نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

التي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع بالفعل أو سلبه عنه ، وهي أعمّ الفعليات.

٢ ـ فإن قيدت بالدوام الذاتي فهي الدائمة.

٣ ـ وإن قيد الدوام بالوصف العنواني فهي العرفية العامة إن أطلقت (١).

٤ ـ وإن قيدت بنفي الدوام الذاتي فهي العرفية الخاصة.

٥ ـ وإن لم تقيد بالدوام ، بل باللادوام فهي الوجودية اللادائمة.

٦ ـ وإن قيدت بنفي الضرورة الذاتية فهي الوجودية اللاضرورية.

٧ ـ وإن قيدت بالضرورة الذاتية وهي الحاكمة بوجوب ثبوت المحمول للموضوع أو بوجوب سلبه عنه ما دامت ذات الموضوع موجودة فهي الضرورية المطلقة.

٨ ـ وإن قيدت الضرورة بوصف الموضوع فهي المشروطة العامة ، إن اطلقت.

٩ ـ وإن قيدت بنفي الدوام فهي المشروطة الخاصة.

١٠ ـ وإن قيدت بوقت معيّن مع قيد اللادوام فهي الوقتية.

١١ ـ وإن يكن الوقت معينا فهي المنتشرة.

١٢ ـ وإن لم يحكم فيها بالثبوت الفعلي بل بالإمكان الذي هو رفع الضرورة عن الجانب المخالف للحكم فهي الممكنة العامة.

١٣ ـ وإن رفعت الضرورة عن الطرفين فهي الممكنة الخاصة.

والجهات يكاد لا تتناهى ، لكن المهم منها هذه الثلاث عشرة قضية ست منها بسائط ، وهي ما لم تقيد بنفي الدوام ولا بنفي الضرورة ، وسبع مركبات وهي

__________________

(١) أي لم تقيد باللادوام الذاتي.

٨١

المقيّدة بأحدهما. والممكنة العامة أعمّ الموجهات.

السابع : (١) التناقض اختلاف قضيتين إيجابا وسلبا بحيث يقتضي لذاته صدق إحداهما وكذب الأخرى ، ولا يتحقق إلّا بشروط ثمانية :

١ ـ وحدة الموضوع.

٢ ـ وحدة المحمول.

٣ ـ وحدة الإضافة.

٤ ـ وحدة القوّة أو الفعل.

٥ ـ وحدة الزمان.

٦ ـ وحدة المكان.

٧ ـ وحدة الشرط.

٨ ـ وحدة الكلّ أو الجزء.

وقيل (٢) : الأخيران راجعان إلى وحدة الموضوع ، والبواقي إلى وحدة المحمول. ويشترط في المحصورات تاسع هو الاختلاف فيه أي في الحصر. (٣)

وإذا عرفت هذا فنقول : إنّ شيئا من الموجهات المذكورة لا يناقضه شيء من جنسه ، فنقيض المطلقة العامة هي الدائمة ؛ لانقسام الشيء إلى دائم الإيجاب ودائم السلب ولا دوامهما ، فالمطلقة الإيجابية تشمل الأوّل والثالث وتخلى عن

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ١ : ١٧٧ وما يليها ؛ الجوهر النضيد : ٧٧ ـ ٨٠.

(٢) والقائل هو الرازي ، راجع المصدر نفسه : ١٨٠.

(٣) زاد المناطقة شرطا تاسعا في المحصورات وهو الاختلاف في الكم. قال الطوسي في شرحه على عبارة ابن سينا في القضايا المحصورة : «يريد أن يبيّن أنّ المحصورات المتقابلة مع اختلافها في الكيفية [الإيجاب والسلب] ومع حصول الشرائط الثمانية فيها لا تتناقض إلّا مع شرط آخر وهو الاختلاف في الكميّة ...» نفس المصدر : ١٨١.

٨٢

الثاني. والسلبية تشمل الثاني والثالث وتخلى عن الأوّل. فنقيض كلّ منهما ما يخلى عنه. ونقيض الوقتية العامة الحينية. ونقيض الضرورية الممكنة العامة المخالفة ؛ لأنّ الأشياء تنقسم إلى ضرورية الإيجاب وضرورية السلب ولا ضرورتهما. فالممكنة العامة الإيجابية تشمل الأوّل والثالث وتخلى عن الثاني ، والسلبية تشمل الثاني والثالث وتخلى عن الأوّل ، فنقيض كلّ منهما ما يخلى عنه. ونقيض المشروطة العامة الحينية الممكنة.

وأمّا نقائض المركبات فهو المفهوم (١) المتردد بين نقيضي جزئيها ، لتركبها منهما خاصة. وإن كانت جزئية وجب رجوع الترديد إلى كلّ واحد واحد من الأفراد ، أو يراد الترديد بين الجزئيتين الدائمتين. والأصل فيه أنّه يجوز أن يكون الاقتسام صادقا ، لكن كذبت الجزئية لكذب عود اللادوام إلى الجزء المخالف له.

الثامن (٢) : كلّ قضية ذات عكس تستلزم عكسها ، وهو جعل المحكوم عليه محكوما به ، والمحكوم به محكوما عليه ، مع الموافقة في الكيف والصدق (٣).

فالسوالب (٤) الجزئية لا تنعكس مطلقا إلّا الخاصتين العرفيتين ، لصدق سلب الأخص عن بعض الأعمّ مع كذب العكس.

وأمّا الكلية ، فإن كانت إحدى السبع ، وهي الوقتيتان والوجوديتان والممكنتان والمطلقة العامة ، لا تنعكس لعدم انعكاس الوقتية التي هي أخصها ،

__________________

(١) ق : «المفهوم» ساقطة.

(٢) راجع شرح الإشارات ١ : ١٩٦ وما يليها.

(٣) هذا رسم للعكس المستوي مطلقا ، الشامل للخاص بالحمليّات وغيره. وعرفه أبو البقاء بانّه تبديل طرفي القضية مع بقاء الصدق والكيف والكم. الكليات : ٤٦١. وقد يطلق العكس على عكس النقيض أيضا وهو تبديل كلّ واحد من طرفي القضيّة بنقيض الآخر مع الموافقة في الكيف والصدق. وعند الإطلاق يراد العكس المستوي ، لانسباقه وتبادره إلى الذهن.

(٤) العادة البدأة بعكوس السوالب ثمّ الموجبات.

٨٣

لصدق لا شيء من القمر بمنخسف بالضرورة وقت التربيع بين النيّرين لا دائما مع كذب بعض المنخسف ليس بقمر بالإمكان ، وإذا لم ينعكس الأخص لم ينعكس الأعمّ ؛ لأنّ لازم الأعمّ لازم الأخص.

وكلّ من الضرورية والدائمة والمشروطة والعرفية العامتين تنعكس كنفسها بالخلف. والخاصتان يلزمهما ما يلزم عامتهما ، لكنّ اللادوام عائد إلى بعض الأفراد ، لأنّه عكس كلية موجبة. وإذا كانتا جزئيتين انعكستا كنفسيهما ، لأنّا نفرض الموضوع شيئا معينا فيصدق عليه الوصفان وسلبهما ، ودوام سلب الموضوع ما دام وصف المحمول.

والموجبات الكلية لا تنعكس كلية لجواز كون المحمول أعمّ ، بل جزئية ، وكذا الجزئية. فالضرورية والدائمية ، والوصفيتان العامتان تنعكس حينية مطلقة ، لكذب نقيضهما ، وإلّا لانتظم مع الأصل ما ينتج المحال. والخاصتان كذلك مع قيد اللادوام ، وإلّا لا تعكس إلى ما يناقض الأصل.

وباقي الفعليات تنعكس مطلقة عامة ، وإلّا لانعكس نقيضها إلى ما ينافيها ، والممكنتان ممكنة عامة لذلك أيضا.

التاسع (١) : كلّ قضية تستلزم عكس نقيضها ، إن كان لها عكس نقيض ، وهو جعل نقيض المحكوم به محكوما عليه ، ونقيض المحكوم عليه محكوما به ، مع الموافقة في الكيف والصدق (٢) ، ويتناول أحكامه وأحكام العكس المستوي ، فالموجبات الجزئية لا تنعكس هنا ، عدا الخاصتين فتنعكسان كنفسهما ، لصدق

__________________

(١) راجع الجوهر النضيد : ٩٤ ـ ٩٧.

(٢) لعكس النقيض طريقتان : طريقة للقدماء وهي ما جاء بها المؤلف ، وهي تبديل نقيض الطرفين مع الموافقة في الصدق والكيف ، وطريقة للمتأخرين ، وهي جعل نقيض المحمول موضوعا وعين الموضوع محمولا مع الاختلاف في الكيف.

٨٤

بعض الحيوان غير إنسان ، وكذب عكسه. ويصدق بالضرورة الوقتية بعض القمر غير منخسف لا دائما ، ويكذب عكسه ، وهاتان أخصّ القضايا.

وإن كانت الكلية إحدى السبع ، وهي : الوقتيتان والوجوديتان والممكنتان والمطلقة العامة ، لا تنعكس لصدق مثال الوقتية كليا مع كذب عكسه.

وإن كانت إحدى الست انعكست كنفسها ، لكن قيد اللادوام راجع إلى البعض :

أمّا الأوّل ، فلأنّه لولاه لا ينعكس نقيضه إلى ما ينافي الأصل.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لو لم تصدق السالبة الجزئية المعدولة الطرفين لصدق نقيضها ، وانعكس عكس النقيض إلى ما ينافي قيد اللادوام في الأصل.

والسوالب وإن كانت كلية فإنّما تنعكس جزئية لصدق سلب إحدى النوعين عن الآخر كليا ، وكذب سلب نقيض أحدهما على نقيض الآخر كليا. فالوقتيتان والوجوديتان والمطلقة العامة تنعكس مطلقة عامة ، وإلّا لصدق نقيضها وانعكس إلى ما يضاد الأصل أو يناقضه.

وتنعكس الضرورية والدائمة والمشروطتان والعرفيتان والوقتيتان حينية مطلقة ، ومع قيد اللادوام في الخاصتين ، وإلّا لانعكست العرفية بعكس النقيض إلى ما يضاد الأصل أو يناقضه.

وتنعكس الممكنتان ممكنة عامة بالخلف.

العاشر (١) : قد يتركب كلّ من المتصلين والمنفصلين من حمليّتين أو متصلتين أو منفصلتين ، أو حملية ومتصلة ، أو حملية ومنفصلة ، أو متصلة

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ١ : ١٣٠ وما يليها ؛ الجوهر النضيد : ٤١ ـ ٤٣.

٨٥

ومنفصلة. ولمّا تميّز مقدم المتصلة (١) عن تاليها طبعا صارت أقسامها تسعة ، والمنفصلة ستة(٢). وتتركب اللزومية الموجبة الصادقة من صادقين وكاذبين ومقدم كاذب وتال صادق (٣) دون العكس. والاتّفاقية من صادقين خاصة.

والكاذبة اللزومية قد تتركب من الأربع ، والاتّفاقية من الثلاث ، وتصدق السالبة من كلّ منهما في مادة الموجبة الكاذبة ، وتصدق الحقيقية الموجبة عن صادق وكاذب لا غير ، ومانعة الجمع عن صادقين وصادق وكاذب ، ومانعة الخلو عنه وعن صادقين ، وتكون الثلاثة فيما عدا هذه ، وفيها مع عدم التعاند. والسالبة تصدق فيما كذبت فيه الموجبة ، وتكذب فيما صدقت فيه.

ويجري التناقض في الجميع على قياس الحمليات (٤) ، والعكس وعكس

__________________

(١) المقدّم في المتصلة هو الذي يقترن به حرف الشرط ، مثل : «إن كانت الشمس طالعة». والتالي هو الذي يقترن به حرف الجزاء ، مثل : «فالنهار موجود».

والمقدم في المنفصلة غير متميز عن التالي في الطبع ؛ لأنّ معاندة أحد الشيئين للآخر تستلزم معاندة الآخر له فأيّهما جعل المقدّم صحّ وكانت القضيّة واحدة ، بخلاف المتصلة التي في طبيعة أحد جزئيها أن يكون ملزوما والآخر لازما. راجع الجوهر النضيد : ٤١.

(٢) تتألف المتصلة من : ١ ـ الحمليتين ٢ ـ المتصلتين ٣ ـ المنفصلتين ٤ ـ الحملية والمتصلة ٥ ـ المتصلة والحملية ٦ ـ الحملية والمنفصلة ٧ ـ المنفصلة والحملية ٨ ـ المتصلة والمنفصلة ٩ ـ المنفصلة والمتصلة.

وتتألف المنفصلة من : ١ ـ الحمليتين ٢ ـ المتصلتين ٣ ـ المنفصلتين ٤ ـ الحملية والمتصلة ٥ ـ الحملية والمنفصلة ٦ ـ المتصلة والمنفصلة.

راجع شرح الإشارات ١ : ١٣٠. وذكر العلّامة لكلّ منها مثالا في الجوهر النضيد : ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) لأنّ الصدق في القضية المتصلة لا يشترط بصدق الطرفين ، بل الملاك صدق الملازمة بين الطرفين وإن كانا كاذبين واستثنى المؤلفة من مقدّم صادق وتال كاذب ؛ لأنّ صدق المقدّم يستلزم صدق التالي وكذب التالي مع صدق المقدّم يوجب كذب الشرطية لانتفاء الملازمة بين الطرفين.

(٤) راجع شرح الإشارات ١ : ١٣٧.

٨٦

النقيض في المتصلات (١).

وتتلازم المتصلتين إذا اتّفقتا في الكمّ والكيف من أحد الطرفين وتلازمتا متعاكسا في الآخر. والحقيقيتان إذا اتّفقتا في الكم والكيف وتناقضتا في الطرفين. ومانعتا الجمع والخلو إذا اتّفقتا كمّا وكيفا وتلازمتا في الطرفين تتعاكسا. والحقيقية مانعة الجمع إذا اتّفقتا كما وكيفا وأحد الطرفين ، واستلزم طرف مانعة الجمع طرف مانعة الخلو تستلزم الحقيقية مانعة الجمع.

ولو وافقت الحقيقة مانعة الخلو كما وكيفا وأحد الطرفين واستلزم طرف الحقيقية طرف مانعة الخلو استلزمت الحقيقية مانعة الخلو.

ولو وافقت مانعة الجمع مانعة الخلو في الكم والكيف وتناقضتا في الطرفين تلازمتا وتعاكستا. والمتصلة تستلزم مانعة الجمع من عين المقدم ونقيض التالي. ومانعة الخلو من نقيض المقدّم وعين التالي.

والحقيقية تستلزم (٢) أربع متصلات من عين أيّ طرف كان ونقيض الآخر ، ومن نقيض أيّ طرف كان وعين الآخر.

ومانعة الجمع تستلزم (٣) متصلة من عين أيّ طرف كان ونقيض الآخر.

ومانعة الخلو تستلزم متصلة من نقيض أيّ طرف كان وعين الآخر.

__________________

(١) أي ليسا في المنفصلات. وقال الطوسي : «فإنّ العكس لا يتعلّق به [المنفصلة] ، لعدم امتياز أجزائه بالطبع». نفس المصدر : ١٣٨. وقول العلّامة : «والحقيقيتان إذا ...» استدراك على عدم العكس في المنفصلات ويثبته فيها بما يذكر من الصور التالية.

(٢) و (٣) راجع شرح الإشارات ١ : ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٨٧

البحث الثاني

في إبطال كلمات السوفسطائية (١)

قد عرفت أنّ حكم الذهن بشيء على شيء ، إمّا أن يكون جازما أو لا ، فالجازم إمّا أن يكون مطابقا أو لا ، والمطابق إمّا أن يكون لموجب أو لا ، وإن كان لموجب فإمّا أن يكون حسيا أو عقليا أو مركبا منهما ، فإن كان حسيا فهي المحسوسات في الحواس الخمس ، وإن كان عقليا فإنّ الموجب تصور طرفي القضية لا غير وهي البديهيات ، أو لا بدّ من شيء آخر وهو النظريات. وإن كان الموجب مركبا من الحس والعقل ، فإن كان من السمع والعقل فهو العلم الحاصل

__________________

(١) السوفسطائية : طائفة من المعلّمين متفرقين في بلاد اليونان ـ اتّخذوا التدريس حرفة فكانوا يرحلون من بلد إلى بلد يلقون المحاضرات ، منهم «بروتاجوراس» كان يعلم قواعد النجاح في السياسة ، و «هدياس» وكان يعلم التاريخ والطبيعة والرياضة. والمقياس الذي قامت عليه فلسفتهم هو : الإنسان مقياس كلّ شيء. وتكاد تكون فلسفة «البرجماتزم» التي لا تريد أن تعترف بحقيقة في ذاتها قريبة الشبه جدّا بتعاليم السوفسطائيين ، ولسنا على خطأ إذا قلنا : إنّها سوفسطائية العصر الحديث ، ولا ريب انّ موضوع الخطأ عند «بروتاجوراس» قديما ، ومذهب «البرجماتزم» حديثا ، هو الاعتماد على الحواس وتجاهل العقل. راجع قصة الفلسفة اليونانية ، أحمد أمين وزكي نجيب : ١٠٨.

ونقل الطوسي عن أهل التحقيق : هذه لفظة من لغة اليونانيين ، فانّ «سوفا» بلغتهم اسم للعلم والحكمة و «اسطا» اسم للمغلطة ، فسوفسطا معناه علم الغلط ، كما كان «فيلا» اسم للمحبّ ، و «فيلسوف» معناه محبّ العلم ، ثمّ عرّب هذان اللفظان ، واشتقّ منهما السّفسطة والفلسفة. نقد المحصل : ٤٦.

وانظر البحث أيضا في نهاية العقول (المسألة الأولى من الأصل الثاني).

٨٨

بالتواتر. أو من البصر والعقل وهو المجربات والحدسيات ، وقد مضى بعض هذه وأقسام غير الجازم.

وإذا عرفت هذا فنقول : إنّ جماعة أنكروا الحسيات ، وآخرون أنكروا البديهيات ، وطائفة أخرى أنكروهما معا ، وهؤلاء هم السوفسطائية. وفرقهم ثلاثة :

أمثلهم طريقة اللاأدرية ، وهم الذي يقولون : إنّا لا نعرف ثبوت شيء ولا انتفاءه ، بل نحن متوقفون في كلّ الأقسام.

ومنهم فرقة تسمى العنادية ، وهم الذين يعاندون ويقولون : نحن نجزم بأنّه لا موجود أصلا.

ومنهم فرقة أخرى تسمى العندية ، (١) وهم الذين يقولون : إنّ حقائق الأشياء تابعة للاعتقادات لا أنّ الاعتقادات تابعة للحقائق ، فمن اعتقد في العالم أنّه قديم كان العالم قديما في حقّه ، ومن اعتقد أنّ العالم حادث كان حادثا في حقّه.

وأيضا من السوفسطائية من أنكر الحسيات ، واعترف بالبديهيات ، ومنهم من عكس ، ومنهم من أنكرهما معا (٢).

أمّا اللاأدريِة فقد احتجوا بوجوه :

الوجه الأوّل

قالوا : وجدنا أمورا يدّعي القائلون بها أنّها ضرورية ، وخصومهم يكذبونهم في تلك القضايا فضلا عن المساعدة على أنّ العلم بها ضروري ، وذلك يقتضي

__________________

(١) الكلمة مأخوذة من «عند» حيث إنّهم يقولون الحقائق حقّ عند من هي حقّ عنده وباطل عند من هي باطل عنده. وهم الذي يسمّون في العصور الأخيرة ب «النسبيين» (RELATIVISM) وهم يحاولون إثبات أنّه ليس للحقّ والباطل معيار خاص ، بل تتصف بها الأشياء باعتبار القائلين بها.

(٢) في هامش ج : «الظاهر أنّه مكرر».

٨٩

القدح في الضروريات.

بيان ذلك في أربع عشرة مسألة :

الأولى : المعتزلة ادعوا ضرورية العلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضارّ ، والظلم ، وإيلام البريء عن الجرم من غير عوض. مع أنّ الأشعرية والفلاسفة نازعوهما (١) في ذلك ، واتّفقا على أنّ مثل هذه القضايا ليست أوّلية ، بل مشهورة وصحيحة في بعض الصور دون بعض.

الثانية : ادعى جماعة من المعتزلة العلم الضروري بأنّ العبد موجد لأفعاله (٢) ومخير بين الفعل والترك. والأشاعرة منعوا ذلك وادعوا ضرورية ما يقابل هذه الضرورة ، وهي أنّ فاعلية العبد للحركة يمنة دون الحركة يسرة أمر جائز ، فلا بدّ من استنادها إلى أمر واجب وهو إرادة الله تعالى. وزعموا أنّ استناد الجائز إلى الواجب أمر ضروري ، ومتى ثبت استناد هذه الفاعلية إلى إرادة واجبة لم يبق التمكن والاختيار.

الثالثة : ادّعت المعتزلة والفلاسفة العلم الضروري باستحالة رؤية الأعمى في ظلمة الليل بقة في الأندلس وهو بالصين ، مع أنّ البصير لا يرى في ضياء النهار الجبال العظيمة الحاضرة عنده. وادعوا أيضا العلم الضروري باستحالة رؤية ما لا يكون مقابلا ، ولا في حكم المقابل. وأنّ الأشعرية جوزوا ذلك وكذبوهم في دعوى الضرورة فضلا عن أن يعلم ذلك الامتناع بالضرورة. (٣)

الرابعة : جمهور العوام يضطرون إلى العلم ببقاء الألوان وسائر الأعراض (٤)

__________________

(١) كذا. راجع القول ونزاعه من الرازي في نقد المحصل : ٣٤٠.

(٢) راجع القاضي عبد الجبار في ابتداء فصل خلق الأفعال : «الكلام في أنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنّهم المحدثون لها». شرح الأصول الخمسة : ٣٢٣.

(٣) راجع نقد المحصل : ٣٢٢.

(٤) هذا الرأي منسوب إلى أبي الحسين البصري كما في نقد المحصل : ١٨١.

٩٠

المستمرة الوجود على نهج واحد. مع أنّ الأشاعرة وطائفة من المعتزلة ذهبوا إلى امتناع بقائها.(١)

الخامسة : ادّعى الجمهور الضرورة في بقاء الأجسام ، وأنكر النظّام ذلك. (٢)

السادسة : ادّعت المجسّمة العلم الضروري بأنّ ما لا يختص بجهة ولا يكون ملاقيا (٣) للعالم ولا مباينا له ، فليس بموجود. وكلّ الموحدين كذبوا هذه القضية فضلا عن ادّعاء العلم الضروري بصحّتها.

السابعة : ادّعى مثبتوا الخلاء العلم الضروري بأنّ كلّ جسم ينتهي إمّا إلى ملاء أو إلى خلاء. ونفاة الخلاء يكذبون هذه القضية.

الثامنة : القائلون بقدم الزمان يدّعون العلم الضروري بأنّ كلّ حادث فلا بدّ وأن ينتهي وجوده في الوهم إلى وجود زمان سابق. والقائلون بالحدوث يكذبونهم في ذلك.

التاسعة : ادّعى جماعة من الفلاسفة العلم الضروري باستحالة حدوث شيء لا من شيء ، والمتكلّمون كذبوهم في ذلك.

العاشرة : ادّعت الفلاسفة العلم الضروري بأنّ الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجح ، والمسلمون كذبوهم في هذه القضية في حقّ القادر ، حيث جوّزوا للقادر أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح.

الحادية عشرة : اتّفق جمهور المتكلمين على أنّ أوّل العلوم الضرورية علم الإنسان بنفسه وألمه ولذته وجوعه وعطشه ، ثمّ اتّفقت الفلاسفة على أنّ المدرك

__________________

(١) قال الرازي : «اتّفقت الأشاعرة على امتناع بقاء العرض». نفس المصدر : ١٨٠.

(٢) قال الرازي : «الأجسام باقية ، خلافا للنظّام» وقال الطوسي في نقده : «هذا النقل من النظّام غير معتمد عليه». نفس المصدر : ٢١١.

(٣) في نهاية العقول : «مقابلا».

٩١

للألم واللذة والجوع والعطش ليس هو نفس الإنسان ، بل المدرك لها قوى جسمانية من توابع النفس الناطقة الإنسانية التي هي الإنسان بالحقيقة.

الثانية عشرة : اتّفق المتكلّمون على ادعاء العلم الضروري بأنّ الإنسان هو المبنى هذه البنية (١) المخصوصة ، والفلاسفة (٢) كذبوهم في هذه القضية ، وجعلوا حقيقة الإنسان شيئا غير متحيز ولا قائم به.

الثالثة عشرة : ادّعت الفلاسفة (٣) العلم الضروري باستحالة إعادة المعدوم ، وجمهور المتكلّمين جوزوا ذلك.

الرابعة عشرة : ادّعت الأشعرية العلم الضروري باستحالة كون الميّت ، بل المعدوم فاعلا. والمعتزلة جوزوا ذلك في المتولدات.

فثبت بهذه المسائل أنّ أرباب المذاهب يدّعون العلم الضروري بصحّة بعض القضايا ، مع أنّ خصومهم يكذبونهم فيها. وإنّما قلنا : إنّ ذلك يقدح في الضروريات والبديهيات ، لأنّ هذه القضايا التي ادّعي فيها أنّ صحّتها معلومة بالضرورة إمّا أن تكون في أنفسها ضرورية الصحّة أو لا. فإن كانت ضرورية فالمنكر لها منكر للضرورة مع أنّ ذلك المنكر يعتقد أنّه في ذلك الإنكار على الحقّ ، فقد اشتبه الضروري عليه بغيره ، وإن لم تكن ضرورية فالمعتقد لكونها ضرورية قد اشتبه عليه غير الضروري بالضروري ، وعلى كلا التقديرين الضروري مشتبه بغيره. وإذا كان كذلك لم يكن جزم الذهن مفيدا لكون المجزوم به ضروريا

__________________

(١) أي الأجزاء الأصلية من البدن التي لا يمكن أن تقوم الحياة بأقلّ منها ، لا الأجزاء التي تزيد وتنقص في الأحوال. نقد المحصل : ٣٧٩.

(٢) ومن المعتزلة معمّر ، ومنّا الإمام الغزالي. نفس المصدر.

(٣) والرازي ، حيث استحسن كلام ابن سينا وقال : «نعم ما قال الشيخ من أنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والعصبية شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع قطعا». المباحث المشرقية ١ : ١٣٨.

٩٢

وبالعكس. فإذن لا بدّ من التمييز فيها بين الحقّ والباطل بالدليل المركب من المقدمات الضرورية ، فيتوقف كلّ منهما على الآخر ويدور.

لا يقال : ليس الطريق إلى تمييز الضروريات من غيرها الاستدلال ، ولا مطلق جزم العقل بذلك ، بل بأن يفرض الإنسان نفسه خالية عن جميع الهيئات (١) النظرية والعلمية من العقائد والأديان ، والرقة والألفة والعادة ، فكل ما يجزم به العقل حينئذ يكون ضروريا لاستناده إلى فطرة العقل لا غير ، وما لا يجزم به يكون غير ضروري ، بل يكون مستندا إلى أحد هذه الأمور.

لأنّا نقول : هذا باطل من وجوه :

الأوّل : الهيئات المستندة إلى العادة تصير ملكات مستقرة في النفس ، وهي لا تزول عند ما نحاول زوالها ، وإذا تعذر زوالها وهي مانعة من الجزم بمقتضى العقل ، فإذن لا يصحّ الوثوق بشيء من أحكام العقل.

والحاصل أنّ فرض الخلو لا يوجب الخلو ، فيتعذر حينئذ الفرق بين ما يستند إلى الفطرة العقلية وما يستند إلى هذه الأمور.

الثاني : هب أنّ هذه الهيئات (٢) والملكات ممكنة الزوال بمحاولتنا إزالتها ، لكن من الجائز أن تبقى في النفس هيئة لا نشعر بها على التفصيل في تلك الحالة ، فحينئذ لا نشتغل بإزالتها وإن كنّا قد أزلنا سائر الهيئات ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الوثوق به.

الثالث : هب أنّا نقطع بزوال جميع الهيئات ، ولكن في هذه الحالة قد نجد العقل جازما بأمور مختلفة الصحّة ، فإنّه لا يمكننا أن نتصور الأجسام وانتهاءها لا إلى خلاء ولا إلى ملاء ، ولا أيضا نتصور انتهاء الزمان وجملة الحوادث إلى ما لا

__________________

(١) و (٢) ق : «الماهيات» ، وهو خطأ.

٩٣

تفرض فيه قبلية وبعدية زمانية ، ولا أيضا وجود شيء غير مختص بالجهة ولا مختص (١) بما يختص بالجهة.

لا يقال : الحاكم بهذه القضايا بديهة الوهم لا بديهة العقل وبديهة الوهم كاذبة بدليل تصديقها لما يلزم منها بالضرورة نقائض هذه القضايا ، ولو كانت صادقة لما صدّقت بما ينتج نقائض ما حكمت بصحّتها.

لأنّا نقول : هذا يقتضي توقّف معرفة صحّة البديهيات على هذا الدليل الذي ذكرتموه ، وحينئذ يعود الدور. وأيضا إذا توقف الوثوق بجزم البديهة على أن لا تكون البديهة جازمة بما تنتج نقائضها ، وجب علينا في كلّ قضية بديهية أن نبحث ونجتهد هل في مجزومات البديهة ما ينتج نقائضها؟ وذلك ممّا لا سبيل إلى علمه ، لأنّ غاية ما يفيدنا البحث والاجتهاد والتفحص التام أنّا لا نجد شيئا يناقض حكم البديهة ، لكن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

ثمّ لو فرضنا عدم الوجود ، لكن لا يلزم العدم ، فإنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.

ثمّ لو سلّمنا اللزوم ، لكن جاز أن تختلف الأشخاص في هذا ، فلا يلزم من عدم الدليل عند شخص عدمه عند كلّ شخص ، وإذا جوز العقل ثبوت معارض في نفس الأمر أو عند آخر امتنع منه الجزم بالبديهيات ، وهو المطلوب.

والجواب : لا يلزم من ادّعاء قوم الضرورة في شيء وإنكار آخرين الطعن في الضروريات ؛ لجواز الاشتباه على إحدى الطائفتين أو غيرهما بين أحكام العقل وأحكام الوهم. أمّا العلم بالحسن والقبح فسيأتي بيان كونهما ضروري إن شاء الله تعالى. وكذا العلم بإيجاد العبد لفعله واستناده إليه. وكذا الرؤية وبقاء اللون

__________________

(١) ق : «مختصا».

٩٤

والجسم. وبطلان كونه تعالى جسما مستند إلى صريح العقل الدال بواسطة المقدمات البديهية على صحته ، إلى غير ذلك من القضايا التي عارض الوهم فيها العقل. وقصور فهم بعض الناس عن التمييز بين الحقّ والباطل. واعتمادهم على ما يتقلدونه وتعارض دليلين لا يوجب القدح في الضروريات.

الوجه الثاني (١)

لزوم النتائج النظرية عن المقدمات الضرورية ، إمّا أن يكون ضروريا أو لا ، والقسمان باطلان ، فاللزوم باطل.

أمّا الأوّل ، فلأنّه لو كان حصول النتائج واجبا ضروريا لزم حصوله لكلّ العقلاء ؛ لأنّهم بأسرهم مشتركون في العلوم الضرورية ، فيجب اشتراكهم في اللازم عنها ، وهو جميع العلوم النظرية ، لكن التالي باطل ، لوقوع الاختلاف بين العالم (٢) في أكثر النظريات.

وأمّا الثاني ، فلأنّ لزوم اللازم عن المقدمات الضرورية لو كان نظريا لا فتقر إثبات ذلك اللزوم إلى نظر آخر وتسلسل ، وهو محال.

وبتقدير تسليمه فالمطلوب حاصل ؛ لأنّ تلك الوسائط المسلسلة إمّا أن يكون بين اثنين منها تلازم واتصال بحيث لا يفتقر إلى وسط ، أو لا يكون. فإن كان هناك اثنان لا وسط بينهما ، فلا بدّ وأن يكون لزومه عن ملاصقة ضرورية ، وإلّا افتقر اللزوم إلى متوسط بينهما فلا يكون الملاصق في اللزوم ملاصقا ، هذا خلف. وإن لم يكن هناك اثنان بينهما اتصال والتصاق في التلازم ، بل كلّ اثنين فرضا متلازمين فإنّ بينهما وسط ، ولم يكن شيء من العلوم مفيدا لشيء من العلوم ، أو لزم من ذلك العلم بما لا يتناهى لا مرّة واحدة ، بل مرارا غير متناهية.

__________________

(١) ممّا احتج به اللاأدريِة على مدّعاهم.

(٢) كذا في المخطوطة.

٩٥

وهذا المحال إنّما لزم على تقدير اشتراك العقلاء بأسرهم في الضروريات فيكون منتفيا ، فلا تكون الضروريات بأسرها حاصلة للكل. فإذا كانت العلوم التي يدعون كونها ضرورية ، قد تكون حاصلة وقد لا تكون ، ومتى لم تكن حاصلة فإنّها لا تحصل إلّا بالكسب والطلب ، ولا معنى للعلم النظري إلّا ذلك ، فحينئذ تصير العلوم الضرورية نظرية ، فيلزم افتقارها إلى علوم أخر سابقة عليها لا إلى نهاية ، وذلك محال.

والجواب : أنّ حصول النتائج من الضروريات واجب لا ضروري ، بل نظري ، ولا يجب الاشتراك لتعلقه بالترتيب الذي لا يجب دوام صحّته ، ولعدم الغفلة فإنّ مع حصولها قد يثبت النظر فلا يجب الإنتاج ، وإذا كانت العلوم ضرورية ، لم يجب اشتراكها بين كلّ العقلاء؛ لأنّها قد تستند إلى الإحساس الظاهر أو الباطن ، والإحساس غير مشترك بين الناس.

وبالجملة الطعن في النظريات لا يستلزم الطعن في الضروريات.

الوجه الثالث

قالوا : العلوم الضرورية إمّا أن يكفي في حصولها مجرّد الفطرة الإنسانية أو لا ، فإن كفت لزم حصول هذه العلوم للإنسان من ابتداء وجوده ، فيلزم أن يكون الجنين عالما بالضروريات كلّها ، وهو باطل بالضرورة. وإن لم يكف فلا بدّ من طريق آخر يكون كاسبا لهذه العلوم ، فلا تكون هذه العلوم بديهية ، بل كسبية.

لا يقال : إنّما يلزم أن تكون هذه العلوم كسبية لو استفيدت من الدليل أمّا إذا لم تستفد من الدليل فلا.

ولا يلزم من انتفاء هذه العلوم عن الأطفال كونها غير بديهية ، فإنّ العلوم البديهية تتوقف على شروط واستعدادات للنفس كاستقراء المحسوسات ، فإنّ الإنسان إذا أحسّ بأُمور جزئية تنبّه حينئذ لمشاركات بينها وبين غيرها ، فإنّ الطفل

٩٦

أوّل ما يدرك صورة جزئية ثمّ يترعرع قليلا ، فيدرك صورة يحكم بأنّها أمه ويميز بينها وبين غيرها ، ثمّ يأخذ في زيادة الترعرع فيدرك صورة يحكم عليها بأنّها أبوه ويميز بينه وبين غيره ، وهكذا يزداد كمالا على التدريج بواسطة زيادة إحساسه للأُمور الجزئية حتى يفرق بين الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ، ويدرك المشاركات بين الأُمور المتشابهة ، والمباينات بين المختلفات ، وينتزع العلوم البديهية كلّها بواسطة كماله في الإحساس.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ الإحساس يفيد النفي على ما يأتي.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ الإحساس يمكن أن يكون مبدأً لهذه العلوم البديهية.

بيانه : أنّا نفرض الكلام في قولنا : الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ، فإنّ هذه من أجلى البديهيات عندهم ، ولا يمكن استفادتها من الحس لوجوه :

أ : أنّه ليس شيء من الجزئيات المحسوسة يعلم أنّها مساوية على التحقيق لشيء واحد ، فإنّ الحس لا يضبط ذلك. ولأنّ الحس لا يمكنه الحكم بشيء على شيء البتة ؛ لأنّه مودّ وآلة في التأدية إلى النفس والحاكم هو النفس لا غير.

ب : لو أفاد الاستقراء هذا العلم لكان ذلك من حيث إنّا لمّا أحسسنا ثبوت وصف المساواة في الخشب مثلا بعضه لبعض ، وفي الحجر والحديد ، علمنا أنّ هذا الوصف لم يثبت للخشب لخصوصية الخشبية ، وإلّا لم يثبت لغيره من الحديد وشبهه ولا بالعكس ، فحينئذ نعلم أنّها إنّما كانت كذلك لأنّها مساوية لشيء واحد ، ولكن هذه الطريقة لا تتم إلّا بعد مقدمات كلية.

منها : أنّ كلّ صفة انتفت مع وجود الحكم فليست علّة له ، ولكن هذه المقدمة كاذبة ؛ لجواز حصول الحكم الواحد بعلل مختلفة ، فإنّه لا يجب من تساوي المعلولات تساوي العلل. واستناد عدم المعلول إلى عدم العلة لا غير ينافي إسناد

٩٧

المعلومات المتساوية إلى العلل المختلفة ؛ لأنّ المعلول هناك يعدم ويوجد مثله مع الأُخرى.

ومنها : أنّه لا بدّ من حصر العلل وبيان انتفائها حتى يقتضي انتفاء المعلول.

ومنها : أنّ العلة إذا حصلت حصل معها معلولها حتى يعلم أنّه يلزم من كون تلك الأُمور مساوية للشيء الواحد حصول المعلول ، وهو مساواتها.

ومنها : أنّ القدر المشترك بين هذه الصور ليس إلّا كونها مشاركة لشيء واحد ، وظاهر أنّ العلم بأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ، أظهر من كلّ واحد من هذه المقدّمات.

ج : هذا العلم لو استفيد من الإحساس فإمّا أن يستفاد من الإحساس بكلّ الجزئيات أو ببعضها ، والأوّل باطل لتعذره ، ولأجل ما يعلم أنّ العلم بأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية قد يحصل دون استقراء كلّ الجزئيات ، ولأجل أنّ الإحساس إنّما يفيد الحكم في الجزئيات المحسوسة ، لا في الجزئيات المتوهمة التي لا نهاية لها التي يتوقف صدق الموجبة الكلية على ثبوت الحكم فيها بأسرها. وبهذا بطل أن يكون المفيد هو استقراء بعض الجزئيات.

فثبت بما ذكرناه أنّه لا يمكن استفادة هذه العلوم البديهية من استقراء المحسوسات ، وهي أيضا ما كانت حاصلة في ابتداء الخلقة ، فلم يبق إلّا أن يكون طريق تحصيلها الكسب ، وذلك يوجب إمّا التسلسل أو الدور ، وهما محالان ، وذلك يقدح في حصول العلم.

والجواب : قد بيّنا أنّ الفطرة بمجرّدها لا تكفي في تحصيل العلوم الضرورية ،

٩٨

لنقصانها وعدم استكمالها ، وأنّها بواسطة الإحساس تستكمل على التدريج لتحصل لها العلوم البديهية.

والحكم بالمساواة لا يستند إلى الحس ولا بغيرها ؛ لأنّ الحاكم بين الطرفين إنّما هو النفس ، لكن قد يكون مبدأ هذا الحكم الإحساس بالطرفين أو أحدهما.

والقضايا الضرورية المستندة إلى الحس أو التجربة لا يؤثر فيها التجويز العقلي المجرّد عن التجربة ، فإنّا نجزم بالضرورة أنّ كلّ نار حارة لانعقاد التجربة فيها وإن كان يجوز عقلا وجود نار لا تلزمه الحرارة ، ولا نفتقر في هذا الحكم إلى حصر العلة ، ولا إلى تعميم الإحساس بالكل.

الوجه الرابع (١)

قالوا : الجزم بالبديهيات ليس أقوى من الجزم بالمحسوسات ؛ لأنّ البديهيات فرع المحسوسات والفرع لا يكون أقوى من الأصل ، ثمّ إنّه لا يمكن الجزم بالمحسوسات ؛ لأنّ الحس إمّا أن يعتبر في الجزئيات أو في الكليات.

والثاني باطل ، فإنّ الحس لا يعطيها البتّة ، فإنّ الحس لا يشاهد إلّا هذا الكل وهذا الجزء. فأمّا وصف الأعظمية وهو أنّ الكلّ أعظم من الجزء فهو غير مدرك بالحس ، وبتقدير كون وصف الأعظمية مدركا بالحس ، لكن المدرك هو أنّ هذا الكل أعظم من هذا الجزء ، فأمّا أنّ كلّ كلّ أعظم من جزئه فغير مدرك بالحس ؛ لأنّ الحس إنّما يدرك بمشاركة الوضع ، والأمور الكلية مجرّدة عن الأوضاع.

ولو فرضنا أنّه أدرك كلّ ما في الوجود من الكلّات والأجزاء ، إلّا أنّ قولنا كلّ كذا كذا ، لا نريد منه أنّ كلّ ما دخل في الوجود الخارجي من أفراد الموضوع

__________________

(١) راجع نقد المحصل : ١٤ و ٢٦.

٩٩

فهو كذا ، بل ولا ما وجد أو سيوجد ، بل كل ما لو وجد وفرضه العقل من جملة أفراد ماهية الموضوع ، فإنّ المحمول صادق عليه سواء وجد في الماضي ، أو يوجد في المستقبل ، أو لا يتحقق له وجود البتة. ومعلوم قطعا أنّ هذا ممّا لا يناله الحس البتة ، ولا يمكن وقوع الإحساس به. فإذن الحس لا معونة له على إعطاء الكليات أصلا. ولأنّ الحس في معرض الغلط على ما يأتي ، فلا يبقى لنا وثوق بما يعطيه من الكليات.

والأوّل باطل ، وهو أنّ الحس معتبر في الجزئيات ؛ لأنّه في معرض الغلط ، وإذا كان في معرض الغلط لم يكن مجرّد حكمه مقبولا.

بيان الأوّل من وجوه : (١)

أ : أنّ البصر قد يدرك الصغير كبيرا ، كما يرى النار البعيدة في الظلمة عظيمة ، وكما يرى العنبة في الماء كالاجاصة ، وكما إذا قرّبنا حلقة الخاتم إلى العين فإنّا نراها كالسّوار. وقد يدرك الكبير صغيرا كالأشياء البعيدة غير النار ، كالكواكب ، فإنّ قدر الشمس أضعاف قدر الأرض.

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ الحس إدراك بآلة فقط ، والحكم تأليف بين مدركات الحس أو بغير الحس ، على وجه يعرض للمؤلّف لذاته إمّا الصدق أو الكذب ، واليقين حكم (٢) على الحكم الأوّل بالصدق على وجه لا يمكن أن يزول. وليس من شأن الحس التأليف الحكمي ؛ لأنّه إدراك (٣) فقط ، فلا شيء من الأحكام بمحسوسة أصلا ، فإذن كلّ ما هو محسوس لا يمكن أن يوصف من حيث كونه محسوسا بكونه يقينيا أو غير يقيني ، أو حقا أو باطلا ، أو صوابا أو

__________________

(١) انظر الوجوه في كلمات الرازي في نقد المحصل : ١٤ وما يليها.

(٢) في المصدر : «حكم ثان».

(٣) في المصدر : «ادراك بآلة».

١٠٠