥.

وقال الرازي : «إنّه عبارة عن كون الشيء في الزمان أو في طرفه» ، المباحث المشرقية ١ : ٥٨١.

وقال الجرجاني : «هي حالة تعرض للشيء بسبب الحصول في الزمان» ، التعريفات : ٢٥٧.

وقال الآمدي : «وأمّا متى ؛ فعبارة عن حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى زمانه» ، المبين : ١١٦.

(٢) أي الآنات.

(٣) كالوصولات والمماسات. راجع الأسفار ٤ : ٢١٩.

٣٨٣

ثمّ إنّ منه ما هو حقيقي ، وهو الذي يطابق كون الشيء ولا يفضل عنه ؛ ومنه ما هو ثان غير حقيقي ، وهو الفاضل عن الشيء ، كما قلنا في الأين. لكن فرق بينهما فإنّ الأين الحقيقي لا يمكن أن يحصل فيه اثنان ، والمتى الحقيقي تحصل فيه أشياء لا تنحصر.

قال الشيخ : «وقد هوّل فاضل المتأخرين (١) في «العبارة» (٢) عن «المتى الخاص» تهويلا مفرطا ، فقال : إنّ متى نسبة الشيء إلى الزمان الذي يساوق وجوده وتنطبق نهايتاه على نهايتي وجوده ، أو زمان محدود ، هذا الزمان جزء منه.

وذلك أنّه ذكر نهايتي وجوده ، فإمّا أن يعنى به نهايتي مقداره ، أو نهايتي حركته ، أو نهايتي زمان وجوده ، أو نهايتي متاه ونسبته إلى زمانه ، فإن عنى نهايتي مقداره فليس ينطبق عليهما نهايتا زمانه ؛ وإن عنى نهايتي حركته فخص بذلك المتحرك المتصل الحركة أو الحركة نفسها ، وليس الغرض متجها إلى هذا وحده ؛ وإن عنى نهايتي زمان وجوده كان وجوده فيه حاصلا ، فلا ينطبق عليهما نهايتا زمانه بل هما هما ؛ وأمّا نهايتا النسبة فيمكن أن يجعل له وجه تأويل ، فيقال : إنّ معناه أنّ متاه نسبة (٣) إلى زمان تنطبق نهايتاه على نسبتين له إلى نهايتي هذا الزمان ،

__________________

(١) يعني إسكندر الأفروديسي ، وهو من كبار الحكماء اليونان. ولد في أفرودوسيا من أعمال آسيا الصغرى ، كان في أيام ملوك الطوائف بعد الإسكندر الملك وقد رأى جالينوس واجتمع معه ، فكان أكبر شراح أرسطو أثرا وأبعدهم صيتا حتى لقبه خلفاؤه بأرسطو الثاني. عاش في الربع الأخير من القرن الثاني بعد الميلاد والربع الأوّل من القرن الثالث الميلادي. الموسوعة الفلسفية للحفني : ٤٣ ؛ أخبار الحكماء : ٤٠ ؛ طبقات الأطباء ١ : ٦٩ ؛ عبد الرحمن البدوي ، موسوعة الفلسفة ١ : ١٥٣.

(٢) يسمّى في اليونانية ب «بارى ارمينياس».

(٣) في نسخة من المصدر : «هو نسبته».

٣٨٤

ثمّ لا نسبة له قبل أولاها ولا بعد أخراها إليه» (١).

قال الشيخ : «واعلم أنّه كما لم تكن الإضافة معنى مركبا يوجب تركيبه ترديدها بين شيئين إن لم يكونا جزءين منها ، كانا أمرين آخرين خارجين عنها هي تتعلق بهما ، كذلك

الأين ومتى لا يجب أن يظن فيهما تركيب بسبب أنّ لكلّ واحد منهما نسبة إلى شيء ؛ فإنّ النسبة ليست المنسوب ولا المنسوب إليه جزءا منها حتى تكون الجملة هي النسبة ، فتكون النسبة حينئذ جزءا لذاتها ، إذ الجملة تحصيل جملة من أشياء ومن الجمع نفسه ، فيكون الجمع كالصورة وهما كالمادة ، والمجموع كالمركب ، والجمع جزءا من المركب كالصورة ، وإذ هذا محال فليس الأين ولا متى مركبا» (٢).

__________________

(١) و (٢) الفصل الخامس من المقالة السادسة من قاطيغورياس الشفاء ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٣.

٣٨٥

الفصل الرابع :

في الوضع (١)

وفيه مباحث :

__________________

(١) قال الفارابي : «والوضع هو أن تكون أجزاء الجسم المحدودة ، محاذية لأجزاء محدودة من المكان الذي هو فيه أو منطبقة عليها» ، المنطقيات للفارابي ١ : ٦٢.

وعرفه ابن سينا بقوله : «هو نسبة أجزاء جملة الشيء بعضها إلى بعض ، مأخوذة مع نسبتها إلى الجهات الخارجة عنها : كانت تلك الجهات حاوية أو محوية» ، التعليقات : ٤٣.

وقال تلميذه بهمنيار : «وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان ، مثل القيام والقعود. وبالجملة هو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه نسبة إلى حاويه ومحويّه. وبعبارة أخرى : الوضع هيئة كون الشيء ذا نسبة لبعضه إلى بعض في الجهات المختلفة. وتلك النسبة للأجزاء إضافة ، ووضع للكل» ، التحصيل : ٣٣ ـ ٣٤.

وقال في موضع آخر : «هو كون الشيء ذا نسبة لبعضه إلى بعض في الجهات المختلفة» ، التحصيل : ٤١٥.

وتعريف الغزالي قريب من تعريف بهمنيار ، فراجع معيار العلم : ٢٣٦.

وقال الجرجاني : «هو هيئة عارضة للشيء بسبب نسبتين : نسبة أجزاء بعضها إلى بعض ، ونسبة أجزائه إلى الأمور الخارجية عنه ، كالقيام والقعود ، فإنّ كلا منهما هيئة عارضة للشخص بسبب نسبة أعضائه بعضها إلى بعض ، وإلى الأمور الخارجية عنه» ، التعريفات : ٣٢٧.

قال ابن باجة : «ومقولة الوضع ضرورية ؛ فانّ كلّ ما هو في مكان فله بالطبع موضع في مكانه ، فذلك الوضع في مكانه يكمل وجوده» ، المنطقيات للفارابي ٣ : ١٢٣.

وانظر أيضا : كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ١٠٩ ؛ مناهج اليقين : ١٤٧ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٧٠.

٣٨٦

البحث الأوّل

في ماهيته

لفظ الوضع يطلق على معان بالاشتراك (١) : أحدها المقولة ، وهي : هيئة تحصل للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض نسبة لأجلها تتخالف الأجزاء بالقياس إلى الجهات في الموازاة والانحراف. فلا يتحقّق إلّا بنسبتين احداهما بالقياس إلى أجزاء ذي الوضع أنفسها ، والثانية بالقياس إلى الأمور الخارجة عنه ، كالقيام ؛ فإنّ القائم لا بدّ له من نسبة خاصة لأجزائه بعضها إلى بعض كالمحاذات مثلا بينها ، ونسبة خارجية ، وهي كون رأس القائم من فوق ورجله من أسفل ؛ إذ لو لا هذه النسبة لكان الانتكاس قياما وليس كذلك. فعرفنا أنّ النسبة الأولى غير كافية ولا النسبة الثانية ، بل مجموعهما ، وكذا القعود والاستلقاء والانبطاح.

__________________

(١) المعنى الأوّل هو المعنى المقوليّ والماهوي الذي ذكره المصنف ، والمعنى الثاني للوضع هو : كون الشيء قابلا للإشارة الحسية. والمعنى الثالث أخص من الثاني ، وهو : كون الكم قابلا للإشارة الحسية. راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٨٢ ؛ نهاية الحكمة للعلّامة الطباطبائي : ١٣٣ ـ ١٣٤ ؛ المبين للآمدي : ١١٧.

٣٨٧

البحث الثاني

قال الشيخ : «وفي الوضع تضاد كالقيام والانتكاس ، فانّهما معنيان وجوديان ويتعاقبان على موضوع واحد وبينهما غاية الخلاف ، فإنّ الهيئة الحادثة من وضع كالقيام تصير الأجزاء كالرأس لها إلى جهات كالفوق مضادة لجهات أخرى كالتحت. وذلك إذا كانت الأجزاء لا تتخالف بالعدد فقط بل بالطبع. ومثال هذا : أنّ المكعب الذي له ست جهات ، لا اختلاف فيه إذا وضع وضعا حتى صار هذا السطح منه فوقا ، وهذا يمينا وهذا شمالا ، ثمّ غيّر حتى صار هذا الذي هو «فوق» هو «تحت» والذي هو «تحت» هو «فوق» ، فإنّ حال جملة الموضوع في تناسب سائر أجزائه واحدة بالعدد ، ووضعه لا يخالف الوضع الأوّل بالنوع بل هو كما كان ، لكن هذا الوضع مخالف لذلك الوضع بالعدد، وأمّا هيئة الجملة فمحفوظة ولا يتخالف الوضعان بالحدّ ، بل بالتخصص الجزئي ، وذلك لأنّ الجهات هي التي كانت بأعيانها ، والأجزاء والأطراف التي تليها هي مثل التي كانت لا تخالفها بأنواعها ، بل بأعدادها.

وأمّا لو كان بدل المكعب المتشابه الأضلاع شجرة أو إنسان ، فنصبا على ساقيهما ثمّ قلبا ونكسا ، فإنّ حدّ الأمرين مختلف ؛ فإنّ حدّ الأوّل وضع وهيئة حاصلة للشيء من حصوله (١) ساقه كذا وحصول رأسه كذا ، وحدّ الثاني مخالف

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : «حصول».

٣٨٨

لذلك ، لا بسبب أنّ الساق والرأس إنّما يتخالفان بالعدد فقط بل هما متخالفان أيضا في المعنى والطبيعة ، فإذا كان الحدان اثنين متخالفين وبينهما غاية الخلاف وموضوعهما واحد ، فهما متضادان. وأمّا هنالك فإنّها كانت (١) تتخالف الخصوصية الجزئية دون الحدود ، إذ كان سطح ما منه «فوق» فصار «تحت» ، وصار الآخر «فوق». وذلك السطح إنّما يغاير السطح الآخر بالعدد مغايرة ليست في حدين ، والأضداد هي التي لها طبائع متباينة وحدودها متخالفة ، وتتخالف بالنوعية لا بالشخصية. وكما أنّ الجسم لا يجتمع فيه البياض الحادث أمس ، من حيث هو ذلك البياض الأمسي ، والبياض الحادث اليوم ، من حيث هو هذا البياض ، وهما يتعاقبان على موضوع [واحد] (٢) وليسا يتضادان ، إذ ليس بينهما غاية الخلاف ، ولا خلاف بأمر داخل في اللونية ، فكذلك ؛ وإن كان لا يجتمع فيه ذلك الوضع الشخصي (٣) ويتعاقبان فيه ، فليسا بمتضادين ، إذ ليس بينهما غاية الخلاف في الطبع وفي حقيقة الوضع» (٤).

وفيه نظر ، فإنّ الوضع متضاد بالاعتبار تضاد النسب ، لا باعتبار اختلاف أحد المضافين ، كما أنّ الحركات تتضاد بتضاد المقصد وإن اتحد الموضوعان بالنوع ، فكذا الوضع فانّه لا مدخل لموضوع الوضع اختلافا واتّفاقا في اختلاف هيئة الوضع واتّفاقها.

__________________

(١) في المصدر : «فإنّما كان».

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في المصدر : «ذلك الوضع الشخصي وهذا الوضع الشخصي».

(٤) الفصل السادس من قاطيغورياس (مقولات) الشفاء ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٥. أنظر أيضا التحصيل : ٤١٥.

٣٨٩

البحث الثالث

الوضع قابل للشدة والضعف ، فإنّ الشيء قد يكون أشدّ انتصابا أو انتكاسا من غيره. وبالجملة ، فانّه يقبل الشدّة والضعف على نحو قبول الأين ، ولا يقبله على نحو لا قبول الأين.

ولأنّ قولنا : «قيام وجلوس» قد يقال على الحركة إلى حصول هذا الوضع ، ويقال على الهيئة الحاصلة.

فاعلم أنّ القيام الذي من الوضع هو القار منهما ، لا حالة «أن يقوم» (١).

__________________

(١) راجع نفس المصدر من ابن سينا.

٣٩٠

الفصل الخامس :

في الملك (١)

سألت شيخنا أفضل المحقّقين نصير الملّة والحقّ والدين ـ قدّس الله روحه ـ عن هذه المقولة. وقول الشيخ في الشفاء : «إنّه لم يتفق لي إلى هذه الغاية فهمها (٢) ؛ ولا أحد الأمور التي تجعل كالأنواع لها أنواعا لها ، بل يقال عليها باشتراك من

__________________

(١) يسميها أرسطو ب «له» ، منطق أرسطو : ٧٥. ويسميها ابن سينا ب «الجدة» وتسمّى أيضا مقولة القضية ، المنطقيات للفارابي ٣ : ٩٥.

راجع تلخيص المقولات لابن رشد : ١٥٣ ؛ معيار العلم : ٢٣٧ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٨٢ ؛ كشف الفوائد : ١١٠ ؛ مناهج اليقين : ١٤٧ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٧١ ؛ الأسفار ٤ : ٢٢٣.

وعرّفها الفارابي بقوله : «هو نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق ، على بسيطه أو على جزء منه ، إذا كان المنطبق ينتقل بانتقال المحاط به» ، المنطقيات للفارابي ١ : ٦٣.

قال ابن باجة : «ومقولة «له» نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق عليه ، وهو ضروري في وجود الجسم على أحسن أحواله وحفظه ودفع الآفات عليه» ، نفس المصدر ٣ : ١٢٣.

قال الآمدي : «الملك ؛ فعبارة عن ما يحصل للجسم بسبب نسبته إلى ما له ، أو لبعضه ، ينتقل بانتقاله ، كالتختم والتقمص» ، المبين : ١١٧.

(٢) وقال أيضا : «وأمّا مقولة الجدة ، فانّي إلى هذه الغاية لم أتحققها» ، الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

وقال المصنف : «ولخفائها عبّر المتقدمون عنها بعبارات مختلفة كالجدة والملك وله» ، كشف المراد : ٢٧٧.

٣٩١

الاسم أو تشابه ، وكما يقال : الشيء من الشيء ، والشيء في الشيء ، والشيء على الشيء ، والشيء مع الشيء ؛ ولا اعلم شيئا تكون مقولة الجدة جنسا لتلك الجزئيات ، لا يوجب مثله في هذه المذكورة. ويشبه أن يكون غيري يعلم ذلك ، فليتأمل هناك من كتبهم.

ثمّ إن زيف بعضها من أن يكون أنواعا ، وجعل تواطؤ هذه المقولة بالقياس إلى بعضها دون بعض ، وجعل الاشتراك في اسمها بالقياس إلى الجملة أو الآخرين ، وعنى به أنّه نسبة إلى تلاصق (١) ينتقل بانتقال ما هو منسوب إليه ، فليكن كالتسلح والتنعل والتزيّن ولبس القميص ، وليكن منه جزئي ومنه كلي ، ومنه ذاتي كحال الهرّة عند إهابها ، ومنه عرضي كحال الإنسان عند قميصه.

ولنفصل هذا المبهم (٢) من المقولات العشر إلى ما اوثر أن نفصل إليه ، ففيه مجال»(٣).

فقال ، ونعم ما قال : تحقيق هذه المقولة أن يقال : «كون الشيء للشيء» أمر معقول ثابت مغاير للشيئين متحقّق في نفس الأمر ، إذ قد يكون الشيء ولا تثبت له هذه الإضافة ، ثمّ إنّها تتجدد عليه ، فقبل التجدد لم يكن شيء غير العدم ونفس ذلك الشيء ، وبعد التجدد حصل زائد ، فكان المرجع به إلى الثبوت دون الانتفاء. ثمّ ذلك المتجدد أمر كلي ، فإنّه قد يصدق ثبوت الجوهر للجوهر ، كما نقول : زيد [له] (٤) مال ، وقد يصدق ثبوت العرض للجوهر وبالعكس. والعلّة يثبت لها معلولها وبالعكس. وبالجملة فأنواع هذا الحصول متعددة متكثرة ، فيجب أن

__________________

(١) في المصدر : «ملاصق».

(٢) في نسخة من المصدر : «المهم».

(٣) الفصل السادس من المقالة السادسة من قاطيغورياس الشفاء ١ : ٢٣٥.

(٤) سقطت سهوا ، وأضفناها طبقا للمعنى.

٣٩٢

تدخل هذه الأنواع تحت الكلي الذي يصدق عليها ، فلتكن هذه المقولة. ولمّا طلب الأوائل إيضاحها وضعوا لها ألفاظا ثلاثة : الملك والجدة ، وله.

والذي جعله الشيخ بإزائها أخصّ من مفهومها ، فإنّه خصصها بنسبة الجسم إلى حامله أو لبعضه ، وليس ذلك واجبا في هذه المقولة. ثمّ شرط فيه أن ينتقل بانتقاله ، كالتسلح والتقمص والتنعل والتختم ، واحترز بذلك عن البيت الحاوي للساكن فيه ، وليس ذلك أيضا شرطا في هذه المقولة.

٣٩٣

الفصل السادس :

في مقولتي : أن يفعل ، وأن ينفعل

وفيه مباحث :

البحث الأوّل

في ماهيتهما

قال الشيخ : «هاتان المقولتان توهم (١) في تصورهما (٢) هيئة توجد في الشيء لا يكون الشيء قبلها ولا بعد [ها] (٣) البتة في الحدّ الذي يكون معها من الكيف أو الكم أو الأين أو الوضع ، بل لا يزال يفارق على اتصال (٤) بها الشيء شيئا ، ويتوجه إلى شيء ما دامت موجودة ، كالتسود ما دام الشيء يتسود ، والتبيض ما دام الشيء يتبيض ، والحركة من مكان إلى مكان ، فالشيء الذي فيه هذه الهيئة على اتصالها ، فهو منفعل وحاله هي أن ينفعل ، والشيء الذي منه هذه الهيئة على

__________________

(١) في النسخ : «ترسم» ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) في المصدر : «تصورها».

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) في المصدر : «اتصاله».

٣٩٤

اتصالها ، فهو من حيث هو ، منسوب إليها فحاله هي أن يفعل» (١).

والحاصل من كلامه أنّ مقولة أن يفعل : تأثير الشيء في غيره أثرا غير قارّ الذات ، فحاله ما دام يؤثر هي أن يفعل ، كالتسخين ما دام المسخّن يسخن ، والقطع ما دام القاطع يقطع. ومقولة أن ينفعل : تأثير الشيء في غيره ما دام التأثر ، كالتسخن والتبرد والتقطع.

وإنّما اختير لهما «أن يفعل» و «أن ينفعل» دون الفعل والانفعال تنبيها على اعتبار السلوك في المقولتين ، فإذا انقطع لم يصدقا ، بخلاف الفعل والانفعال اللّذين يقالان للحاصل المستكمل الذي انقطعت الحركة عنه ، كما إذا اشتدت السخونة والقطع ووقفت الحركة ، فإنّه يقال : هذا القطع ثابت وهذه السخونة حاصلة ، ولا يقال : فيهما حالة الاستقرار هو ذا يتسخن أو ينقطع. وكذلك القيام الذي هو النهوض ، والجلوس الذي هو المصير إلى الأمر الذي يشتد ـ فيسمى جلوسا ـ هما من هذه المقولة. وأمّا هيئة القيام المستقرة ، وهيئة الجلوس المستقرة ، فمن باب الوضع ، كما أنّ السخونة من باب الكيف ، وهيئة الاستقرار في المكان هو من الأين. أمّا هذه المقولة ، هي ما كان توجها إلى إحدى هذه الغايات غير مستقر من حيث هو كذلك. لكن قد يصدق الفعل والانفعال حالة السلوك أيضا ، فكان الأوّل أخص ، فلهذا وضعتا له دون المصدر.

__________________

(١) الفصل السادس من المقالة السادسة من قاطيغورياس الشفاء ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

أنظر أيضا التحصيل : ٤١٧ ؛ معيار العلم : ٢٣٨ ؛ كشف الفوائد : ١١٠ ـ ١١١.

٣٩٥

البحث الثاني

في عروض التضاد فيهما (١)

إنّ التضاد قد يعرض في هاتين المقولتين ، كما يعرض في ما عداهما ، فكما أنّ البياض ضدّ السواد كذا التبيض ضدّ التسود ، فانّه يستحيل أن يكون الشيء حالة طلبه للبياض يطلب السواد لامتناع اجتماعهما فامتنع اجتماع طلبهما ، وهما معنيان ثبوتيان متعاقبان على موضوع واحد وبينهما غاية التباعد ، فكانا ضدين.

__________________

(١) راجع نفس المصدر من ابن سينا : ٢٣٧ ؛ منطق أرسطو : ٦٢ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٨٣ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٧٢.

٣٩٦

البحث الثالث (١)

إنّه قد يعرض فيهما اشتداد وتنقص ، لا من جهة القرب إلى الطرف الذي هو السواد، فإنّ القريب من ذلك ، وهو [حدّ] (٢) مبلوغ إليه من ذلك السواد ، بل (٣) بالقياس إلى الاسوداد الذي هو سكون (٤) في السواد. وفرق بين الاسوداد ، أعني الحاصل القار ، وبين السواد ، فإنّ الاسوداد يعقل على أنّه غاية حركة ، وأمّا السواد فلا يحتاج في تعقله سوادا إلى تعقل حركة إليه ؛ فإنّ من الاسوداد الذي هو السلوك ما هو أقرب إلى الاسوداد الذي هو غاية السلوك من اسوداد آخر. وكذلك قد يكون بعضه أسرع وصولا إلى الغاية من بعض. وهذا الاشتداد والتنقص ليس بالقياس إلى السواد ، بل إلى الاسوداد الذي هو عبارة عن الحركة إلى السواد ، ولا شكّ في أنّ السلوك إلى السواد غير السواد.

__________________

(١) راجع نفس المصدر من ابن سينا : ٢٣٧ ؛ منطق أرسطو : ٦٢ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٨٣ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٤٧٢.

(٢) ما بين المعقوفين من الشفاء.

(٣) في النسخ : «قيل» ، وما أثبتناه من الشفاء.

(٤) ق : «سيكون».

٣٩٧

البحث الرابع (١)

بعض الناس خصص هاتين المقولتين بالتغير بالكيف خاصة ، فقال : هذه المقولة يجب أن تكون تغيرا في الكيف فقط. وأمّا العام لها ولغيرها فمن الأمور التي تقع في مقولات كثيرة. وبعضهم يجوّز أن تكون جامعة للأنواع كلّها بمعنى واحد. وتحقيق ذلك غير لائق هنا.

__________________

(١) راجع نفس المصدر من ابن سينا : ٢٣٦. وقال ابن سينا في موضع آخر : «وإنّ قوما آخرين قالوا : إنّ الانفعال هي الكيفية لا غير ، فليس التسخن غير السخونة. وما قالوه باطل ؛ فانّ التسخن هو سلوك إلى السخونة ، فإن كان المتسخن له في كلّ آن سخونة ، فليس تسخنه تلك السخونة ، بل تسخنه إنّما هو بالقياس إلى سخونة مطلوبة. وبالجملة فإنّ التسخن هيئة غير قارة والسخونة هيئة قارة الخ» ، الفصل الثالث من المقالة الثانية من قاطيغورياس الشفاء ١ : ٦٩.

٣٩٨

خاتمة

تشتمل على بحثين :

البحث الأوّل

في حصر المقولات (١)

__________________

(١) قد وقع النزاع بين المنطقيين وأيضا بين الفلاسفة في حصر المقولات ، فمنهم من قال : «إنّها عشر ؛ ومنهم من قال انّها أربع ـ بارجاع المقولات النسبية إلى مقولة واحدة ـ ومنهم من قال انّها خمس ؛ ومنهم من أنهاها إلى مقولتين هما الجوهر والعرض».

وقد ادعي في هذا المبحث أمران لا يصحّ شيء منهما ، وإليك تفصيلهما :

الأمر الأوّل : قيل : «لم ينص أرسطو صراحة على عدد مقولاته ، بل عرض لها في مناسبات مختلفة ذاكرا بعضها ومهملا بعضها الآخر ، ولم يصل بها إلى عشر إلّا في كتابي «المقولات» و «الجدل». ولكن تلاميذه وأتباعه اعتبروا هذا الرقم مقدسا وذادوا عنه بكل قواهم» ، مقدمة دكتور إبراهيم المذكور على مقولات منطق الشفاء.

أقول : إنّ أرسطو لم ينص على عدد المقولات في كتابه «المقولات» ، ولكنّه صرّح به في كتابه «الجدل» حيث قال : «وبعد هذه الأشياء ينبغي أن نحد أجناس المقولات ... فنقول : إنّ عدّتها عشرة : ما هو الشيء ؛ والكم ؛ والكيف ؛ والمضاف ؛ وأين ؛ ومتى ؛ والنصبة ؛ وله ؛ ويفعل ؛ وينفعل. وذلك أنّ العرض والجنس والخاصة والحدّ أبدا في واحد من هذه العشر مقولات يوجد ... فهذه هي الأشياء التي فيها ومنها الأقاويل ، وهذه عدّتها» ، منطق أرسطو ٢ : ٥٠٢. ـ

٣٩٩

قد ذكرنا فيما سلف (١) : أنّه لا دليل على ذلك سوى الاستقراء الذي ليس بتام ، مع أنّ الشيخ تكلف كلاما طويلا رام به الدلالة عليه.

فقال : «إنّا بيّنا انحصار الممكنات في الجواهر والأعراض ، فإذا بينا انحصار الأعراض في التسعة حصل المطلوب. والذي يدل عليه أنّ العرض إمّا أن يحتاج

__________________

ـ الأمر الثاني :

قيل : «يتفق فلاسفة الإسلام جميعا مع ابن سينا في الأخذ بهذا العدد والدفاع عنه ... وابن سينا في إخلاصه لأرسطو يرعى هذه القداسة ويدافع عنها» ، نفس المصدر للدكتور إبراهيم المذكور.

أقول : هذه النسبة إلى جميع فلاسفة الإسلام أيضا غير صحيحة ، فلنذكر نماذج من مخالفتهم لحصر المقولات في عشر :

١. يذكر ابن سينا هذا العدد في بعض المواضع من الشفاء مماشاة وعلى سبيل التقريب وقد صرّح برأيه النهائي في موضع منه وقال : «وأمّا نحن فلا نتشدّد كلّ التشدّد في حفظ القانون المشهور من أنّ الأجناس عشرة الخ» ، الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء : ٤٢. والتكلّف الذي نقله المصنف عن الشيخ لاثبات عدد العشر للمقولات ، قد اعترف الشيخ برداءته وضعفه ، حيث قال : «فهذا ضرب من التقريب متكلّف لا أضمن صحته» ، الفصل الخامس من المقالة الثانية من مقولات منطق الشفاء ١ : ٨٦.

٢. يعتقد الغزالي انّ هذا العدد مزعوم المنطقيين حيث قال : «والأجناس العالية التي هي أعلى الأجناس زعم المنطقيون انّها عشرة» ، معيار العلم في المنطق : ٧٧.

٣. ومنهم من جعلها أربعا ووافقهم عمر بن سهلان الساوجي صاحب البصائر. على ذلك راجع المطارحات : ٢٧٨.

٤. وجعلها شيخ الاشراق خمسة وقال : «... فانحصرت الأمّهات من المقولات في خمسة» التلويحات : ١١.

٥. وأنهاها ميرداماد إلى مقولتين هما الجوهر والعرض ، القبسات : ٤٠.

٦. قال المصنف : «وبالجملة فالحصر لم يقم عليه برهان» ، كشف المراد : ٢٠٢.

(١) في المجلد الأوّل ، ص ٣١٧.

٤٠٠