نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

الخيالية انقلبت. فالعجز فيما قالوه مستند إلى القوّة الخيالية لا إلى القوّة العقلية.

ثمّ يدلّ على إبطال قولهم وجوه :

الأوّل : لا شكّ في أنّا نحكم بإيجاب وسلب بين مفردات كما في الحمليات ، ومركّبات كما في الشرطيات ، والحكم نسبة وإضافة بين أمرين ، وإنّما يتحقّق لو بيّنا معا إذ مع عدم أحدهما ووجود الآخر لا تتحقق الإضافة سواء سبق العدم أو تأخّر ، فإنّ القاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما ففي وقت الحكم يجب حضور الطرفين دفعة ، وإلّا لكان الحاضر أبدا تصورا واحدا والتصوّر الواحد ينافي الحكم والتصديق ، فكان يجب أن يتعذّر الحكم أبدا.

الثاني : التصوّر قد يكون كسبيا كالتصديق ، وإنّما يكتسب بالحدّ التامّ أو الناقص ، أو الرسم التام أو الناقص ، فإذا عرفناه بالحدّ التام لم يكن العلم بجزء الحدّ كالجنس وحده أو الفصل وحده مفيدا لمعرفة الماهية بتمامها ، فلو استحال حصول العلم بجميع أجزاء المحدود دفعة واحدة استحال حصول العلم في وقت ما من الأوقات بالماهية المركّبة البتة. وكذا في العلوم التصديقية فإنّها إنّما تحصل من اجتماع مقدّمتين ، ولا يكفي إحداهما في الانتاج ، فلو استحال حصول العلم بأكثر من معلوم واحد امتنع القياس واستحصال العلوم الكسبية البتة.

الثالث : الأمور الإضافية معلومة لنا ، وإنما يصحّ العلم بها لو علمنا المضافين معا لاستحالة تحقّق الإضافة في الذهن وفي الخارج بدون تحقّقهما معا ، فلو لم يصحّ اجتماع العلوم الكثيرة لم يحكم بثبوت الإضافة في شيء من الأشياء ، لكنّا نعلم بالضرورة التلازم بين الشيئين والتعاند والفاعلية والمفعولية وغيرها من الإضافات.

١٨١

الرابع : واجب الوجود تعالى وتقدس يعلم الأشياء دفعة واحدة ، وكذا العقول المفارقة عند الأوائل (١) ، ولا يمكن أنّ لشيء منها يعقل بالقوّة البتة ، بل كلّها حاضرة بالفعل عندها ، وكذا النفوس الناطقة بعد مفارقة البدن ، فعلم إمكان اجتماع العلوم الكثيرة دفعة واحدة للعالم.

المسألة التاسعة : في أنّ العلم بالعلّة هل يوجب العلم بالمعلول أم لا؟ (٢)

سألت شيخنا أفضل المحققين ـ قدّس الله روحه ـ عن هذه المسألة ، فقال : العلم بالعلّة يؤخذ باعتبارين :

أحدهما : العلم بأنّ العلّة موجودة متحقّقة ، وهذا لا شكّ في أنّه يستلزم العلم بوجود المعلول ولا حاجة فيه إلى البرهان.

والثاني : العلم بماهية العلّة من حيث هي هي لا باعتبار كونها موجودة ، ولا باعتبار

كونها معدومة. وحينئذ نقول : العلّة إن كانت علّة لذاتها لا باعتبار أمر ما من الأمور ، ولا وصف ما من الأوصاف ، أو تكون علّة باعتبار انضمام أمر ما إليها ، وعلى التقدير الثاني تكون العلّة هي المجموع من الماهية وذلك الاعتبار ، ويصير البحث فيه إذا أخذناه من حيث هو مجموع فإنّه تكون علّة لذاته ويساوي القسم الأوّل ، فنقول : إذا كانت تلك العلّة علّة لذاتها لم ينفك معلولها عن ذاتها ، فإذا

__________________

(١) والمؤلف لا يعترف بوجود العقول المفارقة ـ وهو مذهب الفلاسفة ـ ولا ينكرها ـ وهو مذهب المتكلّمين ـ ولا يقتنع بأدلّة الطرفين ، كما تشعر به العبارة ويظهر من كلامه في البحث عن الجواهر المجرّدة في كشف المراد : ١٧٦ ـ ١٧٨. ولكن الأدلّة الرصينة العقلية والنقلية قائمة على وجودها والبحث عن ذلك موكول إلى محلّه.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٧٧ ـ ٤٨٠.

١٨٢

كانت ذاتها حاصلة للعالم وجب حصول معلولها له ، وإلّا لم تكن علّة أينما كانت فلا تكون علّة لذاتها.

فقلت له ـ قدّس الله روحه ـ : العالم لم تحصل له ماهية العلّة وحقيقتها ، بل إنّما حصل له مثالها وحكايتها.

فقال : كما انّ الماهية حصلت في العقل مثالها ، كذا المعلول يحصل في العقل مثاله.

وهذا غير متين كما نراه ، لأنّه نفس الدعوى. وقد استدل القدماء بوجوه ثلاثة :

[الوجه] الأوّل : العلّة لذاتها مؤثرة في المعلول ، فمن عرف تلك العلّة فلا بدّ وأن يعرف منها أنّها لذاتها علّة لذلك المعلول ، فإنّ ذاته إذا كانت مقتضية لذلك المعلول لذاتها لا لغيرها ، فمتى علمت وجب أن يعلم على هذا الوجه ، ومتى علم منها أنّها علّة لذلك المعلول وجب أن يحصل العلم بذلك المعلول ؛ لأنّ العلم بكون العلّة علّة للمعلول ، علم بإضافة العلّة إلى المعلول ، والعلم بإضافة أمر إلى أمر يستلزم العلم بالمضافين ، فوجب أن يحصل من العلم بالعلّة العلم بالمعلول.

اعترض بوجوه :

أ : للعلّة ذات في نفسها وحقيقة متأصلة في الوجود أو في الذهن ، إن كانت علة في الذهن لا غير ، وهي بهذا الاعتبار غير مضافة إلى الغير ولا مقولة بالقياس إليه ولها وصف العلية وهو مغاير لحقيقتها ، لأنّ هذا الوصف اعتبار لها بالقياس إلى معلولية المعلول ، وحكم حصل لها بعد تحقّقها في نفسها ، ولو كان هذا الوصف هو نفس العلّة المتحقّقة بدون الإضافة لكانت من باب المضاف ، فلا تكون قائمة بنفسها ، هذا خلف.

١٨٣

ولأنّا قد نعقل ذات العلّة ونشكّ في وصف العلية لها فتغايرا. ولأنّه لو لا التغاير لكانت ذات العلّة مع المعلول كالإضافة بل متأخرة عنه ، والعلّة لا شكّ أنّها متقدّمة على المعلول ، هذا خلف.

وإذا ثبت التغاير بين ذات العلّة ووصف العلية ، وثبت أنّ ذات العلّة حقيقة قائمة بنفسها غير مقولة بالقياس إلى غيرها من معلول وغيره لم يجب من العلم بحقيقة الذات التي عرضت العلية لها العلم بذات المعلول.

ب : العلّة ذات ولها وصف العلية ، وهما متغايران كما تقدّم ، فإن أردتم بالعلّة نفس الذات لا باعتبار الوصف ، بل من حيث هي هي ، لم يلزم من العلم بها العلم بالمعلول ، فإنّ ماهية العلّة مغايرة لماهية المعلول ، وليس أحدهما داخلا في الآخر ، بل هما متباينان بالذات ، ونحن نعلم صحّة تعقّل كلّ واحدة من الماهيتين مع الذهول عن الأخرى. وإن أردتم الثاني فهو باطل ، لأنّ العلّية إضافة ، والإضافات لا تعقل إلّا بعد تعقّل المضافات ، فالعلّية لا تعقل إلّا بعد تعقّل المعلول ، فلو استفيد تعقّل المعلول من تعقّلها دار.

ج : لو لزم من تعقل الشيء تعقّل معلوله ، لكنّا إذا عرفنا حقيقة وجب أن نعرف لازمها القريب ، ثمّ ذلك اللازم له لازم آخر ، وللآخر ثالث ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فيلزم معرفة تلك اللوازم غير المتناهية على التفصيل دفعة واحدة ، وهو محال ، وإلّا لم يخف علينا شيء البتة ، والضرورة قاضية ببطلانه.

د : علمنا بنفسنا إمّا أن يكون نفس نفسنا أو لازما بيّنا قريبا لها ، وعلى التقديرين كان يجب دوام علمنا بنفسنا بدوام نفسنا ، وعلمنا بعلمنا بنفسنا كذلك إلى مراتب غير متناهية.

ه : لأنفسنا لوازم لا واسطة بيننا وبينها ، كالتجرّد والاستغناء عن الموضوع وامتناع قدمها وغير ذلك من اللوازم ، فلو لزم من العلم بالعلّة العلم بالمعلول

١٨٤

وجب دوام علمنا بلوازم أنفسنا ، لكنّا دائما نغفل عن أكثرها ، إلّا إذا التفتنا إليه ، بل وأكثرها يفتقر إلى برهان.

أجيب عن أ : بأنّ علية العلّة لا يمكن أن تكون وصفا ثبوتيا زائدا على ذات العلّة ، وإلّا لكانت علية العلّة لتلك العلّية زائدة على ذات العلّة وتسلسل. فإذن علّية العلّة نفس ذاتها المخصوصة ، فيلزم من العلم بها العلم بالمعلول. (١)

وفيه نظر ، لأنّ قولكم : «العلية نفس العلّة» إن أردتم به في الذهن والخارج معا فهو محال ؛ لأنّ العلّية وصف إضافي لا يعقله الذهن إلّا مضافا إلى الغير ، والعلّة ذات حقيقتها متأصلة في الأعيان فتغايرا بالضرورة. وإن أردتم به أنّها نفس العلّة في الخارج ، فإن أردتم بذلك أنّه ليس في الخارج إلّا الماهية ، لا وصف العلية فهو مسلّم ، لكن لا يثبت في الخارج وصف العلية ، ويثبت فيه نفس العلّة فتغايرا قطعا. وإن أردتم به أنّ الماهية والعلّية في الخارج متحدتان وإنّما تغايرتا في الذهن لزم ما تقدّم من المحال.

وعن ب : أنّ الذاتين وإن تباينتا في الحقيقة إلّا أنّ المعلول لما كان لازما للعلّة وجب أن يكون العلم بالمعلول ملازما للعلم بالعلّة ؛ لأنّ التعقّل التامّ أن يكون ما في الذهن مطابقا للوجود الخارجي ، فإذا لم تكن بين العلّة والمعلول واسطة وجب انتفاء الواسطة في العلم. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ الماهية الذهنية ليست نفس الحقيقة الخارجية بل مثالها ، فلا يجب مساواته لها في كلّ الأحكام. ولأنّ الذهن قد تصده الغفلة وغيرها عن اللزوم بخلاف الخارجي.

وعن ج بوجهين : (٣)

__________________

(١) الجواب من الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

(٢) و (٣) هذان الجوابان أيضا للرازي في نفس المصدر : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

١٨٥

الأوّل : التزام ذلك ، وهو أنّا متى عرفنا ماهية شيء وحقيقته لا بدّ وأن نعرف جميع لوازمه ، لكنّا لا نعرف حقيقة شيء من الأشياء ، بل إنّما نعرف من كلّ شيء لازمه ووصفه لا ذاته.

لا يقال : هذا باطل.

أمّا أوّلا : فلأنّ تلك الصفات كما أنّها لازمة لتلك الماهيات فتلك الماهيات أيضا لازمة لتلك الصفات ، فإذا ساعدتم على معرفة الصفات لزمكم أن يكون العلم بها علّة للعلم بتلك الماهيات ثمّ يكون العلم بتلك الماهيات علّة للعلم بسائر الصفات.

وأمّا ثانيا : فلأنّكم بنيتم (١) أنّ علمنا بنفسنا هو نفس نفسنا ولوازمها.

فإذن علمنا بحقيقة نفسنا حاضر أبدا فيجب أن نعرف صفاتها دائما من غير كسب.

لأنّا نجيب عن الأوّل : بأنّه من الجائز أن تكون الصفات لازمة للموصوفات ولا تكون الموصوفات لازمة للصفات ، فإنّ تعاكس اللزوم غير واجب ، وإلّا لوجبت المساواة بين كلّ ملزوم ولازمه ، لكنّا نعلم جواز كون اللازم أعمّ ، فزوايا المثلث الثلاث تلزمها المساواة لقائمتين دون العكس ، فليس تساوي القائمتين مستلزما للزوايا الثلاث ، فإنّ الخطّ الواقع على مثله على انحراف تحدث عنه زاويتان مساويتان لقائمتين ولا مثلث هناك ، فبطلت دعواهم.

فإن فرضوا الكلام في لازم مساو ، أجبنا بجواب شامل ، وهو أنّ اللوازم معلولات الماهية ، والعلم بالمعلول لا يوجب العلم بالعلّة على ما يأتي.

والوجه في الجواب أن نقول : من اللوازم ما هو مستند إلى الماهية لا غير ، لا

__________________

(١) في نسخة من المباحث المشرقية : «أفتيتم».

١٨٦

بالإضافة إلى شيء البتة. ومنها ما يلزمها باعتبار قياسها إلى الغير.

والقسم الأوّل قليل ، ويلزم من العلم بالماهية العلم بتلك اللوازم ما لم يطرأ على الذهن ما يشغله عن الاندفاع إليها.

وأمّا الثاني : فكثير ، لكن لا يلزم من العلم بالماهية العلم بتلك اللوازم ما لم ينضمّ إلى العلم بالماهية العلم بتلك الأشياء المأخوذة في القياس ، والعلم بتلك غير واجب.

وعن الثاني : بأنّه يمكن على طريقين :

أ : أن نقول : المعلوم بالبديهة لنا من أنفسنا وجودها ، فأمّا حقيقتها فغير معلومة لنا بالبديهة ، بل بنوع من النظر والفكر ، وهذا غير مرضي على ما ستعرفه.

ب : اللوازم قسمان : اعتبارية وهي ما لا ثبوت لها إلّا عند اعتبار العقل إيّاها ، مثل : كون النفس شيئا قائما بذاته غنيّا عن الموضوع وكونها حادثة وباقية ، فإنّ الغنى عن الموضوع قيد سلبي ، ولو كان ثبوتيا كان للشيء الواحد صفات غير متناهية لأجل سلب أمور غير متناهية لا مرّة واحدة ، بل مرارا غير متناهية.

ولو كان الحدوث والبقاء وصفين ثبوتيين ، لزم التسلسل على ما تقدّم. فأمثال هذه الصفات لا وجود لها في الخارج ، فإذن تلك الماهية لا تكون علّة لتحقّق هذه الصفات مطلقا حتى يكون العلم بها علّة للعلم بهذه الصفات مطلقا ، بل إنّما تكون علّة لتحقّق هذه الصفات عند اعتبار العقل لها لا مطلقا أيضا ، بل إنّما تكون علّة لتحقّق هذه الصفات عند اعتبار جملة مغايرة لعلّية العلّة ؛ فإنّ علية العلّة من الوسطيات ولا شكّ أنّ العلم بماهية النفس وتلك الوسطيات الملتفت إليها علّة للعلم بوجود أمثال هذه اللوازم.

فأمّا اللوازم الحقيقية غير الاعتبارية فهي للنفس ، مثل : قدرتها على الإدراك

١٨٧

والتحريك ، فإنّ القدرة صفة حاصلة للنفس لا تتوقف على الفرض والاعتبار ، فلا جرم من عرف ذاته عرف هذه الصفات.

وعن د : ما مرّ من أنّ علمنا بنفسنا نفس نفسنا بالذات ومغاير لها بالاعتبار فجاز التخلف للغفلة ، أو حضور ما يشغل النفس عن الالتفات إليه ، فإذا خلت النفس عن هذه الموانع حصل العلم بها.

وفيه ما مرّ.

وعن ه : ما مرّ أيضا.

[الوجه] الثاني : (١) أنّا دائما نستدل بالأسباب على مسبباتها ، فإذا رأينا ملاقاة النار للقطن علمنا ثبوت الإحراق ، وإذا رأينا الثقل مع عدم المانع تيقّنّا الهوى ، وليس الموجب لذلك إلّا أنّ العلم بالسبب يوجب العلم بمسببه.

اعترض (٢) : بأنّا إنّما نعرف ذلك بالحس لا بالعلم بماهية العلّة ، أو بالاستقراء ، بل الدلالة بالعكس أولى ، فإنّا ما لم نشاهد الريّ من شرب الماء والشبع من تناول الطعام لم نعرف ثبوت هذين الأثرين عليهما ، ولو كانت معرفة ذات العلّة كافية في معرفة وجود المعلول لما احتجنا في هذه المواضع إلى التجربة.

ونقول أيضا : إن أردتم أنّ علمنا بثبوت العلّة من حيث إنّها علّة توجب علمنا بثبوت المعلول فهو حقّ ، وإن أردتم أنّا إذا علمنا ذات العلّة لا باعتبار هذا الوصف يلزم العلم بثبوت المعلول فهو في غاية المنع. (٣)

[الوجه] الثالث : إذا عقلنا العلّة حصل في ذهننا ماهية موجبة لماهية

__________________

(١) من الوجوه التي استدل بها القدماء من الفلاسفة على مدعاهم.

(٢) الرازي في المصدر نفسه : ٤٨٠. وقد فصّله ووضّحه المؤلّف وأضاف إليه اعتراضا آخر بقوله : «ونقول أيضا».

(٣) للعلم بالعلّة اعتبارات مختلفة ، راجع كشف المراد : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

١٨٨

المعلول ، ومتى كان كذلك كان العلم بالمعلول حاصلا. والمقدّمتان ظاهرتان ، وهو بناء على أنّ التعقل يستدعي حصول ماهية مساوية للمعقول في العاقل ، وهو ممنوع. ولو سلّمنا المساواة ، لكنّها لا تحصل من كلّ وجه بالضرورة ، فجاز وقوع التخلّف باعتبار وجه المخالفة.

تنبيه : (١) هذا العكس غير لازم فإنّه لا يلزم من العلم بالمعلول العلم بالعلّة ، لأنّ المعلول إنّما يستند إلى العلّة لا لذاته وحقيقته ، بل لأجل أنّه في ذاته غير مستقل بالوجود والعدم ، إذ لو استقل بأحدهما كان واجبا أو ممتنعا لذاته فلا يكون ممكنا واستحال اسناده إلى العلّة.

ثمّ إنّ عدم الاستقلال في الوجود والعدم هو الإمكان ، فإذن حاجة المعلول إلى العلّة واسناده إليها لأجل الإمكان. ثمّ الإمكان لا يقتضي احتياج المعلول إلى علّة معيّنة ، وإلّا لكان كلّ ممكن مستند إلى تلك العلّة ؛ لأنّ الإمكان أمر واحد في كلّ الإمكانات ، بل الإمكان يحوج إلى علّة مطلقة ، فلهذا لم يكن العلم بالمعلول مفيدا للعلم بحقيقة العلّة المخصوصة ، ولما كان الإمكان علّة للحاجة إلى العلّة المطلقة كان العلم بالإمكان سببا للعلم بالحاجة إلى علّة مطلقة.

وأمّا العلّة فإنّ اقتضاءها للمعلول لذاتها وحقيقتها المخصوصة ، فإنّ (٢) علّيتها لا بدّ وأن تكون من لوازمها. ثمّ إنّ العلّة المعيّنة لا تقتضي معلولا مطلقا ، وإلّا لكان لا يتخصص إلّا بقيد آخر ، ولا يوجد المعلول المعيّن بهذه العلّة لا غير بل مع شيء آخر فلا يكون ما فرضناه علّة علّة ، هذا خلف.

فإذن العلّة بحقيقتها المخصوصة تقتضي ذلك المعلول المعيّن ، فلهذا استند إليها دون غيرها ، فكان العلم بحقيقة العلّة المعيّنة علّة للعلم بالمعلول المعيّن. أمّا

__________________

(١) إلى انّ العلم بالمعلول لا يستدعي العلم بالعلّة. راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٢) المباحث المشرقية : «فاذا».

١٨٩

المعلول المعيّن فإنّه لا يقتضي العلّة المعيّنة من حيث هي معيّنة بل يقتضي علّة مطلقة ، فلا جرم لم يلزم من العلم بالمعلول العلم بالعلّة المعيّنة.

لا يقال : إذا كان المعلول المعيّن لا يقتضي علّة معيّنة ، فلم استند إلى علّة معيّنة دون غيرها فإنّها لا أولوية؟

لأنّا نقول : المعلول المعيّن يقتضي علّة مطلقة ، لكن العلّة المعيّنة تقتضي معلولا معيّنا ، فتعيّن تلك العلّة لذلك المعلول ليس لأجل اقتضاء المعلول لها بل لأجل اقتضائها لذلك المعلول ، فلما كانت تلك العلّة تقتضي لذاتها أن تكون مؤثرة في ذلك المعلول استحال أن تؤثّر فيه علّة أخرى ، لامتناع استناد المعلول الواحد بالشخص إلى علّتين. فتعيّن العلّة جاء من قبل العلّة لا من قبل المعلول.

قال أفضل المتأخرين : ذكرت في بعض كتبي أنّ العلم بالعلّة لا يوجب العلم بالمعلول مطلقا كيف كان ، بل العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول بشرط تصوّر ماهية المعلول. واستدللت عليه بأنّ العلية وصف إضافي ، والأمور الإضافية لا تستقل باقتضائها أحد المتضائفين ، وإلّا لوجدت تلك الإضافة لذلك الشيء وحده عند عدم غيره ، وهو محال.

فإذن لا يلزم من العلم بأحد المضافين العلم بتلك الإضافة ، فلا يلزم من العلم بذات العلّة العلم بالعلّية ، بل العلم بذات العلّة علّة للعلم بالمعلول بشرط حصول تصوّر المعلول ؛ لأنّ الوصف الإضافي إذا كان معلولا لمجموع المضافين كان العلم بهما معا علّة للعلم بالوصف الإضافي. وأمّا الآن فلما ثبت أنّ العلية لا يمكن أن تكون وصفا ثبوتيا ، بل ليس هاهنا إلّا ذات العلّة وذات المعلول ، ولا شكّ أنّ ذات العلّة من حيث كونها تلك الذات المخصوصة علّة لذلك المعلول لا جرم لزم من العلم بالعلّة العلم بالمعلول مطلقا. (١)

__________________

(١) نفس المصدر.

١٩٠

المسألة العاشرة : في أنّ العلم بالمسبّب إنّما يحصل من العلم بسببه (١)

لمّا كان الشيء الممكن لا يوجد في الخارج بذاته ولا اتّفاقا من غير وجود سببه ، بل إنّما يوجد بسببه ؛ وكان العلم من شرطه المطابقة ، فإنّ السبب التامّ إنّما يحصل إذا كانت الصورة الذهنية مطابقة لذلك الخارجي ، وكان الممكن في الخارج لا بدّ له من سبب لامتناع اقتضاء ذاته ترجيح أحد الطرفين ، وإلّا لخرج عن كونه ممكنا ، كان العلم به إنّما يحصل بواسطة العلم بسببه ، لأنّ ذا السبب ممكن ، وإلّا امتنع اسناده إلى السبب ، وليس للممكن ترجّح لوجوده على عدمه وبالعكس ، فبالنظر إليه يمتنع الجزم بأحد الطرفين ، بل إنّما يحصل الجزم بأحدهما إذا انضمّ إليه السبب لا غيره لعدم وجوبه بغير سببه ، فإنّ الشيء كما أنّه لا يوجد إلّا عند وجود سببه كذا العلم لا يحصل إلّا من العلم بسببه ، وكما أنّه بالنظر إلى سببه يصير واجب الوجود في الخارج ممتنع التغيّر ، وهذا هو اليقين التام. فثبت أنّ العلم بوجود ذوات المبادئ إنّما يحصل من مبادئها.

لا يقال : إذا علمنا وجود الكتابة علمنا أنّ لها كاتبا ، مع أنّ الكتابة ليست علّة للكاتب ، بل الكاتب هو العلّة.

ولأنّ الممكن يصدق عليه أنّه لا يقتضي الرجحان لا أنّه يقتضي اللارجحان ، ومقتضى ذلك أنّه لا يلزم من النظر إليه من حيث هو هو حصول الرجحان لا أن يلزم من النظر إليه من حيث هو هو حصول اللارجحان. وإذا كان كذلك ، فنحن نقول : النظر إلى الممكن من حيث هو هو لا يقتضي

__________________

(١) راجع نفس المصدر : ٤٨٢ ـ ٤٨٣.

١٩١

العلم برجحان وجوده على عدمه ، ولكنّه لا يمنع من حصول العلم بذلك الرجحان.

فإن قلت : إذا كان العلم بتلك الماهية لا يقتضي العلم بذلك الرجحان فمن أين حصل العلم بالرجحان؟

قلنا : أنت المستدل فعليك دليل النفي

لأنّا نقول : العلم بالكتابة لا يوجب العلم بالكاتب ، بل يوجب العلم باحتياج الكتابة إلى الكاتب ، واحتياج الكتابة إلى الكاتب حكم لاحق للكتابة لازم لها معلول لماهيتها ، فيكون ذلك في الحقيقة استدلالا بالعلّة على المعلول. ثمّ إنّ العلم بحاجة أمر إلى أمر لمّا كان مشروطا بالعلم بكلّ واحد من الأمرين صار الثاني معلوما ؛ لضرورة حصول العلم بالإضافة إليه.

فأمّا الاعتقاد الحاصل لا من جهة السبب ، ولو كان في غاية القوّة إلّا أنّه ليس يمتنع التغيّر ، بل هو في معرض التغيّر والزوال ، لأنّه ليس ملتفتا إليه من جهة سببه فيكون ممكن التغير.

وأمّا الشيء الذي يكون غنيا عن السبب فإمّا أن يكون العلم به أوّليّا أو لا ، ثمّ يحصل العلم به البتة ، أو لا يكون إليه طريق إلّا بالاستدلال عليه بأمارة ، وحينئذ لا يمكن معرفة حقيقته كواجب الوجود الذي هو البرهان على الكلّ ، وليس شيء غيره يكون برهانا عليه ، كما ورد في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١) ، وقال أيضا : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) (٢) ، وقال تعالى :

__________________

(١) آل عمران / ١٨.

(٢) الأنعام / ١٩.

١٩٢

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١) ، فالمرتبة الأولى وهي الاستدلال بآيات الآفاق والأنفس عليه تعالى مرتبة القاصرين ، والثانية وهي الاستدلال به على الكلّ مرتبة الصديقين.

واعلم أنّ المراد من ذلك إن كان العلم بالوجود ، فلا فرق بين البابين ، فإنّه يلزم من العلم بوجود كلّ من العلّة والمعلول وجود الآخر. وإن كان المراد العلم بالحقيقة ففيه ما تقدّم.

تذنيب : ما يعلم بسببه إنّما يعلم كلّيا فإنّا إذا علمنا أنّ الألف يوجب الباء فالباء من حيث هو أمر كلي ؛ لأنّه لا يمنع نفس تصوّره من وقوع الشركة فيه ، وكونه معلولا للألف لا ينافي كلّيته لإمكان أن تكون الباء الصادرة عن الألف لا تمنع نفس تصوّره ـ مستندا إلى الألف ـ من وقوع الشركة فالمعلوم بسببه إنّما يعلم كلّيا.

اعترض (٢) بأنّ السواد إذا تشخص فلا بدّ وأن يكون تشخّصه لسبب فإذا علم سبب تشخصه وجب أن يعرف ذلك التشخص ، لأنّ العلم بالعلّة علّة للعلم بالمعلول ، فهنا قد علم الشيء بسببه لا على الوجه الكلّي ، بل على الجزئي.

__________________

(١) فصلت / ٥٣. وتوجد كلمات في الأدعية المأثورة عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ تدلّ على هذه المرتبة (الصديقين) من معرفة الواجب تعالى ، مثل «يا من دل على ذاته بذاته» (دعاء الصباح لأمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ) و «أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ...» (دعاء يوم عرفة للإمام الحسين ـ عليه‌السلام ـ) و «بك عرفتك ، وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولو لا أنت لم أدر ما أنت» (دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ).

(٢) أي الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٤٨٣.

١٩٣

وأيضا ما ذكرتم إنّما يصحّ لو استدللنا بالألف على الباء ، أمّا إذا استدللنا بهذه الألف على هذه الباء فلا يتمّ ما ذكرتم فإنّ ذلك هو المطلوب ، وكلامكم غير متعرض له ، بل الصحيح جوازه ؛ لأنّ الأشخاص من حيث إنّها أشخاص معلولة ولا بدّ وأن تنتهي في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود ، والعلم بالعلّة توجب العلم بالمعلول عندكم ، فيلزم من علم واجب الوجود بذاته علمه بالأشخاص الزمانية من حيث هي أشخاص زمانية ، لا من حيث هي كلية. وبهذا يظهر بطلان قول الفلاسفة في نفي علمه تعالى بالجزئيات. وسيأتي الاستقصاء فيه إن شاء الله تعالى.

المسألة الحادية عشرة : في كيفية العلم بالجزئيات (١)

العلم عند قوم أنّه صورة مساوية للمعلوم كما قد عرفت. وعند آخرين أنّه صفة حقيقية تلزمها الإضافة. وعند آخرين أنّه نفس الإضافة من العالم والمعلوم. وكما أنّ للكلي صورة في نفس الأمر يعلم ذلك الكلي باعتبار انطباع مساويها في الذهن ، كذلك للجزئي صورة جزئية في نفس الأمر تنطبع في الذهن مثالها حتى يعلم ذلك الجزئي ، هذا إن جعلنا العلم صورة. وإن جعلناه صفة تلزمها الإضافة إلى المعلوم ، أو إضافة إلى المعلوم ، فكذلك لكلّ معلوم من الكلي والجزئي صفة ذات إضافة بحسبه ، وتلزمها الإضافة إليه الخاصة أو إضافة مخصوصة به. فإذا تغير المعلوم كما في الجزئيات الحادثة المتغيرة وجب تغير الإضافة إليه أو الصورة المنتزعة منه ، لكن لما كان واجب الوجود تعالى وتقدّس لا يعلم الأشياء بصورة

__________________

(١) راجع نفس المصدر : ٤٨٤.

١٩٤

موجودة في ذاته لاستحالة انطباع غيره فيه ، بل إنّما يعلمها إمّا بالإضافة بينه وبين المعلومات كالخالقية والرازقية ، أو بصفات تلزمها الإضافات وجب إذا تغير المعلوم أن تتغير الإضافة خاصة ، وذلك لا يثلم بقاء علمه ، كما في القدرة التي إذا تغير المقدور تغيرت إضافة القادر إليه دون نفس القدرة.

كذا هنا ، إذا علم الله تعالى أنّ زيدا في الدار حال كونه فيها فإذا خرج زيد عنها لم يزل علمه ؛ لأنّ علمه بذلك تعلّق به في الأزل لكن زالت إضافته وصارت الإضافة متعلّقة بخروجه ؛ لأنّه تعلّق علمه بذلك في الأزل أيضا.

وجماعة من مشايخ المعتزلة جعلوا العلم بأنّ الشيء سيوجد هو نفس العلم بوجوده إذا وجد ، إذ لو غايره فإن بقي الأوّل لزم الجهل ، وإن زال لزم عدم القديم.

ولم يدر أنّ الزائل ليس صفة حقيقية ، بل الإضافة المحضة. ولا يمكن العذر بما قاله ؛ لأنّه لو كان كذلك لكان من علم أنّ زيدا سيوجد غدا ثمّ لم يشعر بوجود الغد يلزم أن يعلم أنّ زيدا هو الآن موجود ، والتالي باطل بالضرورة ، فكذا المقدّم.

وأيضا العلم يشترط فيه المطابقة ، وكون الشيء سيوجد مغاير لكونه موجودا بل مناف له ، لأنّ معنى أنّه سيوجد أنّ الذي هو معدوم الآن له وجود وتحقق في الزمان المستقبل ، فكون الشيء سيوجد يشترط فيه العدم الحالي ، وكونه موجودا ينافيه ، وإذا تغايرت الصورتان وتنافيا وجب تغاير الصورة الحاصلة عنهما والإضافة بينهما.

١٩٥

المسألة الثانية عشرة : في أنّ الجزئيات قد تعلم على وجه كلي (١)

اعلم أنّ الجزئيات قد تعلم على وجه كلي من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه (٢) ، تتخصص به (٣) كالكسوف الجزئي ، فإنّه قد يعقل وقوعه بسبب توافي أسبابه الجزئية وإحاطة العقل بها وتعقلها كما تعقل الكليات ، فإنّك إذا علمت الحركات السماوية كلّها فلا بدّ وأن تعلم كلّ كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي معيّن ولكن على نحو كلي ، فإنّك تقول في كسوف معيّن إنّه كسوف بعد زمان حركة تكون للقمر بشرط كذا ، وتعرف أنّه تكون بينه وبين كسوف سابق عليه أو متأخر عنه مدّة كذا ، حتى لا يبقى عارض من عوارض ذلك الكسوف إلّا وقد علمته ، لكنّك علمته كليا ، لما عرفت من أنّ الكلي وإن اعتبر فيه ألف شرط لا يخرج عن معنى الكلية ، فإنّ المفهوم من ذلك الذي يقيد بألف قيد لا يمنع تصوّره عن أن يحمل على كثيرين ، إلّا إذا عرف بحجّة خارجية أنّه لا يكون ذلك إلّا واحدا.

واعلم (٤) أنّ كلية الإدراك وجزئيته تابعان لكلية التصوّرات الواقعة فيه وجزئيتها دون التصديقات ، فإذا قلت : هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت كان جزئيا ، وإذا قلت : الإنسان يقول قولا في وقت ما كان كليا ، ولم يتغير في الحكمين سوى حال الإنسان والقول والوقت المفردات بالجزئية والكلية. وكلّ

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٣ : ٣٠٧ ـ ٣١٠ ؛ النجاة ، قسم الالهيات : ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

(٢) أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه ، فكما تؤخذ الجزئيات من حيث إنّها طبائع كذلك تؤخذ الأسباب من حيث هي طبائع ، فالعلم بالجزئيات من حيث إنّها طبائع بحسب أسباب موجودة كذلك ، يكون كليا ولا يتغير.

(٣) أي تتخصّص تلك الجزئيات بطبيعة ذلك المبدأ. راجع شرح الطوسي على الإشارات.

(٤) راجع شرح الإشارات ٣ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

١٩٦

جزئي يتعلّق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه ، إنّما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل ولا يتناولها البرهان والحدّ بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها ، أو ما يجري مجراها من المخصّصات التي لا سبيل إلى إدراكها إلّا الحس وما يجري مجراه. فإن أخذت تلك الطبيعة مجرّدة عن تلك المخصّصات صارت كلّية يدركها العقل ويتناولها البرهان والحدّ ، وكان الحكم المتعلّق بها حين كونها جزئية باقيا بحاله. اللهمّ إلّا أن يكون الحكم متعلّقا بالأمور المخصّصة من حيث هي مخصّصة. فكلّ من أدرك علل الكائنات من حيث إنّها طبائع ، وأدرك أحوالها الجزئية وأحكامها كتلاقيها وتباينها وتماسها وتباعدها وتركّبها وتحلّلها من حيث هي متعلّقة بتلك الطبائع ، وأدرك الأمور التي تحدث معها وبعدها وقبلها من حيث يكون الجميع واقعة في أوقات متحدّد بعضها ببعض على وجه لا يفوته شيء أصلا ، فقد حصل عنده صورة العالم منطبقة على جميع جزئياته الثابتة والمتجدّدة المتصرّمة الخاصة بوقت دون وقت كما عليه الوجود ، وتكون تلك الصورة بعينها منطبقة على عوالم أخر لو حصلت في الوجود مثل هذا العالم بعينه فتكون صورة كلّية منطبقة على الجزئيات الحادثة في أزمنتها غير متغيرة بتغيرها. (١)

وفيه نظر ، فانّ الجزئية لا تستتبع الإشارة الحسية خاصة ، فإنّ واجب الوجود والعقول المجرّدة والنفوس الناطقة ، كلّها جزئيات شخصية تمتنع فيها الشركة مع انتفاء الإشارة الحسية فيها. وتعقّل الإشارة بأسبابها لا يفيد إلّا الارتباط والتلازم بينها وبين أسبابها ، ولا شعور هناك بوقوع الجزئيات وعدمه ، وهذا غاية التجهيل ، فأي علم بعد ذلك يحصل؟!

والسبب في هذا الغلط كلّه القول بالصور المساوية مع انّها ممتنعة في حقّه تعالى ، ولهذا الباب كلام بسيط سيأتي بعضه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) انتهى كلام الطوسي.

١٩٧

المسألة الثالثة عشرة : في العلم الفعلي والانفعالي (١)

من مشهورات الحكماء انّ العلم منه فعلي ومنه انفعالي ؛ لأنّ الصورة الثابتة في الخارج إن استفيدت من التعقّل سمي ذلك العلم فعليا (٢) ؛ لأنّه محصّل للماهية الخارجية كالنجار إذا تصور هيئة نقش ممّا لم يسبقه أحد إليه ، بل اخترعه من نفسه ثمّ أوجد مثاله في الخارج ، وكذا البناء إذا ارتسم في خياله شكل بيت معيّن على هيئة خاصة لم يسبق وجودها ، فانّ ذلك التصوّر يصير مبدأ لحصول ذلك في الخارج. وأيضا جميع الأفعال الحيوانية والإنسانية إنّما توجد بسبب العلم بما يشتمل عليه من المنافع أو الظنّ أو الاعتقاد ، فإنّ العطشان إذا وجد الماء البارد وعلم أو ظنّ أو اعتقد أن لا ضرر عليه من شربه لا في الحال ولا فيما بعده ، فانّه يصدر عنه الشرب باعتبار ذلك العلم والظن والاعتقاد. والعالم بما في السم من المضار وعدم اشتماله على منفعة البتة فانّه بالضرورة يمتنع عن تناوله. وكذا الإنسان إذا تذكر الله تعالى وعظّم شأنه وخشي من أليم عقابه قفّ (٣) جلده وقام شعره استشعارا من خشية الله تعالى. وكذلك إذا رأى صورة جميلة أو تذكرها ربّما انتشر عضوه.

وفيه نظر ، فإنّ هذا العلم في الحقيقة انفعالي ؛ لأنّه مستفاد من الصورة الخارجية ، وإن كان يصدر عنه شيء فباعتبار آخر. فهذه الإدراكات الكلّية تارة والجزئية أخرى هي الأسباب لحصول الأفعال في الخارج ، إلّا أنّ تصوّرات النفس الإنسانية لا تؤثر في وجود تلك المتصورات إلّا بواسطة الآلات ، فأمّا إذا كان

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٣ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ؛ كشف المراد : ٢٢٩ ؛ شرح المواقف ٦ : ٤٣.

(٢) للعلم الفعلي استعمال آخر وهو ما يقابل الذاتي كالصفات الفعلية والذاتية ، والمراد به العلم في مقام الفعل دون مقام الذات.

(٣) في هامش نسخة ج : «قفّ شعره : قام فزعا».

١٩٨

الفاعل غنيّا عن الآلات كان نفس إدراكه سببا لحصول المدرك في الخارج (١) ، فهذا هو العلم الفعلي.

وأمّا العلم الانفعالي فهو الذي يكون وجود المعلوم متقدما على العلم ويكون العلم تابعا له وحكاية عنه ، كمن نظر إلى صورة السماء والأرض وغيرهما من الموجودات ، فتصور منها في ذهنه صورا وارتسم منها في خياله هيئة مستفادة من الأمور الخارجية ، فإنّ هذه الصور الذهنية معلولة للصورة الخارجية وحاصلة منها. وقد كانت الصورة الأولى في العلم الفعلي علّة محصّلة لما في الخارج. والعلم الفعلي أشرف وأفضل من الانفعالي ؛ فانّ الضرورة قاضية بأنّ المنشئ لمسألة والمخترع لها ، أو للقصيدة التي لم يسبقه إليها غيره أشرف وأكمل من علم من تعلّمها منه.

وقد سألت شيخنا أفضل المحققين عن علّة الحصر ، فمنع منه (٢) وأبدأ قسما ثالثا لا فعليا ولا انفعاليا ، وهو علم واجب الوجود تعالى بذاته فانّه خارج عن القسمين.

وفيه نظر ، فانّ علم واجب الوجود بذاته نفس ذاته بالذات ومغاير له بالاعتبار ، ومن حيث المغايرة يكون صادرا عنه ومتأخرا بالذات وكأنّه حكاية عنه ومثال له ومستفاد منه ، فانّ الذات الحقيقية هي الأصل وهذا العلم تابع ، فكان انفعاليا بهذا الاعتبار عن ذاته لا عن غيره.

__________________

(١) هذا القسم الأخير (ما لا يحتاج إلى الآلات) وحده هو العلم الفعلي عند الحكماء ؛ قال الحكيم السبزواري:

وبتوهّم لسقطة ، على

جذع ، عناية ، سقوط فعلا

وقال في شرحه : فانّ هذا العلم التوهمي بمجرّده ، ومحض تخيّل السقوط بلا رويّة وتصديق بغاية ، منشأ للفعل الذي هو السقوط. شرح المنظومة لناظمها : ١١٧.

(٢) العلم لا ينحصر بالفعلي والانفعالي ، بل منه ما ليس بفعلي ولا انفعالي. راجع شرح المواقف ٦ : ٤٤ ؛ نهاية الحكمة : ٢٦٤.

١٩٩

المسألة الرابعة عشرة : في التلازم بين التجرد عن المادة والتعقّل

هذا الحكم يتوقف على أمرين :

أ : إنّ العاقل يجب أن يكون مجردا عن المادة ولواحق المادة ، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في علم النفس.

ب : عكسه وهو أنّ كل مجرد يجب أن يكون عاقلا ، ولنبحث الآن فيه.

وقد صدر عن الأوائل فيه حجج ثلاث (١) :

الحجة الأولى : إنّ كل مجرّد يصح أن يعقل غيره ، وكل ما يصح أن يعقل غيره فإنّه يصح أن يعقل ذاته.

أمّا الصغرى ، فلأنّ كل مجرّد فإنّه يصح أن يكون معقولا وحده بالضرورة ، إذ لا مانع فيه عن التعقل لأنّا فرضناه مجردا وهو المصحح للمعقولية ، فإذا وجد القابل وجد الفيض قطعا ، وكل ما يصح أن يكون معقولا وحده صح أن يكون معقولا مع كل ما عداه من المعقولات ، فكل ما كان كذلك صح على ماهيته أن تقارن جميع ما عداه من الماهيات ؛ لأنّ التعقل حصول صورة المعقول في العاقل ، فإنّ كل مجرد فانّه يصح أن تقارن ماهيته سائر الماهيات.

فنقول : تلك الصحّة إن اعتبر فيها كون تلك الماهية في العقل ، مع أنّ كونها في العقل عبارة عن كونها مقارنة للعقل ، لزم أن تكون صحة وجود الشيء متأخرة عن وجوده ، وقد كان الوجود متأخرا عن الصحة ، هذا خلف. أو لا يعتبر فيها ذلك ، وحينئذ تلك الماهية المعقولة إذا وجدت قائمة بنفسها في الخارج أمكن أن تقارن ماهيتها ماهيات الأشياء المعقولة ، ولا معنى للتعقل إلّا هذه المقارنة.

__________________

(١) ذكرها الرازي وسماها بالطرق الثلاثة. راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٩١.

٢٠٠