نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

العقل المستفاد ؛ فإنّ كلّ ما يخرج من قوّة إلى فعل فإنّما يخرجه غيره ، وقياس عقول الناس في استفادة المعقولات إلى العقل الفعال قياس أبصار الحيوانات في مشاهدة الألوان إلى الشمس.

واعلم أنّ هذه المراتب النفسانية (١) وردت في القرآن العزيز في التمثيل المورد لنور الله تعالى وهو قوله عزوجل : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (٢). ولهذا قيل في الخبر : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه». (٣)

فالمشكاة شبيهة بالعقل الهيولاني لكونها مظلمة في ذاتها قابلة للنور لا على التساوي لاختلاف السطوح والثقب فيها.

والزجاجة بالعقل بالملكة ؛ لأنها شفافة في نفسها قابلة للنور أتمّ قبول.

والشجرة الزيتونة بالفكرة ؛ لكونها مستعدّة لأن تصير قابلة للنور بذاتها لكن بعد حركة كثيرة وتعب.

والزيت بالحدس ؛ لكونه أقرب إلى ذلك من الزيتونة.

والذي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار بالقوّة القدسية ، لأنّها تكاد تعقل

__________________

(١) أي مراتب العقل النظري.

(٢) سورة النور ، آية ٣٥.

(٣) روي عن علي عليه‌السلام كما في الدرر والغرر للآمدي : ٢٣٢ ، رقم الحديث ٤٦٣٧. ورواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، وهو حديث مشهور.

وقد ذكر في تفسير الآية وجوه أنهاها بعضهم إلى اثني عشر وجها ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع : مصابيح الأنوار للعلّامة شبّر ١ : ٢٠٤ و ٢٠٥ ؛ التوحيد للصدوق : ٤٩ ـ ٥٠ ؛ الأسفار لصدر المتألهين ٦ : ٣٧٧ ؛ الميزان في تفسير القرآن للعلّامة الطباطبائي ٦ : ١٧٠.

٦١

بالفعل ولو لم يكن شيء يخرجها من القوّة إلى الفعل.

ونور على نور بالعقل المستفاد ؛ فإنّ الصورة المعقولة نور والنفس القابلة لها نور آخر.

والمصباح بالعقل بالفعل ؛ لأنّه نيّر بذاته من غير احتياج إلى نور يكتسبه.

والنار بالعقل الفعال ؛ لأنّ المصابيح تشتعل منها.

المسألة العاشرة : في تقسيم العلم (١)

العلم إمّا تصوّر ويسميه بعضهم معرفة ، وهو حصول صورة الشيء في العقل مطلقا فيرادف العلم عندهم ، أو مقيدا بعدم الحكم.

وإمّا تصديق ويسميه قوم علما ، وهو الحكم بأحد المتصورين على الآخر بالإيجاب أو السلب على رأي الحكماء القدماء ، أو مجموع تصوّر المحكوم عليه والمحكوم به والحكم وإيقاع النسبة. وليست العلوم كلّها بديهية بالبديهة ، ولا كسبية ، وإلّا دار أو تسلسل ، بل كلّ منهما إمّا ضروري أو مكتسب. فالتصوّر الضروري ما لا يتوقف على طلب وكسب ، والكسبي بخلافه. والتصديق الضروري ما يكفي تصوّر طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجابا أو سلبا ، والكسبي ما يقابله. وهل يجب في كلّ ما لا يكون مكتسبا أن يكون كاسبا ، أو يجوز وجود معارف وعلوم لا يكون كاسبة ولا مكتسبة؟ الأظهر جوازه.

والتصور إمّا تام وهو إدراك الماهية بجميع أجزائها ولوازمها وعوارضها ومعروضاتها ، وإمّا ناقص وهو ما يقابله. والتصديق هو مطلق الحكم الشامل

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ١ : ١٢ وما يليها. ومن أراد التوسع في هذا البحث فليراجع كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر ١ : ١٥ وما يليها.

٦٢

للقطعي وغيره ، إمّا أن يكون جازما أو لا. والجازم إمّا أن يكون مطابقا أو لا. والمطابق إمّا أن يكون ثابتا أو لا. فالجازم المطابق الثابت هو العلم. والمطابق غير الثابت هو اعتقاد المقلّد للحقّ. والجازم غير المطابق هو الجهل المركّب. (١) وغير الجازم هو الراجع الذي يجوز معه النقيض وهو الظن. ومقابله الوهم وهو مرجوح الظن. وما يتساوى الطرفان فيه هو الشك. هذا إذا اعتبر في الجازم المطابقة في الخارج وإن لم يعتبر ، وإن كان لا يخلو (٢) عن المطابقة وعدمها لكنّها لم يعتبر. فإمّا أن يقارن تسليما أو إنكارا ، والأوّل ينقسم إلى مسلّم عام إمّا مطلق يسلّمه الجمهور أو محدود يسلّمه طائفة ، وإلى خاص يسلّمه شخص إمّا معلّم أو متعلّم أو منازع ؛ والثاني يسمى وضعا : فمنه ما يصادر به العلوم وتبنى عليه المسائل. ومنه ما يضعه القائس الخلفي وإن كان مناقضا لما يعتقده ، ليثبت به مطلوبه. ومنه ما يلتزمه المجيب الجدليّ ويذبّ عنه. ومنه ما يقول به القائل باللّسان دون أن يعتقده ، كقول القائل لا وجود للحركة ـ مثلا ـ. فإنّ جميع هذه تسمى أوضاعا وإن اختلفت الاعتبارات.

وقد يكون حكم واحد تسليميّا باعتبار ووضعيا باعتبار آخر ، مثل ما يلتزمه المجيب بالقياس إلى السائل وإليه. وقد يفترقان ، فيوجد التسليم بدون الوضع ، مثل ما لا ينازع فيه من المسلّمات ، أو الوضع عن التسليم في مثل ما يوضع في بعض الأقيسة الخلفية.

وقد يطلق الوضع على كلّ رأي يقول به قائل أو يفرضه فارض ، فيكون أعمّ من التسليم وغيره.

__________________

(١) إنّما سمّي مركبا ؛ لأنّه يعتقد بشيء على خلاف ما هو عليه فهذا جهل بذلك الشيء ، ويعتقد بأنّه يعتقده على ما هو عليه فهذا جهل آخر قد تركبا معا. راجع شرح المواقف ٦ : ٢٤.

(٢) في الواقع.

٦٣

ومشايخ المعتزلة قسّموا العلم إلى ما يكون من فعلنا وهو الكسبي ، وحقيقته ما يمكن العالم به نفيه عن نفسه لشبهة إذا انفرد.

واحترزوا بالانفراد عن العلم الكسبي بشيء ثمّ يشاهد ، فإنّ النفي هنا محال حيث لم ينفرد ، بل انضم إليه المشاهدة.

وإلى ما يكون من فعله تعالى فينا وهو الضروري ، وهو ما لا يمكن العالم به نفيه عن نفسه لشبهة وإن انفرد. (١)

قالوا : وقد يصحّ العلم بالذات بصفتها ضرورة وكسبا ، وأن تعرف الذات بالضرورة ، والصفة بالكسب. واختلفوا في العكس فمنعه الجمهور منهم خلافا لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد ، فإنّه جوز في شرح الجامع الصغير (٢) أن يكون العلم بالذات مكتسبا وبالحال ضرورة. والجمهور بنوا ذلك على قضيتين ، إحداهما : أنّه لا يجوز حصول العلم بالصفة مع الجهل بالذات. والثانية : أنّه لا يجوز ارتفاع العلم الضروري ، ويجوز رفع الكسبي.

وإذا تقررت المقدمتان فنقول : لو كان العلم بالذات مكتسبا والعلم بالحال ضروريا لصحّ نفي الكسبي بأن تدخل على أنفسنا شبهة فيزول عندها العلم بالذات ، فإن بقي العلم بالصفة مع الجهل بالذات ، فهو محال. وإن زال العلم بالحال وهو ضروري فقد زال الضروري، وهو محال.

واعترضوا أنفسهم بأنّهم منعوا من نفي الكسبي إذا لم ينفرد ، وجوزوه مع الانفراد فنقول: لم لا يجوز أن يكون العلم بالضروري بالصفة قائم مقام اقتران المشاهدة في النظري ، فمنع من زوال الكسبي كما منعت المشاهدة هناك؟

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) لم نعثر على هذا الكتاب ولكن ذكره ابن المرتضى في طبقات المعتزلة ، الطبقة الحادية عشرة ، ص ١١٣.

٦٤

وأجابوا : بأنّ العلم بالصفة يحتاج إلى العلم بالذات حتّى لا يمكن ثبوته مع زواله وما يحتاج إلى غيره لا يكون مانعا من انتفائه ، فإنّ الإرادة لمّا احتاجت إلى بنية القلب لم يصحّ كونها مانعة من زوال البنية بالتفريق. والوجه في التقرير : أنّ المحتاج معلول فعدمه مستند إلى عدم علته ، ويمكن أن يقال : لا يجب أن تكون العلة هنا تامة فجاز أن يستند عدمه إلى عدم غيره.

قالت المعتزلة (١) : من العلم ما هو واجب كالعلم بالله تعالى وصفاته ، وصدق رسوله ، وشرائعه. ومنه ما هو حسن لا كحسن المناجاة ، بل يختص بوجه زائد على حسنه فيكون مندوبا.

أمّا الواجب فوجه وجوبه كونه لطفا.

واختلف الشيخان (٢) في أنّه هل يقع في العلم ما هو قبيح أم لا؟ فمنع أبو هاشم منه وقال : إنّه كلّه حسن ، وكذا النظر ، وإنّما يعرض لهما القبح لا لنفسهما بل باعتبار القصد ، ولا يؤثر في حسنهما ، فإذا قصد بهما الشخص وجه قبح كان القبيح هو القصد لا العلم ولا النظر. وتبعه أبو الهذيل العلاف.

وقال أبو علي : إنّ العلم والنظر قبيحان إذا قصد بهما وجه قبح.

وأبو علي بنى ذلك على قوله : في أنّ قبح المسبب وحسنه تابعان للسبب ومعتبران به ، فلما قال بقبح هذا النظر حكم بقبح العلم المتولد عنه. وجوز أيضا أن يقع في العلوم ما يقبح لكونه مفسدة. فكأنّه قد رأى قبح العلم لهذين الوجهين. هذا مذهبه أخيرا ، وقد كان قديما ذكر في مقدمة التعديل والتجويز : أنّ العلم يحسن بعينه ، كما أنّ الجهل يقبح بعينه.

__________________

(١) وقد خصص القاضي عبد الجبار بابا في ما يجب أن يعلم ، عنوانه : باب في ذكر أقسام ما كلفنا من العلوم. راجع المحيط بالتكليف : ١٩.

(٢) هما محمد بن عبد الوهاب أبو علي الجبائي وابنه عبد السلام بن محمّد أبو هاشم الجبائي.

٦٥

وقال بعضهم : لا يصحّ أن يحكم بقبح شيء علما كان أو غيره لأمر يرجع إلى القصد ، لما يأتي في الإرادة : أنّها لا تأثير لها في القبح.

فبطل إسناد قبح العلم إلى هذا الوجه. ولا يمكن أن يدعى إسناده إلى الغيب فيقال : إنّ أحدنا لو شرع في عدّ الحصى حتّى عرف مقداره كان هذا العلم عبثا ؛ لأنّ هذا العلم ضروري ، وقد بيّنا أنّ الضروريات مستندة إلى الله تعالى ، وما يفعله الله تعالى لا يكون قبيحا. ولا يمكن أن يقال : إنّ فيما تعذر عليه من العلوم والحال هذه ما يقبح للمفسدة ؛ لأنّه لو كان كذلك لوجب أن نعرف حاله لنتجنبه. فليس في قبح العلوم إلّا وجه واحد ، وهو إذا كان من مقدور الله تعالى ويحصل فيه ضرب من المفسدة ؛ لأنّه لو خلق فينا العلم الذي نتمكن معه من الإتيان بمثل القرآن أو بخبر عن الغيب لصار ذلك مفسدا لعلم النبوة ، لجواز أن يدعونا الداعي إليه فنفعله ، فصار كما نقوله في قدرتنا على حمل الجبال وطفر البحار : إنّها لو ثبتت لكانت مفسدة.

ولأبي هاشم أن يجيب عن ذلك ، بأنّ ذلك العلم غير قبيح ، بل القبيح تمكين الله تعالى من إيراد الكلام الذي يبلغ في الفصاحة رتبة القرآن أو يتضمن خبرا عن الغيب ، فيجب أن يصرفه عنه بضرب من الصرف أو يخلقه في أخرس أشل بحيث لا يتمكن من الكلام والكتابة إذا كان فيه غرض ما.

ويمكن أن يعترض على أبي هاشم ، فيقال : في الجملة غير ممتنع أن يقال : إذا علم الله تعالى من حال العبد أنّه إذا فعل فيه العلم ببعض الأشياء فسده عبده ، أنّ ذلك قبيح (١) لا محالة وإن لم نجد له مثالا ، أو يمثل بتعريفه إيانا أعيان الصغائر ؛ لأنّه من أعظم المفاسد فيجب قبحه.

__________________

(١) ج : «يقبح».

٦٦

احتج أبو هاشم بوجهين :

أ : العلم جار مجرى المنافع الخالصة لاسترواح (١) العقلاء إليه ، ولو لا حسن الجميع لم يصحّ ذلك.

ب : لو قبح شيء من العلوم لكان الموصوف به موصوفا ببعض صفات النقص ، ولو كان كذلك في حقّ الواحد منّا لكان كذلك في حقّ الله تعالى.

اعترض على ـ أ ـ بأنّ الاسترواح إلى الشيء يقتضي حصول نفع فيه فقط ، دون الحسن أو القبح.

وعلى ـ ب ـ بأنّ المعنى قد يقبح ولا يوجب صفة نقص ، فإنّا لو قدرنا على حمل الجبال وطفر البحار لم يكن فيه ما يقتضي صفة نقص مع قبح تلك القدرة.

المسألة الحادية عشرة : في أحكام التصوّر

وهي تسعة :

الأوّل : التصوّر إمّا شرط في التصديق (٢) ، أو جزء منه. وعلى التقديرين يكون سابقا عليه لاحتياج المشروط والمركّب إلى شرطه وجزئه ، والمحتاج متأخّر عن المحتاج إليه تأخّر المعلول عن علّته. ولأنّ الضرورة قاضية بأنّ المحكوم عليه وبه

__________________

(١) استروح : وجد الراحة ، واستروح العقلاء إليه : سكنوا إليه. راجع لسان العرب (مادة : روح).

(٢) كما عليه المشهور من الحكماء. والجزئية مذهب الرازي كما في نقد المحصل : ٦. وقال صدر المتألهين : «إنّ كلا من التصوّر والتصديق نوع بسيط من ماهية العلم الذي هو جنسهما ، فما أسخف رأي من جعل التصديق مركّبا من أمور ثلاثة أو أربعة كما اشتهر من رأي الإمام الرازي ... وكذا رأي من أخذ في تحصيل مفهوم التصديق التصور على وجه الشرطية لا على وجه الدخول. والحقّ انّ مفهوم التصوّر عين التصديق جعلا ووجودا ، داخل فيه ماهيّة وتحليلا كدخول الجنس في ماهية النوع البسيط». رسالة التصوّر والتصديق : ٣١٠ ، المطبوعة في آخر كتاب الجوهر النضيد للعلّامة الحلّي.

٦٧

يجب أن يكون معلوما.

لا يقال : لو صدق ذلك لصدق المجهول مطلقا يمتنع الحكم عليه (١) ، فالمحكوم عليه هنا إن كان معلوما بطلت القضية ، وإن كان مجهولا مطلقا فقد حكمتم على المجهول مطلقا بامتناع الحكم عليه وهو حكم خاصّ ، فلزم التناقض.

لأنّا نقول : للمجهول مطلقا اعتباران ، أحدهما بوصف المجهولية ، والثاني ما صدق عليه هذا الوصف. وبالاعتبار الثاني لا يكون مجهولا مطلقا ؛ لأنّ الاتصاف بالمجهولية أمر معلوم ، والموصوف بأمر معلوم يكون معلوما من حيث ذلك الوصف. فالمحكوم عليه في قولنا : المجهول مطلقا يمتنع الحكم عليه من حيث امتناع الحكم عليه هو المأخوذ بالوجه الأوّل ومن حيث الحكم عليه بامتناع الحكم عليه هو المأخوذ بالوجه الثاني ، فقد اختلفا في الموضوع فلا تناقض.

وفيه نظر ؛ لأنّ الاعتبار الذي به جاز أن يكون محكوما عليه يمتنع الحكم عليه بهذا الحكم ، بل يجب أن يحكم عليه بإمكان الحكم لا بامتناعه. (٢)

الثاني : قال أفضل المتأخرين : لا شيء من التصورات بمكتسب ، لا على معنى أنّها كلّها ضرورية ، بل على معنى أنّ المعلوم منها لنا ضروري ، وما لا يكون ضروريا لا يمكن استعلامه البتة.

واحتجّ عليه بوجهين :

أ : المطلوب به إن كان معلوما استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل ،

__________________

(١) هكذا العبارة في النسخ وفيها اضطراب ولعلّه لا يستقيم المعنى إلّا إذا قرئت على الوجه التالي : «لو صدق ذلك لما صدق المجهول المطلق ، لا يحكم عليه».

(٢) والحقّ أنّه لا يمكننا أن نحكم على المجهول المطلق بالحمل الشائع (أي بحسب المصاديق والمعنونات) وأمّا المجهول المطلق بالحمل الأوّلي (أي عنوانه ومفهومه) ، فليس مجهولا مطلقا فيصحّ الحكم عليه.

٦٨

وإن كان مجهولا استحال طلبه لأنّ ما لا شعور به البتة لا يمكن طلبه ، ولا تعرف النفس أنّه هو إذا وجدته.

لا يقال : إنّه معلوم من وجه دون وجه.

لأنّا نقول : الوجه المعلوم به يمتنع طلبه ، وكذا الوجه المجهول به ، فالمطلوب يمتنع طلبه.

ب : تعريف الماهية إمّا أن يكون بنفسها ، أو بجميع أجزائها ، أو ببعضها ، أو بالخارج ، أو بما يتركّب من الداخل والخارج ، والكلّ محال ، فالتعريف محال.

أمّا الأوّل ، فلأنّ معرفة المعرف علّة لمعرفة المعرف ، ويمتنع أن يكون الشيء علّة لنفسه ؛ لامتناع تقدّمه عليها.

وأمّا الثاني ، فلأنّ جملة أجزاء الماهية هو نفس الماهية ، وإلّا لكان داخلا فيها أو خارجا منها ، وهما محالان ، لاستحالة أن يكون مجموع أجزاء الشيء بعض أجزائه ، وكون مجموع أجزائه الحقيقية أمرا منفصلا عن الحقيقة ، وبتقدير تسليمه يكون ذلك التعريف تعريفا رسميا.

لا يقال : تعرف هيئة الاجتماع العارضة لتلك الأجزاء بتلك الأجزاء أو بالعكس.

لأنّا نقول : الهيئة أحد أجزاء تلك الحقيقة ، وهي خارجة عن ماهيات معروضاتها وبالعكس ، فتعريف ذلك العارض بمعروضاته أو بالعكس ، يكون تعريفا بالأمور الخارجة ، وهو غير القسم الذي نحن فيه.

ويشكل لو قيل (١) : نفس الماهية إن غاير جملة الأجزاء بالماهية وجب إمّا خروج جميع الأجزاء عنها أو دخول غير الأجزاء في الماهية ، وهما محالان.

__________________

(١) والإشكال من العلّامة المصنّف.

٦٩

وأمّا الثالث ، فلأنّ ذلك الجزء لا بدّ وأن يعرف جميع الأجزاء لتوقف تعريف الماهية على تعريف الأجزاء ، فيكون تعريفا لنفسه وللخارج ، وهما محالان.

وأمّا الرابع ، فلأنّ الخارج لا يصحّ أن يكون معرفا إلّا إذا عرف اختصاصه بالمعرف ، فإنّ غير المختص لا يفيد أقلّ مراتب التعريف ، وهو التميز ، لأنّا إذا قلنا في حقيقة مخصوصة : إنّها التي يلزمها اللازم الفلاني ، فالأمر الذي نطلب معرفته إمّا أن يكون هو خصوصية تلك الحقيقة في نفسها أو كونها ملزومة لذلك اللازم.

والأوّل باطل ؛ لأنّ العلم بكونها مؤثرة في اللازم الفلاني لا يقتضي العلم بخصوصيتها ، فإنّ الأشياء المختلفة في الحقيقة يجوز اشتراكها في لازم واحد ، ومع ذلك التجويز لا يمكن القطع بحصول تلك الماهية المخصوصة عند حصول العلم بكونها مؤثّرة في ذلك اللازم ، بل قد يكون ذلك اللازم بحيث لا يوجد إلّا لملزوم واحد ، لكن العلم بالاختصاص إنّما يمكن لو عرف الماهية أولا ويعرف ما عداها ؛ لأنّ العلم بالاختصاص علم بنسبة أمر إلى الماهية ، والعلم بالنسبة يتوقّف على العلم بالمنتسبين ، فيلزم الدور ، أو (١) العلم بجميع الماهيات.

والثاني محال ؛ لأنّ كونها مؤثرة في ذلك اللازم هو الذي فرضناه معرّفا ، فلو جعلناه نفس المطلوب كان ذلك تعريفا للشيء بنفسه.

والمركب من الداخل والخارج خارج. فلم يبق المخلص ، إلّا بأن تجعل التعريفات الحدّية والرسمية عبارة عن تفصيل ما دلّ عليه الاسم إجمالا. لكن لا يبقى فرق بين الحدّ والرسم ؛ لأنّ الاسم ربما وضع بإزاء ما يعقل فإذا وضع اسم العلم بإزاء أمر ما يؤثر في العالمية ، فمن ذكر في تعريف العلم هذا فقد حدّه. (٢)

__________________

(١) في المخطوطة : «و» والصحيح ما أثبتناه وفقا للسياق والمعنى.

(٢) راجع نقد المحصل ، المقدمة الأولى من المحصل : ٦ ـ ٩.

٧٠

والجواب عن ـ أ ـ أنّ المطلوب هو الشيء المعلوم من وجه دون وجه ، وهو الماهية ذات الوجهين لا الوجهان.

وقيل : لا تجتمع هاتان المقدمتان على الصدق ؛ لاستلزام كلّ واحدة منهما ، مع عكس نقيض الأخرى ، ما يناقض الأخرى ؛ واستلزام عكس عكس نقيض كلّ منهما كذب الأخرى. والاستقصاء فيه مذكور في كتبنا المنطقية.

وعن ـ ب ـ إنّ المعرف مجموع الأجزاء وليس هو نفس الماهية.

قال أفضل المحقّقين : لأنّ الجزء متقدّم على الكلّ بالطبع والأشياء التي كلّ واحد منها يتقدّم على شيء متأخر عنها يمتنع أن تكون نفس المتأخر ويجوز أن تصير عند الاجتماع ماهيّة هي المتأخرة فتحصل معرفتها بها ، كما أنّ العلم بالجنس والفصل وبالتركيب التقييدي متقدّم على العلم بالجنس المقيد بالفصل ، وهي أجزاؤه ، وبها يحصل العلم به. (١)

وفيه نظر ، فإنّه لا يلزم من تقدّم كلّ واحد تقدّم المجموع ، وإلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه ، فإنّ كلّ واحد من الأشياء إذا كان متقدما على المجموع لو استلزم تقدّم المجموع لزم ما قلناه.

والقسمة لمجموع الأجزاء ليست حاصرة. واستدلال أفضل المتأخرين باطل ـ بمنع الحصر ـ إن أراد بالداخل بعض الأجزاء ، وذلك لوجود قسم ثالث ، وهو أن يكون جميع أجزاء الماهية غير الماهية وغير الداخل فيها وغير الخارج عنها ، بل يكون جميع الداخل. وإن أراد بالداخل ما هو أعمّ من البعض والجميع اخترنا أن يكون داخلا.

قوله : يلزم أن يكون جميع أجزاء الماهية داخلا فيها فيكون لها جزء آخر ، فلا يكون ما فرضناه مجموع الأجزاء مجموع الأجزاء.

__________________

(١) نفس المصدر.

٧١

قلنا : لا يلزم من كون الجميع داخلا ، أن يكون هناك جزء آخر. وعلى ما قلناه في الإشكال بأن يقال : الماهية ومجموع الأجزاء إن اتحدا بالماهية فالمطلوب ، وإلّا وجب كون مجموع الأجزاء بعضها أو خروجها عن الماهية لا جواب عنه.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز التعريف ببعض الأجزاء؟

قوله (١) : تعريف المركّب إنّما يكون بواسطة تعريف أجزائها.

قلنا : ممنوع ، نعم لا يمكن إلّا بواسطة معرفة أجزائها ، لكنّ معرفة الأجزاء لا يجب أن يستند إلى معرفة الماهية الذي هو ذلك الجزء ؛ لجواز أن تكون جميع الأجزاء أو بعضها معلوما بالضرورة. وهذا الغلط إنّما نشأ من جعل الماهية هي نفس أجزائها خاصة.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز التعريف بالخارجي؟

قوله : إنّما يصحّ أن يكون معرّفا لو عرف اختصاصه بالموصوف.

قلنا : ممنوع ، بل الشرط نفس الاختصاص لا العلم به.

سلّمنا توقفه على العلم بالاختصاص ، لكن لا نسلّم أنّه يجب من معرفة الاختصاص معرفة الماهية على سبيل التفصيل ، ولا معرفة عداها كذلك ، فجاز أن نعرّف الماهية ببعض عوارضها ، والأشياء المغايرة لها تعرف بلازم شامل لها ، ثمّ يعرف كون ذلك الوصف مختصا بتلك الماهية المعروفة ببعض العوارض ، وأنّه غير حاصل لما عداها من الماهيات المعروفة ببعض العوارض ، وأنّه غير حاصل لما عداها من الماهيات المعلومة باللازم الشامل ، ثمّ إنّ ذلك الوصف يعرّف ما جهلناه من تلك الماهية.

ثمّ اعترض أفضل المتأخرين على نفسه : بأنّا نجد النفس طالبة لتصوّر

__________________

(١) أي الرازي.

٧٢

ماهية الملك والروح.

وأجاب بأنّ الطلب إمّا لتفسير اللفظ أو للبرهان على وجود المتصوّر ، وكلاهما تصديق. (١)

واعترضه أفضل المحقّقين : بأنّا نعرف تفسير لفظ الروح ونعلم يقينا وجوده في كلّ ذي روح ، ونجد العلماء يتخالفون في ماهيته ، وليس المطلوب أحد التصديقين اللّذين ذكرهما. وكذا نعلم تفسير ألفاظ كثير من الأشياء ونعلم وجوده قطعا ويتعذّر تصوّر حقيقته على كثير من الناس ، كالحركة والزمان والمكان. (٢)

وقد تلخص من كلام أفضل المتأخرين : أنّ الإنسان لا يمكنه أن يتصوّر إلّا ما يجده من فطرة النفس كالألم واللّذة ، أو من بديهة العقل كتصور الوجود والوحدة والكثرة ، أو ما يركّبه العقل كالحيوان الناطق ، أو الخيال كما يتصور جبلا من ياقوت وإنسانا يطير ، وما يركّبه العقل والخيال كما يركب الوحدة مع زيد.

الثالث : لمّا ظهر كون بعض التصوّرات كسبيا وكذا التصديقات ، قلنا : ليست العلوم كلها ضرورية ، وإلّا لما جهلنا ؛ ولا كسبية ، وإلّا لدار أو تسلسل ، بل البعض بديهي والبعض كسبي. (٣)

قيل : إذا كانت العلوم كلّها كسبية كانت الملازمة الأخيرة كسبية تفتقر إلى برهان.

والحقّ الالتجاء في ذلك إلى الضرورة ؛ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ لنا علوما ضرورية.

__________________

(١) نقد المحصل : ٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) راجع الجوهر النضيد للمصنّف : ١٩٢ ـ ١٩٣.

٧٣

قيل : الضابط أنّ كلّ تصور يتوقف عليه تصديق غير مكتسب فهو غير مكتسب. أمّا الذي يتوقف عليه تصديق مكتسب فقد يكون مكتسبا ، وقد لا يكون. (١)

وليس بجيد ؛ لأنّ التصديق البديهي قد يتوقف على تصورات كسبية.

الرابع : الكاسب لا يكون هو نفس المكتسب ؛ لأنه علّة في معرفته ، والعلّة متقدمة. بل إن كان مجموع الأجزاء فهو الحدّ التام ، ولا خلاف في إطلاق اسم الحدّ عليه ، وتصير به الحقيقة معلومة على الوجه الذي لا يمكن أن يزداد العلم بها. وإن كان بعض الأجزاء المساوية فهو الحدّ الناقص. وقد اختلفوا في إطلاق اسم الحدّ عليه ، وهو نزاع لفظي ، وإفادته دون إفادة الأوّل. وإن كان أمرا خارجيا فهو الرسم الناقص. وإن كان مركبا من الداخل الأعم والخارجي المساوي فهو الرسم التام.

وقيل (٢) : الرسم الناقص هو الذي يفيد تمييز الشيء عن بعض ما عداه. والتام هو الذي يميّزه عن جميع ما عداه.

والمثال : رسم ؛ لأنّ المثال مخالف للممثل من وجه ، ومشارك من وجه. فمن الوجه الذي اختلفا لا يكون المثال مفيدا معرفة الممثل ، ومن الوجه الذي اشتبها فيه كان مفيدا معرفته ، لكن تلك المشابهة من لوازم تلك الحقيقة ، فكان داخلا في الرسم.

ثمّ الماهية إمّا أن تكون بسيطة أو مركّبة ، وعلى التقديرين ، فإمّا أن تكون جزءا من غيرها أو لا ، فالأقسام أربعة.

أ : البسيط الذي يكون جزءا من غيره ، كالجوهر لا يمكن أن

__________________

(١) القائل بهذا المقال هو الرازي. راجع نقد المحصل : ١٠.

(٢) عبر عنه الطوسي بالمشهور عند الحكماء. راجع نفس المصدر.

٧٤

يحد (١) لبساطته ، بل يحد بما يتركب عنه.

ب : البسيط الذي لا يكون جزءا من غيره كواجب الوجود تعالى ، لا يحدّ ولا يحد به.

ج : المركّب الذي يتركب عنه غيره ، كالحيوان يحدّ لتركّبه ويحدّ به ما يتركب عنه كالإنسان.

د : المركّب الذي لا يتركب عنه غيره كالإنسان يحدّ ولا يحدّ به. (٢)

الخامس : جملة التعريفات تشترك في إفادة التمييز ، وتحصيله أسهل من تحصيل الحدّ الحقيقي من وجه ؛ لأنّ التمييز يحصل بالحدّ التام والناقص والرسم ، والمعرفة التامة إنّما تحصل بطريق واحد ، وهو الحدّ الحقيقي ، وما يحصل بطرق أكثر أسهل وأصعب من وجه ؛ لأنّ العلم بالامتياز يتوقف على العلم بحقيقة الأمرين المحكوم عليه وبه وجميع الماهيات المغايرة غير المتناهية.

وقد اتّفق المتكلّمون على أنّ العالم بالحدّ يجب أن يكون عالما بالمحدود ، والجاهل بالحدّ جاهل بالمحدود. وهو حقّ إن كان الحدّ تاما ، وإلّا فلا.

السادس : يجب الاحتراز عن تعريف الشيء بما يساويه في المعرفة والجهالة ، كمن يعرّف الأب بأنّه الذي له ابن ، بل يجب أن يكون المعرّف أجلى من المعرّف ليصحّ التعريف به. (٣)

وعن تعريف الشيء بالأخفى كمن يعرّف النار بأنّها اسطقس شبيهة بالنفس ، والنفس أخفى من النار.

__________________

(١) أي لا يمكن أن يعرّف بتعريف حدّي ، لعدم الجنس والفصل له.

(٢) راجع المصدر نفسه ، تذنيبات.

(٣) راجع المصدر نفسه.

٧٥

وعن تعريف الشيء بنفسه ، كما يقال : الإنسان حيوان بشري.

وعن تعريفه بما يتوقف معرفته عليه ، إمّا بمرتبة واحدة كقولنا : الكيفية ، ما بها تقع المشابهة واللامشابهة ، ثمّ يعرفون المشابهة بأنّها اتّفاق في الكيف. أو بمراتب ، كمن يعرّف الاثنين بأنّه الزوج الأوّل ، ثمّ يعرّف الزوج بأنّه عدد منقسم بمتساويين ، ثمّ يعرّف المتساويين بأنّهما الشيئان اللّذان لا يزيد أحدهما على الآخر ، ثمّ يعرّف الشيئين بأنّهما الاثنان. وكلّ واحد من هذه المحاذير أشدّ محذورا ممّا قبله.

السابع : التعريف إن كان بالحدّ التام وجب فيه حفظ الجزء الصوري ، وذلك بأن يقدم الجزء الأعمّ ؛ لأنّه ينزل منزلة المادة على الجزء الصوري (١) الجاري مجرى الصورة.

ولا تقبل الوجازة المعنوية ولا التطويل المعنوي. نعم لو ذكر بدل بعض الأجزاء حدّه جاز ، لكن الأحسن تركه. أمّا الحدّ الناقص فإنّه يقبل الوجازة والتطويل ، وكذا الرسوم. (٢)

الثامن : الحدّ قد يكون حدّا بحسب الماهية فيكون في غاية الصعوبة لخفاء أكثر الأجزاء خصوصا الفصول ، وقد يكون بحسب الاسم والمفهوم فيكون سهلا ؛ لأنّ الحدّ بحسب الاسم إنّما هو للأسماء ، والأسماء للأمور المعقولة ، وكلّ أمر معقول فإنّه لا بدّ وأن يعقل كمال الجزء المشترك ، أيّما هو ، وكمال المميز أيّما هو.

التاسع : الحدّ لا يمنع ؛ لأنّ المنع إنّما يقع في الخبر ، والمصحح بالدليل إنّما هو الخبر ، ولا خبر في الحدّ ؛ لأنّه تفصيل مدلول الاسم الإجمالي ، فحاصله تعيين حقيقة متصورة عقلا من غير حكم عليها بنفي أو إثبات ، والمنازعة في تلك

__________________

(١) ج : «الأخص».

(٢) راجع المصدر نفسه.

٧٦

الحقيقة المتصورة من حيث إنّها متصورة غير ممكنة ، بل في إطلاق تلك اللفظة على تلك الحقيقة ، وهو لفظي. ولأنّ النزاع لم يقع في المعرفة الساذجة بل في الحكم ، لجواز إطلاق تلك اللفظة على تلك الحقيقة المتصورة ، فالإبطال والإثبات في الحقيقة واقعان في التصديق. وقول الحادّ : الإنسان حيوان ناطق ، ليس دعوى إذا ذكر على وجه الحدية بأن يشير إلى هذه الماهية المتصورة من غير حكم ، فلا يمنع. وقد يريد أنّ ذات الإنسان محكوم عليها بالحيوانية والنطق ، فيمنع. ولا يتوجه النقض على الحدّ إذا لم ينضم إليه دعوى ، كمن حدّ العلم بأنّه الذي يصحّ من المتصف به إحكام الفعل ، فينتقض بالعلم بالواجبات والمحالات. وإنّما توجه النقض لأنّه سلم وجود العلم المتعلّق بالمحالات ، ولو لم تسلم هذه الدعوى لم يتوجه النقض.

والمعارضة لا تقدح في الحدّ إلّا عند تسليم دعوى ، وإلّا فالحقائق غير متعاندة في ماهياتها ، فإنّ من عارض هذا الحدّ بأنّه الاعتقاد المقتضي سكون النفس ، فليس بين هاتين الحقيقتين تعاند ، فإنّ حقيقة أمر تقتضي للمتصف به صحّة الإحكام من حيث إنّها هذه الحقيقة لا تنافي حقيقة اعتقاد تقتضي سكون النفس من حيث إنّها هذه الحقيقة ، وإذا لم يكن بين الحقائق منافاة لم تتحقق المعارضة في الحدود.

المسألة الثانية عشرة : في أحكام التصديق

وهي عشرة :

الأوّل : التصديق والقضية والخبر والقول الجازم كلّها بمعنى واحد ، وهو قول يقال لقائله : إنّه صادق أو كاذب. والصدق والكذب وإن كانا عرضيين

٧٧

ذاتيين لا يمكن تعريفهما إلّا بذكر معروضهما ، لكن لم يقصد التعريف الحقيقي هنا ، بل اللفظي. وهذه القضية : إمّا حملية ، أو شرطية. والشرطية : إمّا متصلة ، أو منفصلة. والمنفصلة إمّا حقيقية تمنع الجمع والخلو ، أو غيرها تمنع أحدهما خاصة. والمتصلة : إمّا لزومية ، أو اتّفاقية. والمنفصلة إمّا عنادية أو اتّفاقية.

الثاني : كلّ حملية لا بدّ فيها من موضوع هو المحكوم عليه ، ومحمول هو المحكوم به ، ونسبة بينهما بها يربط المحمول بالموضوع. وتلك النسبة لا بدّ لها من لفظ يدل عليها ، وقد تحذف في بعض اللغات للعلم بها. ولا بدّ لها من كيفية تدلّ على وثاقتها وضعفها ، هي إمّا الضرورة ، أو الإمكان ، أو الدوام ، أو الإطلاق ، أو مقابلات هذه. فإن أخذت في نفس الأمر فهي مادة ، وإن أخذت معقولة أو ملفوظة فهي جهة (١) ، ولا يجب توافقهما. (٢)

الثالث (٣) : النسبة قد تكون بالإيجاب ، على معنى أنّ المحمول صادق على الموضوع. وقد تكون بالسلب ، بأن سلب المحمول عن الموضوع ، ولا عبرة بإيجاب الطرفين ، ولا سلبهما. لكن إذا كان أحدهما عدميا سميت معدولة ، وهو في غالب الاصطلاح يتعلّق بالمحمول ، وقد يثبت في الموضوع وفيهما معا.

ويحصل الاشتباه كثيرا بين السالبة البسيطة والمعدولة المحمول ، فيفرق بينهما لفظا بالنية (٤) والاصطلاح كتخصيص المعدولة ب «غير» و «لا». والسلب ب «ليس»

__________________

(١) قال الطوسي : «والفرق بينهما (المادة والجهة) أنّ المادّة هي تلك النسبة في نفس الأمر ، والجهة هي ما يفهم ويتصوّر عند النظر في تلك القضيّة من نسبة محمولها إلى موضوعها سواء تلفّظ بها أو لم يتلفّظ ، وسواء طابقت المادّة أو لم يطابق». شرح الإشارات ١ : ١٤٣.

(٢) لجواز أن يكون ما نعقله أو نتلفّظ به غير مطابق لنفس الأمر.

(٣) راجع الجوهر النضيد : ٥٢.

(٤) كذا ، وفي الجوهر النضيد : «اللغة».

٧٨

وبتقديمه على الرابطة إن ذكرت أو تأخره ، أو معنى فقيل : الموجبة المعدولة يشترط فيها ثبوت الموضوع دون السالبة. (١)

والتحقيق أن يقال : إذا وجب شيء في الخارج ، وجب ثبوت الموضوع فيه ، وإذا وجب في الذهن ، وجب اعتقاد الثبوت فيه. أمّا السلب ، فإن سلب في الخارج لم يجب ثبوت الموضوع فيه ، فإنّ السلب قد يصدق على الموضوع المعدوم كما يصدق على الموجود ، وإن سلب في الذهن وجب أن يكون الموضوع فيه ، لكن لا يشترط اعتباره وإن كان لا ينفك عنه.

الرابع (٢) : موضوع القضية إن كان شخصا معينا : فالقضية شخصية ومخصوصة إيجابا وسلبا. وإن كان كليا : فإن حكم في القضية على نفس الطبيعة فالقضية نسميها طبيعية ، كقولنا الإنسان حيوان ناطق. فإن حكم عليها باعتبار عروض العموم لها : سمّيناها القضية العامة ، كقولنا الإنسان نوع والحيوان جنس. وإن حكم على أفرادها ، فإن استوعبنا الأفراد إيجابا أو سلبا فالقضية كلية. وإن خصصنا الحكم بالبعض إيجابا أو سلبا فالقضية جزئية ، وهاتان تسميان محصورتين. وإن لم نتعرض للاستيعاب والجزئية ، فالقضية مهملة إيجابا وسلبا.

واللفظ الدال على كمية الحكم يسمى سورا ففي الموجبة الكلية «كلّ» ، وفي الجزئية «بعض» و «واحد» ، وفي السالبة الكلية «لا شيء» و «لا واحد» ، وفي الجزئية «ليس بعض» و «ليس كلّ» و «بعض ليس». وحقّه أن يرد على الموضوع لوقوع الشكّ في المحمول ، هل هو صادق على جميع أفراد الموضوع أو بعضها؟ فإن

__________________

(١) هذا بمقتضى القاعدة الفرعية وهي : «ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له» فإن كان المحمول ثابتا في الخارج يجب ثبوت الموضوع فيه ، وإن كان ثابتا في الذهن ففي الذهن.

(٢) راجع الجوهر النضيد : ٥٤ ـ ٥٩.

٧٩

قرن بالمحمول فهي منحرفة. (١)

والمهملة في قوة الجزئية ؛ لأنّها إمّا أن تصدق كلية أو جزئية ، وعلى التقديرين تصدق جزئية.

الخامس : إذا قلنا كلّ ج ب لم نعن به أنّ كلية ج هي ب أي الكلي المنطقي (٢) ، ولا الجيم الكلي أعني العقلي ، ولا الكل المجموعي ، بل كلّ واحد واحد ممّا صدق عليه ج ، لا حقيقة ج ، ولا صفة ج ، بل الأعمّ وهو الصادق عليه ج صدقا بالفعل لا بالقوة المحضة ، ولا بشرط الصدق الدائم ، ولا المنقطع ، بل ما يعمهما. ولا نعني به الصدق الفعلي حالة الحكم ، بل الأعمّ من الصدق حالة الحكم وقبله وبعده.

ولا نعني به الجيم الموجود في الخارج ، بل كلّ ما فرضه العقل ج ، سواء كان موجودا في الخارج أو لا. وقس على هذا باقي المحصورات.

السادس (٣) : القضية : ١ ـ إن لم تكن لها جهة سميت مطلقة (٤) عامة ، وهي

__________________

(١) فإن قرن السور بالمحمول أو بالموضوع الشخصي فقد انحرفت القضية عن الموضع الطبيعي ، فتسمى منحرفة. وقال الشيخ ابن سينا : «إنّ قولنا : السور قرن بالمحمول في المنحرفات ، ليس قولا حقيقيا ، فانّ قول الحقّ فيها هو أن يجعل السور مع شيء آخر محمولا ...» الفصل التاسع من المقالة الأولى من الفنّ الثالث من منطق الشفاء.

(٢) وهو مفهوم الكلي أي المفهوم الذي لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ويسمى كليا منطقيا ؛ لأنّ المناطقة لا يقصدون من الكلّي إلّا هذا المعنى. وما يصدق عليه هذا المفهوم في الخارج كالإنسان والحيوان يسمى كليا طبيعيا ، لوجوده في الطبيعة والخارج. والمجموع المركّب من هذا العارض «الكلي» والمعروض «الإنسان» يسمّى كليا عقليا كالإنسان الكلّي والحيوان الكلّي ، إذ لا وجود لهما إلّا في الذهن. راجع شرح المنظومة : ٢٠ ـ ٢١ ؛ حاشية المولى عبد الله اليزدي على تهذيب المنطق للتفتازاني : ٥٩.

(٣) انظر تعاريف أقسام القضايا وأمثلتها في شرح الإشارات ١ : ١٤٣ وما يليها ؛ الجوهر النضيد : ٦٣ ـ ٦٨.

(٤) وإن ذكرت جهتها سمّيت موجهة.

٨٠