نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

وذهب النظّام إلى أنّ جميع الأجسام والأعراض غير باق زمانين ، بل يحدثها الله تعالى حالا فحالا. (١)

وذهبت الأشاعرة إلى مثل هذا القول في الأعراض. (٢)

وقال جميع من لا يجوّز إعادة المعدوم : بأنّ الأجسام لا تفنى ، ولكن تفنى التأليفات التي بين أجزائها فتكون لأجل ذلك هالكة ، فإعدام زيد الأوّل ليس بممكن عند أكثر المتكلّمين (٣) ، وما لا يمكن لا يكون مقدورا للفاعل المختار.

وأمّا على مذهب الفلاسفة ، فالشكل الغريب لا يكون إلّا سببا فاعليا ، ولا بدّ معه من سبب قابلي حتى يحصل الأثر. ومادة زيد الأوّل ونفسه لا يمكن أن تفنى ، ومادة زيد الثاني لا يمكن أن تتصل بها صورة إلّا بعد حصول اعتدال إنساني وتغذية ونشو ، حتى يصير بعد مرور مدّة من الزمان إنسانا كاملا.

فهذه الدّعوى على المسلمين وعلى الفلاسفة غير مطابقة لمذاهبهم. وهب (٤) أنّهم يقولون بذلك ، إلّا أنّ العقل لمّا كان جازما بنفي ذلك المحتمل ، لا يقع للعقلاء شكّ في المقدمات (٥) بسبب أمثال هذه الجزئيات. (٦)

__________________

(١) هذا الكلام عين ما حرّره صدر المتألهين من الحركة الجوهرية في الأجسام (وهو أوّل من أشبع الكلام في اثباته) ومخالف لما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من الحركة في الأعراض دون الجواهر. والقول الحقّ ما ذكره النظام ونقحه صدر المتألهين ؛ لأنّ الأعراض هي المرتبة النازلة للجواهر ، فإذا كانت متجددة ومتغيرة آنا فآنا كانت موضوعاتها متجددة ومتحركة أيضا ؛ لأنّ الحركات العرضيّة بوجودها سيّالة متغيّرة ، وهي معلولة للطبائع ، وعلّة المتغيّر يجب أن تكون متغيّرة وإلّا لزم تخلّف المعلول بتغيّره عن علّته وهو محال. راجع الأسفار ٣ : ٦١ وما يليها ؛ نهاية الحكمة : ٢٠٧ ـ ٢١٠.

(٢) انظر المذاهب المشهورة في كيفية الإعدام في أنوار الملكوت للعلّامة الحلّي : ٤٢.

(٣) في المصدر : «المسلمين».

(٤) المشهور انّها اسم فعل بمعنى احسب وقيل : إنّها كلمة يونانية بمعنى أفرض واحسب.

(٥) في المصدر : «البديهيات».

(٦) في المصدر : «الخرافات».

١٤١

فإن قيل : فكيف حال معجزات الأنبياء عليهم‌السلام؟

قلنا : ليس معجزاتهم إعدام شيء باق. وأن جعل العصا حيّة ثمّ إعادتها إلى شببها (١) الأولى ، ليس إلّا تبديل صورة بصورة. وإخراج الناقة من الجبل ، وانفجار الماء من الحجر ، وإحياء الموتى ، وغير ذلك أمور ممكنة في العقل ليس فيها إعدام باق وإيجاد مثل المنعدم دفعة ، مع أنّ لبعضها تأويلات عقلية لا يمكن إيرادها هاهنا. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ المشكّك يسلم الجزم ويطعن في حكم الجازم ، فإنّه غير مقبول (٣) لأنّه يجزم ويجوّز النقيض في شيء واحد ، فتوجه الطعن إليه. وإعدام الموجود متفق عليه ، لكنّ كيفية الإعدام مختلف فيها ، فبعضهم يسنده إلى الفاعل ، وبعضهم إلى الضدّ ، إلى غير ذلك.

والقائل بامتناع إعادة المعدوم من المسلمين يجوّز إعدام الشخص ، بمعنى تفرق أجزائه وتركّبها ، وهو كاف في غرض المشكك ؛ لأنّ الله تعالى قادر على إعدام زيد الموجود دفعة ، بأن يفرق أجزاءه ثمّ يركّب أجزاء أخر على صورته دفعة أيضا.

وعلى رأي الفلاسفة ، لا يجب حصر الاستعداد في مادة المني واستكماله في الرحم ، بل أيّ استعداد للصورة الإنسانية حصل لأيّ مادة قابلة وارتفعت الموانع ، فإنّه يجب الفيض من مفيضه.

الثاني : إنّا نشاهد إنسانا كبيرا فنحكم بالضرورة أنّه لم يخلق دفعة من غير أب وأمّ ، بل كان قبل ذلك طفلا ومترعرعا وشابّا حتى صار الآن شيخا ، وهذا الجزم غير ثابت. أمّا على مذهب المسلمين فللفاعل المختار ، وأمّا على قول

__________________

(١) في المصدر : «سيرتها».

(٢) نقد المحصل : ٤٠ ـ ٤١.

(٣) ج : «معقول».

١٤٢

الفلاسفة فللشكل الغريب.

قال أفضل المحققين : العقل لا يشك فيما جزم بسبب هذا القول الذي قاله ، وإن لم يكن هذا الجزم مثل الجزم بأنّ «الكلّ أعظم من جزئه» ، لكن التفاوت بينهما لا يبلغ حدا يجعل أحد الجزمين ظنيا. واعتبر القضايا التجربيّة ، فإنّها لا تبلغ في الجزم حدّ الأوّليات ، مع أنّها يقينية بعيدة عن الارتياب.

وأمّا عند الفلاسفة فمحال أن يتولد شيخ من غير أسباب مادية واستعدادات وتربية كما مرّ. (١)

وفيه نظر ، لما بيّنا من اعتراف المشكك بالجزم ، بأنّه لم يورد إلّا عليه ، ولولاه لم يكن مشككا حيث حصل الشكّ من العقل فيما جزم فيه (٢). ومع التجويز لا يحصل ترجيح ، فضلا عن مساواته للقضايا التجربية.

الثالث : إذا خرج الشخص من داره جزم بأنّ جميع ما فيها من الأواني لم تنقلب اناسا فضلاء مدقّقين في علم المنطق والهندسة ، وأنّ الأحجار التي فيها لم تنقلب ذهبا ولا ياقوتا ، وأنّه ليس تحت رجلي ياقوت بمقدار مائة ألف منّ ، وأنّ مياه البحار والأودية لم تنقلب دما ودهنا ، والاحتمال في الكلّ واحد.

ولا يندفع ذلك بأنّي لمّا نظرت إليها ثانيا وجدتها كما كانت ، لاحتمال أن يقال : إنّها انقلبت إلى هذه الصفات في زمان غيبتي [عنها] ، ثمّ عند عودي إليها صارت كما كانت إمّا للفاعل المختار ، أو للشكل الغريب.

قال أفضل المحققين : أكثر ما ذكر في هذه الاحتمالات محال ؛ فإنّ قلب الحقائق عند المتكلمين محال غير مقدور عليه. وتبديل هذه الصور بالصور التي

__________________

(١) نقد المحصل : ٤١.

(٢) ق : «به».

١٤٣

ذكرها عند (١) الفلاسفة ممتنع.

وفيه نظر ، فإنّ جميع ما ادّعي انقلابه ليس فيه قلب الحقائق ، بل راجع إلى خلع الصور النوعية أو الجسمية ولبس غيرها ، وهو ممكن عند الكلّ.

الرابع : إنّي إذا خاطبت إنسانا فتكلّم بكلام منظوم مرتّب يوافق خطابي ، علمت بالضرورة أنّه حي عاقل فاهم ، وهذا الجزم غير ثابت ، لأنّ المقتضي لذلك الجزم إمّا أقواله أو أفعاله.

أمّا الأقوال ، فلا توجب ؛ لأنها أصوات مقطّعة ، وحصولها في الذات لا يقتضي كون الذات حيّة عاقلة.

وأمّا الأفعال ، فلا تدل أيضا ؛ لاحتمال أنّ الفاعل المختار ، أو الشكل (٢) يقتضي حصول تلك الألفاظ المخصوصة الدالة على ما يوافق غرض المخاطب. فثبت أنّ القول والفعل لا يدلّ على كونه حيّا فاهما ، مع أنّا نضطرّ إلى العلم بذلك.

قال أفضل المحققين : صدور الكلام المنظوم من شخص هو إنسان ، يدل بالضرورة على كونه حيّا عاقلا ، ولا يندفع ذلك بما قاله. أمّا في غير الإنسان فلا يدل على كون ذلك الشخص حيّا عالما (٣) إنّما يدل على أنّ الذات الّتي يصدر عنها ذلك الكلام حيّ عالم قادر.

والأفعال ، فلا خلاف في أنّها إذا كانت محكمة متقنة ، كان فاعلها عالما قادرا. فهذا الشكّ ليس بقادح فيما أراد قدحه ، لا على مذهب المتكلّمين ، ولا على

__________________

(١) في المصدر : «ذكرناها عن».

(٢) المحصل : «الشكل الغريب».

(٣) في المصدر : «عاقلا».

١٤٤

مذهب الفلاسفة. (١)

وفيه نظر ، فإنّ البحث في الجزم الضروري ، كيف حصل مع إمكان صدوره من غيره؟ بأن يخلقه الله تعالى في جسم جمادي على صورة الإنسان ، ويتوهم السامع كون المتكلّم حيا أو إنسانا وليس هو كذلك ، فإنّ وجود الكلام لا يدلّ على حياة المتكلّم ، كالشجرة الّتي خلق الله تعالى فيها الكلام لموسى عليه‌السلام.

الخامس : رويتم في الأخبار أنّ جبرئيل عليه‌السلام كان يظهر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صورة دحية الكلبي ، وإذا جاز ذلك في العقل جاز أن يظهر في صورة سائر الأشخاص. فإذا رأيت ولدي فلعلّه بعض الملائكة ، بل الذبابة التي طارت لعلّها ليست بذبابة ، بل هي ملك من الملائكة. فثبت أنّ هذا التجويز قائم ، مع أنّ العلم الضروري بعدمه حاصل.

فثبت بهذه الوجوه أنّ البديهة جازمة بهذه الأحكام ، مع أنّ جزمها باطل. ولمّا تطرّقت التهمة إليها لم يكن حكمها مقبولا ، إذ لا شهادة لمتّهم.

لا يقال : جزم العقل بهذه القضايا استدلالي ، لا بديهي.

لأنّا نقول : لو كان كذلك لما حصل هذا الجزم إلّا لمن عرف ذلك الدليل. ولمّا لم يكن كذلك ، بل هو حاصل للصّبيان والمجانين ولمن لم يمارس شيئا من الدلائل ، علمنا أنّه بديهي ، لا نظري. على أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا وتأمّلنا أحوالنا ، علمنا أنّ علمي «بأنّ زيدا الذي أشاهده الآن هو الذي شاهدته قبل ذلك بلحظة ، وأنّه لا يجوز أن يقال : عدم الأوّل وحدث مثله» ليس أضعف من علمي بأنّ الواحد نصف الاثنين ، وأنّ الشيء إمّا أن يكون موجودا أو معدوما.

قال أفضل المحققين : المحقّقون من المسلمين وغيرهم من أهل الملل

__________________

(١) نقد المحصل : ٤٢.

١٤٥

يقولون : كلّ ما أخبر به مخبر صادق ، فإن كان ممكن الوقوع حكمنا بصحّته وأحلناه إلى القادر المختار ، وإن كان ممتنع الوقوع فإمّا أن نرجع فيه إلى تأويل مطابق لأصول ديننا ، أو نتوقف فيه. وإذا تقرر هذا الأصل لم تبق حيرة في موضع ممّا ذكره أو لم يذكره. ومن المقرر أنّ العلم القطعيّ لا ينقدح بالظنون الفاسدة والأوهام البعيدة الكاذبة.

وما ذكره في جواب الاعتراض هو الدليل على أنّ القدح في الضروريات بما أورده من الاحتمالات لا يؤثر في الجزم العقلي أصلا. (١)

الوجه السابع

مزاولة الصنائع العقلية وممارستها تدل على أنّ الإنسان قد يتعارض عنده دليلان في مسألة عقلية بحيث يعجز عن القدح في كلّ واحد منهما ، إمّا عجزا دائما أو في بعض الأحوال. والعجز لا يتحقق إلّا عند كونه مضطرا إلى اعتقاد صحّة جميع المقدمات التي في الدليلين ، ولا شكّ أنّ واحدا منهما خطأ ، وإلّا لصدق النقيضان. وهذا يدل على أنّ البديهة قد تجزم بما لا يجوز الجزم به.

الوجه الثامن

قد يكون الإنسان جازما بصحّة جميع مقدمات دليل معيّن ، ثمّ يتبيّن له الخطأ في بعض تلك المقدمات ، ولأجل ذلك ينتقل الرجل من مذهب إلى مذهب ، فجزمه بصحّة تلك المقدمة الباطلة باطل. فظهر أنّ البديهة متّهمة.

قال أفضل المحققين : قصور أفهام بعض الناس عن التمييز بين الحقّ والباطل واعتمادهم على ما يتقلّدونه من آبائهم وأساتذتهم بموجب حسن ظنّهم

__________________

(١) نقد المحصل : ٤٢.

١٤٦

فيهم ، ليس بقادح في الأوّليات. وأيضا التشكك في النظريات بسبب تعارض دليلين ، أو النقل من مذهب إلى مذهب بسبب ترجّح أحد دليلين متعارضين ، لا يقدح في النظريات. وصناعة المنطق ، لا سيّما صناعة سوفسطيقا منه ، إنّما هي لإرشاد العقلاء إلى (١) طريق الحقّ ومجانبة ما يقتضي الضّلال في العقائد والمباحث النظرية. (٢)

الوجه التاسع

إنّا نرى لاختلاف الأمزجة والعادات تأثيرا في الاعتقادات ، وذلك يقدح في البديهيات.

أمّا الأمزجة فلأنّ ضعيف المزاج يستقبح الإيلام ، وغليظ المزاج قاسي القلب قد يستحسنه فرب إنسان يستحسن شيئا وغيره يستقبحه.

وأمّا العادات فهو أنّ الإنسان إذا مارس كلمات الفلاسفة وألّفها من أوّل عمره إلى آخره ، ربما صار بحيث يقطع بصحّة ما يقولونه وبفساد كلّ ما يقوله مخالفوهم. ومن مارس كلام المتكلّمين كان الأمر بالعكس ، وكذا القول في أرباب الملل. فإنّ المسلم المقلد يستقبح كلام اليهود في أوّل الوهلة ، واليهودي بالعكس من ذلك ، وما ذاك إلّا بسبب العادات. وإذا ثبت أنّ لاختلاف الأمزجة والعادات أثرا في الجزم بما لا يجب الجزم به ، فلعلّ الجزم بهذه البديهيات ، إمّا لمزاج عام ، أو لألف عام ، وعلى هذا التقدير لا يجب الوثوق.

لا يقال : الإنسان يفرض نفسه خالية عن مقتضيات الأمزجة والعادات ، فما يجزم العقل به في تلك الحالة كان حقا ، لأنّ الجازم به في تلك الحالة هو صريح العقل ، لا المزاج والعادة.

__________________

(١) في المخطوطة : «لأنّ» والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٢) نقد المحصل : ٤٣.

١٤٧

لأنّا نقول : هب أنا فرضنا خلوّ النفس عن المزاج والعادة ، لكن فرض الخلوّ لا يوجب حصول الخلوّ ، فلعلّنا وإن فرضنا خلوّ النفس عنهما لكنّها ما خلت عنهما ، وحينئذ يكون الجزم بسببهما ، لا بسبب العقل.

سلّمنا أنّ فرض الخلوّ يوجب الخلوّ ، لكن لعلّ في نفوسنا من الهيئات المزاجية والعاديّة ما لا نعرفه على سبيل التفصيل ، وحينئذ لا يمكننا فرض خلوّ النفس عنهما (١) ، وذلك سبب التهمة.

قال أفضل المحققين : أمّا استحسان الأشياء واستقباحها فسيأتي. وأمّا مقتضيات الطبائع والعادات والديانات ، فلا شكّ في كونها مؤثرة في اعتقادات العوام ، لكنّها لا تعارض متانة الحقّ الذي يعترف (٢) به جميع العقلاء حتّى البلّه والصبيان والمجانين. وقد حذّر العلماء طالبي الحق عن متابعة الأهواء والطبائع والعادات ، بمثل قول القائل : «رؤساء الشياطين ثلاثة : شوائب الطبيعة ، ووساوس العادة ، ونواميس الأمثلة». ولا شكّ أنّ البديهيات لا تنقدح بها. (٣)

قالت السوفسطائية : إمّا أن تشتغلوا بالجواب عمّا ذكرناه أو لا. فإن اشتغلتم بالجواب حصل غرضنا ؛ لأنّكم حينئذ تكونون معترفين بأنّ الإقرار بالبديهيات لا يصفو عن الشّوائب إلّا بالجواب عن هذه الإشكالات ، ولا شكّ أنّ الجواب عنها لا يحصل إلّا بتدقيق النظر ، والموقوف على النظريّ (٤) أولى أن يكون نظريا ، وكانت البديهيات مفتقرة إلى النظريات المفتقرة إلى البديهيات ، هذا خلف.

وإن لم تشتغلوا بالجواب بقيت الشبهة (٥) المذكورة خالية عن الجواب. ومن

__________________

(١) المحصل : «عنها».

(٢) في المخطوطة : «يعرف» والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٣) نقد المحصل : ٤٤.

(٤) ق : «النظر».

(٥) المحصل : «الشّبه».

١٤٨

المعلوم بالبديهة ، أنّ مع بقائها لا يحصل الجزم بالبديهيات فقد توّجه القدح في البديهيات على كلا التقديرين.

قال أفضل المحقّقين : عدم الاشتغال بالجواب لا يقتضي بقاء الشبهة (١) القادحة في البديهيات (٢) ، فإنّها مع جزم العقل ، غير مؤثرة في العقول السليمة ، بل إنّما لا نشتغل بالجواب لفقدان ما يتّفقون عليه من مبادئ الأبحاث ، وكون البديهيات (٣) مستغنية عن الذّبّ عنها بالحجج والبيانات.

ولا يقال في جوابهم : إنّ شبهتكم (٤) التي أوردتموها ليست قضايا حسية ، فهي إمّا بديهيات ، وإمّا نظريات مستندة إلى بديهيات ، فلو كانت قادحة في البديهيات لكانت قادحة في أنفسها. لأنّهم يقولون : نحن لم نقصد بإيراد هذه الشبهة (٥) إبطال البديهيات باليقين ، بل قصدنا إيقاع الشكّ فيها ، وكيف كان فمقصودنا حاصل. (٦)

ثمّ قال منكروا المحسوسات والبديهيات معا : قد ظهر ممّا تقدّم ، تطرق التهمة إلى المحسوسات والبديهيات ، ولا بدّ فوقهما من حاكم آخر ، ولا يجوز أن يكون الحاكم هو الاستدلال ، لأنّه فرعهما ، فلو صححناهما به دار ، ولا نجد حاكما آخر ، فإذن لا طريق إلّا التوقف.

لا يقال : هذا الكلام الذي ذكرته ، إن أفادك علما بفساد الحسيات

__________________

(١) في المصدر : «الشّبه».

(٢) و (٣) في المصدر : «الأوّليات».

(٤) في المصدر : «شبهكم» وهو الصحيح بقرينة كلمة «قضايا» الآتية بصيغة الجمع ، ولانّ الشبهات كانت أكثر من واحدة.

(٥) في المصدر : «الشّبه».

(٦) نقد المحصل : ٤٥.

١٤٩

والبديهيات فقد ناقضت ، وإلّا فقد اعترفت بسقوطه.

لأنّا نقول : هذا الكلام الذي ذكرته أنت يفيد القطع بالثبوت ، والذي ذكرته أنا إنّما يفيد التّهمة ، والشكّ إنّما يتولّد من هذا المأخذ. فأنا شاك ، وشاك في أني شاك ، وهلمّ جرّا ، فحينئذ الاشتغال بالجواب عن شبههم يحصل غرضهم على ما قالوا.

فالصواب أن لا نتشاغل بالجواب عنها ؛ لأنّا نعلم أنّ علمنا بأنّ «الواحد نصف الاثنين» ، وأنّ «النار حارة» ، «والشمس مضيئة» ، لا يزول بما ذكروه ، بل الطريق أن يعذبوا حتى يعترفوا بالحسيات ، وإذا اعترفوا بها اعترفوا بالبديهيات ، أعني الفرق بين وجود الألم وعدمه.

قال أفضل المحققين : إنّ قوما من الناس يظنون أنّ السوفسطائية قوم لهم نحلة ومذهب ، ويتشعبون إلى ثلاث طوائف :

اللاأدريِة ، الذين شكوا وشكوا في أنّهم شكوا إلى ما لا يتناهى.

والعنادية ، الذين يقولون : ما من قضيّة بديهية أو نظرية إلّا ولها معارضة ومقاومة مثلها في القوة والقبول عند الأذهان.

والعندية ، وهم الّذي يقولون : مذهب كلّ قوم حقّ بالقياس إليهم ، وباطل بالقياس إلى خصومهم ، وقد يكون طرفا النقيض حقّا بالقياس إلى شخصين ، وليس في نفس الأمر شيء بحقّ.

وأمّا أهل التحقيق فقد قالوا : هذه لفظة في لغة اليونانيّين ، فانّ «سوفا» بلغتهم اسم للعلم والحكمة و «اسطا» اسم للغلط فسوفسطا معناه علم الغلط. كما كان «فيلا» اسم للمحب ، و «فيلسوف» معناه محب العلم ، ثمّ عرّبت هاتان اللفظتان واشتق منهما السفسطة والفلسفة.

١٥٠

قالوا : وليس ولا يمكن أن يكون في العالم قوم ينتحلون هذا المذهب ، بل كلّ غالط سوفسطائي في موضع غلطه. وكثير من الناس متحيّرون ، لا مذهب لهم أصلا. وقد رتب مثل هذه الأسئلة والايرادات أولئك المتحيّرون من طلبة العلم ، وأسندوها إلى السوفسطائية ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وطريق التعذيب لأخذ الاعتراف منهم ببعض القضايا الواجب قبولها ، حتى يتمكّنوا من إرشادهم والبحث معهم بناء على ما اعترفوا به. (١)

لا يقال : السوفسطائي المورد للشبهة هل يعترف بوجود نفسه ، وبصدور هذه الأسئلة عنه ، وتوجهها علينا أو لا؟ فإن لم يعترف بوجود نفسه فقد سقطت مكالمته ، وإن اعترف بطلت سفسطته.

لأنّا نقول : هذا الإشكال إنّما يتوجّه على العنادية الّذين يقولون : إنّا نجزم بنفي حقائق الأشياء. أمّا اللاأدرية فإنّهم يقولون : الكلام الذي ذكرته أنت لو خلا عن المعارض الذي أوردته أنا لكان يفيد الجزم ، ولكن لأجل تلك المعارضات زال الوثوق ، فلا جرم لا أقطع بشيء أصلا. وأمّا العنادية الذي يعاندون فيقولون : نحن نجزم بأنّه لا موجود أصلا.

وشبههم إنّما تنشأ من الإشكالات المتعارضة. ولنذكر أمثلة ثلاثة ليقاس عليها غيرها.

الأوّل : لو كان في الوجود موجود لكان ذلك الموجود ، إمّا مشاركا في الوجود لغيره أو لا ، والقسمان باطلان ، فالقول بالوجود باطل.

إنّما قلنا : إنّ القول بكون الوجود مشتركا باطل ، لأنّه إن كان السواد مثلا مشاركا للبياض في وجوده وهو مخالف له في سواديته وما به الاشتراك مغاير لما به

__________________

(١) نقد المحصل : ٤٦ ـ ٤٧.

١٥١

الامتياز ، فكونه سوادا مغاير لكونه موجودا ، لكن ذلك محال ؛ لأنّ وجود الشيء لو كان وصفا زائدا لكان إمّا معدوما فالشيء موجود بوجود معدوم ، أو موجودا فوجوده زائد ويتسلسل. ولأنّ اتصاف الشيء بالصفة الثبوتية مسبوق بثبوت الموصوف فلو كان الوجود صفة زائدة على الماهية كانت الماهية موجودة قبل كونها موجودة ، وهو محال.

وإنّما قلنا : إنّ القول بكون الوجود غير مشترك محال ، أمّا أوّلا : فلأنّه يلزم أن لا يكون المقابل للسلب واحدا فيبطل الحصر. وأمّا ثانيا : فلأنّ تعقل كون الشيء موجودا لا يختلف باختلاف اعتبار كونه سوادا أو جوهرا ، فلو لا أنّ هنا أمرا مشتركا بينها ، وإلّا لما كان كذلك.

الثاني : لو كان في الوجود موجود لكان ذلك الموجود ، إمّا واجبا أو ممكنا ، والقسمان باطلان لما يأتي من الإشكالات القادحة في الإمكان والوجوب.

الثالث : لو كان الجسم موجودا لكان انقسامه إمّا متناهيا وهو باطل لأدلّة نفاة الجزء ، أو لا ، وهو باطل لأدلّة مثبتيه.

فظهر أنّ مآخذ شبه هذه الفرقة القدح في الأصول بالإشكالات المتوجهة على كلّ واحد من الأقسام.

واللاأدريِة قد يتمسّكون بذلك ، في بيان أنّه لا وثوق بحكم العقل ، فإنّ مقدمات هذه الأقيسة كلّها جلية ، ولا يتأتى الطعن في شيء منها إلّا بالتعسف. ثمّ نعلم من ذلك أنّها ليست بأسرها حقّة. ومنكروا النظر قد يتمسكون بهذه الشبهات في أنّ النظر لا يفيد العلم.

وأمّا العندية ، وهم القائلون بأنّ حقائق الأشياء تابعة للاعتقادات ، لا أنّ الاعتقادات تابعة للحقائق ، فمن اعتقد في العالم أنّه قديم كان العالم قديما في حقّه وبالعكس. فاحتجوا بأنّ الصفراوي يجد السكر في فمه مرا فدلّ على أنّ الحقائق

١٥٢

تابعة للإدراكات.

والجواب : قد اختلف العلماء في أنّه هل يجوز المناظرة معهم؟ والمحقّقون اتّفقوا على أنّها غير جائزة ؛ لأنّ المعنى من المناظرة استفادة العلم بالمجهول بواسطة أمور معلومة ، ثمّ لا يجوز أن يتوقف حصول العلم بكلّ شيء على العلم بشيء آخر ، وإلّا لزم افتقار كلّ علم إلى علم آخر سابق عليه فيدور أو يتسلسل. والفطرة شاهدة بأنّ مناظرة الإنسان ونظره ليس كذلك. ولو سلم الدور والتسلسل ، لكن لا بدّ وأن تفرض هناك علوم غير متناهية يلزم البعض من البعض ، فلزوم الشيء عن ملزومه ليس بتوسط ثالث ، وإلّا لم يكن الملزوم ملزوما ، وإذا لم يكن لزوم كلّ واحد منها عن ملزومه بواسطة شيء آخر كان العلم بلزوم كلّ منها عن ملزومه غير موقوف على الدليل ، بل يكون حاصلا بالضرورة. فثبت أنّ المناظرة لا بدّ فيها من علوم ضرورية لا يتوقف حصولها على الاستدلال وإذا كان كذلك استحال إثباتها بالنظر والاستدلال ، فثبت أنّه لا يجوز المناظرة مع السوفسطائية.

نعم نعدّ عليهم أمورا لا بدّ من الاعتراف بثبوتها حتى يظهر كذبهم ، مثل أن يقال لهم : هل تميزون بين الدخول في النار وبين الدخول في الماء؟ وهل تميزون بين الضرب وعدمه؟ وهل يميزون بين مذهبهم وبين ما يناقضه؟ فإن قالوا : لا نميز ، فقد ظهر مكابرتهم وحينئذ لا يقابلون إلّا بالضرب والتعذيب ، وإن اعترفوا بطلت سفسطتهم والشبه التي ذكروها.

فالصحيح أنّها لا تستحق الجواب ؛ لأنّ الجواب عبارة عن بيان الخطأ الذي لأجله وقع الغلط في المطلوب ولمّا استحال وقوع الغلط في المطلوب ، لم تكن الشبهة مستحقة للجواب ، ومع ذلك فليتكلّم فيها.

وأمّا قوله كلّ واحدة من الفرق ادّعت الضرورة فيما كذبها فيه خصمها ،

١٥٣

وذلك يقدح في البديهيات.

قلنا : إنّما نعني بالبديهي ما يكون مجرّد تصوّر طرفيه كافيا في جزم الذهن بنسبة أحدهما إلى الآخر ، ومثل هذه القضايا لا يقع فيها الاختلاف. نعم الخلاف يقع لعدم تحصيل المفهوم من الطرفين.

قوله : النظريات لازمة للضروريات فيستدل لعدم النظرية على عدم الضرورية.

قلنا : لا نزاع في أنّ عدم حصول العلم النظري لعدم حصول شيء من الضرورية (١) المنتجة (٢) له ، ولكن لم قلتم : إنّ الضروري إذا أمكن عدم حصوله فانّه يصير نظريا ، فانّ العلم بنسبة أمر إلى أمر ـ إيجابا أو سلبا ـ مشروط بحضور حقيقة المنسوب والمنسوب إليه في الذهن لسبق التصور على التصديق ، لأنّه شرطه ، وحضور التصورات في الذهن غير واجب ، فقد يغفل الإنسان عن العلوم الضرورية كما يغفل عن النظرية ، إلّا أنّ الفرق أنّ مع تصوّر المفردات في الضروري يجب الجزم دون النظري ، فإنّ من تصور حقيقة الواحد والاثنين والنصف استحال منه أن لا يحكم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، ومن تصوّر الحادث والعالم لم يكفه في الجزم بكون العالم حادثا ، فقد اشترك الضروري والنظري في إمكان الذهول عنهما ، وافترقا في استلزام التصوّر للتصديق في الضروري وعدمه في مقابله. فإذن لا يلزم من الذهول عن الضروريات كونها نظرية ، ولا حاجتها إلى النظريات ؛ لأنّ المحتاج إلى النظر هو الذي لا يكون تصديقه لازما لتصوره.

فإن قيل : لمّا جوزتم الذهول عن العلوم الضرورية ، هل تجوّزون حصول اعتقادات مناقضة لها؟

__________________

(١) أي عدم حصول مباديه البديهية.

(٢) ق : «النتيجة».

١٥٤

قلنا : لا ؛ لأنّ المناقض لها مساو لها في الطرفين ، لكن حصولهما في الذهن علّة للتصديق ، وإذا استحال تخلف التصديق عن تصوّر الطرفين ، فامتناع حصول ما يناقضها أولى.

لا يقال : كما أنّ أصحاب الحقّ يجب انتهاء تحليل أدلّتهم إلى مقدمات علم صدقها ابتداء ، فكذا أصحاب الشبهات لا بدّ وأن ينتهي تحليل أدلّتهم إلى مقدمات أخطئوا فيها ابتداء لا بسبب خطأ سابق ، وإلّا دار أو تسلسل ، فذلك الخطأ المبتدأ لا بدّ وأن يقع في العلوم الضرورية ، إذ لو لم يقع فيها لاستحال وقوع الخطأ في النظريات لما ثبت أنّ النظريات لازمة للضروريات.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ خطأهم لا بدّ وأن يكون واقعا في القضايا الضرورية ، بل في النظرية التي اعتقدوا فيها اعتقادا خطأ ابتداء ، ثمّ ترتب على ذلك الخطأ سائر أنواع الخطأ.

قوله : التصورات إمّا أن تكفي في حصول هذه الضروريات أو لا.

قلنا : لا تكفي ، بل لا بدّ من استحضار تصوّر مفردات هذه القضايا الأوّلية ، ثمّ متى حصلت تلك التصورات وجب حصول التصديق. وتلك التصورات تستفاد من الحواس ، فلا ندعي أنّ حصول هذه القضايا إنّما يكون بواسطة استقراء تلك الأحكام في الجزئيات حتى يرد ما قلتم ، بل الحس يفيد حصول صور هذه الماهيات في الذهن ، فإذا حصلت ترتب عليها حصول ذلك التصديق.

قوله : لا اعتماد على المحسوسات فلا يعتمد على الأوّليات.

قلنا : نمنع أنّه لا اعتماد على المحسوسات. وزيد المشاهد (١) الآن يقطع بأنّه المشاهد بالأمس لا بالحس ؛ لأنّ المحسوس وجود هذا المشاهد ولا شكّ فيه ،

__________________

(١) ق : «الشاهد».

١٥٥

وأمّا انّه هو الّذي شوهد بالأمس فليس محسوسا ، بل معقولا. فالخطأ (١) فيه لا يكون خطأ في المحسوس. وهو بعينه جواب عن انقلاب الأواني والبحار ، فإنّ التجويز ليس تشكيكا في أمر محسوس ، بل في غيره ، فلا يكون طعنا في المحسوسات. وتجويز الخطأ في أحكام اليقظة لثبوته في أحكام النوم لا يشككنا في علمنا بوجود أنفسنا وأحوالها من الألم واللذة ، ولا فرق أقوى ممّا يجده الإنسان من نفسه.

وشبهة العنادية حاصلها القدح في الأصول بإبطال جميع أقسامها.

فالجواب عنها ببيان ضعف ما ذكروه في إبطال كلّ تلك الأقسام على ما سيأتي.

وشبهة العندية ساقطة ؛ لأنّ الذي يختلف باختلاف الأشخاص هو الأمور الإضافية.

وأمّا قدم الصانع وحدوث العالم فإنّها أمور حقيقية ، يستحيل أن تختلف باختلاف الأشخاص.

والصفراوي يجد السكر مرّا لأنّ في فمه مرارة الطعم فإذا خالطها السكر تغير طعمه بسبب ذلك.

__________________

(١) ق : «لأنّ الخطأ».

١٥٦

البحث الثالث

في بقايا أحكام العلم

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في أنّ العلم عرض

هذا الحكم كالضروري ؛ لأنّه على جميع تفاسيره موجود في شيء لا كجزء منه. ولا يصحّ قوامه دون ما هو فيه. ولا يعقل قيامه مجرّدا عن ذات تكون عالمة به. غير حالّ في شيء بحيث يكون جوهرا مجردا ، ولا جوهرا ماديا يقارن الأجسام ويلابسها.

أمّا عند القائلين بأنّه عدمي هو التجرد عن المادة (١) ، فظاهر أنّ الأمور العدمية لا تأصّل لها في الوجود فلا تتحقق معقولة فضلا عن التحقق خارج الذهن إلّا قائمة بغيرها.

وأمّا من يجعله إضافة (٢) فكذلك ؛ لأنّ الأمور الإضافية عدميّة عند جماعة ، وقائمة بغيرها قيام العرض بمحلّه عند أخرى ، بل العرضية فيها أتم حيث افتقرت

__________________

(١) انظر الإشكالات الواردة على القول بسلبية العلم وسائر الأقوال وتشييد الحقّ في حقيقة العلم في الأسفار ٣ : ٢٨٦ ـ ٢٨٨.

(٢) كما ذهب إليه الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٤٥٠. وله أقوال شتى في حقيقة العلم.

١٥٧

إلى أمرين.

وكذا من يجعله صفة حقيقية تلزمها الإضافة.

ومن يجعله صورة قائمة بالعاقل مساوية للمعقول فكذلك ، لكن في هذا شكّ عند القدماء (١) وهو أنّ العلم إذا كان صورة مطابقة للمعلوم مرتسمة في العالم فإذا كان المعلوم ذاتا قائمة بنفسها فالعلم به يكون مطابقا وداخلا في نوعه ، وإنّما يشاكل الشيء غيره في طبيعة نوعه لو كان مندرجا تحت جنسه ، فإذا كانت الصورة الخارجية جوهرا والصورة الذهنية مساوية لها ومندرجة تحت جنسها الذي هو الجوهر كانت جوهرا. فإذن الصورة العقلية جوهر ، ولا شيء من الجوهر بعرض ، فتلك الصورة ليست عرضا.

لكن (٢) هذا خطأ ، لأنّ جوهرية الجوهر قد عرفت أنّها ليست لأجل كون الشيء موجودا لا في موضوع ، وإلّا لكان الشكّ في وجوده شكا في جوهريته ، وهو محال ، بل الجوهرية إنّما كانت لأجل أنّها ماهية متى وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع ، ولا شكّ أنّ الصورة العقلية كذلك ، فإنّها ماهية إذا وجدت كانت لا في موضوع ، وكونها في الحال في موضوع لا ينافي كونها بحال إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع ، كما إذا قلنا : المغناطيس هو الذي يجذب الحديد عند قربه منه ، فهذا يصدق عليه وإن لم يكن جاذبا له في حال «عدمه وجذبه» (٣) له ، فكذا هنا.

بقي أنّ يقال : فتكون تلك الصورة حينئذ جوهرا وعرضا معا في الأعيان فيلتزم ذلك ، والمنكر أن يكون الشيء الواحد جوهرا وعرضا ، فأمّا أن يكون باعتبار

__________________

(١) انظر هذا الشكّ وما بعده في المباحث المشرقية ١ : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢) من هنا يبدأ الجواب عن ما قاله القدماء.

(٣) في المباحث : «عدم وجدانه».

١٥٨

وجوده الذهني عرضا وباعتبار ماهيته جوهرا فذلك ليس بمنكر.

بقي شك ، وهو أنّ تلك الصورة صورة موجودة في نفس جزئية فلها وجود في الأعيان، فإذن الشيء من حيث هو في الذهن له وجود في العين فهو عرض وجوهر باعتبار الوجود العيني.

فنقول : لا شكّ في أنّ تلك الماهية من حيث إنّها موجودة في نفس جزئية فهي من الموجودات العينيّة ، ولكنّا نعني بالوجود العيني أن تكون الماهية قائمة بذاتها بحيث تترتب عليها لوازمها فإنّ السواد إذا كان موجودا في الأعيان كان من شأنه قبض البصر ، والحرارة العينيّة من شأنها التسخين ، وإذا حصلت في النفس لم تترتب عليها هذه اللوازم ، فالأوّل هو المسمى بالوجود العيني والثاني هو المسمى بالوجود الذهني.

واعلم أنّ الحقّ عندنا في هذا الباب أنّ الصورة الذهنية إن قلنا إنّها حكاية ومثال للصورة الجوهرية ، لا على أنّها مساوية لها في الطبيعة والجوهرية ، وهذه الصورة العقلية يمتنع حصولها في الخارج ، فلا يصدق عليها الجوهرية ؛ لأنّ الجوهر هو الذي إذا وجد في الخارج ممّا يمكن وجوده فيه يكون غنيا عن الموضوع.

المسألة الثانية : في كيفية تعقل الشيء لذاته (١)

سألت شيخنا أفضل المحققين نصير الملة والحقّ والدّين ـ قدّس الله روحه ـ عن هذه المسألة فقلت : محققوا الحكماء جعلوا العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم ، ومحققوا المتكلمين جعلوه إضافة بين العالم والمعلوم ، أو صفة حقيقية تلزمها الإضافة ؛ وعلى جميع الأقوال يلزم أن لا يكون الشيء عالما بذاته لاستحالة حصول صورة للشيء مساوية لذاته في ذاته ؛ لامتناع اجتماع المثلين وتضاعف الصور إلى

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٢ : ٣٨٢ وما يليها.

١٥٩

ما لا يتناهى ، واستحالة إضافة الشيء الواحد إلى نفسه لتوقّف الإضافة على تعدّد ما يضاف إليه ، فإنّها لا تعقل إلّا بين شيئين.

فأجاب : بأنّ العلم إنّما يكون صورة لو غاير العالم المعلوم ، أمّا إذا اتحدا فلا ، بل يكفي في التعقّل حصول ذلك الشيء في نفسه من غير أن ينتزع العاقل من نفسه صورة أخرى لذاته في ذاته ، والمغايرة الذاتية ليست شرطا في تحقّق الإضافة ، بل يكفي فيها نوع ما من التغاير ، ولا شكّ في أنّ الذات المجرّدة عن اللواحق المادية والغواشي الغربية نسبتها تصلح العاقليّة والمعقوليّة معا. فأمكن أن يعقل كلّ مجرّد وتدخل ذاته في هذه الكلية المحصورة وأن يكون معقولا ؛ لأنّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا ، وما صحّ في هذا (١) فإنّ التعقل يجب ؛ لأنّا فرضنا الذات خالية عن الغواشي الغربية واللواحق المادية. وهذا الكلام على طوله لا يعجبني.

وقد أجاب بعضهم (٢) بأنّ العلم أمر إضافي إمّا حقيقيا أو مشهوريا ، والذات الواحدة إذا أخذت باعتبار حقيقتين (٣) أمكن عروض الإضافة لها كما تعرض للذاتي. ولا شكّ أنّ العالمية والمعلوميّة وصفان متغايران ، فالذات إذا أخذت موصوفة بأحدهما كانت مغايرة لها إذا أخذت بالثاني ، فإذا تغايرت الذات من حيث إنّها عالمة والذات من حيث إنّها معلومة أمكن تحقّق الإضافة بينهما ، فصحّ أن يعلم الشيء نفسه عند تباين هاتين الجهتين.

وهذا الكلام في غاية السقوط ؛ لأنّ الجهتين اللتين باعتبار هما يصحّ تعلّق (٤)

__________________

(١) أي في المجرّد. والعبارة كذا في المخطوطة. وهي إشارة إلى قاعدة معروفة في الحكمة : بانّ المجرّد كلّ ما يمكن له بالامكان العام فهو واجب له ، إذ لو كان للمجرّد حالة منتظرة يمكن حصولها فيه لاستلزم ذلك تحقّق الإمكان الاستعدادي فيه ولا استعداد إلّا في المادة.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٦٢.

(٣) في حاشية نسخة ج : «صفتين».

(٤) في حاشية نسخة ج : «تحقق».

١٦٠