نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

فإذن القول : بأنّ البسائط لا يصح تعقلها ، يوجب أن لا يعقل الإنسان شيئا أصلا بالحد ولا بالرسم ، لكن التالي ظاهر البطلان ، فالمقدم مثله.

وقوله : «لو عرفنا ماهية الشيء لعرفنا جميع لوازمها».

فنقول : هب أنا لا نعرف حقيقة شيء من الملزومات ، لكن الكلام في البساطة هل تمنع من المعقولية؟ فلقلنا (١) لا نعرف حقيقة الملزومات ، لكنا نعرف لوازمها البسيطة ، وقد بيّنا أنّ العلم بالمعلول لا يوجب العلم بالعلة.

وفيه نظر ، لأنّ البسائط إذا كانت معلومة باعتبار لوازمها كانت معلومة على الإطلاق ، والمركبات إذا حدّت إنّما تحدّ ببسائطها المعلومة بذاتها من غير اكتساب أو بلوازمها ، وتكون المركبات محدودة ، لأنّها عرفت بذكر بسائطها وإن لم تكن البسائط محدودة ولا معلومة الحقائق ، بل ببعض الاعتبارات. ولا يثلم عدم الإحاطة بكنه تلك البسائط في صحة التحديد بها ، وأن يكون المركب منها حدا للمركب منها في نفس الأمر ، فانّه لا يشترط في الحدّ إلّا العلم بالأجزاء مطلقا ، لا العلم بها على سبيل الحقيقة والإحاطة بماهياتها ، فإذا حددنا السكنجبين بأنّه شراب متخذ من الخل والسكر عرفنا حقيقته وإن لم نعرف تركب كل من الخل والسكر من المادة والصورة أو من الجواهر الأفراد.

تذنيب (٢) : من المعلومات ما يكون وجودها في غاية القوة ، وهو الطرف والغاية لما يفرض امتدادا في مسافة الإمكان ، وهو واجب الوجود تعالى وتقدس. وتتلوه الجواهر العقلية المفارقة عند الأوائل والجواهر الروحانية. ومنها ما يكون وجوده في غاية الضعف ، وهو كالطرف الآخر المقابل للأوّل حتى يكون كأنّه مخالط للعدم كالهيولى والزمان والحركة. ومنها ما يكون متوسطا بين الأمرين

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي المخطوطة : «فلعلّنا».

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٠٠ ـ ٥٠١.

٢٢١

كالأجسام والألوان وسائر الكيفيات والكميات.

والعقول البشرية تعجز عن إدراك الأوّل لقوته ، كما تعجز أبصار الخفافيش عن الرؤية في ضياء نور الشمس. وتعجز عن المقابل أيضا لضعفها ونقصانها ، كما يعجز البصر عن إدراك المدركات الضعيفة. وأمّا المتوسط بينهما فهو الذي تقوى النفوس البشرية على إدراكه والإحاطة به ، ولهذا كانت معرفة الأجرام فلأبعاد (١) أسهل من معرفة سائر الأشياء.

المسألة السابعة عشرة : في تفسير العقل (٢)

للإنسان قوتان :

__________________

(١) كذا ، وفي عبارة الرازي : «والأبعاد».

(٢) العقل في اللغة على معنيين : الأوّل : الادراك والفهم. الثاني : القيد والمانع. وفي الاصطلاح يطلق على أشياء كثيرة ، يذكر الفارابي ستة منها :

الأوّل : العقل الذي يقوله الجمهور في الانسان : أنّه عاقل وفاضل وجيد الروية في استنباط ما ينبغي أن يؤثر من خير ، أو يجتنب من شر.

الثاني : العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون : هذا مما يوجبه العقل وينفيه العقل.

الثالث : العقل الذي يذكره أرسطوطاليس في كتاب البرهان بأنّه : القدرة على استيعاب مبادئ القياس الأوّلي وذلك بمجرد الطبع والفطرة.

الرابع : العقل الذي يذكره في المقالة السادسة في كتاب الأخلاق ، وأنّه ضرب من الاعتياد الذي يتم بالتجربة والاختبار. وهو يمكّننا أن نتوصل بشيء من الفطنة إلى أحكام صائبة في باب الخير والشر.

الخامس : العقل الذي يذكره في المقالة الثالثة من كتاب النفس والذي جعله أرسطو طاليس على أربعة أنحاء : عقل بالقوة ، عقل بالفعل ، عقل مستفاد ، عقل فعال.

السادس : العقل الذي يذكره في كتاب ما بعد الطبيعة. راجع مصطفى غالب ، الفارابي : ٨٢ ـ ٩٠ (معاني العقل عند الفارابي). ـ

٢٢٢

عالمة وعاملة (١) ، فالعاملة : هي العقل العملي (٢) ، وهو مقول بالاشتراك على

__________________

ـ قال ابن سينا : «العقل : اسم مشترك لمعان عدة فيقال عقل لصحة الفطرة الأولى في الناس ، فيكون حده أنّه قوة بها يجود التمييز بين الأمور القبيحة والحسنة.

ويقال عقل لما يكسبه الانسان بالتجارب من الأحكام الكلية ، فيكون حدّه أنّه معان مجتمعة في الذهن تكون مقدمات تستنبط بها المصالح والأغراض.

ويقال عقل لمعنى آخر وحدّه أنّه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وسكوناته وكلامه واختياره. فهذه المعاني الثلاثة هي التي يطلق عليها الجمهور اسم العقل.

وأمّا الذي يدل عليه اسم العقل عند الحكماء فهي ثمانية معان : أحدها : العقل الذي ذكره الفيلسوف في كتاب البرهان وفرّق بينه وبين العلم ، فقال ما معناه : هذا العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة ، والعلم ما حصل بالاكتساب. ومنها العقول المذكورة في كتاب النفس. فمن ذلك العقل النظري والعقل العملي». الحدود (التعريفات) : ١١ ـ ١٢.

وقال الجرجاني : «العقل جوهر مجرد عن المادة ، مقارن لها في فعله ، وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله : أنا.

وقيل : العقل : جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقا ببدن الإنسان.

وقيل : العقل : نور في القلب يعرف الحق والباطل.

وقيل : العقل : جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف.

وقيل : العقل : قوة للنفس الناطقة ، وهو صريح بأنّ القوة العاقلة أمر مغاير للنفس الناطقة ، وأنّ الفاعل في التحقيق هو النفس والعقل آلة لها ، بمنزلة السكين بالنسبة إلى القاطع.

وقيل : العقل والنفس والذهن ، واحد ، إلّا أنّها سميت عقلا لكونها مدركة ، وسمّيت نفسا لكونها متصرفة ، وسمّيت ذهنا لكونها مستعدة للإدراك ... والصحيح أنّه جوهر مجرد يدرك الفانيات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة». التعريفات : ١٩٦ ـ ١٩٧.

انظر أيضا تفصيل هذا البحث في الكليات لأبي البقاء ٣ : ٢١٦ ـ ٢١٩.

(١) وقد قسّم القوم قوى النفس الناطقة إلى نظرية وعملية ، فانظر كلماتهم في المصادر التالية.

فصوص الحكم : ٨١ ؛ شرح الإشارات ٢ : ٣٥٢ ـ ٣٥٨ ؛ الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ؛ رسائل الشيخ ، رسالة في النفس : ٢٠٥ ؛ طبيعيات النجاة : ١٦٣ ـ ١٦٥ ؛ ابن سينا ، الحدود (التعريفات) : ١٢ ؛ التحصيل : ٧٨٩ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٨٥ ؛ كشف المراد : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ؛ شرح المواقف ٦ : ٤٣ ـ ٤٩ ؛ الأسفار ٣ : ٤١٨.

(٢) يسمى باليونانية : «نوس براكتيكوس». راجع رسائل الشيخ ، رسالة في النفس : ٢٠٧.

٢٢٣

معان ثلاثة ؛ فإنّ الأفعال الإنسانية قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة ، والعلم بالحسن والقبيح قد يكون ضروريا وقد يكون كسبيا ، واكتسابه إنّما يكون بمقدمات تلائمها ، فإذن هنا أمور ثلاثة :

الأوّل : القوة التي بها يميز الإنسان بين الحسنة والقبيحة.

الثاني : المقدمات التي تستنبط منها الأمور الحسنة والقبيحة.

الثالث : نفس الأفعال التي توصف بأنّها حسنة أو قبيحة. واسم العقل العملي يقع على هذه المعاني الثلاثة بالاشتراك.

وأمّا القوة النظرية : فإنّ الحكماء يطلقون اسم العقل تارة على هذه القوة ، وتارة على الإدراكات التي لها.

أمّا الأوّل ، فإنّ النفس الإنسانية قابلة لإدراك حقائق الأشياء ، لكنها في مبدأ الفطرة خالية عن الجميع فتكون كالهيولى بالنسبة إلى الصور ليس لها إلّا طبيعة الاستعداد والقبول لا غير ، فلهذا سميت بالعقل الهيولاني للمشابهة بينها وبين الهيولى.

وإن لم تكن خالية ، بل اتصفت بالعلوم الضرورية ، فهي العقل بالملكة (١) ، لقدرتها على اكتساب النظريات وحصول ملكة الاستنتاج.

وإن حصل لها مع الضروريات النظريات لا بالفعل ، بل تكون بحالة متى شاءت استحضرتها بمجرد التعقل [و] التذكر والتفات النفس إليها فتسمى حينئذ عقلا بالفعل.

__________________

(١) الملكة : صفة وكيفية راسخة في النفس ، تقابلها الحال وهي سريعة الزوال ، فإذا تكررت تلك الصفة ومارستها النفس حتى رسخت فيها وصارت بطيئة الزوال تسمّى ملكة. راجع الجرجاني ، التعريفات : ٢٩٦.

٢٢٤

وإن كانت حاضرة بالفعل حاصلة بالحقيقة سميت عقلا مستفادا.

فاسم العقل واقع على هذه القوى النفسانية الخمس بالاشتراك.

وقد يقال : العقل لكل جوهر مجرد عن المادة ولواحقها البتة ، هذا على رأي الأوائل.

وأمّا المتكلمون (١) فالمشهور عندهم أنّ العقل الذي هو مناط التكليف (٢) : هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ، لأنّ العقل لو لم يكن من قبيل العلوم لأمكن انفكاكه عنها ، فيصح وجود العقل من دون علم ووجود علوم كثيرة بغير عقل ، وهو محال لاستحالة وجود عاقل لا يعلم شيئا أصلا ، ووجود عالم بجميع الأشياء ولا يكون عاقلا. وليس هو العلم بالمحسوسات لحصوله في البهائم والمجانين ، فهو إذن علم بالأمور الكلية. وليس من العلوم النظرية ؛ لأنّها مشروطة بالعقل ، فلو كان العقل عبارة عنها كان الشيء شرطا في نفسه ، وهو محال. فإذن هو علم بأمور كلّية ضرورية.

واعترض : بأنّ التغاير لا يقتضي الانفكاك ، ولا جوازه ؛ فإنّ الأشياء قد تتلازم وتتغاير كالجوهر والعرض ، فإنّه لا يمكن خلو أحدهما عن صاحبه وهما متغايران ، وكذا العلة والمعلول ، والمضاف والمضاف إليه أمور متلازمة متغايرة. فجاز أن يكون العقل أمرا مغايرا للمعلوم وإن كان ملازما لها. على أنّا نمنع التلازم ، فإنّ النائم عاقل مع أنّه لا يعلم شيئا حينئذ ، واليقظان الغافل عن جميع الأشياء عاقل مع أنّه لا يستحضر شيئا من وجوب الواجبات واستحالة المستحيلات.

وأبو الحسن الأشعري ، قال : العقل علوم خاصة.

__________________

(١) راجع نقد المحصل : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) أي لا يصح التكليف من الله سبحانه بدونه.

٢٢٥

وزادت المعتزلة في العلوم التي يشتمل عليها العقل ، العلم بحسن الحسن وقبح القبيح ، لأنّهم يعدونه في (١) البديهيات.

وقال القاضي أبو بكر : العقل هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ومجاري العادات (٢).

وقال المحاسبي (٣) ـ من أهل السنّة ـ : هو غريزة يتوصل بها إلى المعرفة.

قال مشايخ المعتزلة : العقل : عبارة عن جملة من العلوم متى حصلت سمّي عقلا ، وإذا انفرد البعض عن البعض لم يسم عقلا. وهذه الجملة لا تخرج عن أن تكون علما بالأعيان وأحوالها ، أو علما بالأفعال وأحكامها. فأوّل هذه العلوم في الرتبة وأقواها علم الإنسان بنفسه وأحوال نفسه أو كثير منها. ويتبعه في الجلاء والقوة العلم بالمدركات عند السلامة. ويتبعه العلم بما لا يدركه انّه ليس. ويتبعه انّه لو كان لأدركه.

ثم يجب أن تحصل له علوم القسمة كالعلم بأنّ المعلوم : إمّا موجود ، أو معدوم. وأنّ الموجود : إمّا قديم ، أو محدث. وأن يعلم امتناع حصول الجسم الواحد

__________________

(١) كذا ولعلها : «من».

(٢) أي المعلومات التي تستفاد من جريان العادة. راجع شرح المواقف ٦ : ٤٧.

(٣) في المخطوطة : «المحاسعى» وهو من تصحيف الناسخ والصحيح ما أثبتناه طبقا لنقل الطوسي في نقد المحصل. وهو أبو عبد الله حارث بن أسد المحاسبي (... ـ ٢٤٣ ه‍) من أكابر الصوفية. كان عالما بالأصول والمعاملات ، واعظا مبكيا ، وله تصانيف في الزهد والرد على المعتزلة وغيرهم. ولد ونشأ بالبصرة ومات ببغداد. وهو أستاذ أكثر البغداديين في عصره. وقيل : إنّ الحارث تكلم في شيء من «الكلام» فهجره أحمد بن حنبل ، فاختفى في داره ببغداد ومات فيها ولم يصل عليه إلّا أربعة نفر.

من كتبه : آداب النفوس ، شرح المعرفة ، مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه و....

راجع : تهذيب التهذيب ٢ : ١٣٤ ؛ صفة الصفوة ٢ : ٢٠٧ ؛ ميزان الاعتدال ١ : ١٩٩ ؛ حلية الأولياء ١ : ٧٣ ؛ تاريخ بغداد ٨ : ٢١١.

٢٢٦

في وقت واحد في مكانين. وأن يعلم أنّه يتعذر عليه حضور جسمين دفعة في مكان واحد.

ويجب أن يعلم أنّ تعلق الفعل بفاعله على طريق الجملة. وأن يعلم مقاصد المخاطبين ما ظهر منها دون الخفي. وأن يعلم بعد التجربة أنّ الزجاج يتكسر بالحديد ، والقطن يحترق بالنار. وأن يعلم قبح كثير من المقبّحات ، وحسن كثير من المحسّنات ، ووجوب كثير من الواجبات.

ويجب أن يعلم ويحفظ عند الدرس والممارسة الطويلة فلا يجوز وهو كامل العقل أن يقرأ آية ألف مرة ولا يعرفها. وأن يتذكر الأمور العظام التي وقعت منه.

ثم اختلف الشيخان ، فذهب أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم في مسائل عبد الله بن العباس ، أنّه يجب أن يحصل له العلم بمخبر الاخبار ، ومنعه أبو هاشم أخيرا ، وقال : إنّما يجب لورود السمع وثبوت تكاليف علّمها متعلقة بالأخبار. فأمّا لو تجرد العقل لم يكن لازما لشيء يرجع إلى كمال العقل أن يعرفه ، فهذه الجملة هي التي تعدّ في كمال العقل.

واعلم أنّ أبا علي قال : إنّ العلم بقبح أصول المقبحات ووجوب أصول الواجبات وحسن أصول المحسنات ، ليس من أجزاء علوم العقل حتى لا يصح حصوله إلّا فيمن هو كامل العقل ؛ فإنّها قد تثبت للصبيان والمراهقين وغيرهم من دون كمال العقل. وعلى هذا أجرى أبو عبد الله البصري (١) كلامه في كتاب الوعيد ،

__________________

(١) أبو عبد الله البصري (... ـ ٣٦٧ ه‍) الحسين بن علي بن إبراهيم الكاغدي المعروف بالجعل. أخذ عن أبي علي بن خلاد أوّلا ثم أخذ عن أبي هاشم ، لكنه بلغ بجدّه واجتهاده ما لم يبلغه غيره من أصحاب أبي هاشم ، وكان يسكن بغداد ، ويميل إلى علي ـ عليه‌السلام ـ ميلا عظيما وصنّف كتاب التفضيل وأحسن فيه غاية الإحسان. راجع طبقات المعتزلة : ١٠٥ ـ ١٠٦.

٢٢٧

ومنع أبو هاشم من ذلك ، وإليه ذهب أبو علي ابن خلّاد (١) ، وبه قال أبو اسحاق ابن عياش (٢) ، لأنّ من الواجب ثبوت التفرقة بين كامل العقل وغيره ، ومعلوم أنّ الصبي قد تجتمع له العلوم السابقة ، فلو حصل هذا الواحد أيضا لبطلت التفرقة فيجب أن لا يعلم قبح القبيح إلّا عند كمال عقله وعند علمه بذلك يستحق الذم إذا أقدم عليه ؛ لأنّ المقتضي لاستحقاق الكامل العقل الذم عند فعله للقبيح هو علمه بقبحه ، فلو ساواه الطفل في هذا العلم وجب مساواته له في استحقاق الذم.

لا يقال : يفرّقان بأن غير العاقل يعلم قبح البعض دون البعض ، والعاقل يعلم قبح أصولها أجمع.

لأنّا نقول : لا فرق بين بعض منها وبين ما عداه ، فلهذا لم يصح في العاقل أن يعلم قبح الظلم ويخفى عنه قبح الكذب الخالي عن المنفعة ودفع المضرة ، لأنّها كلها ضرورية ، فإذا لم يجز الفرق بينها في العاقل لم يجز في غيره ، والملازمة ممنوعة ، وعدم الفرق ممنوع.

__________________

(١) أبو علي بن خلّاد من (الطبقة العاشرة في طبقات المعتزلة) : صاحب كتاب الأصول والشرح. درس على أبي هاشم بالعسكر ثم ببغداد. وكان في الابتداء بعيد الفهم ، فربما بكى لما يجد نفسه عليه ، فلم يزل مجاهدا لنفسه حتى تقدم على غيره. قال القاضي : وكان على إتمام كتاب الشرح فاتّفق له المقام في البصرة ... ولم يبلغ الشيخوخة. راجع طبقات المعتزلة : ١٠٥.

(٢) أبو اسحاق إبراهيم بن عيّاش البصري (من الطبقة العاشرة في طبقات المعتزلة) : قال القاضي : وهو الذي درسنا عليه أوّلا ، وهو من الورع والزهد والعلم على حدّ عظيم ، وكان رحل إليه من بغداد قوم فيجمعون مجلسه إلى مجلس أبي عبد الله البصري. وكان مع مواصلته لأبي هاشم كثر أخذه عن أبي علي بن خلّاد ثم عن الشيخ أبي عبد الله ثم انفرد. وله كتاب في إمامة الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ وفضلهما وكتب أخر حسان. راجع طبقات المعتزلة : ١٠٧.

٢٢٨

واعلم أنّ الحق في هذا الباب عندي ما اختاره الأفضلان (١) من أنّ العقل غريزة تلزمها العلوم الضرورية عند سلامة الآلات.

المسألة الثامنة عشرة : في تفسير ألفاظ في هذا الباب (٢)

الأوّل : الإدراك لغة : اللقاء والوصول. وفي اصطلاح الحكماء كذلك ، لأنّ المدرك يصل إلى ماهية المدرك لأجل انطباع صورته فيه (٣).

الثاني : الشعور : وهو إدراك بغير استثبات ولا تصور تام ، وهو أوّل مراتب وصول المعنى إلى النفس ؛ فإذا حصل وقوف النفس على تمام ذلك المعنى قيل له «تصوّر» ؛ فإذا بقي بحيث إنّه لو أراد استرجاعه بعد ذهابه رجع ، قيل له «حفظ» ؛ ولذلك الطلب «تذكر» ؛ ولذلك الوجدان «ذكر».

الثالث : المعرفة : قيل : إنّها إدراك الجزئيات.

الرابع : العلم : قيل : [إنّه] إدراك الكليات.

وقيل : إذا أدركنا شيئا فانحفظ أثره في أنفسنا ثم أدركناه ثانيا ، وأدرك مع

__________________

(١) وهما الرازي والطوسي ، قال الرازي بعد نقل المشهور من المتكلمين في تعريف العقل : «وعند هذا ظهر أنّ العقل : غريزة تلزمها هذه العلوم البديهية عند سلامة الآلات». واستحسنه الطوسي وقال : «وما ذهب إليه المصنّف هو الصواب». راجع نقد المحصل : ١٦٣. وقال المؤلف في شرح كلام الطوسي : «هذا هو الحق في تفسير العقل» راجع كشف المراد : ٢٣٤.

ولعلّهم استفادوه من باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : «العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب» غرر الحكم ودرر الكلم ١ : ٦٧. وقال أيضا : «العقل مركب العلم» نفس المصدر ١ : ٢٩. وهذا تعريف جامع لأكثر ما قاله المتكلمون والحكماء ونرى تعاريفهم قريبة من كلامه ـ عليه‌السلام ـ ، فتأمل جيدا.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٨٩ ـ ٤٩٠.

(٣) راجع شرح الاشارات ٢ : ٣٠٨.

٢٢٩

إدراكه له أنّه هو ذلك المدرك الأوّل ، قيل للإدراك الثاني بهذا الشرط «معرفة» ، كما يقال: عرفت الرجل ، وهو الذي رأيته في وقت كذا. فالمعرفة : تكرار التصور ، والتصور : استقرار الإدراك.

وقيل : المعرفة والعلم كما ينسبان إلى الجزئي والكلي ، فقد ينسبان إلى الإدراك المسبوق بالعدم ، أو إلى الأخير من إدراكين لشيء واحد يتخلل بينهما عدم ، وإلى التجرد عن هذا الاعتبار ، ولهذا لا يوصف الله تعالى بالعارف ويوصف بالعالم. وقد ينسبان إلى البسيط والمركب ، ولهذا يقال عرفت الله ، ولا يقال علمته ، لأنّ المعرفة مختصة بالتصور والعلم بالتصديق فكان العلم تصور بغير تصديق فكان ركنا.

الخامس : الفهم : تصور المعنى من لفظ المخاطب ، والإفهام : إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع.

السادس : التصديق : هو الحكم بالنسبة بين متصورين إيجابا أو سلبا.

فكل إدراك لا يخلو إما أن يكون المدرك حاصلا بحيث لا يكون منسوبا (١) إلى شيء آخر أنّه هو أو ذو هو ، أو بأنّه ليس هو ولا ذو هو ، وإما أن تتحقق فيه هذه النسبة ، والأوّل تصوّر ، والثاني تصديق.

ومن عاند بينهما بقوله : الإدراك إمّا تصور أو تصديق ، أخطأ لعدم التعاند بين الشرط والمشروط.

فالصحيح أن يقال : التصور إما أن لا يكون معه تصديق أو يكون. والصدق : هو أن يكون حكمك بتلك النسبة مطابقا لما في الوجود. والتصديق : هو الاعتراف بهذه المطابقة ، وقبول ذهن السامع لذلك. والكذب : مخالفة الحكم للوجود. والتكذيب : الاعتراف بهذه المخالفة.

__________________

(١) ق : «مسبوقا».

٢٣٠

المسألة التاسعة عشرة : في أنّ المعدوم كيف يعلم؟ (١)

اعلم أنّ الناس اختلفوا في أنّ المعدوم هل هو ثابت في الخارج أو لا؟ وقد سبق. فالقائلون بثبوته يمكنهم القول بكون المعدوم معلوما ؛ لأنّ له متعلقا ثابت الذات خارجا عن الذهن فأمكنت الإضافة إليه.

ومن قال : إنّ المعدوم ليس بثابت في الخارج ورد عليه الإشكال ؛ لأنّ المعلوم متميّز وكل متميّز ثابت ، والعدم المطلق ليس بثابت ، فلا يكون معلوما. مع أنّا نعلم كثيرا من المعدومات كالشريك ، واجتماع النقيضين. فالحكيم افلاطون خلص بمثل ما خلص به الأوائل من المتكلمين ؛ لأنّه أثبت المثل وجعل لكل معقول أمرا كليا في نفس الأمر ثابتا في الخارج موجودا عينيا. وهو مع فساده غير مفيد للغرض ؛ لأنّا قد نعلم ما هو ممتنع كشريك الباري واجتماع النقيضين ، ولا يمكن أن تكون ثابتة في الخارج.

وأجيب (٢) : بأنّ البسيط كعدم ضد الله تعالى يعقل لأجل تشبهه بأمر موجود ، فيقال : ليس لله تعالى شيء نسبته إليه نسبة السواد إلى البياض ، فلو لا معرفة المضادّة الحاصلة بين أمور وجودية ، وإلّا (٣) لاستحال معرفة عدم ضد الله تعالى. وإن كان مركبا كعدم اجتماع الضدين ، فالعلم به يتم بسبب العلم بأجزائه الوجودية مثل : أن يعقل السواد والبياض والاجتماع حيث يعقل ثبوته ، ثم يقال : الاجتماع أمر وجودي معقول ليس حاصلا للسواد والبياض. فالحاصل أنّ عدم البسائط إنّما يعرف بالمقايسة إلى الأمور الوجودية ، وعدم المركبات إنّما يعرف بمعرفة بسائطها.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٠٠ ؛ نقد المحصل : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) الجواب من الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٥٠٠ ، وانظر بقية الأجوبة والاعتراضات في نقد المحصل : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٣) ليست في المباحث المشرقية.

٢٣١

وأجيب أيضا : بأنّ المعدوم لو لم يكن معلوما لكان تخصصه باللامعلومية يستدعي تصوّره ، لأنّ ما لا يتصوّر لا يصح الحكم عليه.

وأجيب أيضا : بأنّ المعدوم المتصور ثابت في الذهن ، ولا استبعاد في أن يكون المعدوم في الخارج ثابتا في الذهن.

اعترض بأنّ الثابت في الذهن أخص من مطلق الثابت ، فيكون المعدوم هنا ثابتا ، وكلامنا في مقابل مطلق الثابت ، وهو العلم بغير الثابت مطلقا ، وليس كلامنا في ثابت خاص. ولأنّ الثبوت الذهني مشكل ؛ لأنا إذا علمنا أنّ شريك الله تعالى معدوم ، فحضور الشريك في الذهن محال ، لأنّ الشريك هو الذي يجب وجوده لذاته ، والحاضر في الذهن ليس كذلك.

لا يقال : الحاضر في الذهن تصور الشريك لا نفس الشريك.

لأنّا نقول : فيعود الاشكال لأنّ البحث إنّما وقع عن متعلق هذا التصور ، فإنّه إن كان نفيا محضا فكيف حصل التميّز؟ وإن كان ثابتا فثبوته إما في الذهن أو في الخارج ، وفيه ما مرّ.

قال أفضل المحققين : المعدوم في الخارج ثابت في الذهن من حيث هو موصوف بالمعلومية ، وهو محكوم عليه من الحيثيّة المعلومة بالثبوت الذهني وليس بين الحكمين تناقض ؛ لأنّ موضعهما ليس شيئا واحدا ، وهكذا غير الثابت المطلق الشامل للخارجي والذهني محكوم عليه بالثبوت من هذه الحيثيّة ، ومسلوب عنه الثبوت مع عدم اعتبار هذه الحيثيّة.

وقوله : «شريك الباري تعالى هو الذي يجب وجوده لذاته ، والحاضر في الذهن ليس كذلك» ، فالجواب أنّ مفهوم الشريك هاهنا يشتمل على مماثلة بين متغايرين ، وذلك يوجب الاشتراك من حيث المماثلة وامتناع الوجود من حيث مغايرته لذات الله تعالى. والموصوف بالامتناع محكوم عليه بسلب الوجود الخارجي من حيث ثبوت هذا الوصف العنواني له في الذهن ، وغير محكوم عليه من غير

٢٣٢

اعتبار هذا الوصف ، بل هو محكوم عليه بالوجوب من حيث المماثلة ، ومتعلق كل وصف منهما معلوم من جهة كونه متعلقا وغير معلوم من غير تلك الجهة.

المسألة العشرون : في تحقيق قولهم : نفس الأمر (١)

سألت شيخنا أفضل المحققين نصير الملة والحق والدين ـ قدس الله

__________________

(١) اختلفت كلمات الفلاسفة في المعنى الاصطلاحي لكلمة «نفس الأمر» ؛ فقال بعضهم : إنّ المراد منها نفس الشيء في حدّ ذاته على أن يكون المراد بالأمر هو الشيء نفسه ، واستعمل اسم الظاهر (الأمر) مكان الضمير ، فبدلا من القول : «هذا كذا في نفسه» يقال : «هذا كذا في نفس الأمر» ، فيقصد مثلا من قولهم: «العدم باطل في نفس الأمر» انّه باطل في نفسه ، قال به اللاهيجي في المسألة الثلاثين من الفصل الأوّل من شوارق الالهام ، وميرداماد في القبسات : ٣٨٦.

وقال بعضهم : إنّ المراد منها عالم الأمر وهو عبارة عن عقل كلي فيه جميع المعقولات ويقصد من مطابقة قضية مع نفس الأمر : مطابقتها مع الصور المعقولة عنده. ويعبر عنه أيضا ب «العقل الفعال» ذهب إليه المحقق الطوسي ، كما يأتي ، ولكن عبّر عنه ب «العقل الأوّل» ، وهما بحسب التعبير مختلفان بل هما مذهبان ، إلّا أنّه يمكن التوفيق بينهما بلحاظ المراتب والطولية للعقول بأن يكون «نفس الأمر» في أعلى مراتبه هو العقل الأوّل وفي أدناها هو العقل الفعال.

وهي عند العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان : ما يعتبره العقل ظرفا لمطلق الثبوت الشامل لمراتبه الثلاث وهي : ثبوت الوجود وثبوت الماهية وثبوت المفاهيم الاعتبارية.

والظاهر أنّ العلّامة الحلّي أوّل من بحث عن حقيقة هذه الكلمة وطرحها في كتبه الكلامية حيث قال في شأن البحث عنها : «وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب». كشف المراد : ٧٠.

وقال في المصدر نفسه : «وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه [المحقق الطوسي] ـ رحمه‌الله ـ جرت هذه النكتة وسألته عن معنى قولهم : إنّ الصادق في الأحكام الذهنية هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر ... فقال ـ رحمه‌الله ـ المراد بنفس الأمر هو العقل الفعال ...».

وجدير بالذكر أنّه قد يستعمل «نفس الأمر» مرادفا للواقع ومقابلا لوعاء الاعتبار ، كما أنّه قد يعمّم إلى الواقع الخارجي والذهني والاعتباري.

راجع : الأسفار ١ : ٦٠ ، ٦٥ ، ١٥٠ ، ٣٤٤ ، ٣٥٠ ، ٣٦٥ ـ ٣٧٢ و ٧ : ٢٧٦ ـ ٢٨١ ؛ كشف المراد : ٧٠ ويقول العلّامة حسن زاده الآملي في تعليقته على هذا الكتاب : «قد صنفنا رسالة في نفس الأمر ، وقد فرض علينا تأليفها سؤال العلّامة وجواب المحقق الطوسي إياه» ؛ شوارق الالهام : المسألة الثلاثون من الفصل الأوّل ؛ القبسات : ٣٩ ، ٤٧ ، ٣٨٥ ـ ٣٨٧ ؛ نهاية الحكمة : ١٥.

٢٣٣

روحه ـ عن معنى قولهم : هذا الحكم صادق لأنّه مطابق لما في نفس الأمر. ويذكرون ذلك في الأحكام التي لها في الخارج ما يطابقها كقولنا : الكل أعظم من الجزء ، وما لا يكون كقولهم : اجتماع النقيضين محال ، وشريك الباري ممتنع ، والخلاء محال ، مع انّه لا وجود لهذه الأشياء في الخارج ، مع جزمهم تارة بأنّ الأحكام الصادقة ما يطابق الخارجي وتارة ما يطابق ما في نفس الأمر. ولما انتفى وجود هذه الأشياء في الخارج لم يبق للأوّل اعتبار فيها ، بل للثاني. فما المراد بنفس الأمر حينئذ حيث انتفى عنها الوجود الخارجي حتى يكون الصدق باعتبار التطابق بينه وبين الذهني؟ ويجزمون أيضا بأنّ ما يعتقده الجهال بخلاف ذلك ، أنّه ليس بصادق ؛ لأنّه ليس مطابقا لما في الخارج ولا لما في نفس الأمر ، كما لو اعتقد معتقد إمكان الشريك واجتماع النقيضين ووجود الخلاء.

فأجاب ـ قدس الله روحه ـ : بأنّ المراد بنفس الأمر هو : العقل الأوّل ، لأنّ المطابقة لا تتصور إلّا بين متغايرين ولو بالشخص ، ولا بدّ من اتحادهما فيما به التطابق. ولا شك في أنّ الأحكام الصادقة والأحكام الكاذبة معا تتشاركان في الثبوت الذهني ، لكن يجب (١) أن يكون للصنف الأوّل وجود خارج عن أذهاننا بحيث تعتبر المطابقة بين ما في أذهاننا وبينه وهو المراد بنفس الأمر. وذلك الثابت ليس قائما بنفسه ، وإلّا لزم القول بالمثل الافلاطونية فيكون قائما بغيره مجرد عن المادة وعلائقها ، وإلّا لكانت الصور المنطبعة فيه محسوسات لا كليات. وتثبت فيه تلك الأشياء بالفعل لامتناع المطابقة بالفعل بين ما هو بالفعل وبين ما هو بالقوة. وأيضا لا يمكن أن يزول ، أو يتغير ، أو يخرج إلى الفعل بعد ما كان بالقوة ، ولا في وقت من الأوقات ، لأنّ الأحكام المذكورة ثابتة دائما غير متغيرة في وقت من الأوقات ، فإنّه لا وقت من الأوقات يرتفع فيه الحكم بامتناع اجتماع النقيضين ،

__________________

(١) ق : «لا يجب».

٢٣٤

فوجب أن يكون محلها كذلك لامتناع ثبوت الحالّ بدون محله.

ولا يجوز أن تكون هذه الصور مرتسمة في واجب الوجود تعالى لامتناع تكثره ، بل هو جوهر مجرد تتمثل فيه جميع المعقولات.

والاعتراض (١) : لا يلزم من اشتراك العلم والجهل المركب في الوجود الذهني واختلافهما في المطابقة واللامطابقة أن يكون للصورة العلمية متعلق ثابت في الخارج عن أذهاننا ، بل تكفي مطابقتها لمتعلقها سواء كان متعلقها ثابتا في الذهن أيضا (٢) ، كحكمنا بأنّ العلم والجهل المركب لهما وجود في الذهن ، أو ثابتا في الخارج ، كحكمنا بأنّ النار حارة ، أو ليس ثابتا في واحد منهما ، كحكمنا بأنّ شريك الباري ممتنع الوجود في نفس الأمر.

لا يقال : امتناع شريك الإله معلوم فهو موجود في الذهن ، فكيف حكمتم بأنّه ليس في الذهن ، ولا في الخارج؟

لأنا نقول : حكمنا شريك الإله ممتنع الوجود في نفس الأمر ، متعلّقه ليس شيئا في الذهن فإنّا لم نحكم في الحكم على شيء ذهني أنّه في الذهن حالة كذا مثل ما حكمنا في حكمنا بأنّ العلم والجهل المركب لهما وجود في الذهن على شيء ذهني هو العلم والجهل بأنّ الوجود الذهني ثابت له ، وإنّما حكمنا بقولنا شريك الإله ممتنع الوجود على الشيء في نفس الأمر. ولما لم يكن متعلقه شيئا ذهنيا صح أنّ متعلقه ليس موجودا في الذهن ، بل الموجود في الذهن نفس هذا الحكم لا متعلقه ، ولا شك في وجود جميع الأحكام في الذهن (٣) ، إنّما الكلام في متعلقاتها.

فالعلم يجب أن يكون مطابقا لمتعلقه ، أي حال الشيء في نفسه ، فإن (٤) كان

__________________

(١) من المصنّف على جواب الطوسي.

(٢) ق : «هنا».

(٣) ق : «في الذهن» ساقطة.

(٤) ق : «وإن».

٢٣٥

الحكم الذهني ، بثبوت شيء خارج الذهن على شيء كان شرط كونه علما أن يكون للشيء ثبوت خارج الذهن في نفسه وله مع ذلك ثبوت خارج الذهن للموصوف به. وإن كان الحكم الذهني بسلب شيء عن شيء خارج الذهن ، لم يشترط في كونه علما أن يكون للمسلوب عنه وجود خارج الذهن ولا للحكم ثبوت خارج الذهن ، كما نقول : طلوع الشمس غدا ليس من المغرب ، فهذا الحكم علم وليس لمتعلقه ثبوت خارج الذهن ، وهو مطابق لمتعلقه ، فإنّ طلوع الشمس المعدوم ليس من المغرب ثابت له في نفس الأمر. فلا يتم قوله : إنّه يجب أن يكون للصورة الذهنية التي هي علم ثبوت خارج عن أذهاننا.

ثم الأحكام الصادقة كما تقع في الكليات تقع في الجزئيات ، كقولنا : زيد حيوان ، فيجب ارتسامه في شيء حتى تتحقق المطابقة ، ولا يجوز أن يكون هنا ما أشرتم إليه لامتناع ارتسام الجزئيات فيه عندكم.

ولأنّ تلك الصور المرتسمة في ذلك المجرد صادقة لأنّها طابقت الأحكام الذهنية الصادقة ، ولا معنى للصادق إلّا ما يطابق ما في نفس الأمر ، فتلك الصور أيضا مطابقة لما في نفس الأمر ، فلا يكون هو نفس الأمر لامتناع مطابقة الشيء لنفسه (١).

ولأنّ المراد بنفس الأمر إذا كان هو الصورة الحالّة في الذات المجردة ، كانت ذات ذلك المجرد متقدمة على تلك الصورة التي هي نفس الأمر ، وذات ذلك المجرد عالمة بذاتها (٢) ، وإنّما يتحقق العلم بكونه مطابقا بالفعل لما في نفس الأمر لامتياز ماهية الحكم العملي (٣) عن الجهل بهذا القيد ، وكون العلم مطابقا بالفعل

__________________

(١) واكتفى العلّامة الطباطبائي بهذا الاشكال على رأي الطوسي ، فراجع.

(٢) ج : «بذاته».

(٣) كذا.

٢٣٦

لما في نفس الأمر لا يتحقق إلّا بتحقق ما في نفس الأمر الذي طابقه علم ذلك المجرد بذاته متقدما على كل ما يسمى نفس الأمر ؛ لأنّ علم العقل بذاته عين ذاته ، فيلزم تقدم الشيء على نفسه.

والوجه عندي (١) أن يقال : المعلوم إمّا تصور ، وإمّا تصديق ، ولما كان للذهن أن يتصور جميع الأشياء حتى ما يرتسم فيه من الصور إن أثبتناها ، أو من الإضافات كان متعلق التصور قد يكون خارجيا ، وقد يكون ذهنيا. فالأوّل يمكن فيه المطابقة لتعدد الملحوظ في الذهن والموجود في الخارج. والثاني قد تثبت فيه المطابقة أيضا لكن ما لحظه الذهن بالنسبة إلى الملحوظ الذهني يكون قد أخذ مقيسا إلى أمر ذهني اعتبره العقل ولم يجعله آلة ، بل منظورا فيه.

وأمّا التصديق فإنّه حكم عقلي لا غير فالصادق منه (٢) ما وافق الحكم العقلي الذي لا تشوبه معارضة الوهم والخيال ، إما ابتداء ، أو بواسطة ؛ فانّه ليس في الخارج ، الحكم بأنّ الإنسان جسم أو حجر حتى يكون الحكم الذهني مطابقا لأحدهما فيكون علما ، وغير مطابق للآخر فيكون جهلا ، بل كلاهما حكم عقلي أحدهما استند إلى صريح العقل إما ابتداء ، أو بوسائط فكان حقا ، والثاني استند إلى العقل مشوبا بما أوجب له الغلط ، ولم يحكم بما يوافق العقل الصريح ، فكان جهلا.

وبالجملة لا يجب أن يكون المعلوم ثابتا إمّا في الذهن أو في الخارج ، بل أن يكون على ما عليه الأمر نفسه.

وقد بقي في العلم مسائل أخر نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أي عند المصنّف. ويقول في كشف المراد بعد ذكر جواب الطوسي : «فلم يأت فيه بمقنع».

(٢) ج : «فيه».

٢٣٧

الباب الثاني

في القوى والأخلاق

وفيه مباحث :

البحث الأوّل

في مفهوم القوة (١)

قال صاحب الشفاء فيه (٢) : القوة في أصل الاصطلاح وضعت للمعنى الموجود في الحيوان الذي يتمكن بواسطته من مزاولة الأفعال الشاقة (٣) بحيث تصدر عنه أفعال ليست أكثرية الوجود ، ويقابله الضعف. وكأنّها زيادة وشدة من المعنى الذي هو القدرة.

__________________

(١) راجع الفصل الثاني من المقالة الرابعة ، والفصل الرابع من المقالة السادسة ، والفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء ؛ إلهيات النجاة : ٢١٤ ؛ تعليقة صدر المتألهين : ١٦١ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٠٢ وما يليها ؛ الكليات ٤ : ١٢ و ٣٠.

(٢) في الفصل الثاني من المقالة الرابعة من الالهيات. مع تصرف وحذف في كثير من العبارات.

(٣) كذا عرّفها الجرجاني. التعريفات : ٢٣١.

٢٣٨

ثم إنّ للقوة بهذا المعنى مبدأ ولازما ، فالمبدأ : القدرة ، وهو كون الحيوان بحيث إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك ، وضد ذلك العجز.

واللازم : هو أن لا ينفعل الشيء بسهولة ، ولا يضعف ، لأنّ الذي يزاول التحريكات الشاقة ربّما ينفعل عنها وذلك الانفعال يصده عن تمامية الفعل ، فلا جرم صار اللاانفعال دليلا على الشدة.

فينقل اسم القوة (١) إليهما أعني القدرة واللاانفعال (٢).

ثم للقدرة وصف هو كالجنس لها ولازم.

أمّا الذي هو كالجنس فكونها صفة مؤثرة في الغير.

وأمّا اللازم فهو الإمكان ؛ لأنّ القادر إنّما يصح فعله فيما هو ممكن ، لأنّه لمّا صح منه أن يفعل وصح أن لا يفعل كان صدور الفعل منه ممكنا ، فكان الإمكان لازما له.

فنقل (٣) اسم القوة إليهما فصارت اسما للجنس وهو كل صفة مؤثرة في الغير ، ولذلك اللازم وهو الإمكان (٤) ، فيقولون للثوب الأبيض : إنّه أسود بالقوة ، بمعنى أنّه يمكن أن يصير أسود. ثم سمّوا الحصول والوجود فعلا وإن لم يكن في الحقيقة فعلا ، بل انفعالا فإنّه لما كان المعنى الذي وضع اسم القوة له أوّلا كان

__________________

(١) ق : «القدرة».

(٢) وهما المبدأ واللازم.

(٣) ق : «فيغلب».

(٤) في هامش نسخة ج : «كما يقال للصبي : إنّه شاب بالقوة وعند حصول الشباب له يقال له شاب بالفعل م». ولعل حرف م رمز ل «منه» أي المصنّف.

٢٣٩

متعلقا بالفعل (١). فهنا لما سمّوا الإمكان بالقوة سمّوا الاسم (٢) الذي يتعلّق به الإمكان ، وهو الحصول والوجود بالفعل.

ثم لمّا وجد المهندسون بعض الخطوط من شأنه أن يكون ضلعا لمربع ، وبعضها لا يمكن له ذلك جعلوا ذلك المربع قوة ذلك الخط فإنّه ممكن فيه. و (٣) خصوصا وقد اعتقد بعضهم أنّ المربع يحدث بحركة الضلع على نفسه.

وحيث عرفت القوة عرفت أنّ غير القويّ إما الضعيف ، أو العاجز ، أو سهل الانفعال ، أو الضروري ، أو غير المؤثر ، أو أن لا يكون المقدار الخطي ضلعا لمقدار سطح مفروض.

وقد حدت القوة (٤) بأنّها مبدأ التغير من شيء في آخر من حيث إنّه آخر. وإنّما أوجبنا الآخرية لامتناع أن يكون الشيء الواحد فاعلا في نفسه صفة ، وإلّا

__________________

(١) في هامش نسخة ج : «ونقرّر هذا بوجه آخر ونقول : إنّ المفهوم من لفظ القوة في العرف العام وهو المعنى المذكور لما كان كمال القدرة فسميت القدرة قوة ويقابلها العجز. ثم ذلك المعنى يلزمه لوازم منها : انّ ذلك القوي يكون قليل الانفعال ، إذ المنفعل في الأكثر يسمّى ضعيفا فسمّى كون الشيء لا ينفعل قوة ويقابلها الوهن. ومنها : انّ ذلك القوي لا يشترط في اطلاق لفظ القوة عليه أن يكون مباشرا لتلك الأفعال دائما ، أو في حال اطلاق ذلك اللفظ عليه ، بل أن تكون تلك الأفعال ممكنة له يفعلها متى شاء فسمّى نفس الإمكان بالقوة ، إمّا قوة فاعلية إن كان ذلك الإمكان إمكان أن يفعل ، وامّا قوّة انفعالية إن كان ذلك الإمكان امكان أن ينفعل. ويقابل القوة بهذا المعنى الفعل وهو حصول وجود ذلك الممكن سواء كان فعلا أو انفعالا ، وذلك لأنّ حصول هذا الوجود هو كمال هذه القوة ، كما أنّ تلك الأفعال الشاقة هي كمال تلك القوة فلذلك يقال غذاء بالقوة هي بالإمكان ويقال غذاء بالفعل أي غذاء وجد له كونه غذاء م».

(٢) كذا في المخطوطة ، ولعل الصحيح : الأمر.

(٣) ج : «و» ساقطة.

(٤) ق : «حدّت القوم» وانظر التعريف في النجاة : ٢١٤ ، وقال بهمنيار : «يقال : قوة ، لمبدإ التغيّر من آخر في آخر من حيث إنّه آخر ، كالطبيب إذا داوى بدنه» التحصيل : ٤٧١.

٢٤٠