نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

وقوله : «باستعداده الأوّل» فائدته أنّ الشيء قد يكون له استعدادان سابق ولاحق ، ولا يكون الشيء الذي ينحوه ذلك الشيء باستعداده الثاني خيرا بالقياس إلى ذاته ، بل يكون خيرا بالقياس إلى ذلك الاستعداد الطارئ ، كالانسان فإنّه مستعدّ في فطرته لاقتناء الفضائل ، ثم إذا طرأ عليه ما أعدّه لاقتناء الرذائل قصدها بحسب الاستعداد الثاني ، ولا تكون هي خيرا بالقياس إلى ذاته مع الاستعداد الأوّل. وكل لذة فإنّها تتعلق بكمال خيري وبادراك له من حيث هو كذلك.

ثم إنّ الشيخ اعترض على نفسه بأنّ «من الكمالات ما لا يلتذّ به كالصحة ، فلا يتلذّذ بها ما يلتذ بالحلو وغيره».

وأجاب بأنّ «الشرط كان حصولا وشعورا جميعا. ولعل المحسوسات إذا اشتدت (١) لم يشعر بها. على أنّ المريض والوصب (٢) يجد عند الثؤوب (٣) إلى الحالة الطبيعية مغافصة (٤) غير خفي التدريج لذة عظيمة.

واللذيذ أيضا قد يصل فيكره ، كما أنّ بعض المرضى يكره الحلو فضلا عن أن لا يشتهي اشتهاء شائقا. وليس ذلك طاعنا فيما سلف ؛ لأنّه ليس خيرا في تلك الحال فإنّ الحس لا يشعر به من حيث هو خير.

فإن أردنا الاستظهار في التحديد قلنا : اللذة هي ادراك ونيل لما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ولا شاغل ولا مضاد للمدرك. فإنّه إذا لم يكن سالما فارغا أمكن أن لا يشعر بالشرط. أما غير السالم ، فكما في عليل المعدة

__________________

(١) في المصدر : «استقرت».

(٢) الوصب : المرض الطويل. يقال : وصب الشيء أي دام. قوله تعالى : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) نفس المصدر : ٣٤٢.

(٣) الرجوع إلى الشيء بعد الذهاب عنه. المصدر نفسه.

(٤) المغافصة : الأخذ على غرّة. المصدر نفسه.

٢٨١

إذا عاف (١) الحلو. وأمّا غير الفارغ ، فكما في الممتلئ جدا فإنّه يعاف الطعام اللذيذ. وكل واحد منهما إذا زال مانعه عادت لذّته وشهوته وتأذّى بتأخّر ما هو الآن يكرهه.

وكذا في الألم ، قد يحضر السبب المؤلم وتكون القوة الدرّاكة ساقطة ، كما في قرب الموت من المريض أو معوقة ، كما في الخدر فلا يتألم به. فإذا انتعشت القوة أو زال العائق عظم الألم» (٢).

وقال في القانون : «الوجع هو الإحساس بالمنافي».

وقال في المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء (٣) : «اللذة ليست إلّا ادراك الملائم من جهة ما هو ملائم».

وذكر فيه أيضا في (٤) المقالة التاسعة : «إنّ القوى تشترك في أنّ شعورها بموافقها وملائمها هو الخير واللذة الخاصة».

وذكر في الأدوية القلبية : إنّ اللذات ادراك لحصول الكمال الخاص بالقوة المدركة». وذكر في هذا الفصل من هذا الكتاب : «سبب اللذة عند ابتداء الخروج إلى الحال الطبيعية هو حصول الإدراك ، ولما عرض إن كان حصول الإدراك مع الخروج عن الحالة الطبيعية عرض إن كانت اللذة مع الخروج عنها ، فظن أنّ ذلك سببها ، وليس كذلك ، بل السبب هو ادراك حصول الكمال لا غير فهذا هو سبب اللذة لا غير. وفي هذا اعتراف بكون الإدراك واللذة متغايران ضرورة تغاير السبب والمسبب.

__________________

(١) عاف الطعام أي كرهه. المصدر نفسه : ٣٤٣.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) الفصل الخامس من المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء : ٥٠٨.

(٤) فصل المعاد من المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء : ٥٤٥.

٢٨٢

والحق أن يقال : كما أنّ التصديقات الكسبية يجب انتهاؤها إلى تصديقات غنية عن البرهان ، كذا التصورات الكسبية يجب انتهاؤها إلى تصورات غنية عن التعريف ، وكما أنّ القضايا الحسية بالحس الظاهر أو الباطن كعلم الإنسان بألمه ولذته لا تحتاج إلى برهان ، فكذا تصورات هذه الأمور ؛ فإنّ كل عاقل حساس يدرك الألم واللذة ، ويفرق بينهما ويميّز كلا منهما عن صاحبه ويميزهما معا عما غايرهما ادراكا ضروريا لا يحتاج فيه إلى كشف وبمهما(١) عرفا به كانا أعرف منه (٢).

بقي هنا بحث مهم : وهو أنّ الحال التي يجدها الملتذ عند لذته التي سمّيناها باللذة هل هي نفس ادراك الملائم أو مغايرة له؟ وبتقدير مغايرتها للإدراك هل هي معلول ذلك الإدراك ، أو معلول شيء آخر؟ وإن كانت لا توجد إلّا مع ذلك الإدراك. فهذه الأمور يجب تحصيلها.

وأمّا قولهم : «إنا نجد اللذة بهذا الإدراك فيكون هو هو» ، فإنّه راجع إلى الاحتجاج باللفظ فإنّ للسائل أن يقول : إن كنت جعلت اسم اللذة اسما لهذا الإدراك فلا منازعة ، لكن لم قلت : إنّ الحالة المخصوصة التي نجدها من النفس هي نفس هذا الإدراك؟ ومعلوم أنّ هذا المقصود لا يحصل بهذا الطريق. فنقول : أمّا الاستقراء فقد دل على أنّ هذه الحالة لا تحصل لنا إلّا إذا أدركنا ما يلائم مزاجنا ، وإن كان للنزاع فيه مجال. لأنّا نلتذ بالرئاسة وإن لم تكن من حيث هي ملائمة لمزاجنا.

وأمّا أنّه هل يمكن حصول تلك الحالة دون هذا الإدراك وإن كان أقليّا؟ فهو مشكوك فيه. ثم بتقدير المساعدة على أنّ الحالة المسماة باللذة لا تحصل إلّا

__________________

(١) كذا.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥١٣ ـ ٥١٤.

٢٨٣

عند إدراك الملائم فهل يمكن حصول ادراك الملائم من غير حصول هذه الحالة؟ هذا أيضا مما لم يظهر أحد طرفيه بالبرهان ، بل فيه شك وهو أنّ الرطوبة محسوسة ، فسوء المزاج الرطب محسوس ، وهو غير مؤلم. ولو سلم فالتلازم بين الشيئين لا يقتضي الاتحاد ، بل ينافيه. وإذا كان سوء المزاج الرطب غير مؤلم ، وهو محسوس ، لم يكن ادراك الأمر الغير الطبيعي هو نفس الألم.

ومن احتج على إبطال كون اللذة ادراك الملائم ، والألم ادراك المنافي ، بأنّ «المريض يلتذّ بالحلاوة مع أنّها لا تلائمه ، بل تمرضه ، وينفر عن الأدوية وهي تلائمه» ، فغير وارد ؛ لأنّ المريض إنّما يستضر بما يستلذه لا من حيث إنّه أدرك ما يلائمه ، بل إما لأنّ في بدنه أخلاطا رديّة يستحيل إليها ما يتناوله ، فيستضر بكون ذلك في بدنه ، حتى أنّه لو حصل زيادة هذا الخلط في بدنه من غير ادراك ما استلذه لاستضرّ به. وإمّا لأنّ الأعضاء تضعف عن هضم ما تناوله فيستحيل إلى خلط رديء ، حتى لو حصل ذلك من دون ادراك ما يشتهيه لاستضرّ به.

ولأنّ المريض لو أدرك ما ينفر طبعه عن الأدوية ولم يعرض أمر آخر لم ينتفع ، والأمور العارضة هي إمّا أن تخرج الدواء خلطا مؤذيا أو تحيله إلى خلط جيد فتغذوه أو تقوى بعض الأعضاء. فلهذه الأمور يحصل الانتفاع ، لا لأنّه أدرك ما ينفر عنه (١).

وأمّا المعتزلة : فقولهم قريب من قول الفلاسفة لأنّهم قالوا : المدرك إن كان متعلق الشهوة كالحكة في حق الأجرب كان ادراكه لذة (٢). وإن كان متعلق النفرة كالحكة في حق السليم كان ادراكه ألما. فجعلوا الألم واللذة من نوع واحد ، وإنّما

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥١٤ ـ ٥١٥.

(٢) قال القاضي عبد الجبار : «أما اللذة : فكأن يحك أحد جرب الغير ، أو يضع لقمة شهية في فمه ، أو يخلع عليه خلعة نفيسة» شرح الأصول الخمسة : ٨٠. راجع أيضا تلخيص المحصل : ١٧١.

٢٨٤

يفترقان بما يقترن بهما ، وجعلوا الألم معنى يحدث في الحي عند التقطيع ويتعلق به النفار ، وهو من المدركات.

ونفى الشيخ أبو اسحاق ابن عياش أن يكون الألم معنى. وقال : ليس هو إلّا خروج الجسم عن حد الاعتدال. وجعل اللذة حصول الاعتدال في الجسم وزوال أجزاء عنه كانت بمنزلة حمل الثقيل.

فأداه هذا إلى القول بنفي النفار. ويلزمه نفي الشهوة إذا جعلناه لذة على بعض الوجوه ، وهو قريب من مذهب ابن زكريا حيث جعل اللذة راحة من مؤلم أو خروج من مؤلم ؛ لأنّ من اشتد عطشه تزداد شهوته للماء البارد فيجب أن تكون لذته خروجا عما كان يجده. وهو ممنوع ؛ لجواز الالتذاذ بادراك الماء البارد ، وإن استلزم الخروج عن ألم العطش.

ثم يبطل قوله زيادة على ما تقدم بوجوه (١).

الأوّل : قد يلتذّ الإنسان بمشاهدة شخص ولا يلحقه بفقده ألم حتى يقال : اللذة خروج من مؤلم.

الثاني : يلزم أن لا يؤثر الواحد منا طعاما على طعام ، ولا منكوحة على أخرى ، لأنّ الغرض ازالة الجوع أو الشبق ، وهو حاصل بهما ، ويبقى حاله كحال من أصابه البرد فإنّه لا يؤثر صلا (٢) على صلا (٣) ، حيث تعلق غرضه بازالة البرد.

الثالث : كان لا يحسن من العقلاء عند ضعف شهواتهم الالتجاء إلى طلب

__________________

(١) انظر بعض الوجوه في كتاب الحدود لقطب الدين النيسابوري : ٥٦ ـ ٥٧.

راجع أيضا شرح الأصول الخمسة : ٢١٤.

(٢) الصّلا والصّلاء مثل الأيا والإياء إذا كسرت مددت ، وإذا فتحت قصرت. وهو اسم للوقود ، فتقول : صلى النار ، وقيل : هما النار. وصلّى يده بالنار : سخّنها. واصطلى بها : استدفأ. (لسان العرب : ٧ / ٣٩٩ ، مادة : صلا).

(٣) ق : «صل».

٢٨٥

الدواء بالأدوية الكريهة حتى يلتذوا بالأطعمة ؛ لأنّه يجري مجرى من يجرح نفسه ثم يطلب المداواة ، فلو لا ثبوت لذة إذا حصلت الشهوة ، وإلّا كان ذلك قبيحا.

الرابع : انّه يدرك اللذة على حد ادراكه الألم فلو كانت اللذة خروجا من مؤلم لكان الألم خروجا من ملذّ.

الخامس : انّه يدرك اللذة والإدراك إنّما يتعلق بأمر وجودي لا عدمي.

السادس : كان يجب أن لا يظهر التزايد في الالتذاذ لأنّ العدم لا تزايد فيه ، والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله.

السابع : كان يجب أن تكون الشهوة ألما ، إذا جعل نيل المشتهى زوال الألم والخروج منه ، ونحن لا نتألم بالشهوة.

الثامن : انا نفرق قطعا بين ادراك طعام شهي ، وبين القاء حمل ثقيل عن ظهورنا ، فلو كان الأمر على ما قاله لم يثبت الفرق.

احتج أبو إسحاق بأنّ الألم لو كان معنى متولدا عن الكون لكان باقيا مع الاندمال(١) لوجود سببه.

وأجيب : بأنّ الكون وإن ولده فإنّما يولده بشرط زوال الصحّة ، ومع الاندمال الصحة ثابتة وإذا زال الشرط زال المشروط.

__________________

(١) الاندمال : التماثل من المرض والجرح. لسان العرب ، مادة دمل. واندمل الجرح : تماثل وتراجع إلى البرء.

٢٨٦

البحث الثاني

في أن تفرق الاتصال هل يوجب الألم أم لا (١)؟

ذهب جميع الأطباء إلى أنّ تفرّق الاتصال سبب ذاتي للوجع. قال جالينوس : «السبب الذاتي للوجع هو تفرّق الاتصال ، فالحار إنّما يوجع لأنّه يفرّق الاتصال ، وكذا البارد يؤلم لذلك أيضا ؛ لأنّه لشدة تكثيفه وجمعه يلزمه أن تنجذب الأجزاء إلى حيث تتكاثف عنده فتتفرّق من جانب ما تنجذب عنه. والأسود لمّا كان قابضا للبصر يؤلم لشدة جمعه ، والأبيض لمّا كان مفرقا للبصر حصل منه الألم. والمرّ والحامض يفرقان مفرطا فيحصل الألم. والعفص (٢) يقبض مفرطا ، فيتبعه التفريق فيحصل الألم ، وكذا الشم تحصل منه الفرقة. والأصوات القوية تفرق بعنف (٣) من الحركة الهوائية عند ملاقاة الصماخ فيؤلم» (٤).

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥١٥ ؛ نقد المحصل : ١٧١ ؛ مناهج اليقين : ١٢١ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٣٨ ؛ الأسفار ٤ : ١٢٤.

(٢) العفص : نبات ، ومنه اشتق طعام عفص أي فيه عفوصة ومرارة وتقبّض يعسر ابتلاعه. لسان العرب ، مادة عفص.

(٣) في المصدر : «لعنف».

(٤) راجع القانون في الطب ١ : ١٤٥ الفصل التاسع عشر من الجملة الثانية من التعليم الثاني من الفن الثاني ، تحقيق ادوار القش.

٢٨٧

ومشايخ المعتزلة قالوا : إنّما يثبت الألم واللذة فيما يحصل جاذبا عند التقطيع فقط ، فإذا قارنه شهوة فهو لذة ، وإن قارنه نفار فهو ألم.

واعترض أفضل المتأخرين بوجوه (١) :

الأوّل : التفرق مرادف للانفصال ، والانفصال عدمي لأنّه عدم الاتصال عمّا من شأنه أن يكون متصلا ، والوجع والألم لا شكّ في أنّه ثبوتي فلا يجوز أن يعلل بالعدمي ، فتفرق الاتصال ليس علّة للألم.

الثاني : قد لا يحس بالقطع مع حدّة الآلة جدا ، وسرعة القطع في أوّل الأمر بل بعد ذلك بلحظة ، ولو كان الألم مستندا إلى تفرق الاتصال خاصة لما تخلف الألم عنه ؛ لاستحالة تخلف المعلول عن علته ، فلمّا تخلف علم أنّه في أوّل القطع لم يحصل سوء المزاج فلم يحصل الألم ، ثمّ لمّا حصل سوء المزاج بعد ذلك حصل الألم.

الثالث : التغذي والنمو إنّما يحصلان بتفرق أجزاء (٢) العضو وتنفذ في الفرج المستحدثة الأجزاء الغذائية ، مع أنّه ليس هناك ألم ، ومعلوم أنّه إنّما لم يؤلم لأنّ ذلك التفرق أمر طبيعي ، ولم يحدث عنه سوء مزاج ، وذلك يدل على أنّ التفرق ليس سببا للألم لأنّه تفرق ، بل لما يكون معه من سوء المزاج.

وإنّما قلنا بحصول التفرق لاتفاقهم عليه ، فإنّ الشيخ حكى في احتجاج أصحاب الخلاء في الشفاء (٣) بأنّ : «النامي إنّما ينمو لنفوذ شيء فيه ، ولا يمكن النفوذ في الملاء». وأجابهم (٤) بأنّ : «الغذاء ينفذ بين المتماسين من أجزاء الأعضاء

__________________

(١) لاحظ المباحث المشرقية ١ : ٥١٥ ـ ٥١٧.

(٢) في المصدر : «اتصال».

(٣) الفصل السادس من المقالة الثانية من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء : ٥٢.

(٤) في نفس المصدر ، الفصل التاسع : ٦٧.

٢٨٨

فتحركهما بالتبعيد عنوة (١) ويسكن (٢) بينهما».

وقال في الشفاء (٣) أيضا في كيفية النمو : «يجب أن يكون ذلك الازدياد مستمرا على تناسب يؤدي إلى كمال النشء ، ويكون الوارد قد فسد واستحال إلى مشاركة (٤) المورود عليه ممتدا (٥) في الأقطار متّجها إلى كمال النشء فيجب أن يداخل هذا الوارد المورود عليه نافذا في خلل يحدثه في جسمه يندفع له المورود عليه إلى أقطاره على نسبة واجبة في نوعه».

وقال فيه (٦) أيضا : «المربية (٧) تزيد في الطول أكثر كثيرا ممّا تزيد في العرض ، والزيادة في الطول أصعب منها في العرض لاحتياجها في الطول إلى تنفيذ الغذاء في الأعضاء الصلبة من العظام والعصب تنفيذا في أجزائها طولا بنهاية تنفذ عن أطرافها» (٨).

ولأنّ الأعضاء دائما في التحلل ، ولا معنى له إلّا الانفصال عن العضو بحركات متصلا به (٩) ، والحاجة إلى الغذاء لإلصاق مثل ذلك الجزء بالعضو فالتفرق لا بدّ للأعضاء منه ، ثمّ لا يختص به ظاهر العضو ، لأنّ المحلل هو الحرارة وهي سارية في ظاهر العضو وباطنه فوجب أن تتحلل الأجزاء من باطن العضو

__________________

(١) في المصدر : «بقوته».

(٢) في المصدر : «ليسكن».

(٣) نفس المصدر ، الفصل الثامن من الفن الثالث.

(٤) في المصدر : «مشاكله».

(٥) في المصدر : «قد نمى ممتدا».

(٦) في الفصل الأوّل من المقالة الثانية من الفن السادس من طبيعيات الشفاء.

(٧) كذا في ق والمصدر ، وفي ج : «المرشة».

(٨) العبارة كذا في النسخ ، وفي المصدر : «طولا لتمنيها وتبعد عن أطرافها» ونقلها الرازي : «طولا ليتممها وينفذ بين أطرافها».

(٩) العبارة كذا في النسخ ، وفي المباحث : «أن ينفصل عن العضو جزء كان متصلا به».

٢٨٩

كما تتحلل من ظاهره ، وإنّما يتم التحليل بتفرق الاتصال.

لا يقال : ذلك التفرق في أجزاء صغيرة جدا ، فلصغر ذلك التفرق لا يحصل الألم. أو أنّ تلك الآلام لما دامت بطل الشعور بها.

ولأنّ الحس دلّ على أنّ التفرّق مؤلم ، فيكون ما ذكرتم من الوجوه في إبطاله استدلالا على إبطال ما علمت صحّته بالضرورة ، فيكون باطلا.

لأنّا نجيب عن الأوّل : بأنّ كلّ واحد من تلك التفرقات وإن كان صغيرا جدا لكن تلك التفرقات كثيرة جدا ؛ لأنّ التغذي والنمو لا يختص بجزء من البدن دون جزء بل هما حاصلان في جملة الأجزاء ، وهما لا يتمّان إلّا بهذا النوع من التفرق ، فإذن كان هذا التفرق حاصلا في جملة الأعضاء ، فلو كان التفرق مؤلما من حيث هو تفرق لكانت الآلام حاصلة في جملة الأجزاء وفي جميع البدن ، ولمّا بطل التالي بطل المقدم.

وعن الثاني : لا نعني بالألم إلّا ما يجده الحي من نفسه وليس حاصلا بسبب التغذي والنمو ، وليس كلامنا إلّا في ذلك ، فإن أثبتّم أمرا آخر ، كان وقوع اسم الألم عليه وعلى ما نحن فيه بالاشتراك.

وعن الثالث : أن تفرق الاتصال يستعقب سوء المزاج مع أنّ التفرق عدمي.

الرابع (١) : الكيفيات الحادثة في العناصر إنّما تحدث عن مبدأ عام الفيض ، وإنّما تختلف الأعراض والصور في أجسام هذا العالم لاختلافها في الاستعداد ، على ذلك اتّفقت الفلاسفة وإن كنّا لا نقول بها ، فنقول : المركب من العناصر إنّما اختص بكيفية مخصوصة ؛ لأنّ المزاج أفاده استعدادا لقبول الكيفية عن واهب الصور دون سائر الكيفيات ، فما دام ذلك المزاج باقيا استحال زوال تلك الكيفية ،

__________________

(١) احتج الرازي بهذا الوجه في كتابه الملخص ، كما في شرح المواقف ٦ : ١٤٢.

٢٩٠

فيكون السبب القريب للألم واللذة ثبوتا وانتفاء هو المزاج لا التفرق.

واعترضه أفضل المحقّقين : «بأنّ العدم لا يكون علّة لموجود ؛ و [لكن] (١) العدمي ربما يكون علة لعدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرك فانّه علّة لأحد الأكوان الذي هو السكون ، وعدم السمع علّة للخرس ، وعدم الغذاء في الحيوان الصحيح للجوع. وتفريق الاتصال ـ في العضو الذي لا يكون فيه حس أو يعرض له خدر ، أو يكون معه استمرارا ، أو يكون التفرق طبيعيا ، كما يحصل في التغذي عند نفوذ الغذاء في أجزائه ـ لا يكون مؤلما ، بل الألم عندهم إحساس عضو بتفرق اتصال يحدث فيه غير طبيعي ، وكلامهم يدل على ذلك ، ولا شكّ في أنّ الحمّى وهو سوء المزاج مؤلم وإن لم يكن هناك تفريق اتصال. والمعنى الجامع هو الاحساس بالمنافي ، فهو إذن حدّ الألم ، وإذا كان التحديد صحيحا فلا يكون انعكاسه لفظيا.

وإنّما خالف في أنّ تفرق الاتصال ليس بموجب للألم في الحي ، إنّما كان لأنّه يقول : التفريق يوجب سوء المزاج الذي تقتضيه طبائع المفردات عند تفريقها ، فالسبب الذاتي هو طبائع المفردات ، والتفريق يقتضي زوال الاعتدال الذي حصل من الكسر والانكسار. فالتفريق ليس سببا بالذات ، إلّا لأمر عدمي هو زوال الاعتدال ، والألم إنّما يحصل من سوء المزاج ، هكذا قاله قطب الدين المصري تلميذه. لكن قوله : «وزاد ابن سينا سببا ثانيا وهو سوء المزاج» يدل على خلاف ذلك» (٢).

وقد ذكر في المباحث ما نقله قطب الدين ، فإنّه قال : «بدن الإنسان مركّب من العناصر التي تقتضي طبيعة كلّ منها الخروج عن الاعتدال ، فما دامت متصلة

__________________

(١) ما بين المعقوفتين مأخوذ من المصدر.

(٢) نقد المحصل : ١٧١ و ١٧٢.

٢٩١

ينكسر البعض بالبعض ويحصل الاعتدال ، فإذا تفرقت بقيت طبيعة كلّ واحد منها خالية عمّا يعوقها عن إفاضة الكيفية الخارجة عن الاعتدال ، فحينئذ تفيض عليها (١) تلك الكيفيات.

فالحاصل : أنّ السبب الفاعلي (٢) لسوء المزاج هو طبيعة كلّ واحد من البسائط ، إلّا أنّ اختلاطها صار مانعا من ذلك ، فلما تفرق الاتصال فقد عدم المانع ، فتعود الطبيعة مقتضية لفعلها» (٣).

وفيه نظر ، (٤) فانّ العدمي جزؤه عدم ، وإذا كان جزء العلّة عدما كانت عدما ، فلا يمكن أن يكون علّة للموجود. ولو جوّزنا كون العدمي علّة للوجودي انسد باب اثبات الصانع تعالى ، وجميع الأسباب التي ندّعي ثبوتها باعتبار ثبوت آثارها!! ثمّ الضرورة تبطل اسناد الوجودي إلى العدمي. وليس السكون معلولا لعدم الحركة ، بل إلى سبب موجود فيه إن جعلناه وجوديا كما هو رأي المتكلمين ، وإن جعلناه عدميا كما هو رأي الحكماء لم يتم الدليل. والخرس عدمي فاستند إلى عدم السمع ، على أنّه لا يلزم من التقارن العلية. والجوع نمنع انّه ثبوتي وأنّه معلول عدم الغذاء ، بل عدم الغذاء شرط له. وتفريق الاتصال في العضو الذي لا يكون فيه حس أو يعرض له خدر أو يكون معه استمرار من غير ألم لعدم الاحساس فيه ، يدل على التغاير بين الألم والتفريق. ولا يمكن أن يكون التفريق طبيعيا ، وإلّا لدام.

والوجه أنّ التفريق ثبوتي ، والانفصال التعدد وهو أمر ثبوتي أيضا فجاز أن يكون سببا للألم.

__________________

(١) في المصدر : «عنها».

(٢) ج : «الفاعل».

(٣) المباحث المشرقية ١ : ٥١٧ ـ ٥١٨.

(٤) راجع مناهج اليقين : ١٢٢.

٢٩٢

البحث الثالث

في سبب الألم

هنا أمران يحصل الألم عقيبهما وهما تفرق الاتصال وسوء المزاج. فذهب جالينوس إلى أنّ السبب القريب للألم هو تفرق الاتصال ، وأمّا سوء المزاج فإنّما يكون مؤلما لأنّه يستعقب تفرق الاتصال.

ذهب الشيخ : إلى أنّ السبب الذاتي للألم هو الأمران : إمّا تفريق الاتصال ، أو سوء المزاج المختلف بالذات وهو الحار والبارد أو بالعرض وهو اليابس ؛ لأنّه لشدة تقبيضه ربما كان سببا لتفرق الاتصال. وأمّا الرطب فغير مؤلم البتة (١).

وقيل (٢) : السبب الذاتي هو سوء المزاج المختلف (٣) خاصة ، إذ لا ثالث هنا. وبطل بما تقدم أنّ تفرق الاتصال سبب ، فلم يبق إلّا سوء المزاج.

__________________

(١) أنظر المباحثات : ٦٩. وقال في القانون : «جملة أسباب الوجع منحصرة في جنسين : جنس يغيّر المزاج دفعة ، وهو سوء المزاج المختلف ، وجنس يفرّق الاتصال». القانون في الطب ١ : ١٤٥.

(٢) القائل هو الرازي ، حيث يقول : «وأمّا نحن فنظن أنّ السبب الذاتي هو سوء المزاج فقط ...».

المباحث المشرقية ١ : ٥١٨.

(٣) سوء المزاج ينقسم إلى : سوء المزاج المختلف وسوء المزاج المتفق. وسيأتي تعريفهما في ص ٢٩٦.

٢٩٣

واحتجّ الشيخ على أنّ سوء المزاج المختلف مؤلم بالذات بوجوه (١) :

الأوّل : «الوجع (٢) قد يكون متشابه الأجزاء في العضو الوجع ، وتفرق الاتصال لا يمكن أن يكون متشابه الأجزاء ، لأنّه لا بدّ من انتهاء القسمة إلى آحاد لا يكون فيها تفرق. فإذن وجود الوجع في الأجزاء الخالية عن تفرق الاتصال لا يكون في (٣) تفرق الاتصال».

اعترض بمنع كون الوجع متشابه الأجزاء في الحقيقة ، ولا يلزم من التشابه في الحس التشابه في الحقيقة ؛ لأنّ التفرقات إذا تكثرت في السطح كان البعض قريبا من البعض وتصغّرت السطوح جدا ، فإذا حصل الألم في موضع التفرّقات ظن الحس كون الوجع متشابها وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك ، لكثرة مواضع التفرقات وقرب بعضها من بعض وصغر ما بينهما من السطوح ، كالأجرام المختلفة لونا إذا سحقت ناعما ومزجت ، أدرك الحس لونا مفردا وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك. ومع قيام الاحتمال يبطل البرهان.

الثاني : «البرد مؤلم حيث يقبض ويجمع وحيث يبرد ، وتفرق الاتصال عن البرد لا يكون حيث يبرد ، بل في أطراف الموضع المتبرد».

اعترض بأنّ الموضع إذا برد انقبض ويعرض من ذلك الانقباض تمدد أطرافه عن أطراف الموضع الحار ، وان تنضغط أجزاؤه المتبردة بعضها في بعض ، وكلا الأمرين سبب لتفرق الاتصال.

__________________

(١) انظر القانون ١ : ١٤٥ ـ ١٤٦. مع تصرفات العلّامة في النقل. وانظر الوجوه أيضا في المباحث المشرقية ١ : ٥١٨ ـ ٥٢٠ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٤٢.

(٢) عرفه الشيخ بأنّه : «أحد الأحوال الغير الطبيعية العارضة لبدن الحيوان.» القانون ١ : ١٤٥. وقال التفتازاني في تعريفه : «والحسي من الألم سيما اللمس يسمى وجعا». شرح المقاصد ٢ : ٣٦٨.

(٣) كذا ، وفي المصدر : «عن».

٢٩٤

أمّا الأوّل : فلأنّه إذا تمدد طرفه عن طرف الموضع الحار انفصل عنه فحصل التفرّق.

وأمّا الثاني : فلأنّ الضغط سبب لتفرق الاتصال ، ولهذا جعلوا الألم الضاغط من أقسام الألم. ولأنّ الموضع المتبرد يمكن أن يكون بعضه أبرد من البعض ، وحينئذ ينفصل الأبرد عن البارد.

الثالث : «الألم (١) احساس بمؤثر مناف بغتة من حيث هو مناف ، والحد ينعكس ، فكلّ (٢) محسوس مناف من حيث هو مناف مؤلم (٣)».

اعترض بأنّ الألم إن كان اسما لادراك المنافي فذلك ممّا لا منازعة فيه ، لكنّا بيّنا أنّ المعنى المخصوص الذي نجده ونسميه الألم لم يثبت أنّه نفس إدراك المنافي أو ما يقارنه ، ومتى كان كذلك لم تكن في هذا الكلام فائدة.

وأيضا ينتقض بسوء المزاج الرطب ، فانّه مدرك مناف فهناك حصل إدراك المنافي مع أنّه لم يوجد الألم.

الرابع (٤) : «لسعة العقرب أشد إيلاما من الجراحة العظيمة ، ولو كان المؤلم هو تفرق الاتصال خاصة لكان ألم الجراح أعظم. فإذن زيادة الألم في لسعة العقرب إنّما حصل من سوء المزاج لا من تفرق الاتصال».

__________________

(١) في المصدر : «الوجع».

(٢) في المصدر : «وكل».

(٣) في المصدر : «موجع».

(٤) هذا الوجه ليس في القانون.

٢٩٥

البحث الرابع

في أنّ المؤلم هو سوء المزاج المختلف (١)

اعلم أنّ المزاج إذا كان على ما ينبغي في الكم والكيف بالنسبة إلى نوع ذلك الشخص فهو المعتدل بالنسبة إليه وإن كان خارجا عن الاعتدال الحقيقي بالنسبة إلى غيره ، فإذا انحرف وخرج عن حدّ الاعتدال بالنسبة إلى ذلك الشخص في بعض الكيفيات فصار بحيث لا ينبغي لذلك الشخص أن يكون على تلك الكيفية فقد بطل عنه ما ينبغي له ، وكان ذلك هو سوء المزاج.

ثمّ إنّ سوء المزاج إن استقر في العضو وأبطل الطبيعة الخاصة بذلك العضو ، سمي سوء المزاج المتفق (٢) ، وإن لم يكن كذلك سمي سوء المزاج المختلف (٣). والمؤلم إنّما هو الثاني دون الأوّل.

واحتج عليه الرئيس بحجّة ومثالين (٤) :

أمّا الحجّة : «فلأنّ المنافاة إنّما تتحقق بين شيئين ، فإذا كان للعضو كيفية

__________________

(١) راجع القانون ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٢٠ ـ ٥٢١ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٤٢ ـ ١٤٤.

(٢) ويسمى بالمستوي أيضا لمشابهته بالمزاج الأصلي في عدم الإيلام ، واستقراره فيه بحيث يصير كأنّه المزاج الطبيعي. راجع شرح المقاصد ٢ : ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(٣) راجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن السادس من طبيعيات الشفاء.

(٤) راجع نفس المصدر ؛ القانون ١ : ١٤٥. مع تصرفات العلّامة في النقل.

٢٩٦

فورد عليه ما يضادها ، فإمّا أن يبطل الوارد كيفية العضو ، فحينئذ لا تبقى هناك كيفيتان متنافيتان فلم تكن المنافاة حاصلة فلم يكن الاحساس بالمنافاة حاصلا ؛ لأنّ الحاس يجب أن ينفعل من المحسوس والشيء لا ينفعل عن الحالة المتمكنة التي لا تغيّره بل عن الضد الوارد المغير إياه إلى غير ما هو عليه. وإن لم يبطل المضاد الوارد كيفية العضو تحقّقت المنافاة بين الوارد وبين كيفية العضو فيتحقق الألم. فلأجل ذلك يكون سوء المزاج المختلف مؤلما ، لا سوء المزاج المتفق» (١).

وأمّا المثالان : فالأوّل : «حرارة صاحب الدق أشدّ كثيرا من حرارة صاحب الغبّ(٢)، مع أنّ صاحب الدّقّ لا يجد من الالتهاب ما يحس به صاحب الغبّ أو صاحب حمّى يوم ؛ لأنّ حرارة الدق ثابتة مستقرة في جوهر الأعضاء الأصلية ، وحرارة الغبّ واردة من مجاورة خلط على أعضاء محفوظة (٣) فيها مزاجها الطبيعي بعد بحيث إذا تنحّى الخلط بقي العضو منها على مزاجه الطبيعي».

الثاني : «إنّ المغافص (٤) بالاستحمام شتاء إذا استحم بالماء الحار ، بل بالفاتر ، عرض منه أذى ؛ لأنّ كيفية بدنه بعيدة عن مضادة إيّاه ، فإذا مكث لحظة استلذ به كما يتدرج إلى الاستحالة عن حالة البرد العاجل ثمّ بعد زيادة المكث يتسخن بدنه أكثر من الأوّل ، فإذا صب عليه الماء الأوّل بعينه بغتة استبرده واقشعر منه».

ويمكن أن يقال : المنافاة إنّما تتحقق بين أمرين لأنّها اضافة تستدعي تعدد

__________________

(١) لصدر المتألهين في هذه الحجّة شك وتحقيق. راجع الأسفار ٤ : ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) حمّى الدّقّ : داء تعرفه العامّة بالسخونة الرفيعة. والغبّ : حمى تنوب يوما بعد يوم ، قال ابن عباد : هي ورد يوم وظمأ يوم ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (زر غبّا تزدد حبا). راجع المحيط في اللغة ٤ : ٥١٩ ؛ تاج العروس ، مادة غبب.

(٣) في المصدر : «محفوظ».

(٤) أي الأخذ على حين غرّة. المنجد ، مادة غفص.

٢٩٧

المضافين ليكون أحدهما منافيا للآخر. فإذا كان لعضو كيفية فورد عليه مضادها ، فإن أبطلها فهناك كيفية واحدة حينئذ ، فلا تتحقق المنافاة فلا يتحقّق ادراك المنافي ، فلا ألم. وإن لم يبطلها تحققت المنافاة فحصل الشعور بها ، فيتحقق الألم ، فلهذا كان المؤلم سوء المزاج المختلف لا المتفق.

٢٩٨

البحث الخامس

في تفصيل اللّذات الحسية (١)

قال جالينوس : الألم واللّذة إنّما يحدثان في الحواس كلّها ، وكلّما كان الحس أكثف كانت مقاومته مع الوارد عليه أكثر فكان الألم واللذة أقوى. ولمّا كان النور ـ الذي يشبه النار التي هي ألطف العناصر ـ في غاية اللطف وهو آلة الابصار فكان الألم واللذة في الابصار أضعف من غيره. ثمّ يتلوه السمع ، لأنّه أقلّ لطافة من البصر لأنّ آلته الهواء المقروع فصارت اللذة والألم من حاسة السمع أكثر من البصر. ثمّ يتلوه الشم ، فانّه أقلّ لطافة من السمع لأنّ محسوسه البخار وهو أغلظ من الهواء. ثمّ يتلوه الذوق ، فانّه أغلظ من الشم لأنّ آلته الرطوبة العذبة (٢) وهي في درجة الماء ، فكانت اللذة في الذوق أكثر من الشم. ثمّ اللمس ، لأنّه أغلظ من جميع الحواس لأنّه في قياس الأرض ، وكانت مقاومته مع الوارد أقوى وأبطأ فكانت اللذة فيه أقوى (٣).

وقد خالفه الشيخ في ذلك فانّه قال في الشفاء (٤) : «من الحواس ما لا لذّة

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٢١ ـ ٥٢٣.

(٢) في جميع النسخ : «الغريبة» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٣) راجع القانون ١ : ١٤٧.

(٤) الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن السادس من طبيعيات الشفاء.

٢٩٩

لها ولا ألم في محسوساتها ، ومنها ما تلتذ وتتألم بتوسط المحسوسات. فالأوّل البصر والسمع ، فإنّ البصر لا يلتذ بالألوان ولا يألم بها ، وكذا السمع ، بل الملتذ والمتألم فيهما النفس من داخل. وأمّا الشم والذوق ، فيألمان ويلتذان إذا تكيفا بكيفية ملائمة أو منافرة.

نعم قد يعرض لآلة السمع والبصر تألم من صوت شديد أو لون مفرّق للبصر كالضوء ، فليس يألم حيث يسمع أو يبصر ، بل من حيث يلمس لأنّه يحدث فيه ألم لمسي ، وكذلك يحدث منه بزوال (١) ذلك لذة لمسيّة.

وأمّا اللمس فإنّه قد يألم بالكيفية الملموسة ويلتذ بها ، وقد (٢) يتألم ويلتذ بغير توسط كيفية من (٣) المحسوس الأوّل بل بتفرق الاتصال والتئامه» (٤).

لا يقال : لا شكّ أنّ الملائم للعين هو الابصار ، وقد حدّ اللذة : بأنّها إدراك الملائم ، فكيف زعم أنّ العين لا تلتذ بذلك؟

لأنّا نقول : لا نسلم أنّ في العين قوة مدركة بل المتصور (٥) والسامع هو النفس ، وهذه آلات لها في هذه الإدراكات ، فاندفع الاشكال.

لكنّه لازم على الشيخ ، لكن له أن يعتذر بأنّ الألوان ليست ملائمة للقوة الباصرة ، فانّه يستحيل اتصاف القوة الباصرة بالألوان. نعم إدراك الألوان ملائم للقوة الباصرة ، والشيخ لم يجعل حصول الملائم لذة ، بل [جعل] اللذة إدراك الملائم ، والقوة الباصرة إذا أبصرت حصل لها الملائم وهو إدراك الألوان ولم يحصل

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «زوال».

(٢) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «فقد».

(٣) في المصدر : «هي».

(٤) انتهى كلام الشيخ ، ووصفه الرازي بانّه الحقّ الصريح.

(٥) كذا في النسخ ، وفي المباحث : «المبصر».

٣٠٠