نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

الإضافة ، لا بدّ من تقدمهما بالذات على تحقّق تلك الإضافة لوجوب تقدّم العلة على المعلول ، لكن هاتان الجهتان لا يمكن تحقّقهما إلّا بعد تحقّق الإضافة التي هي العلم ، لأنّ كون الشيء عالما ومعلوما صفتان متفرعتان على تحقّق العلم ، فإنّه ما لم يحصل العلم أوّلا لم يحصل للذات وصف العالمية ولا وصف المعلومية ، فيكون هذان الوصفان ـ وهما جهتا العالمية والمعلومية ـ متأخرين بالذات عن ثبوت العلم ، لكن العلم قد ثبت أنّه وصف إضافي متأخر عن الجهتين اللتين باعتبار هما صحّ عروض تلك الإضافة.

والحاصل أنّ الذات من حيث إنّها عالمة وإن غايرت نفسها من حيث إنّها معلومة ، لكن هذا التغاير غير كاف في هذه الإضافة وغير صالح لعلّيتها ؛ لأنّ كونها عالمة ومعلومة يتوقف على قيام العلم به ، وهو موقوف على المغايرة الموقوفة على كون الذات عالمة ومعلومة ، فيلزم الدور.

وقد أجاب أفضل المحققين : بأنّ المقتضي للمغايرة هو العلم وليست المغايرة المقتضية للعلم ، بل هذه المغايرة لا تنفك عن العلم كما لا ينفك المعلول عن علّته ، ولا يلزم الدور.

وفيه نظر ، فإنّ العلم قد عرفت أنّه إضافة أو صفة تلزمها الإضافة ، فلا يتحقق إلّا مع المغايرة بين المضافين ، ولو كان المقتضي للمغايرة هو العلم لكان متقدما عليها تقدّم العلة على المعلول ، لكنّه متأخر عنها فيلزم الدور.

ونحن لا ندعي أنّ المغايرة مقتضية للعلم لكنّها شرط في العلم ، كما أنّ الأبوة لا تقتضي التغاير بين الأب والابن لكنّها مشروطة به إذ لا تعقل الأبوة إلّا بين اثنين.

ومن جعل العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم يلزمه الإشكال أيضا ، فإنّ الذي حصل للعاقل هنا إن كان غير ذاته فهو باطل لوجهين :

١٦١

الأوّل : أنّ ذلك الغير لا بدّ وأن يكون مساويا للمعلوم في تمام ماهيته فيلزم اجتماع المثلين ، ولأنّه لا يكون أحدهما بأن يكون معقولا والآخر بأن يكون عاقلا أولى من العكس.

الثاني : إمّا أن يعلم العالم كون الصورة مساوية لذاته فيكون علمه بذاته حاصلا قبل حصول هذه الصورة أو لا يعلم ذلك فلا يكون عالما بذاته ، وإن كان عين ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه.

وقد أجاب الشيخ الرئيس بوجهين :

الأوّل : معنى التعقّل هو حصول ماهية مجرّدة لشيء وحضورها عنده ، (١) وهذا أعم من كونها حاضرة عند شيء مغاير لها أو نفسها ، فإنّ الكون عند الشيء أعمّ من القسمين ، وعلى هذا التقدير لا يفتقر العلم إلى المغايرة.

الثاني : لو سلّمنا المغايرة ، لكن تشخّص كلّ شخص زائد على ماهيّته ، فإنّ لكلّ شخص حقيقة وشخصية وتلك الشخصية زائدة أبدا على تلك الماهيّة ، وإلّا لاتحدتا في التعقل. ثمّ إن كانت تلك الحقيقة مقتضية لتلك الشخصية كان ذلك النوع منحصرا في ذلك الشخص ، وإلّا وقعت الكثرة فيه ، ولا شكّ أنّ تلك الحقيقة متغايرة للمجموع الحاصل من تلك الحقيقة وتلك الشخصية. وإذا تحقّق هذا القدر من التغاير كفى في حصول الإضافة والصورة المساوية ، فتكون لتلك الحقيقة من حيث هي هي إضافة العالمية إلى ذلك المجموع ، ولذلك المجموع إضافة المعلومية إلى تلك الحقيقة. وبهذا الاعتبار صحّ منّا أن نقول : ذاتي وذاتك.

لا يقال : وجود الشيء متقدّم بالذات على إضافته إلى غيره ، فإذن إضافة

__________________

(١) راجع المباحثات : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ؛ السادس من ثامنة إلهيات الشفاء.

١٦٢

حقيقة الشخص وماهيته إلى ذلك الشخص بعد وجود حقيقة الشخص ، لكن وجوده بعد شخصيته ، فإذن تلك الحقيقة لا تضاف إلى ذلك الشخص ، إلّا بعد تشخّصها ، فإذن المتشخص هو المضاف إلى الشخص ، فتكون الإضافة حاصلة للذات الواحدة من جهة واحدة.

لأنّا نقول : مسلّم أنّ الحقيقة لا تضاف إلى غيرها إلّا بعد الوجود ، لكن لا نسلّم أنّ الوجود بعد التشخص بل التشخص بعد الوجود ، فإذن التشخص نعت لذلك الشيء ، ووجود النعت متأخر عن وجود المنعوت.

وللسائل أن يقول : الشيء إنّما يكون موجودا إذا كان متميزا عن غيره منفردا بذاته ، ويكون بحيث يمكن أن يشار إليه إشارة عقلية أو حسّية ، وما لم يكن كذلك لم يكن موجودا ، فالتشخص مقدّم على الوجود.

وقولكم : «التشخص وصف فيتأخر وجوده عن وجود الموصوف» باطل بالوجود ، فإنّه وصف ثبوتي وهو زائد على الماهية ، فإن كان ثبوته متأخرا عن ثبوت الموصوف فالماهية موجودة قبل وجودها ، ثمّ الكلام في ذلك الوجود كالكلام في الأوّل ، وذلك يستلزم التسلسل. وإن لم يشترط في عروضه للماهية ثبوتها بطل قولكم : ثبوت الموصوف متقدّم على ثبوت الصفة.

وأجيب : بأنّ الشيء يجب أن يكون متميزا عن غيره حتى يكون موجودا ، لكن لا على أنّه يصير متميزا ثمّ يصير موجودا ؛ لأنّ التميّز لا يكون إلّا بعد الوجود ، وإلّا فيكون قبل الوجود تميّز فتكون الأشياء المعدومة بعضها متميزا عن البعض فتكون موجودة ، هذا خلف. (١) ولكن على أنّه يصير موجودا أوّلا أوليّة بالذات لا بالزمان ثمّ يصير متميزا. أو نقول : الوجود والتميّز كلاهما معا بالذات

__________________

(١) أي أن يكون المعدوم موجودا.

١٦٣

لا مزيّة لأحد هما على الآخر في التقدّم الذاتي ، وحينئذ يتم الكلام ؛ لأنّه وإن كان التشخص مقارنا للوجود ، لكن تعرض للحقيقة الموجودة إضافة إلى ذلك الشخص ، فلا يكون للشخصية تقدّم واعتبار في صحة انضياف الحقيقة الموجودة إلى ذلك الشخص ، فلا يلزم عروض الإضافة باعتبار واحد لذات واحدة. (١)

والاعتراض (٢) : انّ الكون عند الشيء والحصول حالة إضافية ، وهي لا تعقل إلّا بين شيئين متغايرين ، ولا يلزم من كون أحد القيدين أعمّ من الآخر في اللفظ والعقد صحّة وجود ذلك العام بدون ذلك الخاص في نفس الأمر ، فإنّ قائلا لو قال : المحركية المطلقة أعمّ من المحركية للغير ولنفسه ، فيلزم صحّة كون الشيء محركا لذاته. وكذا قولنا في شيء إنّه علّة لشيء أو موجد لشيء أعمّ من قولنا إنّه موجد أو علة لشيء آخر غيره ، ومع ذلك لا يصحّ أن يكون الشيء علّة لنفسه ، ولا موجدا لها.

وعن الثاني : أنّ هذا القدر جيّد في كون ذلك المجموع عالما بكلّ واحد من جزئيه ، ولكنّه حينئذ لا يكون عالما بنفسه بل بكلّ واحد من جزئيه ، فأمّا في كونه عالما بنفسه فالإشكال باق.

والوجه في الجواب أن نقول : لا شكّ في أن كون الشيء عالما ومعلوما بالفعل متوقف على حصول العلم بالفعل ، لكن نقول الذات من حيث إنّها صالحة لأن تكون عالمة مغايرة للذات من حيث إنّها صالحة لأن تكون معلومة ، وهذا لا يتوقف على ثبوت العلم ، بل على تصوّره.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

(٢) الاعتراض على الوجه الأوّل من جواب الشيخ.

١٦٤

المسألة الثالثة : في معنى كون الشيء عقلا وعاقلا ومعقولا (١)

لمّا سمع الظاهريون من الحكماء هذا الكلام استحسنوه ، وظنوا أنّ العاقل لا بدّ وأن يتحد بالمعقول سواء عقل ذاته أو عقل غيره. ولمّا بحث المدقّقون عن هذا وعرفوا فساد الاتحاد حملوه على صورة خاصة ، وهي أنّ العاقل لذاته تجتمع هذه الأوصاف الثلاثة فيه ويكون كونه عاقلا وعقلا ومعقولا شيئا واحدا. وهؤلاء إن عنوا بذلك أنّ الذات الموصوفة بالعاقلية هي بعينها الذات الموصوفة بالمعقولية ، فهو حقّ. وإن عنوا أنّ وصف العاقلية ووصف المعقولية واحد فباطل ؛ لأنّ الوصفين متغايران ، لأنّهما لو اتحدا لاتحدا في التصوّر. ولو كان أحدهما جزءا من الآخر لاستحال تصوّر ما فرض كلا بدون ما فرض جزءا ، لكن التالي باطل ، لأنّه يمكننا أن نحكم على الشيء بكونه معقولا ونغفل عن كونه عاقلا فلا نحكم به ، وكذا يمكننا أن نحكم على الشيء بكونه عاقلا وإن لم نحكم بكونه معقولا ، فليس أحدهما هو الآخر ولا جزءا منه.

وأمّا أنّهما هل هما ثبوتيان (٢) أم لا؟ ففيه بحث تقدّم.

لا يقال : لا يمكننا أن نتصور كون الشيء عاقلا لذاته ونحكم به إلّا إذا عقلنا كونه معقولا لذاته ونحكم به ، وكذا بالعكس ؛ فعلمنا اتّحاد العاقلية والمعقولية هاهنا.

لأنّا نقول : العاقليّة حقيقة والمعقولية حقيقة ، فلو كان المرجع بإحداهما إلى الأخرى لكان متى ثبتت إحداهما ثبتت الأخرى ، فكان لا يثبت في الشيء كونه عاقلا إلّا إذا ثبت كونه معقولا وبالعكس ، كما أنّه لما كان المرجع بالإنسان والبشر

__________________

(١) راجع التحصيل : ٥٧٣ ؛ النمط الثالث من الاشارات ؛ الأسفار ٣ : ٤٤٧ ـ ٤٦١.

(٢) كما ذهب إليه الرازي وصرّح به في المباحث المشرقية ١ : ٤٥٩.

١٦٥

إلى ماهية واحدة حتى كانا اسمين لمسمّى واحد ، لا جرم متى ثبت المفهوم من أحدهما ثبت المفهوم من الآخر ، ولما كان الإنسان متقوّما بالحيوان استحال أن نعقل ماهية الإنسان إلّا إذا عقلنا ماهية الحيوان أوّلا. ولما ثبت تغاير الصفتين أمكننا أن نفهم ماهية العاقلية عند الذهول عن ماهية المعقولية ، وكذلك بالعكس ، وإذا ثبت تغايرهما عند ما يكون العاقل والمعقول واحدا ، وجب تغايرهما عند ما يكون العاقل والمعقول متعددا ؛ لأنّ الصفتين إذا ثبت تغايرهما في موضع ثبت تغايرهما في كلّ المواضع ، كالسواد لما خالف الحركة في الماهية ، كانت تلك المخالفة (١) حاصلة في كلّ المواضع.

وقوله : «إنّه يستحيل أن يعقل من الشيء كونه عاقلا لذاته إلّا إذا عقل منه كونه معقولا لذاته» ، فنقول : هذه الملازمة لا تمنع من اختلاف المعلومين ، فإنّ العلم بالأبوة ملازم للعلم بالبنوّة وإن كان المعلومان مختلفين في ذاتيهما ، فإنّا لو فرضنا كون الشيء محركا لذاته فالعلم بالمحركية والمتحركية هناك متلازمان مع أنّه لا يلزم أن يكون مفهوم المحركية هو بعينه مفهوم المتحركية. فظهر أنّ كون الشيء عاقلا مغاير لكونه معقولا.

نعم الذات التي عرضت لها العاقليّة هي بعينها الذات التي عرضت لها المعقولية ، وأمّا كونه عقلا يغاير كونه معقولا وكونه عاقلا فهو أظهر ، لأنّا قد نعرف من الشيء أنّه عاقل لذاته ومعقول لذاته وإن كنّا نشكّ أنّ ذاته هل هو ذلك التعقل أو مغاير له؟ وهو يدل على المغايرة. ولأنّ التعقل حالة إضافية وهو يوجب مغايرتها للذات ، بل لما اعتقد القوم أنّ التعقل هو الحضور ثمّ عرفوا أنّه لا يمكن أن يحضر عند الذات منها صورة أخرى زعموا أنّ وجود تلك الذات هو التعقّل ، وليس كذلك ، لما بيّنا أنّ التعقل حالة إضافية فوجب الحكم بأنّ العاقلية

__________________

(١) ق : بزيادة «الحركة» قبل «المخالفة».

١٦٦

صفة مغايرة للذات العاقلة. بل نجعل هذا مبدأ برهان أقوى.

فنقول : إدراك الشيء لذاته زائد على ذاته ، وإلّا لكانت حقيقة الإدراك هي حقيقة ذاته وبالعكس ، فكان لا يثبت أحدهما إلّا إذا ثبت الآخر ، لكن التالي باطل ، فالمقدّم مثله. فإدراك الشيء لذاته زائد على ذاته ، وذلك الزائد يستحيل أن تكون صورة مطابقة لذاتها للبرهان المشهور ، فهو أمر غير مطابق لذاته زائد على ذاته ، وذلك الغير المطابق إن كان له نسبة وإضافة إلى ذاته فذاته إنّما صارت معلومة لأجل تلك النسبة ، فالعلم هو تلك النسبة ، وإن لم تكن له نسبة وتلك الصورة غير مطابقة له ولا مساوية في الماهية ، لم يصر ذلك الشيء معلوما أصلا ؛ لأنّ حقيقته غير حاضرة ، ولا نسبة للذهن إليه ، فالذهن منقطع الاختصاص بالنسبة إليه ، فاستحال أن يصير معلوما. (١)

وفيه نظر ، فإنّ وصف العاقلية ووصف المعقولية لذات العاقل واحد بالذات وإن غايره بالاعتبار فانّ كون الذات عاقلة لنفسها هو بعينه في الحقيقة كونها معقولة لنفسها ، وهنا لا يمكن أن نحكم على الشيء بكونه عاقلا لذاته ونغفل عن كونه معقولا لذاته ولا بالعكس وكلما ثبتت إحداهما ثبتت الأخرى ، ولا يثبت للشيء كونه عاقلا لذاته إلّا إذا ثبت كونه معقولا لذاته وبالعكس. فبطل استدلاله على التغاير ، وعدم التقويم بإمكان الانفكاك. واستدلاله على تغايرهما عند تعدد الذات بتغايرهما عند وحدتها لو عكسه لكان أجود هنا (٢) وإن كان ما ذكره أولى (٣) ، لكنّه لا نسلم له ، إذ لم يظهر التغاير مع وحدة الذات حتى يستدل به على التغاير مع الكثرة. نعم لما ثبت التغاير مع الكثرة ثبت مع الوحدة ، لأنّ

__________________

(١) انتهى كلام الرازي من المصدر السابق ، وقد ردّه المصنّف.

(٢) أي اثبات التغاير بين العاقلية والمعقولية عند تعدد الذات أسهل من اثباته عند وحدة الموصوف.

(٣) وجه الأولوية : انّه متى ثبت التغاير مع وحدة الذات ، ثبت مع تعدد الذات بالأولوية ؛ لتغاير الموضوع في صورة التعدد ، مضافا إلى التغاير الموجود في الصورتين.

١٦٧

مفهوم الصفتين إذا تغاير في موضع تغاير في كلّ موضع.

وسألت شيخنا أفضل المحقّقين ـ قدّس الله روحه الزكية ـ عن مفهوم كون الشيء عقلا وعاقلا ومعقولا.

فأجاب : بأنّ معنى كونه عقلا ليس هو المراد من التعقل ، بل المراد هنا التجرد ، فمعنى كون الباري تعالى عقلا أنّه مجرّد الذات عن المادة وعلائقها والغواشي اللاحقة بسببها ؛ وكونه عاقلا كون الأشياء المعقولة حاضرة عنده ، لا بمعنى حلولها فيه بل ولا صورتها ، بل حصولها منه هو حضورها عنده ؛ وكونه عاقلا لذاته حصول ذاته لذاته لا لغيره ، فإنّه غير قائم لغيره البتة ؛ وكونه معقولا لذاته حضوره عند ذاته.

المسألة الرابعة : في سبب حصول الأوّليات (١)

لا شكّ في أنّ النفس الإنسانية في مبدأ فطرتها كانت خالية عن جميع العلوم الضرورية والكسبية ، ونسبتها إليها في مبدأ الفطرة كنسبة الهيولى إلى الصور المقبولة لها قبولا بعيدا ، كما لو كانت في صورة وقبلت صورة غيرها. ولا شكّ في

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ١ : ٢١٤ ؛ المعتبر ١ : ٤٥ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٦٥ ـ ٤٦٧.

والأوليات من القضايا على قسمين : ١ ـ حملية ٢ ـ شرطية ؛ ففي الحملية يكفي تصور الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية في تصديقها ، مثل : الكلّ أعظم من جزئه ؛ وفي الشرطية يكفي تصور المقدّم والتالي والنسبة الحكمية في الاذعان بها ، مثل : العدد إمّا زوج وإمّا فرد. وعرفها ابن سينا في شرح الإشارات بقوله : «هي القضايا الّتي يوجبها العقل الصريح لذاته ولغريزته لا لسبب من الأسباب الخارجة عنه» وفي النجاة : «هي قضايا ومقدّمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يوجب التصديق بها إلّا ذواتها» منطق النجاة : ٦٤. وعرفه الجرجاني بقوله : «الأوّليّ هو الذي بعد توجه العقل إليه لم يفتقر إلى شيء أصلا من حدس أو تجربة أو نحو ذلك ...» التعريفات : ٥٨.

١٦٨

أنّها قابلة للعلوم ، لأنّها جوهر مجرّد فلا مانع له عن التعقل ، إذا لمانع هو المادة وعلائقها ، وإذا كانت مستعدة للانتقاش بصور الموجودات وجب فيضانها عن المبدأ العام الفيض الذي لا يمنع مستعدا عن إفاضة ما استعد له ، بل يفيضه عليه من غير مخصص لإفاضته بوقت دون وقت لأمر يعود إليه.

نعم قد يقصر الاستعداد لفقد شرط أو حضور مانع فلا يجب الإفاضة حينئذ ، لكن لمّا وجدنا نفوس الأطفال غير منقّشة بالعلوم عرفنا أنّ هناك شرطا مفقودا أو مانعا موجودا ، وأنّ ذلك الاستعداد المستلزم لوجود ما يحصل له لم يكن تاما في أوّل الأمر ، ولا كافيا في حصول المستعد له ، فلم يكن الاستعداد المصاحب لها في مبدأ الفطرة كافيا في فيضان المتعقلات عليها من مبادئها.

فإذن لا بدّ من زيادة استعداد لها حتى تحصل لها تلك الصور. وأنّ تلك الزيادة حادثة فلا بدّ لها من سبب حادث ، وليس ذلك إلّا الإحساس بالجزئيات فتتنبّه النفس بواسطته للمشاركات والمباينات الواقعة بين تلك المحسوسات ، فتنتقش النفس بالصور الكلية المجرّدة عن عوارض المادة ولواحقها ، والشعور بما لها من الذاتيات والعرضيات اللازمة أو المفارقة ، فالنفس تنتفع بالحس في اكتسابها للتصورات من هذا الوجه ، ثمّ إذا حصلت التصورات التامة في النفس وقع للبعض نسبة إلى البعض الآخر بالمحمولية والموضوعية ، فما كان من المحمولات محمولا على موضوع معين لذاته لا بتوسط ثالث حكم العقل جزما بثبوته له من غير توقّف على شعوره بمتوسط بينهما ، إذ لو توقف حكم العقل بذلك الثبوت على ثالث متوسط بينهما لم يكن حكم العقل مطابقا لما في نفس الأمر لأنّه في نفس الأمر لا متوسط بينهما ، فلا يكون حكم العقل في ذلك (١) صادقا.

__________________

(١) ق : «فيه إلّا» بدل «في ذلك».

١٦٩

ولأنّا ننقل الكلام إلى ذلك المتوسط فإن كان لمتوسط آخر تسلسل ، ومعه يحصل المقصود ، لأنّ تلك الأشياء المتلاصقة لا بدّ وأن يكون فيها ما يكون ثبوته لما يلاصقه لذاته ، وإلّا لم يكن ملاصقا.

والحاصل أنّ اعتبار الواسطة في كلّ لزوم يرفع اللزوم والواسطة. فإذن يكون ثبوت المحمول لذلك الموضوع في الوجودين الخارجي والذهني أوليّا فتسمى مثل هذه القضية أوّليّة ، كما يحكم على كلّ ماهيتين مختلفتين بالمغايرة بينهما وأنّ إحداهما ليست هي الأخرى ، وكما إذا عقلنا الكلّ والجزء والأعظمية ، فإنّ مجرّد تصوراتها يقتضي جزم الذهن بالنسبة الثبوتية بينها فهذه القضايا تسمى أوّلية ؛ لأنّ ثبوت محمولاتها لموضوعاتها أوّل.

وأمّا ما يكون ثبوته لأجل متوسط ، فإنّ ثبوته لذلك الموضوع لا يكون أوّلا ، بل ثانيا ، لثبوت ذلك المتوسط وتاليا له. وكذا ما حكم العقل بثبوته للموضوع لأجل متوسط لم يكن حكم العقل لذلك الثبوت أوّلا بل ثانيا ؛ لحكمه بثبوت ذلك المتوسط لذلك الموضوع. وذلك المتوسط قد يكون هو البصر كالحكم بأنّ الشمس مضيئة ، أو اللمس كالحكم بأنّ النار حارّة ، أو السمع كالمتواترات (١) ، أو الوجدان كالوجدانيات (٢) ، أو النظر كالنظريات.

وأمّا ما يقال غير ذلك من أنّ الأوّلي ما يستحيل المنازعة فيه ، وأنّ الإنسان

__________________

(١) المتواترات : قضايا تسكن إليها النفس سكونا يزول معه الشك ويحصل به الجزم القاطع ، وذلك بواسطة إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب كعلمنا بوجود البلدان النائية.

(٢) الوجدانيات : قسم من المشاهدات وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس الظاهري أو الباطني فالحكم بأنّ الشمس مضيئة ، أو النار حارّة ، حكم من العقل بواسطة الحسّ الظاهري. والحكم بانّ لنا ألما ، ولذّة ، وجوعا ، وعطشا حكم من العقل بواسطة الحس الباطني ، وهذا هو المسمّى بالوجدانيات في علم النفس. راجع الحاشية على تهذيب المنطق : ١١١ ؛ الجوهر النضيد : ٢٠٠.

١٧٠

يجب أن يفرض نفسه خالية من جميع العادات والديانات ، ثمّ تعرض على نفسه تلك القضية ، فإن وجدها مبادرة إلى التصديق بها فهي القضية الأوّلية ، وإلّا فلا. وكلّ ذلك يجري مجرى الرسوم في تعريف الأوّلي. وأمّا التعريف بالحدّ فما تقدّم.

هذا على رأي الحكماء ، وأمّا على رأي المتكلّمين ، فإنّ العلوم الضرورية مستندة إلى الله تعالى ، يفعل فينا ما تقتضيه الحكمة ، وتتضمن المصلحة الراجعة إلينا ، ولا استبعاد عندي في استناد سبب التخصيص إلى الإحساس.

المسألة الخامسة : في عمل القوة العقلية في الوحدة والكثرة (١)

اعلم أنّ الماهيات العينية أو الذهنية قد تكون بسائط ، وقد تكون مركّبات ، وأيضا لا تنفك عن لواحق تلحقها وعوارض تعرض لها في الوجودين معا أو في أحدهما ، وقد وهب الله تعالى للإنسان قوّة مميّزة بين الأشياء يفرز بها بعض الذاتيات عن البعض ، والذاتيات عن العرضيات ، والعرضيات بعضها عن البعض ، فيمكنها توحيد الكثير وتكثير الواحد.

أمّا الأوّل فباعتبارين :

الأوّل : التحليل بأن تحذف عن الأشخاص الداخلة تحت النوع مشخصاتها وعوارضها الموجبة لتكثرها بالعدد ، فتبقى الحقيقة النوعية ماهية واحدة وحقيقة متحدة ، كما يحذف عن زيد وعمرو وبكر جميع المشخصات والأسباب الموجبة لكثرتها ، فتبقى الحقيقة الإنسانية المجرّدة واحدة بالعدد.

__________________

(١) راجع الفصل الخامس من المقالة الخامسة من الفن السادس (النفس) من طبيعيات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٦٨ ؛ وانظر البحث عن هذا العمل للعقل وعمليات أخرى له في كتاب نظرية المعرفة للعلّامة السبحاني : ١٤١ ـ ١٥٤.

١٧١

الثاني : بالتركيب وذلك أنّها إذا اعتبرت المعنى الجنسي والفصلي أمكنها أن يفرق (١) الفصل بالجنس بحيث تحصل منهما حقيقة النوع المتحدة اتحادا طبيعيا لا صناعيا. وكذا بضم العوارض والمشخصات المتغايرة إلى الطبيعة النوعية حتى تتحصل الأشخاص.

وأمّا الثاني : وهو قوتها على تكثير الواحد أن تميز ذاتيّ الماهية المركّبة عن عرضيتها وجنسها عن فصلها. وتميّز ذاتيات الذاتيات بعضها عن البعض كأجناس الأجناس وفصول الفصول وأجناس الفصول وفصول الأجناس بالغة ما بلغت. وتميّز اللازم عن المفارق والقريب عن البعيد والبسيط عن المركب وسريع المفارقة عن بطئه وسهلها عن عسرها والغريب عن الملائم. والشخص الواحد يكون في الحسّ واحدا ، وفي العقل أمورا كثيرة ، بسبب ما فصلها العقل وميّزها وقسّمها بالذاتيات والعرضيات ، إلى آخر التقسيمات الممكنة بحسب المركبات الخارجية والذهنية ، فلهذا يكون إدراك العقل أتمّ الإدراكات كأنّه يدخل في الماهية ويتغلغل في الحقيقة ويستنتج منها نتيجة مطابقة لها من جميع الوجوه.

فأمّا الإدراكات الحسية فإنّها لا تنفك عن جهل ما ؛ لأنّ الحس لا يدرك إلّا ظاهر الشيء وبعض عوارضه المحسوسة دون ماهيته ، وحقيقة باطنه فإنّه لا ينالها البتة ، ولا خبر له بها.

المسألة السادسة : في حصر الأوّليات (٢)

قد عرفت أنّ أوّل الأوائل قولنا : النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهذه القضية لا يمكن قيام البرهان عليها ، لأنّ الدليل على الشيء هو الذي

__________________

(١) كذا في المخطوطة ، وفي عبارات الرازي : «يقترن» ولعلّه الصحيح.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٦٨.

١٧٢

يستدل بثبوته على ثبوت شيء آخر وبنفيه على انتفائه ، فلو جوزنا الخلو عن الثبوت والانتفاء لم يأمن في ذلك الدليل أن يخلو عن الثبوت والانتفاء ، وبتقدير خلوه عنها تنتفي دلالته على ذلك المدلول ، فلا بدّ وأن يعتقد في ذلك الدليل أنّه لا يجوز خلوّه عن الدلالة وعدمها ولا اتصافه بهما ، لكن ذلك لا يتمّ إلّا بعد ثبوت هذه القضية ، وما كان كذلك لا يمكن إثباته وإلّا لزم الدور.

وأيضا الدليل الذي يدلّ على أنّهما لا يجتمعان فيه لا بدّ وأن يعرف منه أوّلا أنّه لا يجتمع فيه كونه دليلا على ذلك المطلوب وكونه لا دليل عليه ، إذ لو جاز ذلك واحتمل ، لم تكن إقامة الدلالة على استحالة الاجتماع مانعة من استحالة (١) الاجتماع ؛ لاحتمال أن يكون الدليل دالا على استحالة اجتماعهما ، ومع هذا الاحتمال لا يحصل المقصود ، وإذا كانت دلالة الدليل على إثبات هذه القضية موقوفة على ثبوتها ، فلو بيّنا ثبوتها بقضية (٢) ، لزم الدور. فثبت أنّ هذه القضية لا يمكن إقامة البرهان عليها.

والأجود عندي أن يقال : إنّما بطلت بالبرهان ما تجهل نسبة ثبوت محموله إلى موضوعه ، لكن هذه القضية من أجلى البديهيات فلا يمكن إقامة البرهان عليها ؛ لأنّ البرهان وسط يفيد النسبة الّتي بين الطرفين عند الذهن ، أو عند الذهن وفي نفس الأمر ، وهذه النسبة حاصلة في مبدأ الفطرة فلا يمكن إسنادها إلى غير نفسها ، وإلّا لزم جعل ما ليس بعلّة علة.

وأمّا سائر التصديقات البديهية فقد عرفت فيما مرّ فرعيتها على هذه القضية ، فإنّ العلم بأنّ «الموجود لا يخلو عن الوجوب والإمكان» علم بأنّ الموجود لا يخلو عن ثبوت الوجوب ولا ثبوته له ، أو عن ثبوت الإمكان ولا ثبوته له ، وهذا

__________________

(١) كذا في المخطوطة ، وفي عبارات الرازي : «من لا استحالة».

(٢) في عبارات الرازي : «بهذه القضية».

١٧٣

هو العلم الأوّل ، لكنّ قيّد بقيد خاص. وكذا العلم بأنّ «الكلّ أعظم من الجزء» متفرع على العلم بأنّ زيادة الكلّ على الجزء إذا لم تكن معدومة فهي موجودة ؛ لامتناع ارتفاع الطرفين ، وإذ هي موجودة مع المزيد عليه فمجموعهما أعظم ، إذ لا يفهم من الأعظم إلّا ذلك. وكذا قولنا : «الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية» مبنيّة على تلك المقدمة ؛ لأنّ المساوية لشيء واحد طبيعتها كلّها تلك الطبيعة ، وإذا كانت طبيعتها واحدة استحال أن تكون طبائعها مختلفة ؛ لامتناع اجتماع النقيضين. وكذا قولنا : «الجسم الواحد لا يكون في مكانين» وإلّا لم يميز حاله عن حال الشخصين الحاصلين في مكانين ، فيكون وجود الثاني كعدمه فيجتمع فيه النقيضان. (١)

فالقضيتان الأوّليان رجعتا إلى قولنا : النفي والإثبات لا يجتمعان ، والأخريان رجعتا إلى أنّهما لا يرتفعان ، فهذه القضية هي أوّل الأوائل.

فالمنازع فيها لا يمكن أن يبرهن له عليها ، بل إن نازع لخفاء تصوّر أجزائها كشف له عنها. وإن نازع عنادا عرّفت بالضرب والإحراق ؛ ليفرق بين وجود الألم وعدمه. وإن نازع لتعادل الأدلّة المنتجة للنتائج المتناقضة أوضح له حلّ شكوكه.

فإن قالوا : لا نجزم بنفي هذه الحقائق بل نشكّ فيها ، لأنّ (٢) جزمنا بثبوت هذه الحقائق ، لأنّا نجد من أنفسنا الجزم بالألم واللذة والإحساس بالمحسوسات. ثمّ إنّا قد نجد من أنفسنا الجزم بأمثال هذه الأشياء ، مع أنّا نعلم في وقت آخر أنّ ذلك الجزم كان باطلا ، فلا جرم ارتفع أماننا عن شهادة الحس والبديهة.

وبيانه : أنّ الطريق إلى معرفة الأشياء : إمّا التخيل أو الحسّ أو العقل ، ولا شيء من الثلاثة بموثوق به.

__________________

(١) أي الوجود والعدم.

(٢) في عبارات الرازي : «لأنّا».

١٧٤

أمّا التخيّل ، فكما في حقّ النائم يجزم بما يراه في النوم ويظهر له بطلانه في اليقظة ، فجاز أن يكون لنا حالة ثالثة يظهر لنا بطلان ما نراه في اليقظة.

وأمّا الحس ، فكذبه ظاهر كما تقدّم. والمبرسم والمجنون يشاهدون صورا ، وكذا أصحاب النفوس الزكية يتخيلون صورا ، والقطرة خطّا (١) ، وغير ذلك ممّا تقدّم ذكره ، فجاز في جميع ما نحس به أن يكون كذلك.

وأمّا العقل ، فالبديهيات لا وثوق بها لاشتباهها كثيرا بالوهميات (٢). وقد يظهر لبعض الناس الفرق بعد النظر الدقيق ، وبعضهم يعجز عن الفرق بينهما. وإذا كانت البديهيات غير موثوق بها فالنظريات أولى بها.

فإن أجاب أحد عن هذه الشكوك فهو إمّا غالط أو مغالط ؛ لأنّ تلك الأجوبة علوم كسبية مبنيّة على الضرورية فيلزم الدور.

والجواب : قد جزمتم بثبوت هذه الأشياء ، لكن قلتم هنا ما يعارضها فنحن نشتغل بالجواب عنها ولا دور ؛ لأنّا لا نطلب حجّة على إثبات هذه الضروريات ، فإنّ الجزم بها حاصل لذاته ، وإنّما نحاول بالنظر حلّ الشكوك الرافعة لذلك الجزم ، فلا يلزمنا إثبات الأوّلي بالنظري حتى يدور.

المسألة السابعة : في قوة النفس الواحدة على التعقلات (٣)

اعلم أنّ النفس الواحدة بسيطة وتقوى على تعقلات غير متناهية ، وقد اختلف الناس في إمكان صدور المعلولات الكثيرة عن العلّة الواحدة بالشخص ،

__________________

(١) إنّ القطرة النازلة من السماء تتراءى كأنّها خطّ ممتد ، مع أنّها ليست إلّا نقطة. وقد ذكر القاضي الإيجي كثيرا من الأمثلة التي يغلط فيها الحس ، راجع المواقف : ١٥.

(٢) ق : «في الوهميات».

(٣) راجع المباحث المشرقية : ١ : ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

١٧٥

فأثبته قوم ولا نزاع معهم ؛ ونفاه آخرون ، وهؤلاء يجب عليهم دفع هذا الإشكال. وله وجهان :

أحدهما : أجاب به أفضل المحققين حين سألته عن هذا الموضع وهو أنّ النفس في تعقّلها لا تفعل شيئا في الحقيقة ، وإنّما هي جوهر قابل لما يفيض الله تعالى عليها من العلوم، وسبب التخصيص ما تقدّم من اختصاص الاستعدادات المختلفة.

الثاني : انّ كثرة الأفعال قد تكون لاختلاف القوابل أو لاختلاف الآلات أو للترتب بين الآثار ، فيصدر البعض بسبب (١) البعض. والقابل هنا النفس الناطقة ، وهي جوهر بسيط ، ولو كانت مركّبة عن مقومات كثيرة لم تبلغ في الكثرة إلى أن تساوي كثرة أفاعيلها التي لا تتناهى ، فلا يمكن أن يكون ذلك التكثر بسبب كثرة القابل التي هي ذات النفس ، ولا يمكن أن يكون ذلك بواسطة الترتيب ، فإنّ تصور السواد ليس بواسطة تصوّر البياض وبالعكس. وكذلك باقي التصورات وكثير من التصديقات.

فلم يبق إلّا سبب اختلاف الآلات ؛ فإنّ المحسوسات المختلفة اللاتي (٢) تعدّ النفس للانتقاش بتلك الصور الكلية المجرّدة ، والإحساسات الجزئية تتكثر بحسب اختلاف حركات البدن ، ثمّ بعد حصول تلك التصورات والتصديقات البديهية يمزج بعضها مع بعض وتتولد من هناك تصوّرات وتصديقات مكتسبة لا نهاية لها. فحصول التصوّرات والتصديقات البديهية المتكثرة بحسب اختلاف الآلات ، وحصول التصوّرات والتصديقات المكتسبة بحسب امتزاج بعض البديهيات بالبعض ، ولا محالة تكون مترتبة ترتيبا طبيعيا يكون كلّ متقدّم منها

__________________

(١) ج : «بواسطة».

(٢) كذا في المخطوطة ، وفي عبارات الرازي : «آلات».

١٧٦

سببا للمتأخر.

ثمّ (١) الاستعدادات قد تختلف بالشدّة والضعف والكثرة والقلّة ، وحصول الآلات وعدمها ، وسهولة الانتقال وعسره ، وإرشاد المعلم وعدمه ، وقد يفقد شخص بعض الحواس فيفقد بواسطته العلم المتعلّق بتلك الآلة ، ولهذا قال المعلم الأوّل : من فقد حسا فقد فقد علما يؤدي إليه ذلك الحس. ولا يجب في تحصيل النظريات وجود المعلّم ، وإلّا تسلسل. ولأنّ من مارس علما مدّة مديدة فإنّه لا بدّ وأن ينال منه شيئا ، وقد خلق الله تعالى الأذهان متفاوتة في الذكاء والبلادة والتوسط بينهما.

ولمّا كان الإحساس بالجزئيات سببا لاستعداد قبول تصوّر الكليات ، وحصول التصورات سبب لحكم الذهن بينها بالثبوت أو السلب ، فإذا وقع للذهن التفات إلى تصوّر محمول بسبب إحساسه بجزئياته عند استحضار تصوّر موضوعه ترتّب عليه الجزم بثبوت ذلك المحمول لذلك الموضوع ـ إذا كان تصوّر الطرفين كافيا في الحكم ـ (٢) سواء حصل مرشد ومعلّم أو لا ، وهذا هو الحدس. (٣)

__________________

(١) من هنا يبدأ العلّامة في بيان حقيقة الحدس واثبات القوّة القدسيّة.

راجع الفصل السادس من المقالة الخامسة من نفس الشفاء ؛ طبيعيات النجاة : ١٦٦ ـ ١٦٨ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٤٧٣ ـ ٤٧٤.

(٢) ما بين الشارحتين غير موجود في كتاب الرازي.

(٣) للحدس تعاريف أخرى نذكر بعضها. قال ابن سينا : «الحدس فعل للذهن يستنبط به بذاته الحدّ الأوسط» طبيعيات النجاة : ١٦٧.

وقال : «وأعلم انّ التعلّم سواء حصل من غير المتعلّم ، فانّه يتفاوت فيه ، فانّ من المتعلّمين من يكون أقرب إلى التصوّر ، لانّ استعداده الذي قبل الاستعداد الذي ذكرناه أقوى فإن كان ذلك الإنسان فيما بينه وبين نفسه سمّى هذا الاستعداد القوي حدسا» الفصل السادس من المقالة الخامسة من نفس الشفاء.

قال الجرجاني : «الحدس سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب ويقابله الفكر وهو أدنى مراتب الكشف» التعريفات : ١١٢.

وعرفه النيسابوري (من أعلام القرن السادس) بانّه : «ظنّ تضعف أمارته» الحدود : ٩٥.

١٧٧

وهو يختلف كثرة وقلة باختلاف الأذهان ذكاء وبلادة ، ويتفاوت بحسب تفاوتهم ، حتى أنّ الإنسان ربّما أكبّ طول عمره على تعلم مسألة ويمنع منها ، وبعضهم ربّما التفت بذهنه الصائب أدنى التفات فأصاب مطلوبه. ولما تفاوتت الدرجات لم يبعد وجود نفس بالغة أقصى مراتب الكمال في القوّة وسرعة الاستعداد لإدراك الحقائق حتى كأنّه يحيط علما بحقائق الأشياء من غير طلب وشوق ، بل ينساق ذهنه إلى النتائج حتى يحيط بغايات الكمالات الإنسية (١). وتخالف هذه النفس باقي النفوس كمّا وكيفا.

أمّا الكم فلكثرة استحضارها للحدود الوسطى.

وأمّا الكيف فلسرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب.

وتخالف باقي النفوس بوجه آخر ، وهو تقع على الحدّ الأوسط من غير تقدّم تعيين المطلوب ، بخلاف باقي النفوس فإنّها تعين المطلوب أوّلا ثمّ تطلب المبادئ الملائمة له ، ثمّ ترتّب هذه المبادئ ترتّبا صحيحا ملائما ، ولا يعرض الغلط في الأوّل ؛ لأنّ الانسباق إلى النتيجة طبيعي. أمّا في الثاني فلما كان فكريا أمكن أن يعرض فيه الغلط لأنّه كالتكلّفي.

واعلم (٢) أنّه لا يشترط في العلم بالشيء وجود الفكر ، خلافا لمن توهم حاجة النفس في علومها إلى الفكر ، ومنع من علمها بعد مفارقة البدن لفساد آلة الفكر الذي هو شرط. وهو غلط لأنّ المعارف العقلية لو توقفت على الفكر ـ إمّا توقّف المسبب على السبب ، أو المشروط على الشرط ـ لكانت المعارف مقارنة للأفكار ، لكن التالي باطل ، فإنّ الإنسان حالة فكره يكون طالبا للنتيجة ، فلا بدّ وأن يكون

__________________

(١) وتسمّى هذه القوة ب «القوة القدسية» وقال ابن سينا : «وهذا ضرب من النبوة ، بل أعلى قوى النبوة والأولى أن تسمّى هذه القوّة قوّة قدسية وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية» راجع نفس المصادر.

(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

١٧٨

حينئذ فاقدا لها ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل ، فلا تكون المعرفة حاصلة حالة الفكر ولا مقارنة له ، فالمقدّم مثله.

وأمّا بيان الشرطية : فلأنّ المعرفة إذا كانت محتاجة إلى الفكر فإمّا أن تكون محتاجة إلى وجوده أو عدمه ، فإن كان الأوّل وجب اقترانهما في الوجود ، وإن كان الثاني لم يكن عدمه منافيا لوجوده ؛ لأنّ الشرط لا ينافي المشروط.

وأيضا النفس الناطقة محلّ التعقلات والإدراكات الكلّية ، والسبب الفياض عام الفيض ، فإذا كانت النفس بعد الموت باقية وجب حصول تلك المعرفة ؛ لأنّ الفاعل والقابل موجودان فيجب الأثر.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الاستعداد التام في النفس لا يحصل إلّا عند استعمال الفكر؟

لأنّا نقول : إذا تفكرنا في شيء وعرفناه أمكننا استدامة تلك المعرفة بعد مدّة مديدة ، فإذن استعداد النفس لقبول تلك الصور عن مبادئها لا يتوقّف على استعمال الفكر. وأيضا العلم يحصل حال تذكر النظر من غير تحقّق النظر ، فعلمنا أنّه لا حاجة به إليه.

لا يقال : القوّة الفكرية والخيالية متمانعتان ، فإنّ الخيال إذا انصبّ إلى التخيل وتعطّلت الفكرة ، تعطلت القوة العقلية ، ولذلك تبطل القوة العقلية في النوم ببطلان القوّة المفكّرة ، وكلّ ذلك دلائل قوية على أنّ العقل لا بدّ له في التوصل إلى تحصيل النسبة بينه وبين العقل الفعال من القوّة المفكرة.

لأنّا نقول : لا نسلّم تعطّل العقل في النوم ، فإنّه قد يستنبط حالة النوم ما لم يستنبطه في اليقظة ، لكن الأغلب أنّ التخيل مستولي على النفس فتشتغل النفس عن الفكر ، ولهذا تحتاج أكثر الأحلام إلى التفسير.

١٧٩

واعلم أنّ التحقيق هنا ما ذكره شيخنا أفضل المحققين ، حيث سألته عن ذلك ، وهو أنّه من المستبعد كون العلوم كلّها ضرورية لشخص من الأشخاص ، إلّا من أيّد بوحي من الله في كلّ معارفه الكسبية لغيره ، بل بعضها ضروري وبعضها كسبي ، وذلك الكسبي لا بدّ له من مقدمات تكون كاسبة له لامتناع حصوله عن لا شيء ، والقبول الذاتي للنفس غير كاف ، وإلّا لحصلت المعارف للأطفال بل للجنين ، وليس كذلك بالضرورة ، فلا بدّ من المقدمات.

نعم قد لا يحتاج في تلك المقدّمات إلى معلّم ومرشد ، ولا نعني بالفكر إلّا نفس تلك المقدّمات المترتبة المنتظمة نظما يحصل معه الإنتاج.

المسألة الثامنة : في إمكان اجتماع التعقلات (١)

زعم بعض من لا مزيد تحقيق له ، أنّ النفس لا تقوى على استحضار علمين دفعة ، بل متى توجه الذهن نحو علم من العلوم لطلب تحصيله أو استحضاره والالتفات إليه تعذر في تلك الحالة إقباله على شيء آخر.

وسبب غلطهم عدم الفرق بين القوّة العقلية والخيالية ، وأنّ تلك مجرّدة نسبة المعارف إليها كلّها على السواء لا تتعاند عندها الصور المعقولة لها ، ولا تتمانع أفعال آلتها لها إذ لا آلة لها ، بخلاف القوّة الخيالية الجسمانية فإنّها قد لا تقوى على استحضار علوم كثيرة وتخيلات مختلفة دفعة واحدة ؛ لأنّها لا يتم فعلها إلّا بآلة جسمانية. فإذا قلنا : الإنسان ناطق علمنا مفهوم هذه الألفاظ ، وظهر في ذهننا وخيالنا أمر مطابق في الترتب لهذا الترتّب الحاصل في الألفاظ ، فإذا قلبنا وقلنا الناطق إنسان لم ينقلب ما حصّلناه من المعنى العقلي ، لكن الصورة

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

١٨٠